علم الإنشاء
الجزء الأول
من كتاب جواهر الأدب
في أدبيات وإنشاء لغة العرب
مقدمة في علم الإنشاء
الإنشاء لغة الشروع والإيجاد والوضع تقول أنشأ الغلام يمشي إذا شرع في المشي وأنشأ الله العالم أوجدهم وأنشأ فلان الحديث وضعه واصطلاحاً علم يعرف بـه كيفية استنباط المعاني وتأليفها مع التعبير عنـها بلفظ لائق بالمقام وهو مستمد من جميع العلوم. انشا در مورد اشباح وذلك لأن الكاتب لا يستثنى صنفاً من الكتابة فيخوض في كل المباحث ويتعمد الإنشاء في كل المعارف البشرية.
وينحصر المقصود منـه في ثلاثة أبواب وخاتمة وملحق.
الباب الأول في أصول الإنشاء
وهي أربعة: انشا در مورد اشباح مؤاده وخواصه وطبقاته ومحاسنـه.
أما مواده فثلاث:
الأولى: الألفاظ الفصيحة الصريحة.,
الثانية: المعاني.
الثالثة: إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة ومرجعها إلى الفصاحة وعلمي المعاني والبيان.
وأما خواصه فهي محاسنـه السبعة
وهي: أولاً: الوضوح بأن يختار المفردات البينة الدلالة على المقصود وأن يعدل عن كثرة العوامل في المجلة الواحدة وإن يتحاشى عن الالتباس في استعمال الضمائر وأن نسبك الجمل سبكاً جلياً بدون تعقيد والتباس وأن يتحاشى عن كثرة الجمل الاعتراضية.
وثانياً: الصراحة بأن يكون الإنشاء سالماً من ضعف التأليف وغرابة التعبير بحيث يكون الكلام حراً مـهذباً تناسب ألفاظه للمعاني المقصودة كما قيل:
تزينُ معانيه ألفاظهُ
وألفاظه زائناتُ المعاني
ويكون الكلام صريحاً بانتقاء الألفاظ الفصيحة والمفردات الحرة الكريمة وكذا بإصابة المعاني وتنقيح العبارات مع جودة مقاطع الكلام وحسن صوغه وتأليفه. انشا در مورد اشباح وكذا بمراعاة الفصل والوصل وهو العلم
بمواضع العطف والاستئناف والاهتداء إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها.
وثالثاً: الضبط وهو حذف فضول الكلام وإسقاط مشتركات الألفاظ كقول قيس بن الخطيم المتوفي سنة 612م.
أرى الموتَ لا يرعى على ذي قرابةٍ
وإنْ كان في الدّنيا عزيزاً ب
لعمرك ما الأيام إلاّ معارةٌ
فما اسطعتَ من معروفها فتزوَّد
ورابعاً: الطبعية بأن يخلو الكلام من التكلف والتصنع كما قال في رثاء ابنـه أو العتاهية المتوفي سنة 211ه?.
بكيتك يا بني بدمع عيني
فلم يغن البكاءُ عليك شيّا
وكانت في حياتك لي عظاتٌ
وأنت اليوم أوعظُ منك حيّا
وذلك لأن من تطبع طبعه نزعته العادة حتى ترده إلى طبعه كما أن الماء إذا أسخنته وتركته عاد إلى طبعه من البرودة. وحينئذ الطبع أملك.
وخامساً: السهولة بأن يخلص الكلام من التعسف في السبك وأن يختار ما لان منـها كما قال في الأشواق بهاء الدين زهير المتوفي سنة 656ه?.
شوقي إليكَ شديدٌ
كما علمتَ وأزيدْ
فكيفَ تنكرُ حبَّا
بهِ ضميرك يشـهدْ
وأن تهذب الجمل وأن يأتلف اللفظ مع اللفظ مع مراعاة النظير كما قال الشاعر في الوداع.
في كنفِ الله ظاعنٌ ظعنا
أودع قلبي وداعه حزنا
لا أبصرتْ مقلتي محاسنـه=إنْ كنتُ أبصرتُ بعده حسنا قال بعض البلغاء أحذركم من التقعير والتعمق في القول وعليكم بمحاسن الألفاظ والمعاني المستخفة المستملحة فإن المعنى المليح إذا كسي لفظاً حسناً وأعاره البليغ مخرجاً سهلاً كان في فلب السامع أحلى ولصدره أملأ قال البستي:
إذا انقادَ الكلامُ فقدهُ عفواً
إلى ما تشتهيه من المعاني
ولا تكرهْ بيانكَ أنْ تأبى
فلا إكراهَ في دين البيان
وسادساً: الاتساق بأن تتناسب المعاني كقول المتنبي المتوفي سنة 346ه?.
ومازلتُ حتى قادني الشوقُ نحوه
يسايرني في كلّ ركبٍ له ذكرُ
وأستكبرُ الأخبارَ قبلَ لقائهِ
فلمّا التقينا صغّرَ الخبرَ الخبرُ
وسابعاً: الجزالة وهي إبراز المعاني الشريفة في معارض من الألفاظ الأنيقة اللطيفة كقول الصابئ المتوفي سنة 384ه?.
لك في المحافل منطقٌ يشفي الجوى
ويسوغُ في أذن الأديب سلافه
فكأنّ لفظكَ لؤلؤٌ متنخّلٌ
وكأنّما آذاننا أصهُ
وأما عيوبه فسبعة الهجنة بأن يكون اللفظ سخيفاً والمعنى مستقبحاً كقوله:
وإذا أدنيتَ منـهُ بصلاً
غلبَ المسكَ على ريح البصل
والوحشية كون الكلام غليظاً تمجه الأسماع وتنفر منـه الطباع كقوله:
وما أرضى لمقلتهِ بحلم
إذا انتبهتَ توهَّمـهُ ابتشاكا
والركاكة ضعف التأليف وسخافة العبارة كقول المتنبي المتوفي سنة 346ه?.
إنْ كان مثلك كان أو هو كائنٌ
فبرئتُ حينئذٍ من الإسلام
والسهو عبارة عن ضعف البصر بمواقع الكلام المتنبي يشبه ممدوحه بالله تعالى (وهو كفر).
تتقاصرُ الأفهامُ عن إدراكه
مثل الذي الأفلاكُ منـهُ والدُّني
والإسهاب الإطالة الزائدة المملة في شرح المادة والعدول إلى الحشو كقوله:
أعنى فتى لم تذرُّ الشَّمسُ طالعةٌ
يوماً من الدّهر إلا ضرَّ أو نفعا
والجفاف الإيجاز والاختصار المخل كقول الحارث بن حلزة المتوفي سنة 232ه?.
والعيشُ خيرٌ في ظلال النّوكِ
ممَّن عاشَ كدّا
ووحدة السياق التزام أسلوب واحد من التعبير وطريقة واحدة من التركيب بحيث تكون للأذهان كلالا وللقلوب ملالاً.
وللكلام عيوب كثيرة منـها اللحن ومخالفة القياس الصرفي وضعف التأليف والتعقيد والتكرار وتتابع الإضافات إلى غير ذلك من الأشياء التي تكون ثقيلة على اللسان مخالفة للذوق والعرب غريبة على السمع.
وأما طبقاته ثلاث الأولى: الطبقة السفلى ومرجعها إلى الإنشاء الساذج وهو ما عرا عن رقة المعاني وجزالة الألفاظ والتأنق في التعبير فهو بالكلام العادي أشبه لسهولة مأخذه وقرب مورده ويستعمل في المحافل العمومية ليقرب منال المعاني على جمـهور السامعين في المقالات والتأليف العلمية لينصرف الذهن إلى أخذ المعنى وليس دونـه حائل من جهة العبارة وفي المكاتبات الأهلية والرحلات والأسفار والأخبار وما شابه ذلك (الثانية: الطبقة العليا) ومرجعها إلى الإنشاء العالي وهو ما شحن بغرر الألفاظ وتعلق بأهداب المجاز ولطائف التخيلات وبدائع التشابيه فيفتن ببراعته العقول ويسحر الألباب ويصلح في الترسل بين بلغاء الكتاب وفي المجالس الأدبية وديباجة بعض التصانيف إلى غير ذلك من المواضع التي من شأنـها الزجر وتحريك العواطف والحماسة.
(الثالثة: الطبقة الوسطى) ومرجعها إلى الإنشاء الأنيق وهو ما توسط بين الإنشاء العالي والساذج فيأخذ من الأول رونقه ومن الثاني جلاءه وسلامته ويصلح في مراسلات ذوي المراتب وفي الروايات المنمقة والأوصاف المسهبة وفي خطب المحافل وما أشبه ذلك.
وأما محاسنـه فهي أساليب وطرائق معلومة وضعت لتزيين الكلام وتنميقه لغرض أن يتمكن البليغ من ذهن السامع بما يورده من أساليب الكلام المستحسنة فيحرك أهواء النفس ويثير كامن حركاتها، انشا در مورد اشباح ولغرض أن يكون قوله أشد اتصالاً بالعقل وأقرب للإدراك بتصرفه في فنون البلاغة.
كيفية الشروع في عمل مواضيع الإنشاء
إذا عن لك أو اقترح عليك إنشاء موضوع فأنت منوط إذاً بأمرين التفكر أولاً والكتابة ثانياً فإذا أنعمت الفكر ملياً في أجزاء الموضوع بعد استيلاء الإحساس بها على قلبك وقلبتها على جميع الأوجه الممكنة فيها تولد في خيالك لكل جزء عدة صور تتفاوت في تأديته كتفاوت صور المنظوم في الحسن والقبح فبعضها يستميل النفوس بتأثيره في الحواس وبعضها يوجب نفورها وبعضها بين بين، وإذا تشخصت الصور في الخيال يتخير العقل منـها ماله المكانة الرفيعة في حسن تأدية الغرض المناسب للمقام فإن كان المقام للتحريض على القتال مثلاً انتخب الصورة المـهيجة للإحساس المشجعة للنفس على اقتحام الأخطار وإن كان المقام مقام فرح وسرور انتخب نما يشرح الصدور وتقر بـه العيون وتروق بـه الأرواح ويذهب عنـها الحزن والأتراح.
وبعد تشخيص الصور وتخير المناسب منـها تعتن أيها المنشئ بحسن تأليف وترتيب ما تخيرته بأن تجمع الصور المناسبة التي يرتبط بعضها ببعض بدون تكلف بحيث يكون المجموع منسجماً يمضي وحده مع النفس دون علاج وتعب في فهم الغرض منـه وحينئذ يمكنك إظهار هذه الصورة المعقولة في صورة محسوسة بواسطة القلم.
أركان الكتابة
اعلم أن للكتابة أركاناً لابد من إيداعها في كل كتاب بلاغي ذي شأن. أولها أن يكون مطلع الكتاب عليه جدة ورشاقة فإن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع. أو يكون مبنياً على مقصد الكتاب. الثاني: أن يكون خروج الكاتب من معنى إلى معنى برابطة لتكون رقاب المعاني آخذة بعضها ببعض ولا تكون مقتضبة. الثالث: أن تكون ألفاظ الكتاب غير مخلولقة بكثرة الاستعمال.
ولا أريد بذلك أن تكون ألفاظاً غريبة فإن ذلك عيب فاحش بل أريد أن تكون الألفاظ المستعملة مسبوكة سبكاً غريباً يظن السامع أنـها غير ما في أيدي الناس وهي مما في أيدي الناس. وهناك معترك الفصاحة التي تظهر فيسه الخواطر براعتها والأقلام شجاعتها. وهذا الموضع بعيد المنال كثير الإشكال يحتاج إلى لطف ذوق وشـهامة خاطر وليس كل خاطر براق إلى هذه الدرجة (ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21] ومع هذا فلا تظن أيها الناظر في كتابي أني أردت بهذا القول إهمال جانب المعاني بحيث يؤتى باللفظ الموصوف بصفات الحسن والملاحة ولايكون تحته من المعنى ما يماثله ويساويه فإنـه إذا كان كذلك كان كصورة حسنة بديعة في حسنـها إلا أن صاحبها بليد أبله. والمراد أن تكون هذه الألفاظ المشار إليها جسماً لمعنى شريف.
على أن تحصيل المعاني الشريفة على الوجه الذي أشرت إليه أيسر من تحصيل الألفاظ المشار إليها. ولقد رأيت كثيرا من الجهال الذين هم من السوقة أرباب الحرف والصنائع وما منـهم إلا من يقع له المعنى الشريف ويظهر من مخاطره المعنى الدقيق ولكنـه لايحسن أن يزوج بين لفظين.
فالعبارة عن المعاني هي التي تخلب بها العقول. وعلى هذا فالناس كلهم مشتركون في استخراج المعاني فإنـه لايمنع الجاهل الذي لايعرف علما من العلوم أن يكون ذكيا بالفطرة. واستخراج المعاني إنما هو بالذكاء لا بتعلم العلم.
فإذا استكملت معرفة هذه الأركان وأتيت بها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فقد استحققت حينئذ فضيلة التقدم ووجب لك أن تسمي نفسك كاتبا.
(عن المثل السائر باختصار)
كيفية نظم الكلام
إذا أردت أن تصنع كلاماً فأخطر معانيه ببالك. وتنق له كرائم اللفظ واجعلها على ذكر منك ليقرب عليك تناولها ولا يتعبك تطلبها. واعلمـه ما دمت في شباب نشاطك فإذا غشيك الفتور وتخونك الملال فأمسك. فإن الكثير مع الملال قليل والنفيس مع الضجر خسيس. والخواطر كالينابيع يسقى منـها شيء بعد شيء فتجد حاجتك من الري وتنال أربك من المنفعة فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها وقل عنك وعناؤها. واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطالبة والمجاهدة والتكلف والمعاودة. وإياك والتوعر فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك. ومن أراد معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً فإن من حق المعنى الشريف اللفظ الشريف. فإذا لم تجد اللفظة واقعة موقعها صائرة إلى مستقرها حالة في مركزها متصلة بسلكها بل وجدتها قلقة في موضعها نافرة عن مكانـها فلا تكرهها اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانـها فإنك إن لم تتعاط قريض الشعر المنظوم ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بذلك أحد. وإن تكلفته ولم تكن حاذقاً مطبوعاً ولا محكماً لشأنك بصيراً عابك من أنت أقل عيباً منـه وزرى عليك من هو دونك.
فإن لم تسمح لك الطبيعة بنظم الكلام في أول وهلة وتعصى عليك بعد إجالة الفكرة فلا تعجل ودعه سحابة يومك ولا تضجر وأمـهله سواد ليلتك وعاوده عند نشاطك فإنك لا تعدم الإجابة والمؤاتاة. فإن تمنع عليك بعد ذلك مع ترويح الخاطر وطول الإمـهال فتحول من هذه الصناعة إلى أشـهى الصناعات إليك وأخفها عليك فإنك لم تشتهها إلا وبينكما نسب. والشيء لا يحن إلا إلى ما شاكله.
وينبغي أن تعرف أقدار المعاني فتوازن بينـها وبين أوزان المستمعين وبين أقدار الحالات فتجعل لكل طبقة كلاماً ولكل حال مقاماً حتى تقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات وأقدار المستمعين. على أقدار الحالات.
(عن كتاب الصناعتين باختصار)
الطريق إلى تعلم الكتابة
إن الطريق إلى تعلم الكتابة على ثلاث شعب:
الأولى أن يتصفح الكاتب كتابة المتقدمين ويطلع على أوضاعهم في استعمال الألفاظ والمعاني ثم يحذو حذوهم وهذه أدنى الطبقات عندي.
والثانية أن يمزج كتابة المتقدمين بما يستجيده لنفسه من زيادة حسنـه أما في تحسين ألفاظ أو في تحسين معان وهذه هي الطبقة الوسطى وهي أعلى من التي قبلها. والثالثة أن لا يتصفح كتابة المتقدمين ولا يطلع على شيء منـها بل يصرف همـه إلى حفظ القرآن الكريم وعدة من دواوين فحول الشعراء ممن غلب على شعره الإجادة في المعاني والألفاظ. ثم يأخذ في الاقتباس فيقوم ويقع ويخطئ ويصيب ويضل ويهتدي حتى يستقيم على طريقة يفتتحها لنفسه. وأخلق بتلك الطريق أن تكون مبتدعة غريبة لا شركة لأحد من المتقدمين فيها. وهذه الطريق هي طريق الاجتهاد وصاحبها يعد إماماً في فن الكتابة إلا أنـها مستوعرة جداً ولا يستطيعها إلا من رزقه الله لساناً هجاماً وخاطراً رقاماً. ولا أريد بهذه الطريق أن يكون الكاتب مرتبطاً في كتابته بما يستخرجه من القرآن الكريم والشعر بحيث إنـه لا يستثنى كتاباً إلا من ذلك بل أريد أنـه إذا حفظ القرآن وأكثر من حفظ الأشعار ثم نقب عن ذلك تنقيب مطلع على معانيه مفتش عن دفائنـه وقلبه ظهراً لبطن عرف حينئذ من أين تؤكل الكتف فيما ينشئه من ذات نفسه واستعان بالمحفوظ على الغريزة الطبيعية.
(المثل السائر باختصار)
كيفية تهذيب الكلام وأوقات تأليفه
تهذيب الكلام عبارة عن ترداد النظر فيه بعد عمله نظماً كان أو نثراً وتغيير ما يجب تغييره وحذف ما ينبغي حذفه وإصلاح ما يتعين إصلاحه وتحرير ما يدق من معانيه وإطراح ما يتجافى عن مضاجع الرقة من غليظ ألفاظه لتشرق شموس التهذيب في سماء بلاغته وترشف الأسماع على الطرب رقيق سلافته. فإن الكلام إذا كان موصوفاً بالمـهذب منعوتاً بالمنقح علت رتبته وإن كانت معانيه غير مبتكرة. وكل كلام قيل فيه: لو كان موضع هذه الكلمة غيرها ولو تقدم هذا المتأخر وتأخر هذا المتقدم. أو لو تمم هذا النقص بكذا ا, تكمل هذا الوصف بكذا. أو لو حذفت هذه اللفظة أو لو اتضح هذا المقصد وسهل هذا المطلب لكان الكلام أحسن والمعنى أبين. كان ذلك الكلام غير منتظم في نوع التهذيب.
وكان زهير بن أبي سلمى معروفاً بالتنقيح والتهذيب وله قصائد تعرف بالحوليات. قيل: إنـه كان ينظم القصيدة في أربعة أشـهر ويهذبها وينقحها في أربعة أشـهر ويعرضها على علماء قبيلته أربعة أشـهر. ولهذا كان الإمام عمر بن الخطاب مع جلالته في العلم وتقدمـه في النقد يقدمـه على سائر الفحول من طبقته وما أحسن ما أشار أبو تمام إلى التهذيب بقوله:
خذها ابنةَ الفكرِ المـهذَّبِ في الدَّجى
والليلُ أسودُ رقعةِ الجلباب
فإنـه خص تهذيب الفكر بالدجى لكون الليل تهدأ فيه الأصوات وتسكن الحركات فيكون الفكر فيه مجتمعاً ومرآة التهذيب فيه صقيلة لخلو الخاطر وصفاء القريحة لاسيما وسط الليل.
قال أبو عبادة البحتري: كنت في حداثتي أروي الشعر وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه واتكلت في تعريفه عليه. فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم وخف عليها ثقل الغذاء. واحذر المجهول من المعاني وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الوحشية وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام وكن كأنك خياط تقدر الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك لا تعمل إلا وأنت فارغ القلب ولا تنظم إلا بشـهوة فإن الشـهوة نعم المعين على حسن النظم. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من أشعار الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما استقبحوه فاجتنبه.
(عن خزانة الأدب وزهر الآداب باختصار)
محاسن الإنشاء ومعايبه
إن للنثر محاسن ومعايب يجب على المنشئ أن يفرق بينـهما محترزاً من استعمال الألفاظ الغريبة وما يخل بفهم المراد ويوجب صعوبته ولابد من أن يجعل الألفاظ تابعة للمعاني دون العكس. لأن المعاني إذا تركبت على سجيتها طلبت لأنفسها ألفاظاً تليق بها فيحسن اللفظ والمعنى جميعاً. وأما جعل الألفاظ متكلفة والمعاني تابعة لها فهو شأن من لهم شغف بإيراد شيء من المحسنات اللفظية فيصرفون العناية إليها ويجعلون الكلام كأنـه غير مسوق لإفادة المعنى. فلا يبالون بخفاء الدلالات وركاكة المعنى ومن أعظم ما يليق بمن يتعاطى الإنشاء أن يكتب ما يراد لا ما يريد كما قيل في الصاحب والصابئ: أن الصابئ يكتب ما يراد والصاحب يكتب ما يريد.
(عن آداب المنشئ ببعض تصرف)
فصاحة الألفاظ ومطابقتها للمعاني
فصاحة الألفاظ تكون بثلاثة أوجه: الأول مجانبة الغريب الوحشي حتى لا يمجه سمع ولا ينفر منـه طبع. والثاني تنكب اللفظ المبتذل والعدول عن الكلام المسترذل حتى لا يستسقطه خاصي ولا ينبو عنـه فهم عامي كما قال الجاحظ في "كتاب البيان": أما أنا فلم أر قوماً أمثل طريقة في البلاغة من الكتاب وذلك أنـهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً وحشياً ولا ساقطاً عامياً.
والثالث أن يكون بين الألفاظ ومعانيها مناسبة ومطابقة. أما المطابقة فهي أن تكون الألفاظ كالقوالب لمعانيها فلا تزيد عليها ولا تنقص عنـها. وأما المناسبة فهي أن يكون المعنى يليق ببعض الألفاظ إما لعرف مستعمل أو لاتفاق مستحسن حتى إذا ذكرت تلك المعاني بغير تلك الألفاظ كانت نافرة عنـها وإن كانت أفصح وأوضح لاعتياد ما سواها.
(أدب الدين والدنيا باختصار)
حقيقة الفصاحة
اعلم أن هذا موضوع متعذر على الوالج ومسلك متوعر على الناهج. ولم تزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنـه. ولم أجد من ذلك ما يعول عليه إلا القليل.
وغاية ما يقال في هذا الباب أن الفصاحة هي الظهور والبيان في أصل الوضع اللغوي يقال: أفصح الصبح إذا ظهر. ثم إنـهم يقفون عند ذلك لا يكشفون عن السر فيه. وبهذا القول لا تتبين حقيقة الفصاحة لأنـه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات. أحدها أنـه إذا لم يكن اللفظ ظاهراً بيناً لم يكن فصيحاً ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحاً الوجه الثاني إنـه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص. فإن اللفظ قد يكون ظاهراً لزيد ولا يكون ظاهراً لعمرو. فهو إذاً فصيح عند هذا وغير فصيح عند هذا. وليس كذلك بل الفصيح هو فصيح عند الجميع لا خلاف فيه بحال من الأحوال. لأنـه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي لم يبق في اللفظ الذي يختص بـه خلاف. الوجه الثالث أنـه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنـه السمع وهو مع ذلك ظاهر بين ينبغي أن يكون فصيحاً. وليس كذلك لأن الفصاحة وصف حسن للفظ لا وصف قبح.
ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة فيها ولم يثبت عندي منـها ما أعول عليه. ولكثرة ملابستي هذا الفن ومعاركتي إياه انكشف لي السر فيه وسأوضحه في كتابي هذا وأحقق القول فيه فأقول: إن الكرم الفصيح هو الظاهر البين. وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمـها إلى استخراج من كتاب لغة. وإنما بهذه الصفة لأنـها تكون مألوفة الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنـها. وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا وقسموا. فاختاروا الحسن من الألفاظ حتى استعملوه وعلموا القبيح منـها فلم يستعملوه. فحسن الاستعمال سبب استعمالها دون غيرها. واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانـها. فالفصيح إذاً من الألفاظ هو الحسن.
فإن قيل من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه وعلموا القبيح منـها حتى نفوه ولم يستعملوه قلت في الجواب: إن هذا من الأمور المحسوبة التي شاهدها من نفسها. لأن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات. فالذي يستلذه السمع منـها ويميل إليه هو الحسن. والذي يكرهه وينفر عنـه هو القبيح. ألا ترى أنى السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما ويكره صوت الغراب وينفر عنـه. وكذلك يكره نـهيق الحمار ولا يجد ذلك في صهيل الفرس. . والألفاظ جارية هذا المجرى فإنـه لا خلاف في أن لفظة المزنة والديمة حسنة يستلذها السمع. وإن لفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع. وهذه اللفظات الثلاث من صفة المطر وهي تدل على معنى واحد. ومع هذا فإنك ترى لفظتي المرنة والديمة وما جرى مجراهما مألوفتي الاستعمال وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لايستعمل. وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير ذوق سليم. ولا جرم أنـه ذم وقدح فيه ولم يلتفت إليه وإن كان عربيا محضا من الجاهلية الأقدمين. فإن حقيقة الشيء إذا علمت وجب الوقوف عندها ولم يعرج على ما خرج عنـها.
(عن ابن الأثير باختصار)
الانسجام
الانسجام لغة جريان الماء وعند أهل البلاغة هو أن يأتي الناظم أو الناثر بكلام خال من التعقيد اللفظي والمعنوي بسيطا مفهوما دقيق الألفاظ جليل المعنى لاتكلف فيه ولا تعسف يتحدر كتحدر الماء المنسجم فيكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقة. ولايكون ذلك إلا في من هو مطبوع على سلامة الذوق وتوقد الفكرة وبراعة الإنشاء وحسن الأساليب. وإن فحول هذا الميدان ما أثقلوا كاهل سهولته بنوع من أنواع البديع اللهم إلا أن يأتي عفوا من غير قصد. وعلى هذا أجمع علماء البديع في حد هذا النوع فإنـهم قرروا أن يكون بعيدا من التصنع خاليا من الأنواع البديعية إلا أن يأتي في ضمن السهولة من غير قصد. فإن كان الانسجام في النثر تكون أغلب فقراته موزونة من غير قصد وإن كان في النظم فتكاد الأبيات أن تسيل رقة وعذوبة وربما دجلت في المطرب الم.
(بديعية العميان بديعية الحموي)
حل الشعر
حل الأبيات الشعرية ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: منـها وهو أدناه مرتبة أن يأخذ الناثر بيتا من الشعر فينثره بلفظه من غير زيادة وهذا عيب فاحش. ومثاله كمن أخذ عقدا قد أتقن نظمـه وأحسن تأليفه فأوهاه وبدده وكان يقوم عذره في ذلك إن لو نقله عن كونـه عقدا إلى صورة أخرى مثله أو أحسن منـه. وأيضا فإنـه إذا نثر الشعر بلفظه كان صاحبه مشـهور السرقة فيقال هذا شعر فلان بعينـه لكون ألفاظه باقية لم يتغير منـها شيء. وقد سلك هذا المسلك بعض العراقيين فجاء مستهجنا كقوله في بعض أبيات الحماسة:
وألدَّ ذي حنقٍ عليَّ كأنما
تغلي عداوةُ صدرهِ في مرجلِ
أزجيته عني فأبصرَ قصدهُ
وكويته فوقَ النَّواظرِ من علِ
فقال في نثر هذين البيتين: فكم لقي ألد ذا حنق كأنـه ينظر إلى الكواكب من عل وتغلي عداوة صدره في مرجل فكواه فوق ناظريه وأكبة لفمـه ويديه. فلم يزد هذا الناثر على أن أزال رونق الوزن وطلاوة النظم لاغير.
ومن هذا القسم ضرب محمود لاعيب فيه وهو أن يكون البيت من الشعر قد تضمن شيئا لا يمكن تغيير لفظه فحينئذ يعذر ناثره إذا أتى بذلك اللفظ وكذلك الأمثال السائرة فإنـه لابد من ذكرها على ما جاءت في الشعر.
وأما القسم الثاني: وهو وسط بين الأول والثالث في المرتبة فهو أن ينثر المعنى المنظوم ببعض ألفاظه ويعبر عن البعض بألفاظ أخر.. هناك تظهر الصنعة في المماثلة والمشابهة ومؤاخاة الألفاظ الباقية بالألفاظ المرتجلة فإنـه إذا أخذ لفظا لشاعر مجيد قد نقحه وصححه فقرنـه بما لايلائمـه كان كمن جمع بين لؤلؤة وحصاد. ولاخفاء بما في ذلك من الانتصاب للقدح والاسته للطعن. والطريق المسلوك إلى هذا القسم أن تأخذ بعض بيت من الأبيات الشعرية هو أحسن ما فيه ثم تماثله. وسأورد ههنا مثالا واحدا ليكون قدوة للمتعلم فأقول: قد ورد هذا البيت من شعر أبي تمام في وصف قصيدة له:
حذَّاءُ تملأ كلَّ أذنٍ حكمةً
وبلاغةً وتدرُّ كلَّ وريدِ
فقوله: (تملأ كل أذن حكمة) من الكلام الحسن وهو أحسن ما في البيت. فإذا أردت أن تنثر هذا المعنى فلا بد م استعمال لفظه بعينـه لأنـه في الغاية القصوى من الفصاحة والبلاغة. فعليك حينئذ أن تؤاخيه بمثله وهذا عسر جدا وهو عندي أصعب مثالا من نثر الشعر بغير لفظه لأنـه مسلك ضيق لما فيه من التعرض لمماثلة ما هو في غاية الحسن والجودة. وأما نثر الشعر بغير لفظه فذلك يتصرف فيه ناثره على حسب ما يراه ولايكون مقيدا فيه بمثال يضطر إلى مؤاخاته. وقد نثرت هذه الكلمات المشار إليها وأتيت بها في جملة كتاب فقلت: وكلامي قد عرف بين الناس واشتهر وفاق مسير الشمس والقمر.وإذا عرف الكلام صارت المعرفة له علاقة وأمن من سرقته إذ لو سرق لدلت عليه الوسامة. ومن خصائص صفاته أن يملأ كل أذن حكمة ويجعل فصاحة كل لسان عجمة. وإذا جرت نفثاته في الأفهام قالت أهذه بنت فكرة أم بنت كرمة.
فانظر كيف فعلت في هذا الموضع فإني لما أخذت تلك الكلمات من البيت الشعري التزمت بأن أؤاخيها بما هو مثلها أو أحسن منـها فجئت بهذا الفصل كنا تراه. وكذلك ينبغي أن يفعل في ما هذا سبيله.
وأما القسم الثالث: وهو أعلى من القسمين الأولين فهو أن يأخذ المعنى فيصاغ بألفاظ غير ألفاظه. وثم يتبين حذق الصائغ في صياغته ويعلم مقدار تصرفه في صناعته فإن استطاع الزيادة على المعنى فتلك الدرجة العالية إلا أحسن التصرف وأتقن التأليف ليكون أولى بذلك المعنى من صاحبه الأول واعلم أن من أبيات الشعر ما يتسع المجال لناثره فيورده بضروب من العبارات وذلك عندي شبيه بالمسائل السيالة في الحساب التي يجاب عنـها بعدة من الأجوبة. ومن الأبيات ما يضيق فيه المجال حتى يكاد الماهر في هذه الصناعة أن يخرج من ذلك اللفظ وإنما يكون هذا لعدم النظير فأما ما يتسع المجال في نثره فكقول أبي الطيب المتنبي:
لا يعذلِ المشتاق في أشواقهِ
حتى يكونَ حشاكَ في أحشائهِ
وقد نثرت هذا المعنى فمن ذلك قولي: لاتعذل المحب في ما يهواه حتى تطوي القلب على ما طواه. ومن ذلك وجه آخر وهو إذا اختلفت العينان في النظر فالعذل ضرب من الهذر. وأما ما يضيق فيه المجال فيعسر على الناثر تبديل ألفاظه فكقول أبي تمام:
تردَّى ثيابَ الموتِ حمراً فما أتى
لها الليلُ إلاَّ وهيَ من سندسٍ خضرِ
قصد أبو تمام المؤاخاة في ذكر لوني الثياب من الأحمر والأخضر وجاء ذلك واقعا على المعنى الذي أراده من لون ثياب القتلى وثياب الجنة. وهذا البيت لايمكن تبديل ألفاظه وهو وأمثاله مما يجب على الناثر أن يحسن الصنعة في فك نظامـه لأنـه يتصدى لنثره بألفاظه. فإن كان عنده قوة تصرف وبسطة عبارة فإنـه يأتي بـه حسنا رائقا. وقد قلت في نثره: لم تكسه المنايا نسج شفارها حتى كسته الجنة نسج شعارها فبدل أحمر توبه بأخضره وكأس ه بكأس كوثره.
وإذا انتهى بنا الكلام إلى ههنا في التنبيه على نثر الشعر وكيفية نثره وذكر ما يسهل منـه وما يعسر فلنتبع ذلك بقول كلي في هذا الباب فنقول: من أحب أن يكون كاتبا أو كان عنده طبع مجيب فعليه بحفظ الدواوين ذوات العدد ولايقنع بالقليل من ذلك. ثو يأخذ في نثر الشعر من محفوظاته.. وطريقه أن يبتدئ فيأخذ قصيدا من القصائد فينثره بيتا بيتا على التوالي. ولايستنكف في الابتداء أن ينثر الشعر بألفاظه أو بأكثرها فإنـه لايستطيع إلا ذلك. وإذا مرنت نفسه وتدرب خاطره ارتفع عن هذه الدرجة وصار يأخذ المعنى ويكسوه عبارة من عنده ثم يرتفع عن ذلك فتكسوه ضروبا من العبارات المختلفة. وحينئذ يحصل لخاطره بمباشرة المعاني لقاح فيستنتج منـها معاني غير تلك المعاني.
وسبيله أن يكثر الإدمان ليلا نـهارا ولايزال على ذلك مدة طويلة حتى يصير له ملكة. فإذا كتب كتابا أو خطب خطابا تدفقت المعاني في أثناء كلامـه وجاءت ألفاظه معسولة وكان عليه حدة تكاد ت ا وهذا شيء خبرته بالتجربة (وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)
(عن المثل السائر باختصار)
التخلص والاقتضاب في مواضيع الإنشاء
التخلص هو أن يأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني فبينما هو فيه إذ أخذ في معنى آخر غيره وجعل الأول سببا إليه فيكون بعضه آخذا برقاب بعض من غي أن يقطع كلامـه ويستأنف كلاما آخر بل يكون جميع كلامـه كأنما أفرغ إفراغا وذلك مما يدل على حذق الشاعر وقوة تصرفه من أجل أن تطاق الكلام يضيق عليه ويكون متبعا للوزن والقيافة فلا تؤاتيه الألفاظ على حسب إرادته.وأما الناثر فإنـه مطلق العنان يمضي حيث شاء فلذلك يشق التخلص على الشاعر أكثر مما يشق على الناثر. ومما جاء من التخلصات الحسنة قول المتنبي المتوفى سنة 354 ه?.
خليليَّ إني لا أرى غيرَ شاعرٍ
فلمَ منـهم الدّعوى ومنّي القصائد
فلا تعجباً إنّ السيوفَ كثيرةٌ
ولكن سيفَ الدولة اليومَ واحد
وهذا هو الكلام الآخذ بعضه برقاب بعض ألا ترى إلى الخروج إلى مدح الممدوح في هذه الأبيات كأنـه أفرغ في قالب واحد، والاقتضاب أن يقطع الشاعر كلامـه الذي هو فيه ويستأنف كلاما آخر غيره من مديح أو هجاء أو غير ذلك ولايكون للثاني علاقة بالأول كقول أبي نواس المتوفى سنة 198ه? في قصيدته النونية التي لم يكمل حسنـها بالتخلص من الغزل إلى المديح بل اقتضبه اقتضابا فبينما هو يصف الخمر ويقوا:
فاسقني كأساً على عذلٍ
كرهتْ مسموعه أذني
من كميتِ اللّونِ صافيةٍ
خيرِ ما سلسلتَ في بدني
ما استقّرت في فؤاد فتى
فدرى ما لوعة الحزن
حتى قال:
تضحكُ النيا إلى ملكٍ
قامَ بالآثار والسُّنن
سنّ للناس الندى فندوا
فكأنّ البخلَ لم يكنِ
وإذا لم يستطع التخلص بأن كان قبيحا ممسوخا فالاقتضاب أولى منـه فينبغي لسالك هذه الطريقة أن ينظر إلى ما يصوغه فإن أتاه التخلص حسنا كما ينبغي وإلا فليدعه ولايستكرهه حتى يكون مثل هذا.
واعلم أن التخلص غير ممكن في كل الأحوال وهو من مستصعبات علم البيان فليتدبر الشاعر.
(انتهى من المثل السائر بتصرف)
كيفية افتتاح مواضيع الإنشاء وختامـها
الافتتاح أن تجعل مطلع الكلام من الشعر أو الرسائل دالا على المعنى المقصود من ذلك الكلام إن كان فتحا ففتحا وإن كان هناء فهناء أو كان عزاء فعزاء وهكذا: وفائدته أن يعرف من مبدأ الكلام ما المراد منـه فإذا نظم الشاعر قصيدة فإن كان مديحا صرفا لا يختص بحادثة من الحوادث فهو مخير أن يفتتحها بغزل وبين أن يرتجل المديح ارتجالا من أولها كقول القائل:
إن حارتِ الألبابُ كيف تقولُ
في ذا المقامِ فعذرها مقبولُ
سامحْ بفضلكَ مادحيكَ فما لهم
أبداً إلى ما تستحقُّ سبيلُ
إن كان لايرضيك إلاّ محسنٌ
فالمحسنونَ إذنْ لديك قليلُ
وأما إذا كان القصيد في حادثة من الحوادث كفتح مقفل أو هزيمة جيش أو غير ذلك فإنـه لاينبغي أن يبدأ فيه بغزل، ومن أدب هذا النوع أن لايذكر الشاعر في افتتاح قصيدة المديح ما يتطير منـه أو يستقبح: لاسيما إذا كان في التهاني فإنـه يكون أشد قبحا: وإنما يستعمل في الخطوب النازلة والنوائب الحادثة: ومتى كان الكلام في المديح مفتتحا بشيء من ذلك تطير منـه سامعه وإنما خصت الابتداءات بالاختيار لأنـها أول ما يطرق السمع من الكلام فإذا كان الابتداء لائقا بالمعنى الوارد بعده توفرت الدواعي على استعماله: واام أن يكون الكلام مؤذنا بتمامـه بحيث يكون واقعا على آخر المعنى فلا ينتظر السامع سيئا بعده: فعلى الشاعر والناثر أن يتأنقا فيه غاية التأنق ويجودا فيه ما استطاعا لأنـه آخر ما ينتهي إلى السمع ويتردد صداه في الأذن ويعلق بحواشي الذكر فهو كمقطع ال يكون آخر ما يمر بالفم ويعرض على الذوق فيشعر منـه بما لايشعر من سواه: ولذلك يجب أن يكون اام مميزا عن سائر الكلام قبله بنكتة لطيفة أو أسلوب رشيق أو معنى بليغ: ويختار له من اللفظ الرشيق الحاشية الخفيف المحمل على السمع السهل الورود على الطبع ويتجافى بـه عن الإسهاب والتعقيد والثقل وغير ذلك، وحكم اام كما سبق أن يكون مؤذنا بتمام الكلام بحيث يكون واقعا على آخر المعنى فلا ينتظر السامع شيئا بعده، وإذا لم يكن المعنى دالا بنفسه على اام حسن أن يدل عليه بكلام آخر يذكر على عقب الفراغ من سياقة الأغراض السابقة، وحكمـه أن يكون منتزعا مما سبقه فيقفى بـه تقريرا لشيء من الأغراض أو إجمالا لمفصلها موردا على وجه من وجوه البلاغة أو الكلام الجامع أو مخرجا مخرج المثل أو الحكمة أو ما شاكل ذلك مما تعلقه الخواطر وتقيده الأذهان كقول المتنبي المتوفى سنة 354ه.
وما أخصُّكَ في برءٍ بتهنئة
إذا سلمتَ فكلُّ الناس قد سلموا
وكقول الزمخشري المتوفى سنة 528ه? في ختام إحدى مقالاته (إن الطيش في الكلام يترجم عن خفة الأحلام وما دخل الرفق شيئا إلا زانـه وما زان المتكلم إلا الرزانة) وأما في غير ذلك فالأكثر فيه أن يضمن غرضا آخر من الدعاء أو عرض النفس على خدمة المكتوب إليه أو توقع الجواب منـه أو غير ذلك مما تحتمله مقامات الكلام وتقتضيه دواعي الحال:وأكثر ما يختمونـها في النثر بعد الأغراض المذكورة بقولهم إن شاء الله: أو بمن الله وفضله: وما أشبه ذلك وكثيرا ما يختم الناثر بقوله والسلام: أو بلا حول ولا قوة إلا بالله: أو قوله والله المستعان: أو بقوله والحمد لله أولا وآخرا باطنا وظاهرا. أو بقوله والله أعلم: أو غير ذلك. وربما ختم بمثل كختام الخوارزمي المتوفى سنة 383ه رسالته بقوله: ولقد سلك الأمير من الكرم طريقا يستوحش فيها لقلة سالكها ويتيه في قفارها لدروس آثارها وانـهدام منازلها أعانـه الله على صعوبة الطريق وقلة الرفيق وألهمـه صبرا يهون عليه احتمال المغارم ويقرب عليه مسافة المكارم، فبالصبر تنال العلا وعند الصباح يحمد القوم السرى.
"ومن أمثلته في الشعر قول ابن الوردي المتوفى سنة 749ه?"
سلامٌ عليكم ما أحبّ وصالكم
وغايةُ مجهودِ المقلّ سلامٌ
تقسيم الإنشاء إلى فني النظم والنثر
اعلم أن لسان العرب وكلامـهم يدور على فنين. فن الشعر المنظوم وهو الكلام المقفى الموزون بأوزان مخصوصة. وفن النثر وهو الكلام غير الموزون فأما الشعر فمنـه المدح والهجاء والرثاء. وأما النثر فمنـه ما يؤتى بـه قطعا ويلتزم في كل كلمتين منـه قافية واحدة ويسمى سجعا وهو ثلاث أقسام القسم الأول أن يكون الفصلان متساويين لا يزيد أحدهما على الآخر كقوله تعالى: (فَأَمّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ {9} وَأَمّا السّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ) [الضحى: 9، 10] وهو أشرف السجع منزلة للاعتدال الذي فيه: القسم الثاني أن يكون الفصل الثاني أطول من الأول لا طولا يخرج بـه عن الاعتدال خروجا كثيرا فإنـه يقبح عند ذلك ويستكره ويعد عيبا فمما جاء من ذلك قوله تعالى: (بَلْ كَذّبُواْ بِالسّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً {11} إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيّظاً وَزَفِيراً {12} وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مّقَرّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان: 11 13] فالفصل الأول ثمان لفظات والثاني والثالث تسع تسع: ويستثنى من هذا القسم ما كان من السجع على ثلاث فقر فإن الفقرتين الأوليين تحسبان في عدة واحدة ثو تأتي الثالثة فينبغي أن تكون طويلة طولا يزيد عليهما وقد تكون الثلاثة متساويات كقوله تعالى: (فِي سِدْرٍ مّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مّنضُودٍ وَظِلّ مّمْدُودٍ) [الواقعة: 28 30] القسم الثالث : أن يكون الفصل الآخر أقصر من الأول وهو عيب فاحش وأما النثر فهو ما يؤتى بـه قطعا من غير تقيد بقافية ولا غيرها وهو الذي يطلق فيه الكلام إطاقا ولا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها.
(انتهى من المثل السائر باختصار)
كيفية عمل الشعر
اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطا أولها الحفظ من (أي من جنس شعر العرب) حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من فحول الإسلام مثل ابن أبي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواي وأبي تمام والبحتري والشريف الرضي وأبي فراس وأكثره شعر "كتاب الأغاني" لأنـه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله والمختار من شعر الجاهلية.
ثم لابد من الخلوة واستجادة المكان المنظوم فيه باشتماله على مثل المياه والأزهار وكذا استجادة المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور: ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام ونشاط فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه: قالوا وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر: ورما يكون من بواعثه العشق والانتشاء قالوا فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر ولا يكره نفسه عليه: وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغة ونسجه يضعها ويبني الكلام عليها إلى آخره لأنـه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها فربما تجيء نافرة قلقة وإذا سمح الخاطر بالبيت ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق بـه فإن كل بيت مستقل بنفسه ولم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء وليراجع شعره بعد الخلاص منـه بالتنقيح والنقد ولايضن بـه على الترك إذا لم يبلغ الإجادة فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو بنات فكره واختراع قريحته ولايستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنـها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة، وقد حظر أئمة اللسان على المولد ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منـها بالعدول عنـها إلى الطريقة المثلى من الملكة ويجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده بحيث تكون ألفاظه على طبق معانيه
ومعانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم ويجتنب أيضا الحوشي من الألفاظ والمقصر وكذلك السوقي المبتذل فإنـه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة أيضا فيصير مبتذلا ويقرب من عدم الإفادة وفي هذا القدر كفاية.
(عن ابن خلدون باختصار)
أضيفت في01/06/2008/ خاص القصة السورية / من كتاب جواهر الأدب
فنون الإنشاء
من كتاب جواهر الأدب
في أدبيات وإنشاء لغة العرب
الباب الثاني في فنون الإنشاء
فنونـه سبعة: وهي المكاتبات، والمناظرات، والأمثال، والأوصاف، والمقامات، والروايات، والتاريخ.
الفن الأول في المكاتبات والمراسلات
المكاتبة وتعرف أيضا بالمراسلة هي مخاطبة الغائب بلسان القلم وفائدتها أوسع من أن تحصر من حيث أنـها ترجمان الجنان ونائب الغائب في قضاء أوطاره ورباط الوداد مع تباعد البلاد، وطريقة المكاتبة هي طريقة المخاطبة البليغة مع مراعاة أحوال الكاتب والمكتوب إليه والنسبة بينـهما. وخواصها خمس: السذاجة، والجلاء، والإيجاز، والملأمة، والطلاوة. فالسذاجة تجعل الكلام فطريا سليما من شوائب التكلف منزها عن زخرف القول بعيدا عن بهرجة الكلام: والهجاء هو العدول عن الكلام المغلق والتشابيه المستبعدة والتراكيب الملتيسة إلى الكلام المـهذب الصريح: والإيجاز تنقيح الرسالة من حشو الكلام وتطويل الجمل فيبرزها وافية الدلالة على المقصود مقتصرة على المحسنات القريبة المنال: والملاءمة تنزل الألفاظ والمعاني قدر الكاتب والمكتوب إليه فلا تعطي خسيس الناس رفيع الكلام ولارفيع الناس خسيس الكلام على أنـها تجعل الرسالة وتعابيرها مستعذبة الأوضاع حسنة الارتباط يأخذ بعضها بأزمة بعض. والطلاوة تكسو الكلام رونقا وإشراقا بجودة العبارة وسلامة المعاني وسلاسة الألفاظ ونجعله بذلك أحسن موقعا عند سامعه.
أبواب الرسائل
تنقسم الرسائل باعتبار موضوعها إلى ثلاثة أقسام الأول الرسائل الأهلية والثاني الرسائل المتداولة والثالث الرسائل العلمية.
الكلام على الرسائل الأهلية
الرسائل الأهلية وتعرف برسائل الأشواق هي ما دارت بين الأقارب والأصدقاء وأسفرت عن مكنون الوداد وسائر الفؤاد ولا حرج على الكاتب إذا بسط فيها الكلام على أحواله وأخفى السؤال في أحوال أصحابه، وتتفرد هذه الرسائل بأن يطلق الكاتب فيها العنان للأقلام ويتجافى عن الكلفة ويعدل عن الانقباض: وقد قيل: الأنس يذهب المـهابة والانقباض يضيع المودة. هذا: ولابد من مراعاة مقتضى الحال والاعتصام بركن الفطنة أخذا بقول أبي الأسود الدؤلي:
لاترسلنّ رسالةً مشـهورةً
لا تستطيعُ إذا مضت إدراكها
وإلى هذا الباب ترجع نكاتبات الأشواق والتعاريف قبل اللقاء والهدايا والاستعطاف والاعتذار وغير ذلك. ولنذكر شذرات من أقوال الكتب.
الفصل الأول في الشوق
"كتاب أبو منصور الثعالبي المتوفى سنة 429ه??"
شوقي إليك رهين قلبي وقرين صدري والزعيم بتعليق فكري وتفريق صدري سمير ذكري ونديم فكري زادي في سفري. وعتادي في حضري لايستقل بـه ولايقوى عليه صبري يكاد يكون لزاما ويعد غراما لا يرحل مقيمـه ولا يصرف غريمـه استخف نفسي واستفرها وحرك جوانحي وهزها شوق أخذ بسمع خاطري وبصره وحال بين مورد قلبه ومصدره شوق قد استنفذ جلدي وملك خلدي شوق براني بري الخلال ومحقني محق الهلال شوق تركني حرضا وأوسعني مضضا أراني الصبر حسرة والوجد يمنة ويسرة شوق يزيد على الأيام توقدا وتأججا وتضرما وتوهجا نار الشوق حشو ضلوعي وماء الصبابة ملء جفوني أنا من لواعج الشوق بين غمائم لاتمطر إلا صواعق وسمائم قد قدحت في كبدي من الحرقة بهذه الفرقة ما يفوت أيسره حد الشكاية ويجوز أضعفه كنـه الكناية. شوق الروض الماحل إلى الغيث الهاطل.
"وكتب في تشبيه الشوق"
ما الأعرابية حنت إلى نجد وأنت من وجد بأشد مني كلفا وأتم مني شغفا. أنا في شدة الشوق إليك كالعطشان كشف له عن ماء عذب ومنع منـه بمانع صعب شوق له ألقي على الكواكب بعضه لما ساؤت أو كلفت الأفلاك ثقله لما دارت شوق لو فرق على القلوب الخالية لاشتغلت ولو قسم على الأكباد الباردة لاشتعلت أنا أشتاقك مع كل صباح طالع وضياء شارق ونجم طارق
"وكتب في أثر الفراق"
وجد يتكرر على كر الجديدين ويستغرق ساعات الملوين قد تحملت مع يسير الفرقة عظيم الحريق ومع قليل البعد كثير الوجد قد انثنت بجسم ناحل وصرت من صبري على مراحل فأرقتني وفرقت جميع صبري واستصبحت فريقا من قلبي فرقت بـه بين عيني والرقاد وجنبي والمـهاد ما أعول إلا على العويل لو كان يغني ولا استنصر غير الوجدلم كان يجدي يدي لاتساعدني وحطي لايشبه في الدقة إلا بدني لولا حصانة الأجل لخرجت روحي على عجل فارقتني فتفرق عني شمل أنس منتظم وتمكن مني برح شوق مضطرم فارقتني ففرقت بين الروح والبدن وتركتني والنزاع في قرن قد صرت حليف وحشة وإن كنت ثاويا في وطن وقرين كربة وإن كنت بين جيرة وسكن.
عسى الدَّهرُ يدنينا ويدني دياركمو
ويجمعُ ما بيني وبينكمو الشَّملا
فأشكو تباريحَ الغرام إليكمو
وحرَّ جوىً تبلي عظامي وما يبلى
"وكتب البسطامي المتوفى سنة 332ه?"
قلبي بنار الهوى معذّبْ
شوقاً إلى حضرة المـهذّب
شوقاً إلى ماجدٍ كريمٍ
يخطرُ لي ذكرهُ فأطربْ
وبعد فالعبد ينـهي من لواقح شوقه ولوافح توقه إلى شـهود ذاتكم الجميلة ومشاهدة صفاتكم الجليلة لينشق عرفكم الفائح وبخور عرفكم الفاتح مد الله سبحانـه وتعالى ظلكم وأدر وبلكم وظلكم.
أحبُّ الوعدَ منك وإن تمادى
وأقنعُ بالخيالِ إذا ألمَّا
عسى الأيام تسمحُ لي بوصلٍ
وتأخذُ لي من الهجران سلما
والجناب منذ طوى عنا أبواب ملاقاته. وزوى منا أطايب أوقاته قبض العبد عنان مقاله وخفض لسان حاله.
شكوتُ وما الشكوى بمثلي عادةٌ
ولكن تفيضُ العينُ عند امتلائها
فجلس الفراق بعظيم حجاجه. وأليم عذابه. على ذروة عرشـه. وافترس بقوة بطشـه. وصار للسر جارا. وأوقد للحرب نارا جهارا.
طوعاً لقاضٍ أتى في حكمـهِ عجبا
أفتى بسفكِ دمي في الحلّ والحرم
وهذه حانته المفصح عنـها مقالته:
إنَّ الأمورَ إذا التوتْ وتعقَّدتْ
جاء القضاءُ من الكريم فحلّها
فلعلّ يسراً بعدَ عسر علّها
ولعلّ منْ عقدَ العقودَ يحلّها
فلعل غروس التمني قد أثمرت. وليالي الحظ قد أقمرت:
سألتُ أحبّتي ما كان ذنبي
أجابوني وأحشائي تذوب
إذا كان المحبُّ قليلَ الحظّ
فما حسناتهُ إلاّ ذنوبُ
فرعى الله أياما لاحت فيها أقمار غروزها. وفاحت فيها أطراز طروزها. بهاء سمائها. على منار ضيائها. من ذات جلالها. وصفات دلالها. في جنات عواطفها. وحنات تعاطفها.
فإن كنتُ لا أطرقُ رحبَ
فنائكم فقد أطرقُ باب ثنائكم
لئن غيّبتني عن ذراك حوادثٌ=فليس ثنائي عن فناك بغائبِ
"وكتب عبد الحمن محمد بن طاهر المتوفى سنة 431ه?"
كتبت أعزك الله عن ضمير اندمج على سر اعتقادك دره. وتبلج في أفق ودادك بدره. وسال على صفحات ثنائك مسكه. وصار في راحة سنائك ملكه. ولما ظفر بفلان حملته من تحيتي زهرا جنيا. يوافيك عرفه ذكيا. ويواليك أنسه نجيا. ويقضي من حقك فرضا مأتيا. على أن شخص جلالك لي ماثل وبين ضلوعي نازل. لاتمله خاطر. ولايمسه عرض داثر إن شاء الله عز وجل.
"وكتب أبو الفضل بن العميد المتوفى سنة 360ه?"
قد قرب أيدك الله محلك على تراخيه وتصاقب مستقرك على تنائيه لأن الشوق يمثلك. والذكر يخيلك. فنحن في الظاهر على افتراق. وفي الباطن على تلاق. وفي النسبة متباينون. وفي المعنى متواصلون. ولئن تفارقت الأشباح لقد تعانقت الأرواح.
"وكتب بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398ه?"
يعز علي أطال الله بقاء مولاي. أن ينوب في خدمته قلمي عن قدمي ويسعد برؤيته رسولي دون وصولي. ويرد مشرعة الأنس بـه كتابي قبل ركابي: ولكن ما الحيلة والعوائق جمة.
(وعلي أن أسعى وليس علي إدراك النجاح) وقد حضرت داره وقبلت جداره وما بي حب الحيطان ولكن شغفاً بالقطان. ولا عشق الجدران ولكن شوقاً إلى السكان.
أمرُّ على الدّيار ديار سلمى
أقبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حبُّ الدّيارِ شفعن قلبي
ولكنْ حبُّ منْ سكنَ الديارا
وحين عدت العوادي عنـه أمليت ضمير الشوق على لسان القلم معتذراً إلى مولاي على الحقيقة عن تقصير وقع وفتور في الخدمة عرض ولكني أقول:
إن يكن تركي لقصدك ذنباً
فكفى أن لا أراك عقابا
"وكتب أبو محمد عبد الله البطليوسي المتوفي سنة 521ه?"
يا سيدي الأعلى وعمادي الأسنى وحسنة الدهر الحسنى الذي جل قدره وسار الشمس ذكره ومن أطال الله لفضل يعلي مناره وعلم يحيي آثاره: نحن أعزك الله نتدانى إخلاصاً وإن تناءينا أشخاصاً ويجمعنا الأدب وإن فرقنا النسب فالأشكال أقارب والآداب مناسب وليس يضر تنائي الأشباح إذا تقاربت الأرواح.
نسيبيَ في رأيي وعلمي ومذهبي
وإن باعدتنا في الأصول المناسب
"وكتب بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398ه?"
أراني أذكر "مولاي" إذا طلعت الشمس أو هبت الريح أو نجم أو لمع البرق أو عرض الغيث أو ذكر الليث أو ضحك الروض وأنى للشمس محياه وللريح رياه وللنجم حلاه وعلاه وللبرق سناؤه وسناه وللغيث نداه ونداه وفي كل صالحة ذكراه وفي كل حادثة أراه فمتى أنساه وأشده شوقاه: وعسى الله أن يجمعني وإياه.
"وكتب الشيخ ابراهيم اليازجي المتوفي سنة 1906م"
مازلت أع النفس عما تتقاضاني من شكوى أشواقها وفي الشكوى شفاء واستنزال أثر من لدنك تتعلل بـه مسافة البين إلى أن يمن الله باللقاء ومن دون إجابتها مشاده قد شغلت الذرع وشواغل قد أفرغ من دونـها الوسع إلى ان اغلب جيش الوجد على معاقل الصبر وزاحم مناكب العدواء حتى ضرب أطنابه وبين الحجاب والصدر فاتخذت هذه الرقعة أزجيها إليك وفيها من وقر الشوق ما ينوء برسولها ومن رقة الصبابة ما يكاد يطير بها: أو يخلفها فيصافح الأعتاب قبل وصولها: راجياً لها أن تتلقى بما عهد في سيدي من الطلاقة والبشر وأن لا يضن عليها بما عودني من تمـهيد العذر ويصلني من بعدها بأبنائه الطيبة عائدة عنـه بما يكون للناظر قرة وللخاطر مسرة: إن شاء الله تعالى بمنـه وكرمـه.
?"وكتب أيضاً"
وافاني كتابك العزيز فأهلاً بأكرم رسول جاء ببينات الإخلاص والوفاء مصدقاً لما بين يديه من ذمة الوداد والإخاء. يتلو علي من حديث الشوق ما شـهد بصحته سقمي. وهتف مؤذنـه في كل مفصل من جسمي ويذكرني من عهدك ما طالما أذكرينـه البرق إذا لمع والبدر إذا طلع والقمري إذا سجع. وإنما عداني عنك ما أنا فيه من مجاذبة الشواغل ومساورة البلابل.
وفي القلب ما في القلب من شجن الهوى
تبدّلت الحالاتُ وهو مقيمُ
وأنا على ما بي من غل البنان وشغل الجنان مازالت أبناؤك عندي لا يخطئني بريدها ولا ينقطع عني ورودها أهنئ النفس منـها بما تتمنى لك من سلامة لا يرث لها شعار وإقبال لا يعترضه بإذن إدبار.
وقصارى المأمول في كرمك أن تعاملني بما سبق لك من جميل الصلة إلى أن يمن الله بالاجتماع ويغني بالعيان عن السماع (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر: 17].
"وكتب أبو العباس الغساني المتوفي سنة 498ه?"
سر إلى مجلس يكاد يسير شوقاً إليك. ويطير بأجنحة من جواه حتى يحل بيم يديك فلله درون كما له إن طلعت بدراً بأعلاه. وجماله إن ظهرت غرة بمحياه. فهو أفق قد حوى نجوماً تتشوق إلى طلوع بدرها وقطر قد اشتمل على أنـهار تتشوق إلى بحرها لنستمد منـها إن مننت بالحضور وإلا فيا خيبة السرور.
"وكتب الصاحب بن عباد المتوفي سنة 385ه?"
مجلسنا يا سيدي مفتقر إليك معول في شوقه عليك ولقد توردت خدود بنفسجة وفتقت فأرة نارنجه وانطلقت ألسن الأوتار وقامت خطباء الأطيار وهبت رياح الأقداح ونفقت سوق الأنس والأفراح وقد أبت راحته أن تصفو إلا أن تتناولها يمناك وأقسم غناؤه لا طيب حتى تعيه أذناك. ووجنات أترجه قد احمرت خجلاً لإبطائك. وعيون نرجسه قد حدقت تأميلاً للقائك ونحن لغيبتك كعقد ذهبت واسطته وشباب قد أخذت جدته وإذا غابت شمس السماء عنا فلا أن تدنو شمس الأرض منا. فإن رأيت أن تحضر لتتصل الواسطة بالعقد ونحصل بك في جنة الخلد: فكن إلينا أسرع من السهم في ممره والماء إلى مقره لئلا يخبث من يومي ما طاب ويعود من نومي ما طار.
"وكتب أبو بكر الخوارزمي المتوفي سنة 383ه?"
كتابي وأنا بما يبلغني من صالح أخبار "السيد" مغتبط مسرور وبما يعرفه الزمان وأهله من اعتضادي بـه مصون موفور والله على الأولى محمود وعلى الأخرى مشكور، التطفل وإن كان محظوراً في غير مواطنـه فإنـه مباح في أماكنـه وهو وإن كان في بعض الأحوال يجمع عاراً ووزراً فإنـه في بعضها يجمع فخراً ورب فعل يصاب بـه وقته فيكون سنة وهو في غير وقته بدعة وقد تطفلت على "السيد" بهذه الأحرف أخطب بها مودته إليه وأعرض فيها مودتي عليه وأسأله أن يرسم لي في لساني وقلبي رسماً ويختم عليهما ختماً فقد جعلتها باسمـه وقصرتهما على حكمـه وسأضعهما تحت ختمة وبرئت إليه منـهما وصرت وكليه فيهما فهماً على غيره حمى لا يقرب، وبحيرة لا تحلب ولا تركب، ولما نظرت إلى آثار السيد على الأحرار ونشرت طراز محاسنـه من أيدي القاصدين والزوار ورأيت نفسي غفلاً من سمة مودته وعطلاً من جمال عشرته حميتها من أن يحمي عليها ورد مورود ويحسر عنـها ظل على الجميع ممدود: وعجبت من:
سحابٌ خطاني جوده وهو صيّبٌ
وبحرٌ عداني سيلهُ وهو مفعمٌ
وبدرٌ أضاءَ الأرض شرقاً ومغرباً
وموضعُ رجلي منـهُ أسودُ مظلم
"وكتب الشيخ حمزة فتح الله المتوفي سنة 1335ه?"
مولاي: أما الشوق إلى رؤيتك فشديد وسل فؤادك عن صديق حميم وود صميم وخله لا يزيدها تعاقب الملوين وتألق النيرين إلا وثوقاً في العرى وإحكاماً في البناء ونماء في الغراس وتشييداً في الدعائم ولا يظنن سيدي أن عدم ازديادي ساحته الشريفة واجتلائي طلعته المنيفة لتقاعس أو تقصير فإن لي في ذلك معذرة اقتضت التأخير والسيد أطال الله بقاءه أجدر من قبل معذرة صديقه وأغضى عن ريث استدعته الضرورة.. وبعد فرجائي من مقامكم السامي أن لا تكون معذرتي هذه عائقاً لكم عن زيارتي: فلكم مننا طوقتمونيها ولكم فيها فضل البداءة وعلي دوام الشكران والسلام.
"وكتب المرحوم محمد بك دياب المتوفي سنة 1339ه?"
كتابي إليك: وقد أطال بي الانتظار وشوقي يجل عن الكيف والانحصار فشخصك دائم المثول أمام إنساني وعن سواك من الأخلاء ألهاني وأنساني فلله أيام قضيناها وليال من الدهر اختلسناها كان السرور فيها ضارباً خيامـه والأنس ناشراً أعلامـه طوي بساطها وكأن الأمر ما كان غير أنـها زرعت بفؤادي شجرة الأشجان لكن عودها حليف أوبتك وتجددها رهين إشارتك فمتى يقرب المزار وتنجلي سحب الأكدار فاضرب لعودك أجلاً فالعود لاشك أحمد واكتب بقربك وصلا فالوصل اضمن للعهد: وعهدي من خلقك الوفاء وحسن الولاء فلا تجعل صفقة شوقي إليك خسراً بل هبني بعد العسر يسرا.
"وكتب وفا أفندي محمد المتوفي سنة 1319ه?"
أما بعد، سلامي عمليك فهذا كتابي ينبئك عني وعن شوقي وعن ودي ولا أزيدك علماً أني ما كتبته من دواة ولا أجريت عليه فلماً ولكنـها دموع وشوق سالت على القرطاس وجرت على حركات الخواطر والأنفاس وهبت عليه حرارة كبدي بالأشواق ووجدي بالفراق: فبينما عي عقيقة حمراء غذ صارت فحمة سوداء: ألا وإن كتابي هو قلبي ولساني أما تراه على رقته ولطف عبارته وصدق طويته بين يديك مقبلاً عليك ينشره الشوق ويطويه لا يخفى أمراً ولا يكتم عنك سراً وتلك صفات لساني وقلبي معك: فما الذي أبتغيه بعد وقد بعثت إليك بالأصغرين وما أنا إلا بهذين نعم أرجو بقاك ممتعاً بنعماك لأكون على الدوام محل نظرك والسلام.
"وكتب مؤلف هذا الكتاب"
كتابي لديك يصف شوقي إليك ولا يخفى عليك فمذ فارقتني فرقت بين أنسي ونفسي بل بين روحي وجسمي ولا تعجب إذا كنت أغدو وأروح فالطير يمشي من الألم وهو مذبوح وإني أشكو إليك ؟من ألم الوحشة غراماً لا يشعر بـه إلا من ذاق حلو أنسك وعرف مقدار نفسك وساهد جمال لطفك وفي صفاتك ترويحاً لروحي وفي كرم خلقك تفريحاً لنفسي.
إذا وصف الناسُ أشواقهم
فشوقي لوجهك لا يوصفُ
فعندي لك من المحبة والشوق والتلهف والتوق ما لايصفه الواصفون ولا يعبر عن حقيقته العارفون.
الشّوق فوق الذي أشكو إليكَ وهل
تخفى عليك صباباتي وأشواقي
فيا شوقي إلى لقياك ووالهفي على جمال محياك قيدن أملي عن سواك وبهرت ناظري بنظرة سناك وكسرت جيش قراري وتركتني لا أفرق بين ليلي ونـهاري.
فؤادي والهوى سلمٌ وحربُ
وسلواني أقام على الحياده
وشوقي كاملٌ ما فيهِ نقصٌ
فلستُ عليهِ أطمعُ في الزّياده
فليت شعري ماذا أصنع في شوق أنا مدفوع إليه من صادق حبي بعوامل صادفت مني قلباً خالياً فتمكنت بالتعارف ولم تدع للسلوان سبيلاً.
عرفتُ هواهُ قبل أن أعرفَ الهوى
فصادفَ قلباً خالياً فتمكَّنا
إي وربي إن شوقي إليك الظمآن إلى برد ال وحنيني لك حنين الشيخ إلى زمن الشباب، فما الأبل وقد حنت إلى أعطانـها، والغرباء وقد أنت إلى أوطانـها بأعظم مني حنيناً ولا أكثر أنيناً.
ولكنّ التفرُّق طالً حتى
توقّدَ في الضُّلوع له حريقٌ
فكلما تخطر ببالي في أي وقت من الأوقات يمثل لي التذكر منك محاسن ولطائف تجذبني ميلاً إليك وتطربني شغفاً بك واغتباطاً بإخائك فلا عجب أن كان شوقي لرؤيتك عظيماً لأنـه كما قيل (كم كرم الرجل حنينـه إلى أوطانـه وشوقه إلى إخوانـه).
يا خلاصَ الأسيرِ يا حصّة المّد
نف يا زورة على غيرِ وعدِ
يا نجاةَ الغريقِ يا فرحةَ الأو
بة ياقفلة أتتْ بعد بعدِ
ارضَ عنّي فدتكَ نفسيَ أنّي
لك عبدٌ أذلُّ من كلّ عبدِ
ناشدتك الله أن ترفق بحالي وتعيد وصالي وارع الود القديم وأبدل شقاء محبك بالنعيم واغمد سيف ظلمك المسلوى (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 34].
الفصل الثاني في التعارف قبل اللقاء
"كتب أبو منصور التيسابوري المتوفي سنة 429ه?"
نحن في الظاهر على افتراق وفي الباطن على تلاق نحن نتناجى بالضمائر ونتخاطب بالسرائر إذا حصل القرب بالإخلاص لم يضر البعد بالأشخاص أنا أناجيك بخواطر قلبي وإن كان قد غاب شخصك عني إن أخطأتك يدي بالمكاتبة ناجاك سري بالمواصلة رب غائب بشخصه حاضر بخلوص نفسه إن تراخى الالقاء فإننا نتلاقى على البعاد ونتلافى نظر العين بالفؤاد.
"وكتب أيضاً"
أنا أشتاقك كما تشتاق الجنان وإن لم تتقدم لها العينان أنا وإن كنت ممن لا يسعد بلقائك فقد اشتمل علي الأنس ببقائك والشوق إلى محاسنك التي سارت أخبارها ولاحت آثارها لازالت الأيام تكشف لي من فضلك والأخبار تعرض علي من عقلك ما يشوقني إليك وإن لم أراك ويزيدني رغبة في ودك وقد سمعت خبرك.
"وكتب الشيخ حمزة فتح الله المتوفي سنة 1335ه?"
كما أن شغف الجنان بالحسن والإحسان تكون داعيته المشاهدة وتسريح الأنظار في محيا الكمال ومجلتي الجمال فترى العين من تلك الغرة ما يملؤها قرة فكذلك السماع يستدعي هذا الشغف فيتأثر الفؤاد بما يشنف الأذن مما تهديه إليه طرائف الأخبار حتى كأن حاستي السمع والبصر في ذلك صنوان بل أخوان في هيكل هذا الجثمان وقد يعلن السيد أطال الله بقاءه وأدام ارتقاءه أن ذلك الأمر (أي الشغف بالسماع) ليس بالحديث العهد ولا القريب الجدة بل هو أمر عرف قديماً أن يهدي السماع إلى سويداء القلب لاعج الحب سعره من الأنباء عرف شميم فتهيم بمجرد استنشاق ذلك الشميم حتى يقول الشاعر العربي (والأذن تعشق قبل العين أحياناً) أجل والقدوة في هذا المعنى والأس لذلك المبني قوله (: "إني لأشم نفس الرحمن من قبل اليمن" لما أملته العناية الربانية والملك الروحاني على قلبه الشريف من نبأ القرني أويس ولم يكن رآه بعد.
الأوان محاسن السيد الأجل لما سارت بها الركبان وأثنى عليها كل لسان ما بين أخلاق أبهى من الروض النضير وأعراق أشـهى من عذيب النمير قد احتلت من فؤادي لا أقول منزلاً رحيباً ولا وادياً خصيباً بل منزله شماء ودارة علياء وأوجاً بطوالعها السعيدة يسعد ويلوح بها من ذكراه كل حين فرقد فلم أنشب أن قدمت كتابي هذا لمولاي بين يدي اللقاء عله أن يسمح بـه الزمان وتسفر عنـه الليالي والأيام ليتاح لي ري الفؤاد بما أرويه من حديث زيد الخيل الذي سماه رسول الله ( زيد الخير وقال له ما وصف لي أحد فرأيته إلا وجدته دون ما وصف لي سواك وإن فيك خصلتين يحبهما الله (الحلم والأناة) مقتدياً بالإمام محمود جار الله في تقديم هذا الحديث الشريف على ما أنشده إياها الشريف بن الشجري أول ما لقيه وكانا قد تحابا بالسماع.
كانت مساءلةُ الرُّكبان تخبرنا
عن جابر بن رباحِ أطيبَ الخبرِ
حتى اجتمعنا فلا والله ما سمعت
أذني بأحسن مما قد رأى بصري
"وكتب حفني بك ناصيف المتوفي سنة 1337ه?"
يعلم الله ما عندي من الشوق إلى لقاء السيد وإن لم يكتحل بإثمد محاسنـه النظر والشغف بسماع الحديث منـه كما سمعته عنـه فقد سبقت ذكرى محاسنـه إلى السمع ووصل خبر لطائفة إلى النفس. وما المرء إلا ذكره ومآثره. وحسدت العين عليه الأذن وودت لو أنـها السابقة إلى اجتلاء رقائقه وشـهود حقائقه.
فللعين عشق مثل ما يعشق السمع. لا جرم أن ما تعارف من الأرواح ائتلف وما تناكر منـها كما قيل اختلف. ونحن وإن بعدت بيننا الشقة ولم يسبق لنا باللقاء عهد فلحمة الدب تجمعنا ووحدة الوجهة تضمنا ولحمة الأدب أقوى من لحمة النسب وجامعة الوجهة فوق اجتماع الوجوه وقد رأيت أن أزدلف إليك بالمكاتبة وأترسل إلى شرف التعرف بالمراسلة حتى إذا لم يبق في الصبر على الافتراق مسكة ولبى الجسم دعوة الروح فاندفع إلى طلب الاجتماع أكون قد مـهدت له سبيلاً ووطأت له طريقاً فلا تبهرني فرحة اللقيا ولا يغرني طرب الظفر "فمن فرح النفس ما يقتل ومن نشوة الراح ما يزهق الأرواح" فإن رأى السيد أن يكاتب عبده ويعتقه من رق الفرقة عجل بجواب هذا الكتاب ليعلم العبد أن نميقته صادفت قبولاً وأن وسيلته اتخذت لي سيده سبيلاً قرب الله زمن اللقا وقصر أمد النوى حتى أنشد في اام.
تطابقَ الخبرُ في علياك والخبرُ
وصدّقَ السمعَ في أوصافكَ البصرُ
"وكتب أحمد أفندي سمير المتوفي سنة 1329ه?"
يعلم سيدي أن المودة لا تباع ولا تشترى وإنما هي نتيجة الاجتماع والتعارف وقد خلق الإنسان مضطراً إليهما لأن انتظام العمران عليهما موقوف ولهذا شـهد العيان بأن المنفرد بأعماله المستبد بآرائه عرضة للخطأ مظنة لعدم الثقة: بخلاف ما إذا كان الاشتراك في الفكر قاعدة للعمل فلا بد أن الصواب يتمحض منـه لضعف التفرد وقوة الاجتماع إذ لا جرم أن المرء كما قيل: "قليل بنفسه كثير بإخوانـه" وقد سمعت عن السيد وقرأت من آثاره المأثورة ما حببه إلي وشاقتي للتعرف بـه لتشترك في منفعة تبادل الأفكار فإني لا أكتفي بمجرد السماع ولا أقول: "إن الأذن تعشق قبل العين" فإنما هي جارحة صغيرة ولكن كلي ميال إليه محب لاستجلاء مرآه عالم إني غذ دخلت إلى مودته من باب التلاقي لا أجد دهري.
يقرّب منّي كلَّ شخصٍ كرهنـهً
ويبعدُ عنّي منْ إليه أميل
فإن لم يتيسر أن يراني أو أراه فليسعدني ببضعة أسطر تضمن لي رضاه عن هذه المعرفة الترسلية لنتراءى بأعين الطروس قبل أعين الرؤوس ونتجاذب أحاديث المراسلة إن عزت المقابلة وقد وقفت عليه خالص ودي واخترته من بين رجال العصر سعيا لكسب المعالي بمعرفته (كُلّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ) [الطور: 21] (لّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَىَ) [النجم: 39].
عن المرء لا تسألْ وسلْ عن قرينـه
فكلُّ قرين بالمقارنِ يقتدي
"وكتب الشيخ أحمد مفتاح المتوفي سنة 1329ه?"
لم أكن فيما أكتبه لك إلا سارياً في ليل التعارف على ضياء خلالك التي أملاها علي لسان المدح الذي شرق وغرب الأرض صيته وإني وإن لم أكن أسعدت من قبل باجتلاء طلعتك الزاهرة واجتناء مفاكهتك الغضة فقد دلني على الليث زئيره وعلى البحر خريره وعلى العقل أثره وعلى السيف إثره ولئن لم تجمعنا لحمة النسب فقد جمعتنا حرفة الأدب أو لم يضمنا قبل مصيف ومرتبع فالطيور على أشكالها تقع وشبه الشيء منجذب إليه وأخو الفضائل هو المعول عليه: وهذه الرقعة وإن وصفت لك بعض ما أنا مطوي عليه من التهافت على رؤيتك والميل إلى صداقتك فقلما تنوب عن المشابهة أو تقضي حاجات في النفس طالما تردد صداها: زفي ظني أن سيدي يود ما أوده وعما قليل يسفر صبح اللقاء ونتجاذب أهداب المعرفة: ورأى من سيدي فوق ما توسمته وسمعته ويرى مني ما يرضيه والسلام.
"وكتب الشيخ طه محمود المتوفي سنة 1325ه?"
أيها السيد العزيز الجناب الغزير الآداب، قد علمت ولا أزيدك علماً زادك الله ولا نقصك أن الإنسان كما اشتق اسمـه من الأنس كذلك جبل عليه مسماه وأن المجتمع الإنساني عقد يتحلى بـه صدر الزمان نظامـه التآلف وواسطته التعارف: فهذان الأمران هما قطب المدار في هذه الدار لهذا العالم من لدن آدم وليس إلا بهما يحسن الحال وينعم البال وتدر ضروع المنافع وتتفجر عيون الفوائد ومن ثم كان أوفر الناس حظاً من مغنم الإنسانية من يألف ولا خير فيمن لا ولا ناهيك بخلق امتن الله بـه على عباده إذ قال عز من قائل: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ) [الحجرات: 13].
ذلك "أيها السيد" هو الذي بعثني أن اكتب إليك أستفتح باب مودتك بمفتاح الترسل وأستصبح في سبيل صحبتك بمصباح التوسل لا أبالي بما ينسب إلي وينتقم علي ممن عسى أن يقول مالك ولهذا الفضول وكيف تتطفل على مأدبة أديبة لم تدع إليها وهل هذا منك إلا أشبه بالتبرج لغير خاطب: أيها المنتقد هون عليك ما تجد فلو علمت أن ظل الآداب شامل ودعوة المودة الجفلى لا يذاد عنـها وأغل لأسرعت معي إلى الوغول ولم تر في التودد إلى أهل الفضل من فضول وأي عيب على النكرة في التحلي بحلية المعرفة ومصاحبة الأعلام أما سمعت قول القائل:
بصحبتكَ الكرامَ تعدُّ منـهم
وتأمنُ من ملمّات الزّمان
وكيف أضع نفسي بحيث يقول الأول:
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
وشتان ما بين الرجلين رجل يهوى المكارم وبينـها ويبتغي المناقب وذويها ويقف نفسه على مسألة يعلمـها وفضيلة يتحلى بها.
وآخر يبذل وجهه المصون في ملء الحقائب والبطون.
هذا: وقد رجوت أن أكون الرجل الأول بصحبتك "أيها السيد" فكم روى لنا من أحاديث فضائلك للصحاح وتلى علينا من آيات شمائلك الحسان ما أشخص إليك القلوب قبل قوالبها وأوفد عليك الأرواح قبل أشباحها وأعجلني أن أكتب إليك بهذا الرقيم ألتمس بالتعرف إلى جنابك الكريم ما ألتمس الكليم من صحبة ذي الوجه النضر أبي العباس الخضر وإني وإن كنت والحمد لله ممن آمنوا بالغيب وليس عندي في صدق هذه الآيات مرية ولا ريب: بيد أن للصحبة فضلاً لا ينكر وللمؤاخاة مزية لا يتمارى فيها اثنان.
فإذا ورد على السيد كتابي هذا وانشرح صدره "شرح الله صدره" إلى إجابة سؤلي وارتاحت نفسه إلى اصطناعي كتب إلى عبده بما يكون آية جلية على ارتياحه لتحقيق هذه الأمنية.
حتى أقول لوجه آمالي ابتهجْ
لأولّينّك قبلةً لاترضاها
"وكتب الأستاذ محمود بك أبو النصر"
لإنسان العين وعين الإنسان: المودة "وصل الله بأجفان الأشواق أهدابها وفتح لنا أبوابها" أمر عزيز المرتقى على من يصطفى صديقه ويرعى حقوقه وإني اصطفيتك على الناس برسالتي هذه وعهدي بكرم سجاياك أن تصافحها براحة القبول وتتخذها فاتحة ود طارت إليك رياح فضلك بعدما مثلت آياته لك في القلوب معنى ظهرت في مرآه الأعين صورته.
فإن أبيت ودادي غيرَ مكترثٍ
فعنكَ ما دمتُ حيَّا لا أرى بدلا
وحاشاك عن مثل ذلك الإباء ونحن وإن لم تحظ أشباحنا باللقاء فأرواحنا من قبل جنود وأعيننا شـهود فإن أنت منحتني ولاء خالصاُ وإخاءً صادقاً (وإلا فهبني أمراً هالكاً) ولا إخالك ترضاه وإن كنت المتطفل على مائدة مودتك فلي نفس أديب لا ترى العز زإلا في الترامي على ذرا الكمال لازلت على مرقى الجلال والسلام.
"وكتب الفاضل السيد محمد الببلاوي"
سيدي إن مكارم الأخلاق ومعالي الهمم مما تسترق القلوب وتسترق العقول وتمتلك الأرواح وإن لم تتلاق الأشباح فإني مذ سرى إلي النسيم بأخلاقكم الغراء وابتسم لي ثغر هذا العصر عن آثاركم الزهراء وتواترت الأخبار بحبكم للفضل وأهله وارتياحكم للعلم وذويه وأنا مشغوف الفؤاد بالتعرف بسيادتكم مشغول البال بالتوسل إلى رياض مودتكم ولعلمي أن للصداقة حقوقاً وللمصاحبة شروطاً ربما صعبت على من حاولها وعزت على من أراد الوفاء بها كنت أرى الوحدة أولى والانفراد بي أسلم ولكن ما زلت تنمي إلى أحاسن شمائلكم المشرفة وتتوارد على مسامعي محاسن سيركم المطهرة فينمو الوجد ويزداد الشوق "والأذن تعشق قبل العين أحياناً" وما كنت أجد سبيلاً للتعرف ولا سبباً للتودد ولا متجسر نفسي على المراسلة ابتداء إلى أن رأيت سيدي قد اهتم للأدب فأعلى منارة ونظر للإنشاء فرفع مقداره ونصر دولته وأحيا صولته وأعاد شبابه وفتح لأدباء هذا العصر بابه فعلمت أن الدهر قد ساعدني والفرصة قد أمكنتني من مصافحة أملت ومصافات ما أردت من اجتناء ثمار سيدي والتعرف بـه والتمسك بأهداب فضائله والتزود من آدابه فإن الأدب أحسن يستصبح بأنواره وأشرف ما يتسابق لاقتطاف أثماره ويحمد التطفل على موائده ويمدح التنافس في التقاط فرائد فوائده فجعلت طلب الانتظام في سلك أرباب الأقلام وسيلة لورود عذب وداده ونمير التعرف بـه فإن رأى سيدي أن يعد نفس حر في عداد معارفه ويقابل رسالته بما اشتهر من لطائفه حتى يتمتع بالرؤية الأبصار كما تمتعت المسامع بطيب الأخبار كنت مديم الشكر لأفضاله مستمر الثناء على كماله.
"وكتب الشيخ عبد الكريم سلمان المتوفي سنة 1336ه?"
أما بعد فهذه أول رسالة أكتبها إلى من لم تكن لي بـه جامعة جسمية ولم تضمني وإياه حفلة تعارف شخصية وهي وإن كانت في عرف غيري تعد هجوماً أو تحس فضولاً إلا أني أعتقد أنـها أوفدت على كريم يكرم وفادتها ويتقبل بـه ما يهديه إليه من زعيم تحية وجليل إجلال ويجتلي من خلالها إرادة ود ورجاء ولاء وبغية فضل ورغبة في إخاء فيحلها منـه محل القبول ويدرأ عنـها وصمة الفضول: إن لسيدي آثاراً شاهدناها فاستفدناها ومآثر سمعناها فرويناها ولا مرية في أن ما غاب عنا منـها أكثر مما وعينا وأوفى مما سمعنا ونحن والله يعلم طلاب كمال ومنتجعوا إفضال ورواد وما خصب من فيحاء العلوم وقد توسمنا في السيد أطال الله بقاه طلبتنا ووجدنا لديه ضالتنا قحثثنا إلى رحابه مطية المكاتبة ولنا أمل كبير في نوال المأمول لعله يجتح إلى مقابلة المثل بالمثل فيكتب لأخيه بعض كليمات يعرف منـها أنـه قبل الإخاء ومال إلى مقتضى طبعه من الوفاء ولا أظن ذلك إلا وقد كان في أقرب ما يكون من الزمان فإن الأرواح ما تعارف منـها ائتلف كما الأصحاب في معاشرتهم خلفاً عن سلف.
"وكتب مؤلف هذا الكتاب"
لقد سمعنا بأوصافٍ لكم كملتْ
فسرَّنا ما سمعناهُ وأحيانا
من قبل رؤيتكم نلنا محبّتكم
والأذن تعشقُ قبلَ العين أحياناً
سيدي ومولاي: لقد بلغني عنك في وفائك وفضلك ما يدعوني لخطب ودك ويرغبني في إخائك ويحببني في التوسل إلى معرفة جنابك وإن لم تجمعنا جامعة شخصية ولم تضمنا حفلة تعارف ذاتية إلا أن أحاديث فضائلك الصحاح أوفدت عليك الأرواح قبل الأشباح والولاء والإخلاص قبل الأجسام والأشخاص ولا غرابة في ذلك فإن من سنة الله في خلقه أن يؤلف بين الأرواح وأمثالها وإن لله ملائكة يسوقون الأشكال إلى أشكالها وشبه الشيء منجذب إليه وأخو الفضائل هو المعول عليه.
إنّ القلوبَ لأجنادٌ مجنّدةٌ
لله في الأرض بالأهواء تعترفُ
فما تعارفَ منـها فهو مؤتلفٌ=وما تناكرَ منـها فهو مختلفُ فلذا اصطفيتك لنفسي واخترتك لمودتي وأنسي نتناجى بالضمائر ونتخاطب بالسرائر وإن بعدنا في الظاهر فرب غائب بنفسه حاضر بخلوص نفسه.
فإنْ أبيتَ ودادي غيرَ مكترثٍ
فعنك ما دمت حياً لا أرى بدلا
وحاشاك عن مثل هذا الإباء والهجر والجفاء.
لكلّ امرئ شكلٌ من النّاس مثله
وكلّ امرئ يهوى إلى من يشاكلهُ
ناشدتك الله أن تقبل مني الإخاء وتضمن لي الوفاء وأنا أرضى بك من الدنيا نصيباً وأختارك من العالمين حبيباً.
الفصل الثالث في رسائل الهدايا
كتب سعيد بن حميد المتوفي سنة 105ه? يوم النيروز إلى بعض أهل السلطان"
أيها السيد الشريف عشت أطل الأعمار بزياد من العمر موصولة بفرائضها من الشكر لا سينقضي حق نعمة حتى يجدد لك الأخرى ولا يمر بك يوم إلا كان مقصراً عما بعده موفياً عما قبله: إني تصفحت أحوال الأتباع الذين يجب عليهم الهدايا إلى السادة والتمست التأسي بهم في الإهداء وإن قصرت بي الحال عن الواجب فوجدت أني: إن أهديت نفسي فهي ملك لك لاحظ فيها لغيرك. ورميت بطرفي إلى كرائم مالي فوجدتها منك فإن كنت أهديت منـها شيئاً فإني لمـهد مالك إليك. ونزعت إلى مودتي فوجدتها خالصة لك قديمة غير مستحدثة فرأيت إن جعلتها هديتي أني لم أجدد لهذا اليوم الجديد براً ولا لطفاً ولم أميز منزلة من شكري بمنزلة من نعمتك إلا كان الشكر مقصراً عن الحق والنعمة زائدة على ما تبلغه الطاقة فجعلت الاعتراف بالتقصير عن حقك هدية إليك والإقرار بالتقصير عما يجب لك براً أتوسل بـه إليك وقلت في ذلك.
إن أهد مالاً فهو واهبهُ
وهو الحقيقُ عليه بالشكرِ
أو أهد شكري فهو مرتهنٌ
بجميل فعلكَ آخرَ الدّهرِ
والشمس تستغني إذا طلعتْ
أنْ تستضيء بسنَّة الدّهر
"وكتب حنفي بك ناصف المتوفى سنة 1337ه?"
الهدية في نظر الأصيفاء جليلة وإن كانت في نفسها قليلة ومكانتها خطيرة وإن كانت يسيرة وسنة حسنة اجتمعت على فضلها الألسنة.
مضت الدّهورُ وأمرها مستحسنٌ
وتعاقبتْ بمديحها الأيام
اللهم إلا أن لبست جلباب الرياء وولجت أبواب الارتشاء ولا مراء إن الأوداء من ذلك براء.
لا يبتغون سوى الوفاءِ وما لهم
غيرُ البقاءِ على الصَّفاءِ مرام
وما زالت الهدية شعار الأصدقاء وعنون تذكار الولاء وكم جددت بين الأصحاب عهود التحاب.
وتعهّدت ودّا فعادَ شتيتهُ
ولشملهِ بعد البدادِ نظامُ
قد وصلتني يد العصا فحبذا الإهداء وأهلاً بتلك اليد البيضاء وليست هذه أول أياديك علي ولا أكبر عارفة جاءت من ناديك إلي وقد أمنت بها النوب واعتضدت بها على تفريق شمل الكرب.
فإذا طغا بحر الهموم ضربتهُ
بعصايَ فاجتازت بـه الأقدام
تنفلق بها من الأيام صخور فتنبجس منـها عيون السرور وتلقف ما يصنع الأعداء فتذهب بسحر البغضاء وإذا اشتد هجير الوحشة نشرت ظلال أنسها أو عصى فرعون الدهر راعته ببأسها.
فكأنَّما أوصى الكليمُ لنا بها
حتى يرى آياته الأقوامُ
وقد فكرت ماذا أقابل بـه طرفتك وأتلقى بـه تحفتك إلى أن هداني الله أن يد المنعم إنما تقابل بالأفواه ليعزز القبول بالقبل ويؤدي الرسم باللثم فأرسلت إليك فم سجارة وجعلته لهذا المعنى إشارة وقلت:
مولايَ كم فاضتْ يمينكَ بالنَّدى
حتى غدوتُ غريقَ بحر الأنعمِ
والشكرُ أوجبَ أن أقبّلَ راحها
فكنيتُ عن هذا بإهداءِ الفمِ
وقد علمت أن المنظر البهيج يتم بالتدريج فاخترت أن يكون مبدؤه كالليل إذا عسعس ومنتهاه كالصبح إذا تنفس إيذاناً بزوال الشرور بالسرور ورمزاً إلى الخروج من الظلمات إلى النور.
?"وكتب الأستاذ محمود بك أبو النصر"
يا أيّها المولى الذي
عمَّت أياديهِ الجميلهْ
اقبلْ هديّةَ منْ يرى
في حقّكَ الدُّنيا قليلهْ
غرة وجه السعود وقرّة عين الوجود الأمير الجليل: يا جليل الفضائل إليك توجه الآمال ويا جميل الشمائل بساحتك تحط الرحال تلك هي الساحة الفيحاء والشيمة الحسناء والهمة العلياء واليد البيضاء والأعمال التي تضرب بها الأمثال كم من نعم أسديتها ومكارم أوليتها وعلوم أحييتها فأنت المصدر والمورد والمقصد والموعد: إليك أقدم تلك الهدية المرضية وأرفع ذلك الكتاب المستطاب مشفعاً في قبوله كرم سجاياك وعظم مزاياك وإني وإن كنت أعلم أن مقامك العلي يجل عن أن يرفع إليه مثله فقد عرفناك متواضعاً في علاك قريباً مع اعتلاك.
دنوتَ تواضعاً وعلوت مجداً
فشأنك انخفاضٌ وارتفاعُ
كذاك الشّمس يبعدُ أن تسامى
ويدنو الضّوءُ منـها والشّعاعُ
وحاشاك أن أهدي للقمر نوراً أو للشمس ضياء أو أبعث ببنية القطر إلى ذلك البحر ولكنني أحببت أن يحظى بلثم بنانك وينال من كرمك وإحسانك وقد عهدناك تهتز للمكارم اهتزاز الصارم وترتاح لإسداء الجميل كما يرتاح للكرم التنزيل وللشفاء العليل وما هون إلا من نور فكرك مقتبس فعساه يحظى بالقبول فأبلغ غاية المأمول والسلام.
"وكتب الأستاذ عبد الله بك الأنصاري"
المولى أدام الله وجوده ممتعاً بهدايا الأيام وتحف الأعوام طالما أوفد من الرفد إلي ووجه من الخيرات ما أفعم يدي حتى أصبحت وله الفضل والمنة أجر ذيول النعماء على غبراء البأساء واجتلي معارف السراء بعوارفه البيضاء التي لايوازيها ثناء وحمد ولا يوزازيها عطاء ورفد ولا يطاولها سماء وبحر ولا يغالبها بؤس وفقر وإن لي من آلاء السيد حفظه الله وأدام علاه ما اينع وأزهر وأورق وأثمر حدائق قامت لشكره عيدانـها وسجدت لفضله أغصانـها وترنمت طرباً وتمايلت عجباً بنفحات هي عرفه وبركات هي عرفه ولي أمل في جنابه وأنا سليل نعمته وعهدي بأخلاقه وأنا ابن مودته أن يمن بقبول ما أهديته وهو من مال نفسه وثمرة غرسه (باكورة تفاح) يرفعها إجلال وإعظام وتصحبها تحية وسلام.
"وكتب الشيخ أحمد مفتاح المتوفي سنة 1329ه?"
الهدية غمرك الله بالمعروف تتبسط يد المودة وتدر بها أخلاف القرب وتغرس بين المتحابين من الائتلاف بقدر ما تقطع بينـهما من شجر الخلاف وما أنا فيما أهديه إليك إلا مستبضع تمراً إلى أرض خبير أو كالواهب الماء للبحر والضوء للبدر والملك لسليمان والمال لقارون والحلم لأحنف والذكاء لإياس والتفسير لابن عباس وما ذاك إلا كتاب كما تراه ضرب في الإحكام بسهم ووعى من الأحكام ما خلت منـه مفعمات الأسفار وموجزات الرسائل (فهو كما قيل) كل الصيد في جوف الفرا.
تزين معانيهِ ألفاظهُ
وألفاظهُ زائنات المعاني
على أني وإن تطفلت عليك وسقت لك هذا الكتاب مزدلفاً إلى جانبك الرحب ومقامك الأسنى فقد أصبت كبد الصواب ووضعته حيث يعرفه أهلوه ويتقبله من باذله عالموه علماً بأنك عماد العلوم وأساس الفضائل لا تغادر شاردة إلا وعيتها ولا نادرة إلا رويتها وإلا.
لو كان يهدى عليّ قدري وقدركمو
لكنت أهدي لك الدُّنيا وما فيها
"وكتب مؤلف هذا الكتاب إلى أستاذه الحكيم الشيخ محمد عبده"
سيدي ومولاي أطال الله بقاك ورفع في الدارين علاك الهدية مفتاح باب المودة وعنوان تذكار المحبة يتسابق إليها كرام السجايا ويتسارع إلى إحياء شعائرها عشاق المزايا حرصاً على حفظ عهود الوداد والتآلف وإذهاباً لوحشة التقاطع والتحالف.
هدايا النّاس بعضهمْ لبعضٍ
تولّد في قلوبهم الوصالا
وتزرع في القلوب هوى وودا=وتكسوك المـهابة والجلالا ولقد وجدتك إماماً حكيماً وفيلسوفاً عليماً تقدر الأعمال حق قدرها وتضع الأشياء في مواضعها سباقاً إلى نشر العلوم والمعارف في المشارق والمغارب.
يبقى الثّناء وتنفد الأموال
ولكل دهرٍ دولة ورجال
ما نالَ محمدةَ الرّجال وشكرهم
إلاّ الصّبور عليهم المفضال
فلذا أهديك كتابي (جواهر الدب في بلاغة لغة العرب) جمع فأوعى من الآداب والحكم ما خلت منـه مفعمات الأسفار فهو بلا شك ولا مرا كل الصيد في جوف الفرا.
تزين معانيهِ ألفاظه
وألفاظه زائنات المعاني
على أني وإن تطفلت عليك ووضعت كتابي هذا بين يديك فقد ولجت الأمور من الأبواب وأصبت كبد الصواب حيث يعرف الفضل من الناس ذووه ويتقبله بقبول حسن عالموه.
شكراً وحمداً إن قبلت هديّتي
وجعلت لي فضلاً على أقراني
فتنازلك بقبوله يكون الإقبال عليه جليلاً ويعجز لساني عن أن أشكرك جزيلاً والسلام.
الفصل الرابع في رسائل الاستعطاف والاعتذار
"وكتب أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429ه?"
الكريم إذا قدر غفر وإذا أوثق أطلق وإذا أسر أعتق قد هربت منك إليك واستعنت بعفوك عليك فأذقني حلاوة رضاك عني كما أذقتني مرارة انتقامك مني: الحر الكريم الظفر إذا نال أقال واللئيم إذا نال استطال قد هابك من استتر ولم يذنب من اعتذر تكلف الاعتذار بلا زلة كتكلف الدواء بلا علة مولاي يوجب الصفح عند الزلة كما يلتزم البذل عند الخلة مولاي يوليني صفيحة صفحة ويؤتيتي العفو من عفوه زللت وقد يزل العالم الذي لا أساويه وعثرت وقد يعثر الجواد الذي لا أجاريه لاتضيقن لاعني سعة خلقك ولاتكدرن علي صفو ودك مالي ذنب يضيق عنـه عفوك ولا جرم يتجافى تجاوزك وصفحك: والسلام.
"وكتب عبد الله بن معاوية المتوفي سنة 158ه? إلى أبي مسلم"
من الأسير في يديه بلا ذنب إليه ولا خلاف عليه (أما بعد) فقد أتاك الله حفظ الوصية ومنحك نصيحة الرعية وألهمك عدل القضية فإنك مستودع الودائع ومولى الصنائع فاحفظ ودائعك بحسن صنائعك فالودائع عارية والصنائع مرعية وما النعم عليك وعلينا فيك بمنزور نداها ولا بمبلوغ مداها فنبه للتفكير قلبك واتق الله ربك وأعط من نفسك من هو تحتك ما تحب أن يعطيك من هو فوقك من العدل والرأفة والأمن من المخافة فقد أنعم الله عليك بأن فوض أمرنا إليك فاعرف لنا لين شكر المودة واغتفار مس الشدة والرضا بما رضيت والقناعة بما هويت فإن علينا من سمك الحديد وثقله أذى شديداً مع معالجة الأغلال وقلة رحمة العمال الذين تسهيلهم الغلظة وتيسيرهم الفظاظة ولإيرادهم علينا الغموم وتوجيههم إلينا الهموم زيارتهم الحراسة وبشارتهم الإياسة فإليك بعد الله نرفع كربة الشكوى ونشكو شدة البلوى فمتى تمل إلينا طرفاً وتولنا منك عطفاً تجد عندنا نصحاً صريحاً ووداً صحيحاً لايضيع مثلك مثله ولا ينفي مثلك أهله فارع حرمة من أدركت بحرمته واعرف حجة من فلجت بحجته فإن الناس من حوضك رواء ونحن منـه ظماء يمشون في الإيراد ونحن نحجل في الأقياد بعد الخير والسعة والخفض والدعة والله المستعان وعليه التكلان.
"وكتب بدر الدين محمد بن حبيب الحلبي المتوفي سنة 799ه?"
رفقاً بمن ملك الوجد قياده وعطفاً على من أذاب الشوق فؤاده متيم أقلقه فرط صدودك ومغرم أغراه بحبك قول حسودك وسقيم لا شفاء له دون مزارك ومقيم على عهدك ولو طالت مدة نفارك إلى م هذا التنائي والنفور وعلام ياذا القد العادل تجور لقد تضاعفت الأسف والأسى وتطاول التعلل بعل وعسى.
هبني تخطّيتُ إلى زلّة
ولم أكن أذنبتُ فيما مضى
أليسَ لي من بعدها حرمةٌ توجبُ لي منك جميلَ الرّضا
ولست ألوذ إلا بباب نعمك ولا أعتمد في محو الإساءة إلا على حلمك وكرمك وما جل ذنب يضاف إلى صفحك ولا عظم جرم يسند إلى عفوك ومثلك من يقيل العثرات ويتجاوز عن الهفوات.
وكنت أظنُّ أن جبال رضوى=تزول وإن ودَّك لا يزول
ولكنّ القلوب لها انقلابٌ
وحالاتُ ابن آدم تستحيل
طالما آنستني بقربك ودنوت مني مفارقاً ظباء سر بك وأنجزت وعودي وأطلعت نجوم سعودي.
وكنتُ إذا ما جئتُ أدنيت مجلسي
ووجهكَ من ماء البشاشةِ يقطرُ
فمن ليَ بالعين التي كنتَ مرَّة
إليَّ بها من سالف الدَّهر تنظر
قيدت أملي عن سواك وبهرت ناظري بنظرة سناك وكسرت جيش قراري وتركتني لا أفرق بين ليلي ونـهاري، أحوم حول الديار، وأعوم في بحر الأفكار، وأتمسك بعطف عطفك، وأتعلق بأذيال مكارمك ولطفك أما علمت أن الكريم إذا قدر غفر، وإذا صدرت من عبده زلة أسبل عليها رداء العفو وستر، وإن شفيع المذنب إقراره ورفض خطيئته عند مولاه استغفار.
ومنْ كان ذا عذرٍ لديك وحجّةٍ
عذريَ إقراري بأن ليس لي عذرُ
لهفي على عيش بسلاف حديثك سلف وأوقات حلت ثم خلت وأورثت التلف وآها لأيام بطيب أنك مضت وبروق ليال لولا قربك ما أومضت.
كنتُ أعرفُ في الهوى مقدارها
رحلتْ وبالأسف المبرّح عوضت
كيف السّبيلُ إلى إعادة مثلها
وهيَ التي بالبعدِ قلبي أمرضت
فجد بالتداني واسمح بنيل الأماني وألن قلبك القاسي وعد عن التنائي والتناسي وارع الود القديم وابدل شقاء محبك بالنعيم ولا تعدل عن منـهاج المعدلة وسلم فقد أخذت حقها المسألة وأغمد سيف حيف صبرته مسلولاً وأوف (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 34].
"وكتب أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفي بالبصرة سنة 255ه?"
ليس عندي أعزك الله سبب ولا اقدر على شفيع إلا ما طبعك الله عليه من الكرم والرحمة والتأميل الذي لايكون إلا من نتاج حسن الظن وإثبات الفضل بحال المأمول وأرجو أن أكون من الشاكرين فتكون خير معتب وأكون أفضل شاكر ولعل الله يجعل هذا الأمر سبباً لهذا الأنعام وهذا الأنعام سبباً للانقطاع إليكم والكون تحت أجنحتكم فيكون لا أعظم بركة ولا أنمى بقية من ذنب أصبحت فيه وبمثلك جعلت فداك عاد الذنب وسيلة والسيئة حسنة ومثلك من انقلب بـه الشر خيراً والغرم غنما من عاقب لقد أخذ حظه وإنما الأجر في الآخرة وطيب الذكر في الدنيا على قدر الاحتمال وتجرع المرائر: وأرجو أن لا أضيع وأهلك فيما بين كرمك وعقلك وما أكثر من يعفو عمن صغر ذنبه وعظم حقه وإنما الفضل والثناء العفو عن عظيم الجرم ضعيف الحرمة وإن كان العفو العظيم مستطرفاً من غيركم فهو تلاد فيكم حتى ربما دعا ذلك كثيراً من الناس إلى مخالفة أمركم فلا أنتم عن ذلك تنكلون ولا على سالف إحسانكم تندمون ولا مثلكم إلا كمثل عيسى ابن مريم حين كان لا يمر بملأ من بني إسرائيل إلا أسمعوه شراً وأسمعهم خيراً فقال له شمعون الصفا: ما رأيت كاليوم كلما أسمعوك شراً أسمعتم خيراً فقال كل امرئ ينفق مما عنده وليس عندكم إلا الخير ولا في أوعيتكم إلا الرحمة. وكل إناء بالذي فيه ينضح.
"وكتب ابن مكرم إلى بعض الرؤساء"
نبت بي غرة الحداثة فردتني إليك التجربة وقادتني الضرورة ثقة بإسراعك إلي وأن أبطأت عنك وقبولك لعذري وإن قصرت عن واجبك وإن كانت ذنوبي سدت علي مسالك الصفح عني فراجع في مجدك وسؤددك وإني لا أعرف موقفاً أذل من موقفي لولا أن المخاطبة فيه لك ولا خطة أدنا من خطتي لولا أنـها في طلب رضاك والسلام.
"وكتب أبو بكر الخوارزمي المتوفي سنة 740ه?"
لو بغير الماء حلقي شرقٌ
كنتُ كالغصّانِ بالماء اعتصاري
كيف يقدر أبقى الله السيد على الدوام من لا يهتدي إلى أوجه الداء وكيف يداري أعداءه من لايعرف الأصدقاء من الأعداء وكيف يعالج علة القرحة العمياء أم كيف يسري بلا دليل في الظلماء أم كيف يخرج الهارب من بين الأرض والسماء: الكريم غذ قدر غفر وإذا أوثق أطلق وإذا اسر أعتق ولقد هربت من السيد إليه وتسلحت بعفوه عليه وألقيت ربقة حياتي ومماتي بيديه فليذقني حلاوة رضاه عني كما أذاقني مرارة انتقامـه مني ولتلح على حالي غرة عفوه كما لاحت عليها مواسم غضبه وسطوه وليعلم أن الحر كريم الظفر إذا نال أقال وإن اللئيم لئيم الظفر إذا نال استطال وليغتنم التجاوز عن عثرات الأحرار ولينتهز فرص الاقتدار وليحمد الله الذي أقامـه مقام من يرتجى ويخشى وركب نصابه في رتبة شاب الزمان ومجدها فتي وأخلق العالم وذكرها طري وليعتقد أنـه قد هابه من استتر ولم يذنب إليه من اعتذر وإن من رد عليه عذره فقد أخرج إلى الشجاعة بعد الجبن وأخرج ذنبه إلى صحن اليقين من سترة الظن وفق الله السيد لما يحفظ عليه قلوب أوليائه وعصمـه مما يزيد بـه في عدد جماجم أعدائه.
"وكتب بعضهم إلى رئيسه"
وجدت استصغارك لعظيم ذنبي أعظم بقدر تجاوزك عني ولعمري ما جل ذنب يقاس إلى فضلك ولا عظم جرم يضاف إلى صفحك ويعول فيه على كرم عفوك وإن كان قد وسعه حلمك فأصبح جليله عندك محتقراً وعظيمة لديك مستصغراً أنـه عندي لفي أقبح صور الذنوب وأعلى رتب العيوب غير أنـه لولا بوادر السفهاء لم تعرف فضائل الحلماء ولولا ظهور نقص بعض الأتباع لم يبن جمال الرؤساء ولولا إلمام الملمين لبطل تطول المتطولين بالصفح وغني لأرجو أن يمنحك الله السلامة بطلبك لها ويقيلك العثرات بإقالتك أهلها وما علمت أني وقفت منك على نعمة أتدبرها إلا وجدتها تشتمل على فائدة فضل تتبعها عائدة عقل.
"وكتب فقيد اللغة الشيخ ابراهيم اليازجي المتوفي سنة 1906"
بم يعتذر إليك من لايرى لنفسه عذراً وكيف يستتر من عتبك من لايستطيع لذنبه ستراً بل كفاني من العتب تعنيف نفسي على ما ألقيت عليها من تبعة تقصيري وما حلت بـه من التفريط بينـها وبين معاذيري والله يعلم ما كان تقصيري شيئاً أردته ولا كان تفريطي أمراً قصدته ولكنـها الأيام إن صاحبتها لم تصحب وإن عاتبتها لم تعتب فلقد عبرت بي هذه البرهة كلها وأنا بين شواغل لا يشغلها عني شاغل وبلابل قد اختلط حابلها بالنابل فنازعتها هذه النـهزة اليسيرة أجدد فيها التذكرة إلى أن يمن الله بصلة الحبل واجتماع الشمل واستنزل أحرفاً من حظك يكتحل بها الناظر ويأنس إليها الخاطر متوقعاً بعد ذلك أن أبقى بين يدي مودتك مذكوراً وإلا يكون عجزي لديك شيئاً منظوراً وإن تجري بي على عادة حلمك إلى أن يجمع الله الشتيتين ويغني العين عن الأثر بالعين إن شاء الله تعالى والسلام.
"وكتب أيضاً"
وافاني كتابك العزيز والنفس نازعة إلى ما يزيل نفارها والقريحة تائقة إلى ما يشحذ غرارها فكان روضة باسمة الكمائم فائحة النسائم قد ردت على النفس انبساطها وأحيت البادرة فاستأنفت نشاطها فأنا منـه ما بين وشي يخجل طراز العبقرية وزخرف دونـه نضرة السابرية تناجيني منـه رشاقة ألفاظ تفضح قدود الحسان وغضاضة أنفاس يغار منـها ورد الجنان ورقة خطاب يشف عن ود صفي ولطف خفي وكرم وفي عتب أعذب من الماء القراح وأرق من نسمات الصبا في الصباح حتى لقد جنب إلى تقصيري وشفع عند نفسي في قبول معاذيري على أن ما عندي من الولاء لا يعتريه معاذ الله وهن ولايخلقه تمادي زمن أو ترامي وطن ولكن صروف الأحداث قد قصرت الجهد جواد العزيمة عن القصد والله يعلم أني لو نزلت على حكم نوازل الدهر ولم أع طلائعها بما بقي من ساقة الصبر لما كان في همتي إلا كسر اليراع وهجر المحابر والرقاع وحسبي من العذر ما أعرفه من حلمك المألوف وما ألفته من كرمك المعروف.
والله أسأل أن يبقيك لي من الدهر نصيباً ويمتعني بلقائك قريباً بمنـه وكرمـه.
"وكتب أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفي بالبصرة سنة 255ه?"
أما بعد فنعم البديل من الزلة الاعتذار وبئس العوض من التوبة الإصرار فأنا لا عوض من إخائك ولا خلف من حسن رأيك وقد انتقمت مني في زلتي بجفائك فأطلق أسير تشوقي إلى لقائك فإنني بمعرفتي بمبلغ حلمك وغاية ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك وقد مسني من الألم ما لم يشفه غير مواصلتك.
"وكتبت زبيدة زوجة الرشيد المتوفاة سنة 216ه? إلى المأمون"
كل ذنب يا أمير المؤمنين وإن عظم صغير في جنب عفوك وكل إساءة وإن جلت يسيرة لدى حلمك وذلك الذي عودكه الله أطال مدتك وتمم نعمتك وأدام بك الخير ودفع عنك الشر والضير.
وبعد فهذه رقعة الولهى التي ترجوك في الحياة لنوائب الدهر وفي الممات لجميل الذكر فإن رأيت أن ترحم ضعفي واستكانتي وقلة حيلتي وأن تصل رحمي وتحسب فيما جعلك الله له طالباً وفيه راغباً: فافعل: وتذكر من لو كان حياً لكان شفيعي إليك.
"وكتب إليها المأمون جواب المواساة الآتي"
وصلت رقعتك يا أماه أحاطك الله وتولاك بالرعاية ووقفت عليها وساءني (شـهد الله) جميع ما أوضحت فيها لكن الأقدار نافذة والأحكام جارية والأمور متصرفة المخلوقون في قبضتها لايقدرون على دفاعها والجنيا كلها إلى شتات وكل حي إلى ممات والغدر والبغي حتف الإنسان والمكر راجع إلى صاحبه.
وقد أمرت برد جميع ما أخذ لك ولم تفقدي ممن مضى إلى رحمة الله إلا وجهه.. وأنا بعد ذلك لك علي أكثر مما تختارين والسلام.
"وكتب بعضهم"
إني وإن جنيت على نفسي وخرجت عن حد الأدب فيما يجب على العبد لسيده فإني عبد نعمتك وصنيع إحسانك وذنبي وإن عظم وضاق باب التوبة عن قبول المعذرة فالعفو عنـه بعض حسناتك التي فطرت عليها والغضاء عني سر من أسرارك التي تميل إليها فاجعل العفو عني قربة إلى مولى الموالي واترك العبد عتيق مكارم الأخلاق وإلا فضع سيف نقمتك في نحر عبد نعمتك وأنت حل من دم أراقه أهله أو آل أمره إلى وارث لايسعه إلا النزول عن المطالبة به: ألا وهو مقام جلالتكم السامي.
وحاشاك أن تعدم الصادق في خدمتك بهفوة لم يقصدها وذنب أقلع عنـه.
وعلى كل فالعبد بين يديك وأمره منك وإليك فقد ألقي إليك مقاليد الأجل فافعل ما تشاء واتق الله عز وجل.
"وكتب أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفي بالبصرة سنة 255ه?"
أعاذك الله من سوء الغضب وعصمك من سرف الهوى وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف ورجح في قلبك إيثار الأناة: فقد خفت أيدك الله أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء ومجانبة سبل الحكماء.
وبعد فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت المتوفي سنة 54ه?.
وإنّ امرأ أمسى وأصبحَ سالماً
من النّاس إلا ما جنى لسعيدُ
وقال الآخر:
ومنْ دعا الناس إلى ذمّةِ
ذمّوه بالحقّ وبالباطلِ
فإن كنت اجترأت عليك أصلحك الله فلم أجترئ إلا لأن دوام تغافلك عني شبيه بالإهمال الذي يورث الإغفال والعفو المتتابع يؤمن من المكافأة ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان رحمـه الله "عمر كان خيراً لي منك أرهبني فاتقاني وأعطاني فأغناني"فإن كنت لا تهب عقابي "أيدك الله" لخدمة فهبه لأ ياديك عندي فإن النعمة تشفع في النقمة وإلا تفعل ذلك لذلك فعد إلى حسن العادة وإلا فافعل ذلك الحسن الأحدوثة وإلا فات ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد وتتجافى عن عقاب المصر حتى إذا صرت إلى من هفوته ذكر وذنبه ونسيان ومن لا يعرف الشكر إلا لك والأنعام إلا منك هجمت عليه بالعقوبة: واعلم أيدك الله أن شين غضبك علي كزين صفحك عني وأن موت ذكرى مع انقطاع سببي منك كحياة ذكرك مع اتصال سببي بك واعلم أن لك فطنة عليم وغفلة كريم والسلام.
الكلام على الرسائل المتداولة
هذه الرسائل تتفرع إلى ثلاثة أقسام باعتبار الغرض المقصود: فأما أن تقصد بها أمور الكاتب: وأما أمور المكتوب إليه وأما غرضاً ثالثاً.
فالأول يشمل على الرسائل التجارية والطلب والشكر والاعتذار والثاني على رسائل النصح والملامة والإخبار والتهنئة والتعزية والأجوبة والثالث على رسائل الوصاة والشفاعات.
الفصل الثاني في رسائل الطلب
"وكتب إلى عبيد الله بن سليمان أبو العيناء المتوفي سنة 282ه?"
أنا أعزك الله وعيالي زرع من زرعك إن أسقيته راع وزكا وإن جفوته ذبل وذوى وقد مسني منك جفاء بعد بر وإغفال بعد تعاهد حتى تكلم عدو وشمت حاسد ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعباً مخرساً:
لاتهنّي بعدَ أن أكرمتني
وشديدٌ عادةٌ منتزعه
"وكتب الوزير الخطير عبد الخالق باشا ثروت"
إليك يا من قد استأسر النفوس بكرمـه واسترق الأحرار بجميل صنعه وأولى النعم والخيرات وأسدى المعروف والمبرات أرفع كتاباً تبعثه إلى ناديك العالي عوامل الحاجة وتزجيه إلى ساحتك دواعي الشدة آمل أن يكون تذكرة بأمري والذكرى تنفع المؤمنين وتذكرة بحالي (اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة: 120] فقد كان سيدي رفع الله قدره وأعلى مرتبته وعدني ومثله من يتمسك من الوفاء بالعروة الوثقى ويقطع حبل الإخلاف بسيف الوفاء ويطرز خلعه الوعد بوشي العطاء أن يرسل لي من خيراته ويوليني من آلائه وحسناته ويضاعف لي من مننـه ويزيدني من عطتئه ما أشد بـه أزري على الزمان وأطاول بـه نوائب الحدثان فقد بارزني الدهر بسيوفه ورماني بسهامـه وأناخ علي بكلاكله وقد أطال الأمد على حاجتي عند سيدي أطال الله بقاءه حتى طار غراب شبابها وصاح بجانب ليلها فخفت أن تكون هبت عليها ريح النسيان وعصفت بها عاصفة الحدثان فكتبت إلى سيدي ومولاي تلك الرقعة استعجل بها بره وأستدر بها ضرع عطائه علماً بأن التعجيل يكبر العطية وإن كانت صغيرة ويكثرها وإن كانت يسيرة فعسى أن يكون قد لاح نجم النجاح وهب نسيم الفلاح فيرسل سيدي إلى سحاب كرمـه ويمطرني من غياث فضله فترف غصون آمالي بعد ذبولها وتضحك وجوه مطالبي بعد عبوسها وأملي في ذلك فسيح فإن سيدي من أكرم الناس نسباً وأشرفهم حسباً ومثله جدير بحفظ العهد وإنجاز الوعد: فإن رأى سيدي أن يخفف ثقل الحاجة عني ويرد ما سلبه الدهر مني بقطرة من بحر عطائه ومنة من بعض آلائه ويجبر ما كسره الفقر من جناحي ويرد عني النوائب التي لاتفتأ تتولاني عقدت
لساني على مدحه ووقفت نفسي على شكره فيحرز من الله أجراً جزيلاً ومني شكراً جميلاً. إن شاء الله بمنـه وكرمـه.
"وكتب الفاضل أحمد بك رأفت"
السيد الكامل أدام الله علاءه وأطال بقاءه وجعله موئل الكرم ومسدي النعم قد غمرني بنعمائه وطوقني بآلائه حتى قصرت حمدي عليه وأمسكت لساني عن الشكر إلا إليه وكان من مننـه علي وأياديه البيضاء لدي أن وعدني أنـه يقلدني في أول العام وظيفة عالية ومرتبة سامية فاخضل روض الأمل بعد ذبوله وبزغ كوكبه بعد أفوله واتسع نطاقه واستبشر القلب نبيل أمنيته والحصول على طلبته واشتد أزري على مقارعة كتائب الزمان وقوي جنائي على صد جيوش الحدثان ومازالت بي الأيام حتى حان أول العام وما تحقق الوعد أو أوفى العهد، ومثل السيد من إذا وعد وفى أو تعهد أوفى.
أفي دين ذي المعروف يجملُ أنني
تنوءُ بيَ البؤسى ويثقلني العسرُ
وأنتَ الذي أعطى المكارمَ حقّها
ولم يحك جدواك السَّحابُ ولا البحرُ
فعجّلْ فخيرُ البرّ يحمدُ عاجلاً
وأوفِ فوعدُ الحرّ دين بـه الحرُّ
هذا ولكنني رجعت وحكمت العقل فعذرت السيد وحملت ذلك على أنـه إنما لم يعجل بإنجازه وعده وإيفاء عهده إلا لتقليد عبده وظيفة أسمى ومرتبة أعلى عله يستدرك ما فات ويحسن إلى عبده فيما هو آت.
"وكتب الفاضل عبد العزيز بك محمد"
عهدي بالسيد الجليل أدامـه الله مصدراً للمكارم تستق منـه صفاتها ومظهراً للفضائل تتجلى فيه آياتها سباقاً إلى غايات المجد درا كالمطلب الحمد أريحيا لا يصبو إلا إلى إسداء المنن جواداً لايطمع طرفه في بث عوارفه إلى ثمن ما أمـه أسير فاقة إلا وألفى لديه كهفاً منيعاً وجاهاً رفيعاً قصده ذو حاجة إلا وصدر عن مورد فضله شادياً بثنائه معلناً بولائه وإن لي إلى السيد حاجة إن لم يسعف بقضائها فيا حسرة نفسي وطول شقائها وليست هذه بأول مرة استمحت فيها عالي مروءته واستمطرت صيب همته فإنـه طالما طوقني قلائد ن وأرسل علي مدرار كرمـه فليجر في هذه أيضاً على عادته ويقابلني بما عودني من كرامته: ومعاذ الله أن اسأله ما ليس في وسعه أن أستقضه شيئاً يحرص على منعه: ولكنني:
أريد بسطةَ كفّ أستعينُ بها
على قضاء حقوق للعلى قبلي
والذي يكفلُ لي تلك البسطة أن يقلدني سيدي وظيفة مناسبة لحالتي حتى تكون لي درعاً أتقى بها مـهانة الفقر وسيفاً أكف بـه عوادي الدهر ومالي والأقسام عليه في إنالتي هذه البغية بنفيس وقت قضيته في خدمة العلم واقتناء أبكاره وطويل عناء تحملته في مزاولة الأدب واكتشاف أسراره ونفس ارتاضت بالفضل وآثرت غصة الفقر على منة البذل ووله من سنيات الفضائل وعليات الفواضل وجليات المآثر وجليلات المفاخر ما لو أقسم بـه عليه في إنالة أعز المطالب لألزمـه كرم سجاياه بر ذلك القسم وإجابة دواعي الهمم: وإنك لفاعل إن شاء الله تعالى.
"وكتب فقيد الأدب حسن أفندي توفيق المتوفي بلندن سنة 1322ه?"
كتابي إلى رب النعماء واليد البيضاء وقد أصبحت كما قال الحريري خاوي الوفاض بادي الأنفاض لا أملك بلغة ولا أجد في جرابي مضغة قد التوى علي أمري وثقل من حاجتي ظهري مد الاحتياج إلى أطنابه وسربلني الافتقار إهابه والدنيا مكدرة بأحداثها وقصورها منمغضة بأجداثها نعيمـها يضفو ولكن لا يصفو وأنت كما أعلم مفرج كريبي ومنقذي من شدتي، بطرفة من طرف رفدك ولمحة من لمحات برك فإن استدررت حلوبة مالك فقد لاذ غيري بجاهك ما يممت غيرك وكيف يقصد النـهر من جاوز البحر ويحتاج إلى النجم من يسري في ضوء البدر فأستهز عطف جودك وأستمطر سحاب كرمك كيف وأنت قبلة المعروف: وملاذ الملهوف إليك تشد الرحال وبك تناط الآمال مال أولياؤك منك في ظل ممدود وهناء وسعود أفأنت الشمس عمت بالإشراق أو الغيث وغلى الاندفاق: لكن.
منْ قاسَ جدواك يوماً
بالسُّحبِ أخطأ مدحك
فالسُّحبُ تعطي وتبكي
وأنت تعطي وتضحك
نسب الكرم بك عريق وروض المجد أنيق أصل راسخ وفرع شامخ تهتز للمكارم اهتزاز الحسام وتثبت أمام الشدائد بثغر بسام.
تراه إذا ما جئتهُ متهلّلاً
كأنّك تعطيه الذي أنتَ سائلهُ
حكمت الآمال في أموالك واستعبدت الأحرار بفعالك ينابيع الجود من أناملك تتفجر وربيع السماح بك ضاحك لايضجر فلا زلت مولاي ممتعاً بشرف سجاياك وشيمك مستمداً الشكر من غراس نعمك ولازالت الأنام تنفع بتلك الشيم وتجني ثمار ذلك الكرم ودمت للمكارم بدر تم لا يناله خسوف وشمس فضل لا يحلقها كسوف: أطال الله لك البقاء كتطول يديك بالعطاء آمين.
الفصل الثالث في رسائل الشكر
"كتب أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429ه?"
الشكر ترجمان النية ولسان الطوية وشاهد الإخلاص وعنوان الاختصاص عندي من إنعامـه وخاص بره وعامـه ما يستغرق منـه الشكر ويستنفذ قوة شكر الأسير لمن أطلقه والمملوك لمن أعتقه شكر كأنفاس الأحباب في الأسحار أو أنفاس الرياض غب الأمطار.
"وكتب الحسن بن وهب المتوفي سنة 472ه?"
من شكرك على درجة رفعته إليها أو ثروة أقدرته عليها فإن شكري لك على مـهجة أحييتها وحشاشة أبقيتها ورمق أمسكت بـه وقمت بين التلف وبينـه فلكل نعمة من نعم الدنيا حد تنتهي إليه ومدى تقف عنده وغاية من الشكر لايسمو إليها الطرف خلا هذه النعمة التي فاقت الوصف وأطالت الشكر وتجاوزت قدره (وأنت من وراء كل غاية رددت عنا كيد العدو وأرغمت أنف الحسود) فنحن نلجأ منك إلى ظل ظليل وكنف كريم فكيف يشكر الشاكر وأين يبلغ جهد المجتهد.
"وكتب الأمير أبو الفضل الميكالي المتوفي سنة 436ه?"
فأما الشكر الذي أعارني رداءه وقلدني طوقه وسناءه فهيهات أن ينتسب إلا إلى عادات فضله وأفضاله أو يسير إلا تحت رايات عرفة ونواله وهو ثوب لايحلى بذكره طرازه واسم له حقيقته ولسواه مجازه ولو انـه حين ملك رقي بأياديه وأعجز وسعي عن حقوق مكارمـه ومساعيه خلي لي مذهب الشكر وميدانـه ولم يجاذبني زمامـه وعنانـه لتعلقت في بلوغ بعض الواجب بعروة طمع ونـهضت فيه ولو على وهن وطلع ولكنـه يأبى إلا أن يستولي على أمد الفضائل ويتسنم ذرا الغوارب منـها والكواهل فلا يدع في المجد غاية إلا سبق إليها فارطا وتخلف سواه عنـها حسيراً ساقطاً لتكون المعالي بأسرها مجموعة في ملكه منظومة في سلكه خالصة له من دعوى القسم وشركه.
"وكتب أستاذي الحكيم الشيخ محمد عبده إلى حافظ بك إبراهيم"
لو كان بي أن أشكرك لظن بالغت في تحسينـه أو أحمدك لرأي لك فينا أبدعت في تزيينـه لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك ويجري في الشكر إلى الغاية كما يطلبه فضلك لكنك لم تقف بعرفك عندنا بل عممت بـه من حولنا وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا زفقت إلى أهل اللغة العربية عذراء من بنات الحكمة العربية سحرت قومـها وملكت فيهم يومـها ولا تزال تنبه منـهم خامداً وتهز فيهم جامداً بل لا تنفك تحيي من قلوبهم ما أماتته القسوة وتقوم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة حكمة أفاضها الله على رجل منـهم فهدى إلى التقاطها رجلاً منا فجردها من ثوبها الغريب وكساها حلة من نسج الأديب وجلاها للناظر وحلاها للطالب بعدما أصلح من خلقها وزان من معارفها حتى ظهرت محببة إلى القلوب رشيقة إلى مؤانسة البصائر تهش للفهم وتبش للطف المذوق وتسابق الفكر إلى موطن العلم فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي من النفس في مكان الإلهام.
حاول قوم من قبلك أن يبلغوا من ترجمة الأعجم مبلغك فوقف العجز بأغلبهم عند مبتدأ الطريق ووصل منـهم فريق إلى ما يحب من مقصده ولكنـه لم يعن بأن يعيد إلى اللغة العربية ما فقدت من أساليبها ويرد ما سلبه المعتدون عليها من متانة التأليف وحسن الصياغة وارتفاع البيان فيها إلى أعلى مراتبه: أما أنت فقد وفيت من ذلك ما لا غاية لمريد بعده ولا مطمع لطالب أن يبلغ حده، ولو كنت ممن يقول بالتناسخ لذهبت إلى أن روح "ابن المقفع" كانت من طيبات الأرواح، فظهرت لك اليوم في صورة أبدع ومعنى أنفع ولعلك قد سننت بطريقتك في التعريب سنة يعمل عليها من يحاوله بعد ظهور كتابك ويحملها الزمان إلى أبناء ما يستقبل منـه فتكون قد أحسنت إلى الأبناء كما أجملت في الصنع مع الآباء وحكمت للغة العربية أن لا يدخلها بعد من العجمة ما هو الأسماء الأماكن والأشخاص لا أسماء المعاني والأجناس: ومثلي من يعرف قدر الإحسان إذا عم ويعلي مكان المعروف إذا شمل ويتمثل في
(1/61)
________________________________________
رأيه بقوله:
ولو أ'ني حبيتُ الخلدَ فرداً
لما أحببت بالخلدِ انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائبُ ليسَ تنتظم البلادا
فما أعجز قلمي عن الشكر لك وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء.
"وكتب أيضاً في الشكر مع المودة إلى بعض أصحابه"
لك في قلوبنا من المودة ما يزكيه سناؤك وفي مناطقنا من الحمد ما يوجبه كمالك وفي صدورنا من الإجلال ما يرفعه بهاؤك وما بيننا من المودة لا تحده منـه ولا تخلق له جده نعيذه من حاجة للتجديد واستدعاء للمزيد فلا المواصلة تربيه ولا المجاهلة توهيه: نعم إن ما يحفظ لك في الأنفس هو تجلي فضلك ومثال علائك ونبلك وذلك الخالد بخلود الأرواح الباقي في تفاني الأشباح.
وبعد فقد تلقيت منك كتاباً يبوح بسر المحبة وبنشر طي الصداقة فيه تبيان وجدانك مما وجدنا وتأثرك على ما فقدنا فكان نبأ عما نعلم وقضاء بما نحكم ولكن شكرنا لك فضل المراسلة وأريحية المجاملة والله يتولى إيفاءك مثوبة تكافئ وفاءك.
"وكتب أيضاً في الشكر لآخر"
لو كان في الثناء وملازمة الدعاء وحفظ الجميل والقيام بالخدمة جهد المستطيع ما يفي بشكر من يفتتح باب المحبة ويبدأ بصنائع المعروف لكنت والحمد لله من أقدر الناس عليه ولكن أني يكون في ذلك وفاء والمحبة سر نظام الأكوان والإحسان قوام عالم الأمكان والقائم على كنـه جميعه قيوم السموات والأرض والمفتتحون لأبواب العرف على هذه النسبة الجليلة منـه فليس لي إلا أن ألجأ إلى الله في مكافأة فضيلتكم على ما كان منكم أيام الإقامة بينكم ثم أسلي نفسي عن عجزي بما أتخيل أن كرمكم سيروي:
سيكفي الكريم إخاءُ الكريم
ويقنع بالودّ منـه توالا
(1/62)
________________________________________
وبعد هذا أرجو عفوكم عن التقصير في المبادرة إلى المكتبة لأني شغلت بما شغلني عن نفسي ولكن زالت العوارض والحمد لله: وفاتني لهذا العذر تهنئتكم بالعيد: وإنما للمؤمن في كل يوم بربه عيد فنـهنئكم برضاء الله عنكم وتقبله صالح الأعمال منكم: وسلامي على نجلكم ومن يتمنى إليك.
الفصل الرابع في رسائل النصح والمشورة
"كتب بديع الزمان الهمذاني المتوفى سنة 398 ه?"
اسمعْ نصيحةَ ناصحٍ
جمعَ النصيحة والمقه
إياك واحذرْ أن تكون
ن منْ الثقاتِ على ثقة
صدق الشاعر وأجاد وللثقات خيانة في بعض الأوقات: هذه العين تريك السراب اً وهذه الأذن تسمعك الخطأ صواباً فلست بمعذور إن وثقت بمحذور وهذه حالة الواثق بعينـه السامع بأذنـه وأرى فلاناً يكثر غشيانك وهو الدنيء دخلته الرديء جملته السيء وصلته الخبيث كلته وقد قاسمته في زرك وجعلته موضع سرك فأرني موضع غلطك فيه حتى أريك موضع تلافيه أفظاهره غرك أم باطنـه سرك.
يا مولاي يوردك ثم لا يصدرك ويوقعك ثم لا يعذرك فاجتنبه ولا تقربه وإن حضر بابك فاكنس جنابك وإن مس ثوبك فاغسل ثيابك وأن لصق بجلدك فاسلخ إهابك ثم أفتتح الصلاة بلغته وإذا استعذت بالله من الشيطان فأعنـه.
"وكتب الاسكندر المقدوني إلى أستاذه الحكيم أرسطو"
"يستشيره فيما يفعله بأبناء ملوك فارس بعد أن قتل آباءهم وتغلب على بلادهم"
عليك أيها الحكيم منا السلام أما بعد فإن الأفلاك الدائرة والعلل السماوية وإن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائنين فإنا مضطرون إلى حكمتك غير جاحدين لفضلك والاجتباء لرأيك لما بلونا من أجداء ذلك علينا وذقنا من جنى منفعته حتى صار ذلك وبنجوعه فينا وترسخه في أذهاننا كالغذاء لنا فما ننفك نعول عليه ونستمد منـه استمداد الجداول من البحار وقد كان مما سبق إلينا من النصر وبلغنا من النكاية في العدو ما يعجز القول عن وصفه والشكر على الإنعام بـه وكان ذلك أنا أرض سورية والجزيرة إلى أرض بابل وفارس فلما نزلنا بأهلها لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منـهم يرأس ملكهم هدية وطلباً للحظوة عندنا فأمرنا بصلب من جاء بـه وشـهرته لسوء بلائه وقلة أرعوائه ووفائه ثم أمرنا بجمع من كان هنالك من أولاد ملوكهم وأحرارهم وذوي الشرف منـهم، فرأينا رجالاً عظيمة أجسامـهم وأحلامـهم حاضرة ألبابهم وأذهانـهم رائعة مناظرهم ومناطقهم دليلاً على أن وراء ذلك ما لم يكن معه سبيل إلى غلبتهم لولا أن القضاء أدالنا منـهم وأظهرنا عليهم ولم نر بعيداً من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم وتجتث أصلهم ونلحقهم بمن مضى من أسلافهم لتسكن القلوب بذلك إلى الأمن من جرائرهم وبوائقهم فرأينا أن لا نعجل ببادرة الرأي في قتلهم دون الاستظهار بمك فيهم؟؟ فارفع إلينا رأيك في ما استشرناك فيه بعد صحته عندك وتقليبك إياه بجلي نظرك.
والسلام على أهل اللام فليكن علينا وعليك.
"وكتب أرسطو المتوفى قبل الميلاد سنة 322 إلى الاسكندر المقدوني"
إن لكل تربة ولا محالة قسماً من كل فضيلة وإن لفارس قسمـها من النجدة والقوة وإنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء منـهم على أعقابهم وتورث سفلتهم منازل عليتهم وتغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم ولم تبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم من غلبة السفلة وذل الوجوه وأحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة فإنـهم إن نجم منـهم ناجم على جندك وأهل بلادك دهمـهم ما لا روية فيه ولا منفعة معه فانصرف على هذا الرأي إلى غيره وأعمد إلى من قبلك من العظماء والأحرار فوزع بينـهم مملكتهم وألزم اسم الملك كل من وليته منـهم ناحية وأعقد التاج على رأسه وإن صغر ملكه فإن المتسمي بالملك لازم لاسمـه والمعقود له التاج لا يخضع لغيره ولا يلبث ذلك أن يوقع بين كل ملك وصاحبه تدابراً وتغالباً على الملك وتفاخراً بالمال والجند حتى ينسوا بذلك أضغانـهم عليك وتعود بذلك حربهم لك حرباً بينـهم ثم لا يزدادون بذلك بصيرة إلا أحدثوا هنالك استقامة لك فإن دنوت منـهم كانوا لك وإن تأيت عنـهم تعززوا بك حتى يثبت كل منـهم على جاره باسمك وفي ذلك شاغل لهم عنك وأمان لأحداثهم بعدك (وإن كان لا أمان للدهر) وقد أديت للملك ما رأيته خطأ وعلي لاحقاً: والملك أبعد روية وأعلى عيناً في استعان بي عليه.
والسلام الذي لا انقضاء له ولا انتهاء ولا غاية ولا فناء فليكن على الملك.
"ومن رسالة للإمام علي المتوفى سنة 40 ه?"
دع الإسراف مقتصداً واذكر في اليوم غداً وامسك من المال بقدر ضرورتك وقدم الفضل ليوم حاجتك أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين أو تطمع وأنت متمزغ في نعيم تمنعه الضعيف والأرملة أن يوجب لك ثواب المتصدقين.
وإنما المرء مجزيء بما أسلف وقادم على ما قدم: والسلام.
"وكتب أيضاً كرم الله وجهه إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنـهما"
أما بعد فإن المرء قد يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه فليكن سرورك بما نلت من آخرتك وليكن أسفك على ما فات منـها وما نلت من دنياك فلا تكثر فيه فرحاً وما فاتك منـها فلا تأسف عليه جزعاً وليكن همك فيما بعد الموت.
"وكتب بطل الوطنية السيد عبد الله النديم المتوفى سنة 1314 ه?"
لا حول ولا قوة بالله اشتبه المراقب باللاه واستبدل الحلو بالمر وقدم الرقيق على الحر وبيع الدر بالخزف والخز بالخشف وأظهر كل لئيم كبره (إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً) [آل عمران: 13] سمعاً سمعاً فالوشاة إن سمعوا لا يعقلوا (وّيُحِبّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ) [آل عمران: 188] فكيف تشترون منـهم القار في صفة العنبر و(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران: 118] وكيف تسمع الأحباب لمن نـهى منـهم وزجر (وَلَقَدْ جَآءَهُم مّنَ الأنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ) [القمر: 4] عجبت لهم وقد دخلوا دارنا (وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 105] (فَلَمّآ أَحَسّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ) [الأنبياء: 12] فقابلوهم بنبال الطرد في الأعناق (حَتّىَ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدّواْ الْوَثَاقَ) [محمد: 4] أيدخلون بما لا ينفع في بيوت أذن الله أن ترفع سيعلمون مقام الهبوط والعروج (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصّيْحَةَ بِالْحَقّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) [ق: 42] ويقولون إذا لم يجدوا ملاذاً (يَوَيْلَنَا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مّنْ هََذَا) [الأنبياء: 97] فإنـهم عزموا على الإقامة مدة ولو أرادوا الخروج لأعدوا لهم عدة وأنت يا عزيز العليا ووحيد الدنيا بيتت لك فعلهم (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) [آل عمران: 159] ولكنـهم طمعوا في عميم طولك (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159] أتراهم يعقلون كلامك أم يفهمون
(لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر: 72] لهم قلوب لا يدرون بها للحسد قرار لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً) [الكهف: 18] وأني قد شيدت لك بقلبي حصناً صعباً (فَمَا اسْطَاعُوَاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً) [الكهف: 97] نسيت بالعاذل جميل الصوت وأنكره ما أنسانبه إلا الشيطان أن أذكره رميت أيها العاذل بسيف الغدر في نحرك أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك فإن لم ترجع عن السحر وفعله فلنأتينك بسحر مثله كيف يسعى العاذل بين النديم وإلفه (وَقَدْ خَلَتِ النّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) [الأحقاف: 21] فيا سادتي دعوني من المعجب والمطرب (لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [البقرة: 177] واجعلوا سيف ثباتكم للعذال مسلولا (لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [الإسراء: 34] فإنـهم قالوا كذب النديم أو بطر سيعلمون غداً من الكذاب الأشر وها قد صار أمر الحزبين عندك جلياً أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً أتظن عهد العذل عند غضبك لا ينكث مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث على أنـه لكم عدو كبير ففروا إلى الله إني لكم منـه نذير فإنـه جمع لقتالك الأولاد والأحفاد وآخرين مقرنين في الأصفاد تركوا أمر الله واشتغلوا بما يرضونـه فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونـه: وطني أن وصل إليك كتابي أنـهم يطرون ويردعون (وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ) [الأنبياء: 95] أيعجبك إذا مشى هذا اللاه ثاني عطفه (لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [القمان: 6] وإنك وإن فرحت بعلم ما يجهلون قد نعلم إنـه لحزنك الذي يقولون: فإن قلت إن اجتماعي بهم لأجل الصدقة أو شيء من هذا القبيل (إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ) [التوبة: 60] على أنـه لا تحل الصدقة لذميم (هَمّازٍ مّشّآءِ بِنَمِيمٍ) [القلم: 11] وطباعهم كما تعلم منكرة مستقذرة (كَأَنّهُمْ حُمُرٌ مّسْتَنفِرَةٌ فَرّتْ مِن قَسْوَرَةٍ) [المدثر: 50 51] وقد قال (وفائي) خاطب عزيزك هذه المرة وإن لم يعمل فيك فكرا (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّىَ أَوْ يَذّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَىَ) [عبس: 3 4] فقال (لساني) إن الود هو الرسول المأمون (فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدّقُنِي إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ) [القصص: 34] فقلت سيروا مع المحبة ذات الفتوة (وَلاَ
تَكُونُواْ كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوّةٍ) بالنحل: 92] وقولوا له عند الغاية قد جئناك بآية ولا تهابوا الجيش وإن كبر سيهزم الجمع ويولون الدبر ولا تظنوا من ظاهر الأمر حلول البلوى (إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىَ) [الأنفال: 42] بل قاتلوهم قتال المستشـهدين (وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ) [التوبة: 123] وإذا اشتبك القتال فليدب كل منكم على مولاه (وَإِن جَنَحُواْ لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ) [الأنفال: 61] فسيروا ودعوا الأولاد والجنة (وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ) [آل عمران: 133] ولا تسألوا عن الميرة من أصله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) [التوبة: 28] فإن الله قد أثاركم لقتال العذال العائبين (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ) [آل عمران: 127] واحملوا عليهم فإنـهم متى طعنوا في جنوبهم رضوا أن يكونوا مع الخوالف (وَطَبَعَ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ) [التوبة: 93] ولا تدبروا إذا رأيتموهم قدامكم (إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7] وإن أخذتم أسرى فقاتلوا أنصارها (فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَإِمّا فِدَآءً حَتّىَ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) [محمد: 4] فإن أطعتم رفعتم وأصلح الله بالكم (وَإِن تَتَوَلّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُونُوَاْ أَمْثَالَكُم) [محمد: 38] وسأتلوا في خطبتكم عند قدومكم سالمين (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 45].
"وكتب أستاذي الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده المتوفى سنة 1323 ه?"
عرض لي ما منعني من قراءة الجرائد نحو أسبوع وكنت أسمع فيه بحادثة (ميت غمر) من بعض الأفواه أظنـها من الحوادث المعتاد وقوعها حتى تمكنت من مراجعة الجرائد ليلة الخميس الماضي فإذا لهب ذلك الحريق يأكل قلبي أكله لجسوم أولئك المساكين سكان (ميت غمر) ويصهر من فؤادي ما يصهره من لحومـهم حتى أرقت تلك الليلة ولم تغمض عيناي إلا قليلاً وكيف ينام من يبيت يتقلب في نعم الله وله هذا العدد الحم من أخوة وأخوات يتقلبون في شدة البأساء فأردت أن أبادر بما أستطيع من المعونة وما أستطيعه قليلاً لا يغني من الحاجة ولا يكشف البلاء ثم رأيت أن ادعوا جمعاً من أعيان العاصمة ليشاركوني في أفضل أعمال البر في أقرب وقت وكان ذلك يوم السبت فحضر منـهم سابقون وتأخر آخرون وكتب بعضهم يعتذرون فشكر الله سعي من حضر وجزى خيراً من اعتذر وغفر لمن تأخر.. على أنـه ليس الحادث بذي الخطب اليسير فالمصابون خمسة آلاف وبضع مئين منـهم الأطفال الذين فقدوا عائليهم والتجار والصناع الذين هلكت آلاتهم ورؤوس أموالهم ويتعذر عليهم أن يبتدئوا الحياة مرة أخرى إلا بمعونة من إخوانـهم وإلا اصبحوا متلصصين أو سائلين والذين فقدوا بيوتهم ولا يجدون ما يأوون إليه ولا مال لهم يقيمون ما يؤويهم من مثل بيوتهم المتخربة لهذا رأيت ورأى كل من تفكر في الأمر أن يجمع مبلغ وافر يتمكن بـه من تخفيف المصاب عن جميع أولئك المنكوبين.
"وكتب أيضاً في الغرض المذكور"
قد بلغكم ولا ريب من أخبار الجرائد ما عليه أهل (ميت غمر) بعد الحريق الذي أصاب مدينتهم فهم بلا قوت ولا ساتر ولا مأوى فليتصور أحدكم أن الأمر نزل بساحته أفما كان يتمنى أن يكون جميع الناس في معونته فليطالب الآن كل منا نفسه بما يطالب بـه الناس لو نزل بـه ما نزل بهم ولينفق مما له ما يدفع الله بـه عنـه مكروه الدهر.. فأرجو من همتكم أن تدفعوا شيئاً من مالكم في مساعدة إخوانكم وان تبذلوا ما في وسعكم لحث من عندكم على مشاركتكم في هذا العمل: والسلام.
الفصل الخامس في رسائل الملامة والعتاب
"كتب بديع الزمان الهمذاني المتوفى سنة 398 ه?"
لئن ساءني أن نلتني بمساءةٍ
لقد سرني أني خطرتُ ببالكِ
الأمير أطال الله بقاءه في حالي بره وجفائه متفضل وفي يومي إدنائه وإبعاده متطول وهنيئاً له من حمانا ما يحله ومن عرانا ما يحله ومن أعراضنا ما يستحله: بلغني انـه أدام الله عزه استزاد صنيعه فكنت أظنني معجباً عليه مساء إليه فإذا أنا في قرارة الذنب ومثارة العتب وليت شعري أي محظور في العشرة حضرته أو مفروض من الخدمة رفضته أو واجب في الزيارة أهملته وهل كنت إلا ضيفاً أهداه منزع شاسع وأداه أمل واسع وحداه فضل وإن قل وهداه رأي وإن ضل ثم لم يلق إلا في آل ميكال رحله ولم يصل إلا بهم حبله ولم ينظم إلا فيهم شعره ولم يقف إلا عليهم شكره: ثم ما بعدت صحبة إلا دنت مـهانة ولا زادت مرمة إلا نقصت صيانة ولا تضاعفت منة إلا تراجعت منزلة ولم تزل الصفة بنا حتى صار وابل الأعظام قطرة وعاد قميص القيام صدره ودخلت مجلسه وحوله من الأعداء كتيبه فصار ذلك التقريب ازورارا وذلك السلام اختصاراً والاهتزاز إيماء والعبارة إشارة وحين عاتبته آمل إعتابه وكاتبته أنتظر جوابه وسألته أرجو إيجابه أجاب بالسكوت فما ازددت له إلا ولاء وعليه ثناء ولا جرم إني اليوم أبيض وجه العهد واضح حجة الود طويل لسان القول رفيع حكم العذر وقد حملت فلاناً من الرسالة ما تجافى القلم عنـه والأمير الرئيس أطال الله بقاءه ينعم بالإصغاء لما يورده موفقاً إن شاء الله عز وجل.
"وكتب أيضاً إلى القاسم الكرجي المتوفى سنة 440 ه?"
بالتحمل أحاسب مولاي أيده الله على أخلاقه ضناً بما عقدت يدي عليه من الظن بـه والتقدير في مذهبه: لولا ذلك لقلت في الأرض مجال إن ضاقت ظلالك وفي الناس واصل إن رثت حبالك واأخذه بأفعاله: فإن أعارني أذناً واعية ونفساً مراعية وقلباً متعظاً ورجوعاً عن ذهابه ونزوعاً عن هذا الباب الذي يقرعه ونزولاً عن الصعود الذي يفرعه فرشت لمودته خوان صدري وعقدت عليه جوامع خصري ومجامع عمري وغن ركب من التعالي غير مركبه وذهب من التغالي في غير مذهبه أقطعته خطة أخلاقه ووليته جانب إعراضه.
ولا أذودُ الطير عن شجرٍ
قد بلوت المرّ من ثمره
فإني وإن كنت في مقتبل السن والعمر قد حلبت شطري الدهر وركبت ظهري البر والبحر ولقيت وفدي الخير والشر وصافحت يدي النفع والضر وضربت إبطي العسر واليسر وبلوت طعمي الحلو والمر ورضعت ضرعي العرف والنكر فما تكاد الأيام تريني من أفعالها غريباً وتسمعني من أحوالها عجيباً ولقيت الأفراد وطرحت الآحاد فما رأيت أحداً إلا ملأت حافتي سمعه وبصره وشغلت حيزي فكره وأثقلت كتفه في الحزن وكتفه في الوزن وود لو بادر القرن صحيفتي أو لقي صفيحتي فما لي صغرت هذا الصغر في عينـه وما الذي أزرى بي عنده حتى احتجت وقد قصدته ولزم وقد حضرته.
أنا أحاشيه أن يجهل قدر الفضل أو يجحد فضل العلم أو يمتطي ظهر التيه على أهليه وأسأله أن يختصني من بينـهم بفضل إعظام إن زلت بي مرة قدم في قصده وكأني بـه وقد غضب لهذه المخاطبة المجحفة والرتبة المتحيفة وهو في جنب جفائه يسير فإن أقلع عن عادته ونزع عن شيمته في الجفاء فأطال الله بقاء الأستاذ الفاضل وأدام عزه وتأييده.
"وكتب أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى بالبصرة سنة 255 ه?"
والله يا قليب لولا أن كبدي في هواك مقروحة وروحي مجروحة لساجلتك هذه القطيعة وماددتك حبل المصارمة وأرجو أن الله تعالى يديل صبري من جفائك فيردك إلى مودتي وأنف القلى راغم فقد طال العهد بالاجتماع حتى كدنا نتناكر عند الالتقاء والسلام.
"وكتب أبو بكر الخوارزمي المتوفى سنة 740 ه?"
كتابي وقد خرجت من البلاد خروج السيف من الجلاء وبروز البلد من الظلماء وقد فارقتني المحنة وهي مفارق لا يشتاق إليه وودعتني وهي مودع لا يبكي عليه والحمد لله تعالى على محنة يجليها ونعمة ينيلها ويواليها كنت أتوقع أمس كتاب مولاي بالتسلية واليوم بالتهنية فلم يكاتبني في أيام البرحاء بأنـها غمته ولا في أيام الرخاء بأنـها سرته وقد اعتذرت عنـه إلى نفسي وجادلت عنـه قلبي فقلت أما إخلاله بالأولى فلأنـه شغله الاهتمام بها عن الكلام فيها وأما تغافله عن الأخرى فلأنـه أحب أن يوفر علي مرتبة السابق إلى الابتداء ويقتصر بنفسه على محل الاقتداء لتكون نعم الله سبحانـه علي موفورة من كل جهة ومحفوفة بي من كل رتبة فإن كنت أحسنت الاعتذار عن سيدي فليعرف لي حق الإحسان وليكتب إلي بالاستحسان وإن كنت أسأت فليخبرني بعذره فإنـه أعرف مني بسره وليرض مني بأني حاربت عنـه قلبي واعتذرت عن ذنبه حتى كأنـه ذنبي وقلت يا نفس اعذري أخاك وخذي منـه ما أعطاك فمع اليوم والعود أحمد.
"وكتب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر المتوفى سنة 80 ه?"
أما بعد فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك وذلك أنك ابتدأتني بلطف عن غير حبرة ثم أعقبته جفاء من غير ذنب فأطمعتني أولك في إخائك وأيأسني آخرك من وفائك فسبحان من لو شاء لكشف بإيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة الشك فيك فاجتمعنا على ائتلاف وافترقنا على اختلاف والسلام.
"وكتب صديقي الأوفى زعيم الوطنية الشيخ عبد العزيز جاويش"
سيدي: مالي أراك كمن نسي الخليط وتجرد في الصحبة عن المحيط والمحيط فإذا ما صادفتك صدفت أو أنصفتك ما نصفت أتظن أني قعيدة بيتك أو رهين كيتك وذيتك فوحقك إذا آنست من يدي مللا أو من قدمي كللا لنجزتها البتات وكلت بنقصها الذات ولو أني آنست من الزاد فترة أو من ال عسرة لطعمت الطوى وأستقيت الجوى فكيف أداعب وتصاعب وأحالف وتخالف وأواصل وتفاصل وأجالب وتجانب لبئست مطيتك التي اقتدعت وشرعتك التي شرعت فوالله لولا أن الحب حادث لا يتقي بالتروس ومعنى لا يدب إلا في النفوس وسهام لا ترمى إلا من قسي الحواجب ونحو أوله المعية وآخره الجوازم لما افترست الظباء الصيد الأسود ولا ملكت الأحرار العبيد ولولا أني كرعت من صابه والتحفت ببردة أوصابه لتعوذت منك (بسورة الفلق) ونبذتك نبذ الرداء الخلق ولهان علي أن أدعك أو أسمعك.
تمرَّون الديارَ ولن تعوجو
كلامكمو عليّ إذاً حرامُ
غير أن لي نفساً شبت على الحب فلم أفطمـها وتقادعت على ناره فلم أعصمـها حتى بلغ السيل الزبى وتبددت النفس أيدي سبا إلا حشاشة غفل عنـها الوجد وبقية رمق ألفيتها من بعد وكلما رأيت منك الشطط واعتساف الخطط عمدت إلى أن اثني من رسنـها وأذود عن عطنـها وشخصت إلى المكافحة والمكافأة وأن لا أكليك إلا مثلاً ولا أسقيك إلا وشلا ولا أزيدك إلا فشلا.
ولست أجزيك الجزاء الذي
على وفاءِ الصنع لا يخسه
وليس يبكي صاحباً من إذا
أهين لا يبكي على نفسه
على أني بالرغم أصبح في نـهار أحلك من ليل وأمسي في ليل أشق على النفس من ويل.
وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فإن تخلصت من لقائك فإلى الشقاء وإذا لجأت من عسفك فإلى العناء وإذا استجرت بفراقك فقد استجرت بالنار من الرمضاء وكأنك لم تدر أن دولة الحسن سريعة التقويض وأنـه لابد من هبوط القمر إلى الحضيض ولسوف تبلى بعارض بيد أنـه غير ممطر وبساعة مقبلك فيها مدبر وستصبح عما قريب قد عفت رسومك ولم تجد في سوق الصحبة من يسومك والعاقل من لا يختال بنفسه ولا يبني على غير أسه فإنك ما نضت لؤلؤة مبسمك ولا نضرت صورة معصمك ولا شئت فخلقت كما تشاء ولا اتخذت عند الله عهداً وهذا الوفاء ولكن مثلك من أفرغه الله في القالب الذي اختار وجعله مرتع النفوس ومسرح الأبصار وغني أبها العزيز قد تقدمت إليك.
ولي أملق قطعتُ بـه الليالي
أراني قد فنيت بـه وداما
فلا تحرمني من سائغ العفو وسابغه ولا تجعلني (كَبَاسِطِ كَفّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ) [الرعد: 14].
فأشدُ ما لقيتُ من ألم الجوى
قربُ الحبيب وما إليه وصولُ
كالعيسِ في البيداء يقتلها الظما
والماءُ فوق ظهورها محمولُ
فاعمل في يومك لغدك واستجز غيرك ببسط يدك ولا تأخذني بجرم الجاني المتلبس ولا تبتغ مني صحيفة المتلمس بيد أني أنشدك الذي بلى العاشق بالمعشوق وكلفه في الحب بيض الأنوق وسهد طرفه بنواعس العيون وخول للحسن (إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس: 82] كما قرن الهوى بالنوى والقلب بالجوى وقضى على المحب ونشر العشق فلم يحتجب ما الذي أغرى إلى الإعتكاف وعدم الإنصاف ألين الأعطاف أم فتور الأجفان أم تكسر الكلام أم هيف القوام؟ لقد شددت أزرك والله بضعاف واستمنت تلك العجاف وهل حدا إلى قطيعتي بك أني خشن الملمس رث الملبس ولم أمنح كما منحت نضرة ولم ألبس برقع البياض والحمرة فأعلم أنك إن تظرتني بعين الرضا ورحمت فؤاداً يتقلب منك على جمر الغضا فستجدني صديقك الذي لا يبطره الوفاء ولا يثنيه الجفاء املك لك من لسان وأطوع لأمرك من بنان: أكتب فأين لعبد الحميد الكاتب قلمي وأشعر فأين الشعراء إلا تحت علمي وأبذل فأين حاتم من كرمي وأحلم فأين أحنف من حلمي.
وحسبك فخراً أن يجود بنفسه
على رغب منْ ليس يأملُ في الشكر
ومن يحتمل في الحب ما فوق كاهلي
فحسبك حلماً أن يقيمَ على الهجرِ
فإن أصخت إلى الداعية ووعيت كلمات لا تسمع فيها لاغية فإليك الجزاء وعلي الوفاء وإلا فالفرار إلى الموت أمرٌ يسير والقبر للعشاق قليلٌ من كثير.
"وكتب المرحوم حفني بك ناصف إلى سماحة السيد توفيق البكري"
كتابي إلى السيد السند ولا أجشمـه الجواب عنـه فذلك ما لا انتظره منـه وإنما أسأله أن ينشط إلى قراءته ويتنزل إلى مطالعته وله الرأي بعد ذلك أن يحاسب نفسه أو يزكيها ويحكم عليها أو لها.
فقد تنفعُ الذكرى إذا كان هجرُ همو
دلالا فأما إن ملالاَ فلا نفعاً
زرت السيد ويعلم الله أن شوقي إلى لقائه كحرصي على بقائه وكلفي بشـهوده كشغفي بوجوده فقد بعد والله عهد هذا التلاق وطال أمد الفراق وتصرم الزمان وأنا من رؤيته في حرمان فسألت عنـه فقيل لي أنـه خرج لتشييع زائر وهو عما قليل حاضر فانتظرت رجوعه وترقبت طلوعه ولم أزل أعد اللحظات وأستطيل الأوقات حتى بزغت الأنوار وارتج صحن الدار وظهر الاستبشار على وجوه الزوار وجاء السيد في مركبه وجلالة محتده ومنصبه فقمنا لاستقباله وهينمنا بكماله فمر يتعرف وجوه القوم حتى حازاني وكبر على عينـه أن يراني فغادرني ومن على يساري وأخذ في السلام على جاري وجر السلام الكلام وتكرر القعود والقيام وأنا في هذه الحال أوهم جاري أني في داري وأظهر للناس أن شدة الألفة تسقط الكلفة ومر السيد بعد ذلك من أمامي ثلاث مرات ومن الغريب أنـه لم يستدرك ما فات.
تمرّون الديارَ ولن تعرجوا
كلامكمو عليَّ إذنْ حرام
وكنت أظن أن مكانتي عند السيد لا تنكر أن عهدي لديه لا يحفر فإذا أنا لست في العير ولا في النفير وغيري عند السيد كثير وذهاب صاحب أو أكثر عليه يسير.
ومن مدتِ العليا إليه يمينـها
فأكبر إنسان لديه صغيرُ
ولا أدعي أني أوازي السيد صانـه الله في علو حسبه أو أدانيه في علمـه وأدبه أو أقاربه في مناصبه ورتبه أو أكاثره في فضته وذهبه وإنما أقول ينبغي للسيد أن يميز بين من يزوره لسماع الأغاني والأذكار وشـهود الأواني على مائدة الإفطار وبين من يزوره للسلام وتأييد جامعة الإسلام وأن يفرق بين من يتردد عليه استخلاصاً للخلاص ومن يتردد إجابة لدعوة الإخلاص وأن لا يشتبه عليه طلاب الفوائد بطلاب العوائد وقناص الشوارد بنقاء الموالد ورواد الطرف بأرباب الحرف.
فما كلُ منْ لقيتَ صاحبُ حاجةٍ
ولا كل من قابلت سائلك العرفا
فإن حسن عند السيد أن يغضي عن بعض الجناس فلا يحسن أن يغضي عن جميع الناس وإلا فلماذا يطوف على بعض الضيوف ويحييهم بصنوف من المعروف ويتخطى الرقاب "لصروف" ويخترق لأجله الصفوف فإن زعم السيد أنـه اعلم بتصريف الأقلام فليس بأقدم هجرة في الإسلام وإن رأى أنـه أقدر مني على إطرائه فليس بممكن أن يتخذه من أوليائه.
ولا أرومُ بحمد الله منزلة
غيري أحقُ بها مني إذا راما
وإنما أصونُ نفسي عن المـهانة والضعة
ولا اعرّضها للضيق وفي الدنيا سعة
وأكرم نفسي أنني إن أهنتها
وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فلا يصعر السيد من خده فقد رضيت بما ألزمني من بعده ولا يغض من عينـه فهذا فراقٌ بيني وبينـه وليتخذني صاحباً من بعيد ولا يكلمني إلى يوم الوعيد.
كلانا غنيّ عن أخيه حياتهُ
ونحن إذا متنا أشدُ تغانيا
ومن يعلى السيد السلام على الدوام ومبارك إذا لبس جديداً وكل عام وهو بخير إذا استقبل عيداً ومرحى إذا أصاب وشيعته السلامة إذا غاب وقدوماً مباركاً إذا آب وبالرفاء والبنين إذا أعرس وبالطالع المسعود إذا أنجب ورحمـه الله إذا عطس ونوم العافية إذا نعس وصح نومـه إذا استيقظ وهنيئاً إذا شرب وما شاء الله كان إذا ركب ونعم صاحبه إذا انفجر الفجر وسعد مساؤه إذا أذن العصر وبخ بخ إذا نثر ولا فض فوه إذا شعر وأجاد وأفاد إذا خطب وأطرب واغرب إذا كتب وإذا حج البيت فحجاً مبروراً وإذا شيع جنازتي فسعياً مشكوراً: والسلام.
الفصل السادس في رسائل الشكوى
"كتب الأمير أبو الفضل الميكالي المتوفى سنة 436 ه?"
إنما أشكو إليك زماناً سلب ضعف ما وهب وفجع بأكبر مما متع وأوحش فوق ما آنس وعنف في نزع ما البس فإنـه لم يذقنا حلاوة الاجتماع حتى جرعنا مرارة الفراق ولم يمتعنا بأنس الالتقاء حتى غادرنا رهن التلهف والاشتياق والحمد الله تعالى على كل حال يسوء ويسر ويحلو ويمر ولا أيأس من روح الله في إباحة صنع يجعل ربعه مناخي ويقصر مدة البعاد والتراخي فألاحظ الزمان بعين راض ويقبل إلي حظي يعد إعراض وأستأنف بعزته عيشاً عذب الموارد والمناهل مأمون الآفات والغوائل.
"وكتب عبد الحميد بن يحيى المقتول سنة 132 إلى أهله
وهو مـهزم مع مروان" أما بعد، فإن الله تعالى جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور فمن ساعده الحظ فيها سكن إليها ومن عضته بناتها ذمـها ساخطاً عليها وشكاها مستزيداً لها وقد كانت أذاقتنا أفاويق اسحليناها ثم جمحت بنا نافرة ورمحتنا مولية فملح عذبها وخشن لينـها فأبعدتنا من الأوطان وفرقتنا عن الإخوان فالدار نازحة والطير بارحة وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بعداً وإليكم وجدا فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها يكن آخر العهد بكم وبنا وإن يلحقنا ظفر جارح من أظفار من يليكم نرجع إليكم بذل الإسار والذل شر جاز نسأل الله الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء أن يهب لنا ولكم ألفة جامعة في دار آمنة تجمع سلامة الأبدان والأديان فإنـه رب العالمين وأرحم الراحمين.
"وكتب أستاذي الحكيم الشيخ محمد عبده وهو مسجون
بسبب الحوادث العرابية"
تقلّدتني اللّيالي وهي مدبرةٌ
كأنني صارمٌ في كفّ منـهزم
عزيزي (هذه حالتي) اشتد ظلام الفتن حتى تجسم بل تحجر فأخذت صخوره من مركز الأرض إلى المحيط الأعلى واعترضت ما بين المشرق والمغرب وامتدت إلى القطبين فاستحجرت في طبقاتها طباع الناس إذ تغلبت طبيعتها على المواد الحيوانية أو الإنسانية فأصبحت قلوب الثقلين (كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً) [البقرة: 74] فتبارك الله أقدر الخالقين انتثرت نجوم الهدى وتدهورت الشموس والأقمار وتغيبت الثوابت النيرة وفر كل مضيء منـهزماً من عالم الظلام ودارت الأفلاك دورة العكس ذاهبة بنيراتها إلى عوالم غير عالمنا هذا فولى معه آلهة الخير أجمعين وتمحضت السلطة لآلهة الشر فقلبوا الطباع وبدلوا الخلق وغيروا خلق الله وكانوا على ذلك قادرين.
رأيت نفسي اليوم في مـهمة لا يأتي البصر على أطرافه في ليلة داجية غطي فيها وجه السماء بغمام سوء فتكاثف ركاماً ركاماً لا أرى إنساناً ولا أسمع ناطقاً ولا أتوهم مجيباً أسمع ذئاباً تعوي وسباعاً تزأر وكلاباً تنبح كلها يطلب فريسة واحدة هي ذات الكاتب والتف على رجلي تنينان عظيمان وقد خويت بطون الكل وتحكم فيها سلطان الجوع ومن كانت هذه حاله فهو لا ريب من الهالكين.
تقطع الأمل وانفصمت عروة الرجاء وانحلت الثقة بالأولياء وضل الاعتقاد بالأصفياء وبطل القول بإجابة الدعاء وانفطر من صدمة الباطل كبد السماء وحقت على أهل الأرض لعنة الله والملائكة والأنبياء وجميع العالمين.
سقطت الهمم وخربت الذمم وغاض ماء الوفاء وطمست معالم الحق وحرقت الشرائع وبدلت القوانين ولم يبق إلا هوى يتحكم وشـهوات تقضى وغيظ يحتدم وخشونة تنفذ "تملك سنة القدر" و(اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) [يوسف: 52].
ذهب ذوو السلطة في بحور الحوادث الماضية يغوصون لطلب أص من الشبه ومقذوفات من التهم وسواقط من اللمم ليموهوها بمياه السفسطة ويغشوها بأغشية من معادن القوة ليبرزوها في معرض السطوة ويغشوا بها أعين الناظرين لا يطلبون ذلك لغامض يبينونـه أو لمستور يكشفونـه أو لحق خفي فيهرونـه أو خرق بدا فيرقعونـه أو نظام فاسد فيصلحونـه كلا: بل ليثبتوا أنـهم في حبس من حبسوا غير مخطئين، وقد وجدوا لذلك أعواناً من حلفاء الدناءة وأعداء المروءة وفاسدي الأخلاق وخبثاء الأعراق رضوا لأنفسهم قول الزور وافتراء البهتان واختلاق الإفك وقد تقدموا إلى مجلس التحقيق بتقارير محشوة من الأباطيل ليكونوا بها علينا من الشاهدين، كل ذلك لم تأخذني فيه دهشة ولم تحل قلبي وحشة بل أنا على أتم أوصافي التي تعلمـها غير مبالٍ بما يصدر بـه الحكم أو يبرمـه القضاء، عالماً بأن كل ما يسوقه القدر وما ساقه من البلاء فهو نتيجة ظلم لا شبهة للحق فيه، لأن الله تعالى يعلم كما أنت تعلم أنني بريء من كل ما رموني به، ولو أطلعت عليه لوليت منـه رعباً وكنت من الضاحكين.
نعم حنقني الغم وأحمى فؤادي الهم وفارقني النوم ليلة كاملة عند ما رأيت اسمك الكريم واسم بقية الأبناء والأخوان المساكين تنسب إليهم أعمال لم تكن وأقوال لم تصدر عنـهم لقصد زجهم في المسجونين.
لكن اطمأن قلبي وسمن جأشي عندما رأيت تواريخ التقارير متقادمة ومع ذلك لم يصلكم شرر الشر فرجوت أن الحكومة لم ترد أن تفتح باباً لا يذر الأحياء ولا الميتين.
قدم فلان وفلان تقريرين جعلا تبعات الحوادث الماضية على عنقي ولم يتركا شيئاً من التخريف إلا قالاه وذكرا أسماءكم في أمور أنتم جميعاً أبعد الناس عنـها، لكن لا
حرج عليهما فإني لأراهما من المجانين، ولم أتعجب من هذين الشخصين إذ يعملان مثل هذا الذنب القبيح ويرتكبان هذا الجرم، الشنيع ولكن أخذني العجب "كل العجب غاية العجب بالغ ما شئت في عجبي"، إذ أخبرني المع عني بتقرير قدمـه فلان الذي أرسلت إله السلام وأبلغته سروري عندما سمعت باستخدامـه، وأنا في هذا السجن رهين.
إلى هذا الوقت لم يصلني التقرير ولكن سيصل إلي إنما فيما بلغني أنـه شـهادة بأقبح شيء لا يشـهد بـه إلا عدو مبين: هذا اللئيم الذي كنت أظن أنـه يألم لألمي ويأخذه الأسف لحالي ويبذل وسعه إن أمكنـه في المعة عني فكم قدمت له نفعاً ورفعت له ذكراً وجعلت له منزلة في قلوب الحاكمين: كم سمعني أقاوم هجاء الجرائد وأوسع محرريها لوماً وتقريعاً وأهزأ بتلك الحركات الجنونية وكان هو علي في بعض أفكاري هذه من اللائمين: كان ينسب فلاناً لسوء القصد اتباعاً لرأي فلان وأعارضه أشد المعارضة، ثم لم أنقض له عهداً ولم أبخس له ودا وحقيقة كنت مسروراً لوجوده موظفاً فما باله أصبح من الناكثين: آه ما أطيب هذا القلب الذي يملي هذه الأحرف، ما أشد حفظه للولاء، ما أغيره على حقوق الأولياء، ما أثبته على الوفاء، ما أرقه على الضعفاء، ما أشد اهتمامـه بشؤون الأصدقاء، ما أعظم أسفه لمصائب من بينـهم وبينـه أدنى مودة، وإن كانوا فيها غير صادقين، ما أبعد هذا القلب من الإيذاء ولو للأعداء، ما أشده رعاية للود، ما أشده محافظة على العهد ما أعظم حذره من كل ما توبخ عليه الذمم الظاهرة، ما أقواه على العمل الحق، والقول الحق، لا يطلب عليه جزاء، وكم اهتم بمصالح قوم وكانوا عنـها غافلين، هذا القلب الذي يؤلمونـه بأكاذيبهم هو الذي سر قلوبهم بالترقية وملأها فرحاً بالتقدم ولطف خواطرهم بحسن المعاملة وشرح صدورهم بلطيف المجاملة وع عنـهم أزماناً "خصوصاً هذا اللئيم" أفنشرح الصدور وهم يحرجون ونشفي القلوب وهم يؤلمون ونفرحها وهم يحزنون؟ تالله (قَدْ ضَلّواْ وَمَا
كَانُواْ مُهْتَدِينَ) [الأنعام: 140] هذا القلب ذاب معظمـه من الأسف على ما يلم بالهيئة العمومية من مصائب هذه التقلبات وما ينشأ عنـها من فساد الطباع الذي يجعل العموم في قلق مستديم، وما بقي من هذا القلب فهو في خوف على من يعرفهم على عهد مودته، فإن تسللوا جميعاً بمثل هذه العمال اصبحوا من مودته خالين واتخذوه وقاية لهم من المضرة وجعلوه ترساً يعرضونـه لتلقى سهام النوائب التي يتوهمون تفويقها إليهم كما اتخذوه قبل ذلك سهماً يصيبون بـه أغراضهم فينالون منـها حظوظهم فقد أراحوا تلك البقية من الفكر فيهم، والله يتولى حسابهم (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام: 62]، آه ما أظن أن تلك البقية تستريح من شاغل الفكر في شؤون الأحبة وإن جاروا في تصرفهم.
إن طبيعة هذا القلب لطبيعة ناعم الخز إذا اتصل بذي الود وإن كان خشناً فصعب أن ينفصل ولو مزقته خشونته، وإن هذا القلب في علاقة مع الأوداء كالضياء مع الحرارة أيما حادث يحدث وأيما كيماوي يدقق لا يجد للتحليل بينـهما سبيلاً، وأظنك في العلم بثبوت تلك الطبيعة فيه كنت من المتحققين.
"وكتب حافظ بك ابراهيم إلى الأستاذ الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده"
كتابي إلى سيدي وأنا من وعده بين الجنة والسلسبيل ومن تيهي بـه فوق النثرة والإكليل وقد تعجلت السرور وتسلقت الحبور وقطعت ما بيني وبين النوائب.
وبشّرتُ أهلي بالذي قد سمعتهُ
فما منحتي إلاّ ليالٍ قلائل
وقلت لهم للشيخ فينا مشيئةٌ
فليس لنا من دهرنا ما ننازلُ
وجمعت فيه بين ثقة الزبيدي بالصمصامة والحارث بالنعامة فلم أقل ما قال الهذلي لصاحبه حين نسي وعده وحجب رفده.
"يا دار عاتكة التي أتغزل" بل أناديه نداء الأخيذة في عمورية شجاع الدولة العباسية وأمد صوتي بذكر إحسانـه مد المؤذن صوته في آذانـه واعتمد عليه في البعد والقرب اعتماد الملاح على نجمة القطب.
وقال أصيحابي وقد هالني النَّوى
وهالهمُ أمري متى أنتَ قافل
فقلت إذا شاء الإمامُ فأوبتي
قريبٌ وربعي بالسَّعادة آهلُ
وهأنا متماسك حتى تنحسر هذه الغمرة وينطوي أجل تلك الفترة وينظر لي سيدي نظرة ترفعني من (ذَاتِ الصّدْعِ) [الطارق: 12] إلى (ذَاتِ الرّجْعِ)[الطارق: 11] وتردني إلى وكري الذي فيه درجت رد الشمس قطرة المزن إلى أصلها ورد الوفي الأمانات إلى أهلها.
فإن شاءَ فالقربُ الذي قد رجوته
وإن شاءَ فالعزُّ الذي أنا آملُ
وإلاَّ فإني قافُ رؤبةَ لم أزل=بقيد النَّوى حتى تغولَ الغوائلُ
فلقد حللت السودان حلول الكليم في التابوت والمغاضب في جوف الحوت بين الضيق والشدة والوحشة والوحدة: لا، بل حلول الوزير في تنور العذاب والكافر في موقف الحساب بين نارين نار القيظ ونار الغيظ.
فناديت باسم الشيخ والقيظ جمرهُ
يذيب دماغ الضّب والعقل ذاهل
فصرت كأني بينَ روضٍ ومنـهلٍ
تدبُّ الصّبا فيه وتشدو البلابل
واليوم أكتب إليه وقد قعدت همة النجمين وقصرت يد الجديدين. عن إزالة ما في نفس ذلك الجبار العنيد فلقد نما ضب ضغنـه علي وبدرت بوادر السوء منـه إلي فأصبحت كما سر العدو وساء الحميم وآلامي كأنـها جلود أهل الجحيم كلما نضج منـها أديم تجدد أديم وأمسيت وملك آمالي إلى الزوال أسرع من أثر الشـهاب في السماء ودولة صبري إلى الاضمحلال أحث من حباب الماء فنظرت في وجوه تلك العباد وإني لفارس العين والفؤاد فلم تقف فراستي على غير بابك.
وإني أهديك سلاماً لو امتزج بالسحاب واختلط منـه باللعاب لأصبحت تتهادى بقطرة الأكاسرة وأمست تدخر منـه الرهبان في الأديرة ولأغنى ذات الحجاب عن الغالية والملاب ولابدع إذا جاد السيد بالرد فقد يرى وجه المليك في المرآة وخيال القمر في الإضاءة وإن حال حائل دون أمنية هذا السائل فهو لا يذم يومك ولا ييأس من غدك فأنت خير ما تكون حين لا تظن نفس بنفس خيراً: والسلام.
الفصل السابع في رسائل العيادة
"كتب ابن الرمي المتوفي سنة 284ه? إلى بعضهم"
لأذن الله في شفائك وتلقى داءك بدوائك ومسح بيد العافية عليك ووجه وفد السلامة إليك وجعل علتك ماحية لذنوبك مضاعفة لثوابك.
"وكتب أبو بكر الخوارزمي المتوفي سنة 383ه?"
وصل كتابك يا سيدي فسرني نظري إليه ثم غمني اطلاعي عليه لما تضمنـه من ذكر علتك جعل الله أولها كفارة وآخرها عافية ولا أعدمك على الأولى أجراً وعلى الأخرى شكراً: وبودي لو قرب علي متناول عيادتك فاحتملت عنك بالتعهد والمساعدة بعض أعباء علتك فلقد خصني من هذه العلة قسم كقسمك ومرض قلبي فيك لمرض جسمك.. وأظن أني لو لقيتك عليلاً لانصرفت عنك وأنا أعل منك فإني بحمد الله تعالى جلد على أوجاع أعضائي غير جلد على أوجاع أصدقائي شفاك الله وعافاك.
الفصل الثامن في رسائل التهاني
"كتب في التهنئة بالأولاد أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429ه?"
أهلاً وسهلاً بعقلية النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار.
ولو كانَ النّساء كمثل هذي
لفضّلتِ النّساءُ على الرّجالِ
فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ
ولا التّذكيرُ فخرٌ للهلالِ
والله يعرفك البركة في مطلعها والسعادة بموقعها فالدنيا مؤنثة والناس يهدمونـها والذكور يعبدونـها والأرض مؤنثة ومنـها خلقت البرية وفيها كثرت الذرية والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجوم الثواقب والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام ولا تحرك الأنام والجنة مؤنثة وبها وعد المقتون وفيها تنعم المرسلون فهنيئاً هنيئاً ما أوليت وأوزعك الله شكر ما أعطيت وأطال بقاءك ما عرف النسل وما بقي الأبد.
"وكتب بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398ه? إلى الدواردي يهنيه بمولود"
حقاً لقد أنجز الإقبال وعده ووافق الطالع سعده وإن الشأن لفيما بعده وحبذا الأصل وفرعه وبورك الغيث وصوبه وأينع الروض ونوره وحبذا سماء أطلعت فرقداً وغابة أبرزت أسداً وظهر وافق سنداً وذكر يبقى أبداً ومجد يسمى ولداً وشرف لحمة وسدى.
أنجب كلٌّ منْ والديه به
إذْ نجلاه فنعمَ ما نجلا
فألفياه شـهاب ذكاء وبدر علاء.
ووجداهُ ابنْ جلا
أبيضَ يدَّعى الجفلى
لمثلهِ أولى فلا
إذا النَّديُّ احتفلا
"وكتب في التهنئة بالقدوم أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429ه?"
أهنيء سيدي ونفسي تطيب بما يسر الله من قدومـه سالماً وأشكر الله على ذلك شكراً دائماً جعل الله قدومك بالخيرة التامة العامة والكفاية الشاملة الكاملة.
غيبة المكارم مقرونة بغيبتك وأوبة النعم موصولة بأوبتك: فوصل الله قدومك من الكرامة بأضعاف ما قرن بـه مسيرك من السلامة وهناك بإيابك وبلغك غاية محابك مازلت بالنية معك مسافراً وباتصال الذكر والفكر ملاقياً إلى أن جمع شمل سروري بأوبتك وسكن نافر قلبي بعودتك.
"وكتب أيضاً في التهنئة برمضان"
ساق الله إليك سعادة إهلاله وعرفك بركة كماله لقاك الله فيه ما ترجوه ورقاك إلى ما تحب في ما تتلوه جعل الله ما يطول من هذا الصوم مقروناً بأفضل القبول مؤذناً بدرك البغية ونجح المأمول ولا أخلاك من بر مرفوع ودعاء مسموع قابل الله بالقبول صاميك وبعظيم المثوبة تهجدك وقيامك أعاد الله إلى مولاي أمثاله وتقبل فيه أعماله وأصلح في الدين والدنيا أحواله وبلغه منـها آماله سعد الله مولاي بهذا الشـهر ووفاه فيه أجزل المثوبة والأجر.
"وكتب أبو الفرج الببغاء المتوفي سنة 398ه? تهنئة"
سيدي: أيده الله، أرفع قدراً. وأنبه ذكراً وأعظم نبلاً وأشـهر فضلاً من أن نـهنئه بولاية وإن جل خطرها وعظم قدرها. لأن الواجب تهنئه الأعمال بفائض عدله والرعية بمحمود فعله والأقاليم بآثار رياسته والولايات بسمات سياسته فعرفه الله بمن ما تولاه ورعاه في سائر ما استرعاه ولا أخلاه من التوفيق فيما يعانيه والتسديد فيما يبرمـه ويمضيه.
"وكتب رشيد الدين الوطواط المتوفي سنة 573ه? تهنئة بالقدوم من سفر"
بلغني إياب سيدي زانـه الله بصنوف المعالي وصانـه من صروف الليالي من سفرته الميمونة التي أسفرت عن نيل المراد وتسهيل البغية إلى دار أقامته ومستقر كرامته لم يؤثر فيه نصب السير وعناؤه وكلال السفر وعثاؤه فبلغ سروري بذلك مبلغاً يضاهي ما كنت بصدده من الجزع لغيبته فحمدت الله تعالى على ما يسر له من الرجوع إلى مغانيه والطلوع على بلدة جر فيها ذيول أمانيه فسألته عظمت هيبته أن يجعل ما أنعم بـه عليه من قرب الدار ودنو المزار موصولاً بطول العمر والبقاء مقروناً بدوام العز والعلاء أنـه سميع الدعاء.
"كتب المرحوم الشيخ حمزة فتح الله المتوفي سنة 1335ه?"
أي جهابذة الكنانة نبال الجنابة مياه الأجانة أبناء تلك اللغى صناديد هذه الوغى إليكم يساق الحديث في القديم والحديث عن هذا النبأ العظيم والمجد الصميم مالي أرى في لغتنا الشريفة "ويعلم أولو النـهي آية هي من اللغات أحق بهذا النبر أن يصرف إليها عند الإطلاق" هبوباً غب خمول وترة بعد تحول ونوراً عقيب أفول ونوراً إثر ذبول وصبا وراء قبول وعدلاً ولا حيف وقوة ولا ضعف وما يشاء المطري في هذا القبيل من العطف.
آمنت بالقدر المقدور والبعث والنشور كذلك يحيي الله الموتى.
أليس رجل واحد أسفرت عنـه عناية التوفيق فألقت إليه المقاليد بلى ولكنـه الواحد الذي يقول في مثله صاحب بني ميكال:
والناس ألفٌ منـهمُ كواحدٍ
وواحدٌ كالألف إن أمرٌ عنا
إي ورب تلك البنية باريء نسم البرية إنـه لرجل البلاد رجل الحزم والسداد ألم تر جنابه وحنانـه وبنانـه وبيانـه عوامل رفع لهذه اللغة لغة الفرقان لغة الأوطان لا بل أمضى من العوامل حتى ظلت آدابها فرائض وقد كانت وما بالعهد من قدم نوافل ومن حليها أجياد اللهجات عواطل اللهم إلا بقية ثمد قد منيت صحفها الأود ففقدت الجلد والجلد وبعد أن راج سوق الرطانة ونضب ماء الإبانة وخبت أنوار البلاغة وزوت أنوار النباعة وكسد البيان وقوض منـه البنيان وأصبحت العربية لقى ملقاه وبضاعة مزجاه فأي هذا اليراع لا أقل من نفثات في صوغ كليمات تقدر هذه النعمة قدرها ويمنحها شكرها.
ويحك هب من سنتك في حلية مقتك وانض حسامك واشحذ كهامك وانشل كنانتك وأعمل بنانتك وصغ إن استطعت تهانئ غرا بل عقوداً درا بل أنجماً زهراً مشتاراً منن خلايا ذلك الأري الشـهي الندي الذكي ما ت نحلة الشيح والخزامى وأطايب الثمار وأزاهي الأزهار تهديهن أولئك المصاقع شكراناً لتلك النعم تجميعاًُ لشواردها وتقييداً لأوابدها كما شبهها رسول الله ( وهو الصادق المصدوق وإشفاقاً عليها من الجماح بعد ذلك الارتياح.
فإليكم بني هذه اللغة كتابي هذا تهنئة بتلك النـهضة العربية في إبان كما تعلمون وجهه مكفهر وبدنـه مقشعر وثناء على العناية التوفيقية والعزمة الرباضية.
على أن لهذا المولى الوزير سوى ذلك أيادي مبرورة ومساعي مشكورة أكسبت الوطن وأهلية نـهضات وأقالته كثيراً من العثرات لكنني آثرت تلكم النـهضة العربية بتهنئتكم بها، أي بني جلدتي وإخوان حرفتي لكونـها فيما إخال لا بل فيما أتيقن ويتيقن أولو الحجا أعظم النـهضات وأيمن ما اجتازه الوطن من العقبات ولو كان في نطاق الإمكان زيادة البيان في هذا الشأن لأسهبت وأوسعت وأطريت وأظنبت ولو لم يكن في تلك النـهضة إلا أن حياة الأمة حياة لغتها فحسب لكفاك وشفاك وأغناك وكان ذلك قصاراك وحماداك.
"وكتب الأستاذ محمود بك أو النصر"
إنسان عين الفضائل عزيزي فلان المحترم.
نور على نور وشفاء لما في الصدور شفاؤك أيها العزيز من ذلك الرمد: قد أنجز الإقبال ما وعد وابتهجت النفوس الطروس واهتزت الأقلام وأعلنت بالسلام.
ولاح فجرُ التّهاني بالبشائر إذ
حيّتْ فأحيتْ ربوعَ الفضل والأدب
وكيف لا وأنت واحد الكتاب وإنسان عين الآداب رمدت فرمدت وشفيت فاهتزت وربت وقد كان طرفها كليلً وفؤادها عليلاً واليوم زال العناء وحق الهناء ووافى الشفاء فكان برداً وسلاماً على القلوب وقميص يوسف في أجفان يعقوب.
فلك الهناء بصحّةٍ ميمونةٍ
أبداً على مرّ الدُّهور وتدوم
وإن الله ما قضى بما قد مضى إلا ليعرف سيدي مكانته من القلوب ومنزلته من الفضل وهذه حلل العافية قد خلعت عليك وثياب السلامة سيقت إليك فوافى السرور وعم الحبور والله يبلغك بالصحة والأعمال منتهى الآمال والسلام.
"وكتب الوزير عبد الله باشا فكري المتوفي سنة 1307ه? في تهنئة العيد"
هذا يوم نشر البشر فيه أعلامـه وأضاءت الدنيا وازدانت الآفاق ببهجة هذا العيد السعيد وأخذ الأحبة يتهادون رسائل البشائر فيما بينـهم وكل حزب فرحون بما لديهم بما أودع فيهم من روابط المحبة وعوامل الاتحاد السارية في النفوس: أما أنا فعيدي وبهجة نفسي وسرور فؤادي دوام إقبال الزمان عليك بوجه النصر وعود أعياد السرور على جبانك الرفيع فمثلك تشرق الدنيا بطلعته وتفرح الأعياد برؤيته.
وأرى الحياةَ لذيذةً بحياته
وأرى الوجودَ مشرفاً بوجودهِ
لو أنني خيرتُ من دهري المنى
لاخترتُ طولَ بقائه وخلودهِ
أعاد الله عليك أيها الأخ أمثاله وأمثال أمثاله في صفاء وهناء.
الفصل التاسع في رسائل التعازي
"كتب أبو منصور الثعالبي المتوفي سنة 429ه?"
خبر عز علي مستمعه وأثر في قلبي موقعه خبر تستاء له المساميع وترتج منـه الأضالع خبر يهد الرواسي ويفلق الحجر القاسي كادت له القلوب تطير والعقول تطيش والنفوس تطيح خبر يشيب ويذيب الحديد قد كاد من الحزن أن تنقبض الألسن عن هذا النعي الفادح وتخرس وتقصر الأيدي عن التعزية بهذا الرزء الفادح وتيبس.
"وكتب أيضاً في الأمر بالصبر على المصيبة"
ماذا نصنع والبلاء نازل والموت حكم شامل وإن لم نعتصم بحبل الصبر فقد اعترضنا على مالك الأمر عليك بعزيمة الصبر وصريمة الجلد فإنـها في الدين حتم وفي الرأي حزم واعلم بأن الميت لا ترده نار تلهبها من الهم على كبدك ولا يرجعه انزعاج تسلطه بالحزن على جسدك فخير لك من ذلك أن تفعل ما يفعله الذاكرون وتقول: (إِنّا للّهِ وَإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ) [البقرة: 156].
"وكتب أبو الفضل بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398ه?"
إذا ما الدّهر جرّ على أناسٍ
مصائبهُ أناخَ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
أحسن ما في الدهر عمومـه بالنوائب وخصوصه بالرغائب فهو يدعو الجفلى ذا ساء ويخص بالنعمة إذا شاء فليفكر الشامت: فإن كان أفلت فله أن يشمت: ولينظر الإنسان في الدهر وصروفه والموت وصنوفه من فاتحة أمره إلى خاتمة عمره هل يجد لنفسه أثراً في نفسه أم لتدبيره عوناً على تصويره أم لعمله تقديماً لأمله أم لحيله تأخيراً لأجله كلا بل هو العبد لم يكن شيئاً مذكوراً خلق مقهوراً فهو يحيا جبراً ويهلك صبراً وليتأمل المرء كيف كان قبلاً فإن كان العدم أصلاً والوجود فضلاً فليعلم الموت عدلاً...
والموت أطال الله بقاء مولاي خطب فقد عظم حتى هان وأمر قد خشن حتى لان ولعل هذا السهم قد صار آخر ما في كنانتها وأزكى ما في خزانتها ونحن معاشر التبغ نتعلم الأدب من أقواله والجميل من أفعاله فلا نحثه على الجميل وهو الصبر ولا نرغبه في الجزيل وهو الأجر فبهما رأيه.
"وكتب أيضاً"
يا سيدي: المصاب لعمر الله كبير وأنت بالجزع جدير ولكنك بالصبر أجدر والعزاء عن الأعزة رشد كأنـه ألغي وقد مات الميت فليحي الحي.
"وكتب فقيد اللغة الشيخ ابراهيم اليازجي المتوفي سنة 1906م"
أشباح تروح وتجي وآجال تمسي وتغتدي وأنفاس تتقطع من دونـها حزناً وأسفاً وعبرات تتفطر وجداً ولهفاً وما عمدت الأقدار إلى استنزاف مدمع ولا أرادت الأيام إيلام موجع إنما هي سنة الخلق كون يليه زوال وعقد يسبقه انحلال وأن لكل شيء أجلاً موقوتاً وإن لكل أجل سبباً مقدوراً وأن الإنسان لفي كل ذلك شاهد يسمع لاهياً ويبصر ساهياً وليس في يده أن يسترد ماضياً ولا أن يرد آتياً ولقد وددت أن أعزيك لولا ما يغالبني على العزاء من كبد حرى ومقلة شكرى وزفرة تترى ثم وددت أن أستبكيك لولا أنيب بكيت حتى لم أدع في البكاء من واد وأحييت ليالي بالنوح حتى ما بالنجم سهاد ثم لم يزدني البكاء على سقم جسدي ولم يزدني النوح على صفر يدي إلا من كبدي وإن الأقدار سهام إذا انطلقت لم ترد وإن المتطلع إلى الفائت لطويل شقة الكمد وإن الخطوب لهي هي إنما تتفاوت عند الجلد.
وإن الحصى عند الجزوع ثقيلةٌ
وضخم الصّفا عند الصّبور خفيف
والله المسؤول في إطالة بقائك قرة للعيون وجبراً لخاطر المحزون بمنـه وكرمـه.
الفصل العاشر في رسائل الأجوبة
"كتب الوزير عبد الله باشا فكري المتوفي سنة 1307ه?"
سيدي سلمك الله وحياك وأسعدك برؤية محياك وزاد عزك وعلياك وحرس دينك ودنياك وجمعني على بساط المسرة وإياك ولا حرمني دوام لقياك ولا برح الدهر مبتسم الثغر بمحاسن معاليك مباهياً أعصار الأوائل بأيامك ولياليك محلياً أجياد المفاخر بزواهر لآليك: ورد علي كتابك الكريم مورد إعزاز وتكريم فبل بعض ما في الجوانح من الصدى وأنعشني ولا انتعاش الزهر بمباكرة الندى وجلا علي من البلاغة روضاً غضاً وأدار لدي صفواً من سلاف المحبة محضاً وهزني هزة النشوان شوقاً وطرباً واستفزني بمعجز آياته الحسان عجباً وعجباً ونثر علي من محاسن لفظك الحر وكلماتك الغر ما يخجل الدراري ويفضح الدر.
كلامٌ كستهُ بهجةُ الحسن رونقاً
هو السحر لا بل جلَّ قدراً عن السّحر
"وكتب أيضاً وهو بالآستانة العلية في يوم برد كثير الأمطار"
كتبت إليك والأمطار ساجمة بطلها ووبلها وعساكر البرد والبرد هاجمة بخيلها ورجلها والسماء متلفعة بأذيال السحاب وكأن الشمس خافت من الطل فتوارت الحجاب والجو مسكي الرداء عنبري الأرجاء كأنـه وعليه ثوب الغيم مزرور قد وجل من صوله البرد فلبس فروة السمور والغمام على الأفق بكلاكله وهز من البرق بيض مناصله ونشر في الجو طرائق مطارفه وجاد على الأرض بتليده وطارفه وثقل على كاهل الهواء كالطير بل جناحه بالماء وقرب حتى كاد يمسك باليدين ويعتصر بالراحتين أو كأنـه مرآة مذهبة تبدو وتخفى أو جذوة متلهبة توقد وتطفئ والرعد يهدد بزواجر زماجره السحائب فيبكيها والطير يتلو سطور الندى في طروس الثرى فيمليها ويطرب بأفنان الألحان أفنان البان فيعليها ويثنيها ويقرأ على رؤوس الأغصان أوراده الحسان فيقربها ويرقيها وقوس السماء يرمي بسهام وبله جنوب الشقائق فيصميها ويدميها والريح أخلاف الغمائم فتمر بها وترضع بدرها بنات النبات في حجور أراضيها فتربيها وتربيها وترصع بدرها تيجان القضبان وتارة تجعله عقوداً في تراقيها أو دموعاً في أماكقيها وكأن الحر خاف من بنادق البرد ومع الرعد ففر إلى مصر ونواحيها وأصبح نزيل من فيها لكرم أهليها وكأن غيرها بخلت عليه فلم تقبله عندها ضيفاً أو غلط الناس في حساب الفصول فظنوا شتاها صيفاً.
"وكتب المرحوم حفني بك ناصف إلى الشيخ علي الليثي المتوفي سنة 1313ه?"
وصل يا مولاي إلى هذا الطرف ما خصصت بـه العبد من الطرف "قفص" من عنب كاللؤلؤ في الصدف تتألق عناقيده كأنـها من صناعة "النجف" ولعمر الحق أنـها تحفة من أحلى التحف لا يعثر على مثلها إلا بطريق "الصدف" فقابلناه لثماً بالأفواه ورشفاً بالشفاه واحتفينا بقدومـه كل الاحتفاء ولم نفرط في حبه عند اللقاء بل حللنا له الحبي وقلنا له أهلاً وسهلاً ومرحباً وأوسعناه عضاً ولثماً وتناولناه تجميشاً وضماً وحفظنا في صدورنا سره المكنون وطويناه في غضون البطون فطربت من تعاطيه الأرواح ولا غرو فهو أصل الراح وانتشينا ولم نحمل وزراً وثملنا ولم نذق طعماً مراً فهو كبيان مـهدية سحر ولكنـه حلال ولعب إلا أنـه كمال فإن أكسبت الشمول شاربها قوة في الجنان ونفحت ذائقها طلاقة في اللسان فقد سرت في أجسامنا من حرارته شجاعة "ليثيه" ودبت في كلامنا من مذاقته فصاحة "علوية" وخلصت إلينا منـه فوائد لا يحيط بها العلم ونجمت عنـه منافع ليس يصحبها إثم، فإن زعم الأولون أن في الخمر معنى ليس في العنب فقد تغير الحال في هذه الهدية وانقلب وانكشف للمتأخرين حقيقة الأمر أن في العنب معنى ليس في الخمر.
وكان الأحرى بهذا العنب أن يناط بالنحور أو تزين بـه الصدور فما هو إلا اللؤلؤ لكنـه سلم من سجن البحار وما هو إلا الدر لكن ليس فيه صغار.
.ومنْ كنتَ بحراً له يا علي=لا يلقطُ الدُّرّ إلاّ كباراً وما ضره أن ضمـه القفص حصة من الحصص فإن كريم الطير يودع في الأقفاص والقلب ليس له من حنايا الضلوع خلاص فلا بدع أن تستقل في حباته حبات القلوب ويستملح في جنب حلاوته رضاب المحبوب وكأن الثريا لما أخذت شكله فغر الهلال فاه لعنقودها يريد أكله فهو يطاردها في السماء ويأخذ عليها الطريق من الوراء وهي تجري من الأمام مخافة الالتهام هذا لمجرد تشابه في الشكل فكيف بالثريا لو أشبهته حلاوة ورياً فلله تلك العناقيد ما اشد تألقها وأصفى ماءها وأحسن رونقها من كل عنقود ت عمود الصبح أحاطت بـه الدراري أو غصن البان تعلقت بـه القماري.
فسقى الغيث أرضاً أنبتته ولاثل الدهر عروشاً حملته وأرضاً عرفتنا بأثمارها حلاوة الجنة وأبرزت لنا لمحة من محاسنـها المستكنة وأنساناً عنبها ذكرى دمشق وأزمير وأنباناً غارسها مصر خير مستقر (وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر: 14] وعروساً كالعروس تتيه في الحلي والملبوس تحسدها المجرة في السماء وتود لو تكون لها هذه البهجة والرواء لازال مولاي يهدي ويهدي وصنائعه تعيد في ثنائه وتبدي
"وأجابه المرحوم الشيخ علي الليثي المتوفي سنة 1313ه?"
وبعد فقد وصل كتاب القاضي الفاضل وأرج الأرجاء بلطيف فواضله وشريف الفضائل وما كنت أظن أن يحصل من زبيبه خماره حتى رأيت الفاضل سبكه في قوالب شتى وصاغه وأتى بما أدهش اللب من أساليب البلاغة فتارة عقداً على النحور وتارة في ميادين الطلب تطارده البدور وآونة دراً مكبراً ومرة خمراً عنبراً وساعة دوالي "نجفة" وساعة غصناً تعلق بـه الهزار وألفه.
تكاثرتِ الظّباءُ على خراشِ
فما يدري خراشٌ ما يصيدُ
عجباً لك أيها الفاضل: هذا مع اشتغال بالك وإقبالك على ما لديك من مراعاة عدلك واعتدالك فكيف لو تفرغت لهذا الأمر ولإراحة النفس اعتصرت من العنقود قدحاً من خمر وامتطيت طرف اليراع منـهجاً مناهج الطرس ودبجت بياض صفحاته بمحاسن حلى النفس فلله أنت من بليغ بلغ ما يريد وقلد فرائد آدابه كل جيد وأفاد السحر منثوراً في فواصله وأقام بعوامل أقلامـه تثقيف عوامله وأوجب علينا الشـهادة له بالسبق فأذعنا مسلمين والحق أحق: هذا ولولا أن يقاتل فلان جفا وما احتفل بكتاب أخيه ولا احتفى وإن كان شيبي يلزمني ذلك كما أن شباب (البيك) يسلك بـه أقوم المسالك لترلات عيي وما أشرت ورأيت طي خيراً لي مما نشرت وجعلت كتاب سيدي في عنقي تميمة ورؤحت النفس تيمناً بمس آياته الكريمة وقلت كفاني ما أحاط بالعنق من قلائده حيث العبد لا يبلغ في الفخامة كمال سيده.
وهبني قلتُ هذا الصُّبحُ ليلٌ
أيعمي العالمون عن الضّياء
لازالت برد الترسل بيننا مستمرة ومدد التوصل على جناح التقرب مستقرة ولا برح الجناب في كل بداية يترقى كما يحب من غاية إلى غاية والسلام.
الفصل الحادي عشر في رسائل الوصايا والشفاعات
"من كلام له عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب في غزوة الفرس"
إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانـه بكثرة ولا قلة وهو دين الله الذي أظهره و الذي أعده وأمده حتى بلغ وطلع حيثما طلع ونحن على موعود من الله والله منجز وعده وناصر : ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمـه فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً.
والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك.
إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا هذا اصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكبلهم عليك وطم فيك فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانـه هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره: وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة.
ومن وصية له عليه الصلاة والسلام قالها بصفين
أما بعد فقد جعل الله عليكم حقاً بولاية أمركم ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف لا يجلاي لأحد إلا جرى عليه ولا يجري عليه الأجرى له ولو كان لأحد أن يجر ي له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانـه دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه ولكنـه جعل حقه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منـه وتوسعاً بما هو من المزيد أهله ثم جعل سبحانـه من حقوقه حقوقاً اقترضها لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافأ في وجوهها ويجب بعضها بعضاً ولا يستوجب بعضها إلا ببعض وأعظم ما افترض سبحانـه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها سبحانـه لكل على كل فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينـهم فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدجى الوالي إليها حقها عز الحق بينـهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العجل وجرت على أذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء وإذا غلبت الرعية وإليها وأجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور وكثر الإدغال في الدين وتركت محاج السنن فعمل بالهوى وعطلت الأحكام وكثر علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطل ولا لعظيم باطل فهل فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار وتعظم تبعات الله عند العباد فعليكم بالتناصح في ذلك وحسن التعاون عليه فليس أحد وإن اشتد على رضاء الله حرصه وطال في العمل اجتهاده لبالغ حقيقة ما الله أهله من الطاعة: ولكن من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم والتعاون على إقامة الحق بينـهم وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته وتقدمت في الدين فضيلته يفوق أن يعان على ما حمله الله من حقه ولا امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه.
فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه ويذكر سمعه وطاعته فقال عليه السلام إن من حق من عظم جلال الله في نفسه وجل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه وإن أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة الله ولطف إحسانـه إليه فإنـه لم تعظم نعمة الله على أحد إلا ازداد حق الله عليه عظماً وإن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر ويوضع أمرهم على الكبر وقد كرهت أن يكون جال في ظنكم أني أحب الإطراء واستماع الثناء ولست بحمد الله كذلك ولو كنت أحب أن يقال ذلك لتركته انحطاطاً لله سبحانـه عن تناول ما هو أحق بـه من العظمة والكبرياء: وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لابد من إمضائها فلا تكلموني بما تكلم بـه الجبابرة ولا تتحفظا مني بما يتحفظ بـه عند أهل البادرة ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي فإنـه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست في نفسي يفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلني إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك بـه مني فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا ما لا نملك من أنفسنا وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى وأعطانا البصيرة بعد العمى.
ومن وصية له عليه السلام وصى بها جيشاً بعثه إلى العدو
فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبيل الأشراف وسفاح الجبال أو أثناء الأنـهيار فيما يكون لكم رداء ودونكم مرداً ولتكن مقالتكم من وجه واحد أو اثنين واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافة أو أمن: واعلموا أن مقدمة القوم عيونـهم وعيون المقدمة طلائعهم وإياكم والتفرق فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كفة ولا تذوقوا النوم إلا غراراً أو مضمضة.
?"ومن وصية له عليه السلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات"
انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له ولا تروعن مسلماً ولا تجتازن عليه كارهاً ولا تأخذن منـه أكثر من حق الله في ماله فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم امض إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينـهم فتسلم عليهم ولا تخدج بالتحية لهم ثم تقول: عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل الله في أموالكم من حق فتأدوه إلى وليه فإن قال قائل لا فلا تراجعه: وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخفيه وتوعده أو تعسفه أو ترهقه فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنـه فإن أكثرها له فإذا أتيتها فلا تدخل عليها متسلط عليه ولا عنيف بـه ولا نتفرن بهيمة ولا تفرعنـها ولا تسؤن صاحبها فيها واصدع المال صدعين ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره فلا تزال بذلك حتى يبقى ما فيه لحق الله في ماله فاقبض حق الله منـه فإن استقالك فأقله ثم اخلطهما ثم اصنع مثل الذي صنعت أولاً حتى تأخذ حق الله في ماله ولا تأخذن عوداً ولا هرمة ولا مكسورة ولا مـهلوسة ولا ذات عوار ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينـه رافقاً بمال المسلمين حتى يوصله إلى وليهم فيقسمـه بينـهم ولا توكل بها غلا ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً غير معنف ولا مجحف ولا مغلب ولا متعب ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك نصبره حيث أمر الله فإذا أخذها أمينك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصليها ولا يمصر لبنـها فيضر ذلك بولدها ولا يجدنـها ركوباً وليعدل بين صواحبتها في ذلك وبينـها: وليرفه على اللاغب وليستأن بالنقب والظالع وليوردها ما تمر بـه من الغدر ولا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق وليروحها في الساعات وليمـهلها عند النطاف والأعشاب حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات غير متعبات ولا مجهودات لنقسمـها على كتاب الله وسنة نبيه ( فإن ذلك أعظم
لأجرك وأقرب لرشدك إن شاء الله.
وقال عليه السلام وقد سمع رجلاً يذم الدنيا: أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها المخدوع بأبلطيلها ثم تذمـها أتغتر بالدنيا ثم تذمـها أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك متى استهوتك أم متى غرتك أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمـهاتك تحت الثرى كم عللت بكفيك وكم مرضت بيديك تبعي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء لم ينفع أحدهم إشفاقك ولم تسعف بطلبتك ولم تدفع عنـه بقوتك وقد مثلت لك بـه الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك: إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فيهم عنـها، ودار غنى لمن تزود منـها، ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباء الله ومتجر أولياء اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة فمن ذا يذمـها وقد آذنت بينـها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها فمثلت للهم ببلائها البلاء وشوقتهم بسرورها إلى السرور راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيباً وترهيباً وتخويفاً وتحذيراً فذمـها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون يوم القيامة ذكرتهم الدنيا فتذكروا وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا.
"عهد الإمام علي المتوفي سنة 401 ه? لمالك بن الحارث الأشتر النخعي"
"حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها وإصلاح أهلها وعمارة بلادها"
اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثلى ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك كما كنت تقول فيهم وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسنة عباده فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الإنصاف منـها فيما أحبت أو كرهت: واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنـهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منـهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنـه لا يدى لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ولا تندمن على عفو ولا تبجحن بعقوبة ولا تسرعن إلى بادرة وجدت عنـها مندوحة ولا تقولن إني مؤثر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنـهكة للدين وتقرب من الغير وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ويكف عنك من غربك ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك وإياك ومساماة الله في عظمته والتشبه بـه في جبروته فإن الله يذل كل جبار ويهين كل محتال أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة اهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إن لم تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمـه دون عباده ومن خاصمـه الله أدحض حجته وكان الله حرباً حتى ينزع ويتوب وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع دعوة المظلومين وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأا في العدل وأجمعها لرضاء الرعية فإن سخط
العامة يجحف برضاء الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضاء العامة وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة في البلاء وأكره للإنصاف وأسأل بالإلحاف وأقل شكراً عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع وأخف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة: وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة فليكن صفوك لهم وميلك معهم: وليكن ابعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها فلا تكشفن عما غاب عنك منـها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب سترة من رعيتك: أطلق عن الناس عقدة كل حقد واقطع عنك سبب كل وتر وتغاب عن كل ما لايصح لك ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين: ولا تدخلن في مك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك من الفقر ولا جباناً يضعفك عن الأمور ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله: إن شر وزارائك من كان قبلك للأشرار وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنـهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة وأنت واحد منـهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممن لا يعاون ظالماً على ظلمـه ولا آثماً على إثمـه أولئك أخف عليك مؤونة وأحسن لك معونة وأحنى عليك عطفاً وأقل لغيرك إلفاً فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك: ثم ليكن عندك أقولهم لك بمر الحق وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعاً ذلك من هواك حيث وقع: وألصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة: ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة وألزم كلاً منـهم ما ألزم نفسه: واعلم أنـه
ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن وال برعيته من إحسانـه إليهم وتخفيفه للمؤونات عليهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم فليكن منك في ذلك أمر يجمع لك حسن الظن برعيتك فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً: وإن أحق من حسن ظنك بـه لمن حسن بلاؤك عنده وإن أحق من ساء ظنك بـه لمن ساء بلاؤك عنده ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنة تضر بشيء مما مضي من تلك السنن فيكون الأجر لمن سنـها والوزر عليك بما نقضت منـها: وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام بـه الناس قبلك: واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض فمنـها جنود الله ومنـها كتاب العامة والخاصة ومنـها قضاة العدل ومنـها عمال الأنصاف والرفق ومنـها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ومنـها التجار وأهل الصناعات ومنـها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سمى الله سهمـه ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه ( عهداً منـه عندنا محفوظاً فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن وليس تقوم الرعية إلا بهم ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله تعالى لهم من الخراج الذي يقوون بـه في جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون من المقاعد ويجمعون من المنافع ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامـها ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونـه من أسواقهم ويكفونـهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغ رفق غيرهم: ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم وفي الله لكل سعة: ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمـه الله من ذلك إلا بالاهتمام
والاستعانة بالله وتوطين نفسه على لزومـه الحق والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأطهرهم جيباً وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على كالأقوياء ممن لا يثيره العنف ولا يقعد بـه الضعف ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة فإنـهم جماع من الكلام وشعب من العرف: ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من والدهما ولا يتفاقمن من نفسك شيء قويتهم بـه ولا تحفرن لطفاً تتعاهدهم بـه وإن قل فإنـه داعية إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمـها فإن لليسير من لطفك موضعاً بـه وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنـه: وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوق أهلهم حتى يكون همـهم هماً واحداً في جهاد العدو فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك: وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية وأنـه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ولا تصح نصيحتههم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم وقلة استثقال دولهم وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديل ما أبلى ذوو البلاء منـهم فإن كثرة الذكر لحسن فعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله تعالى: ثم أعرف لكل امرئ منـهم ما أبلى ولا تضيفن بلا ء امرئ إلى غيره ولا تقصرن بـه دون غاية بلائه ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً ولا ضعة امرئ أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً: واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله سبحانـه لقوم أحب إرشادهم (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ) [النساء: 59] فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة: ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق بـه الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر عن الفيء إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وصرمـهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستمليه إغراء وأولئك قليل: ثم أكثر تعاهد قضائه وأفسح له في البذل ما يزيح غلته وتقل معه حاجته إلى الناس وأعطه من المنزلة لديك مالاً يطمع فيه
غيره من خاصتك لتأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيها بالهوى وتطلب بـه الدنيا ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولاهم محاباة وأثره فإنـهم جماع من شعب الجور والخيانة وتوخ منـهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام فإنـهم أكرم أخلاقاً واصح أعراضاً وأقل في المطامع إشرافاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً: ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو خانوا أمانتك: ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية وتحفظ من الأعوان فإن أحد منـهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقوبة في بدنـه وأخذته بما أصاب من عمله ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة وقلدته عار التهمة وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله: وليكن نظرك عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحاطة أرض اعتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنـهم بما ترجو أن يصلح بـه أمرهم: ولا يثقلن عليك شيء خففت بـه المؤونة عنـهم فإنـه ذخر يعودون بـه عليك في عمارة بلدك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك بى استفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منـهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم فربما حدث من الأمور ما إذا عول فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به
فإن العمران يحتمل ما حملته وإنما يأتي خراب الأرض من أعواز أهلها وإنما يعوز أهلها لإشراف أو نفس الولاة على الجمع وسوء ظنـهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم وأخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ ولا تقصر بـه الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك وإصدار جواباتها على الصواب عنك فيما يأخذ لك ويعطى منك ولا يضعف عقداً اعتقده لك ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل: ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنـهم في العامة أثراً وأعرفهم بالأمانة وجهاً فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره واجعل لرأس كل من أمورك رأساً منـهم لا يقهره كبيرها ولا يتستت عليه صغيرها ومـهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنـه ألزمته ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً المقيم منـهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنـه فإنـهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجربها من المباعد والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها فإنـهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تخشى غائلته: وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك واعلم مع ذلك أن في كثير منـهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فإن رسول الله ( منع منـه وليكن البيع سمحاً بموازين عدل واسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكرة بعد نـهيك إياه فنكل بـه وعاقب في غير إسراف: ثم الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة
لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد فإن للأقصى منـهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنـهم بطر فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لأحكامك الكثير المـهم فلا تشخص همك عنـهم خدك لهم وتفقد أمور من لا يصل إليك منـهم ممن تقتحمـه العيون وتحتقره الرجال ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم ثم أعمل فيهم بالأعذار إلى الله سبحانـه يوم تلقاه فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم وكل فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليه وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم: واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنـهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمـهم غير متتعتع فإني سمعت رسول الله ( يقول في غير موطن: "لقد تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع" ثم احتمل الخرق منـهم والعي وسنح عنـهم الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته وبوجب لك ثواب طاعته وأعط هنيئاً وامنع في إجمال وإعذار: ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها منـها إجابة عمالك بما يعيا عنـه كتابك ومنـها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك مما تحرج بـه صدور أعوانك وامض لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه: واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله تعالى أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منـها الرعية: وليكن في خاصة ما تخلص لله بـه دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة فاعط فاعط الله من بدنك في ليلك ونـهارك ووف ما تقربت بـه إلى
الله سبحانـه من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص بالغاً من بدنك ما بلغ وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً فإن فيلا الناس من بـه العلة ولا الحاجة وقد سألت رسول الله ( حين وجهني اليمن كيف اصلي بهم فقال: "صل بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيماً" وأنا بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور والاحتجاب منـهم يقطع عنـهم علم ما احتجبوا دونـه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير ويقبح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحق بالباطل وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنـه الناس بـه من الأمور وليست على الحق سمات نعرف بها ضروب الصدق من الكذب وإنما أنت أحد رجلين إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه أو فعل كريم تسجيه أو مبتلى بالمنع: فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة، ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وخاصتك قطيعة ولا يطعمن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مـهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة: وألزم الحق من لزمـه من القريب والبعيد وكن في ذلك صابراً محتسباً واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منـه فإن مغبة ذلك محمودة وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك وأعدل عنك ظنونـهم بأصحارك فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقاً برعيتك وإعذاراً تبلغ بـه حاجتك من تقويم على الحق ولا تدفعن صلحاً دعاك ولله فيه رضا فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليغتفل فخذ بالحزم واتهم في ذلك
حسن الظن وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت فإنـه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود وقد لزم ذلك المشركون فيما بينـهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر فلا تغدرون بذمتك ولا تخيسن بعهدك ولا تختلن عدوك فإنـه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته وحريماً يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه كعهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك فيه من الله طلبة فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك، إياك والدماء وسفكها بغير حلها فإنـه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة زولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها والله سبحانـه يتولى الحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فإن ذلك مما يضعفه ويوهنـه بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لأن كفيه قود البلدان وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منـها وحب الإطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين. وإياك والمن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك فإن المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور الحق والخلق يوجب المقت عند الله والناس قال سبحانـه وتعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) [الصف: 3] وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانـها أو التسقط فيها عند إمكانـها أو اللجاجة فيها إذا تنكرت أو الوهن عنـها إذا استوضحت فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه، وإياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عما يعنى بـه مما قد وضح للعيون فإنـه مأخوذة منك لاغيرك وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم: أملك حمية أنفك وسورة حدك وسطوة يدك وغرب لسانك واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار وزلن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة أو سنة فاضلة أو اثر عن نبينا ( أو فريضة في كتاب الله فتقتدي بما شاهدت مما عملنا بـه فيها وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت بـه من الحجة لنفسي دليلك لكيلا يكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه من حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة وإن يختم لي ولك بالسعادة والشـهادة (إِنّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ) [التوبة: 59] والسلام على رسول الله ( الطيبين الطاهرين.
"وكتب أبو بكر الصديق المتوفي 7 جمادى الثانية سنة 13ه? إلى بعض قواده"
إذا سرت فلا تعنف أصحابك في السير ولا تغضبهم وشاور ذوي الآراء منـهم واستعمل العدل وباعد عنك الجور فإنـه ما افلح قوم ظلموا ولا نصروا على عدوعم و (إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلّوهُمُ الأدْبَارَ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَىَ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ) [الأنفال: 15 16] وإذا نصرتم عليهم فلا تقتلوا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً ولا تحرقوا زرعاً ولا تقطعوا شجراً ولا تذبحوا بهيمة إلا ما يلزمكم للأكل ولا تغدروا إذا هادنتم ولا تنقضوا إذا صالحتم وستمرون على أقوام في الصوامع رهبان ترهبوا الله فدعوهم وما انفردوا إليه وارتضوه لأنفسهم فلا تهدموا صوامعهم ولا تقتلوهم والسلام.
"وكتب عمر بن الخطاب المقتول في 26 ذي الحجة سنة 23 ه? إلى بعض قواده"
أما بعد فإني أوصيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وأن تكون أنت ومن معك أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا لتيس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة (وإلا ننصر عليهم بطاعتنا لم نغلبهم بقوتنا) واعلموا أن عليكم في سيركم حفظه من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منـهم واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونـه النصر على عدوكم، وأقم بمن معك في كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة يحيون فيهما أنفسهم ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق به، وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينـهم ثم أذك أحراسك على عسكرك وتيقظ من البيات جهدك والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم.
"وكتب أبو الفضل بديع الزمان الهمذاني المتوفي سنة 398ه? إلى ابن أخته"
أنت ولدي ما دمت والعلم شأنك والمدرسة مكانك والمحبرة حليفك والدفتر أليفك فإن قصرت ولا أخالك فغيري خالك، والسلام.
"ومن وصية ابن سعيد المغربي المتوفي سنة 697ه? لابنـه وقد أراد السفر"
أودعكَ الرَّحمنَ في غربتك
مرتقباً رجماهُ في أوبتك
فلا تطل حبل النّوى إنّني
والله أشتاق إلى طلعتك
واختصر التّوديعَ أخذاً فما
لي ناظرٌ يقوى على فرقتك
واجعل وصاتي نصبَ عين ولا
تبرح مدى الأيام من فكرتك
خلاصة العمر التي حنّكتْ
في ساعةٍ زفّتْ إلى فطنتك
فللتَّجاريب أمور إذا
طالعتها تشحذَ من غفلتك
فلا تنمْ عن وعيها ساعةً
فإنّها عونٌ إلى يقظتك
وكلّ ما كابدتهُ في النّوى
إيّاك أن يكسرَ منْ همتك
فليس يدرى أصلُ ذي غربة
وإنما تعرفُ من شيمتك
وامش الهوينا مظهراً عفّةً
وابغ رضا الأعين عن هيئتك
وانطق بحيثُ الغيُّ مستقبحُ
واصمتْ بحيث الخير في سكتتك
ولج على رزقك من بابه=واقصدْ له ما عشتَ في بكرتك
ووفّ كلاّ حقَّه ولتكن
تكسر عند الفخر من حدّتك
وحيثما خيَّمت فاقصد إلى
صحبة من ترجوه في نصرتك
وللرزايا وثبةٌ مالها
إلا الذي تذخرُ من عدَِّتك
ولا تقل اسلمُ لي وحدتي
فقد تقاسي الذل في وحدتك
ولتجعل العقلَ محكَّماً وخذ
كلاّ بما يظهر في نقدتك
واعتبر الناس بألفاظهم
واصحبْ أخاً يرغب في صحبتك
كم من صديقٍ مظهرٍ نصحه
وفكرهُ وقفْ على عثرتك
إيّاك أن تقربه إنـهُ
عونٌ مع الدّهر على كربتك
وأنُ نموَّ النبت قد زاره
غبُّ النَّدى واسمُ إلى قدرنك
ولا تضيّعْ زمناً ممكناً=تذكارهُ يذكي لظى حسرتك والشّرّ مـهما استطعتَ لا تأتهِ= فإنـهُ جورٌ على مـهجتك يا بني الذي لا ناصح له مثلي ولا منصوح لي مثلة قد قدمت لك في هذا النظم ما إن أخطرته بخاطرك في كل أوان رجوت لك حسن العاقبة إن شاء الله تعالى وإن أخف منـه للحفظ وأعلق بالفكر وأحق بالتقدم قول الأول.
يزينُ الغريبَ إذا ما اغتربْ
ثلاثٌ فمنـهنّ حسن الأدّب
وثانية حسن أخلاقهِ
وثالثةٌ اجتنابُ الرّيب
واصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر وسلم الكرم والصبر ولو أن الديار نبت بكم لسكنتم الأخلاق والآدابا.
إذ حسن الخلق أكرم نزيل والأدب أرحب منزل ولتكن كما قال بعضهم في أديب متغرب وكلن كلما طرأ على ملك فكأنـه معه ولد وإليه قصد غير مستريب بدهره ولا منكر شيئاً من أمره وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه فاجعل التكلف له سلماً وهب في روض أخلاقه هبوب النسيم وحل بطرفه حلول الوسن وانزل بقلبه نزول المسرة حتى يتمكن لك وداده ويخلص فيك اعتقاده وطهر من الوقوع فيه لسانك وأغلق سمعك ولا ترخص في جانبه لحسود لك منـه يريد إبعادك عنـه لمنفعة أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته ولا تتمـهد بدوام رقدته فقد ينبهه الزمان ويتغير نته القلب واللسان وإنما العاقل من جعل عقله معياراً وكان كالمرأة يلقى كل وجه بمثاله: وفي أمثال العامة من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل فاحتذ بأمثلة من جرب واستمع إلى ما خلد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال فإنـها خلاصة عمرهم وزبدة تجاربهم ولا تتكل على عقلك فإن النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم وابتاعوه غالياً بتجاربهم يربحك ويقع عليك رخيصاً، وإن رأيت من له عقل ومروءة وتجربة فاستفد منـه ولا تضيع قوله ولا فعله فإن فيما تلقاه تلقيحاً لعقلك وحثاً لك واهتداء وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتى تتدبره فإن كان موافقاً لعقلك مصلحاً لحالك فراع ذلك عندك وإلا فانبذه نبذ النواة فليس لكل أحد يبتسم ولا كل شخص يكلم ولا الجود مما يعم بـه ولا حسن الظن وطيب النفس مما يعامل بـه كل أحد والله درون القائل:
وماليَ لا أوفى البريّة قسطها
على قدرِ ما يعطي وعقلي ميزانُ
وإياك أن تعطي من نفسك إلا بقدر فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء ولا الكفء بمعاملة الأعلى ولا تضيع عمرك فيمن يعاملك بالمطامع ويثيبك على مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة ولا تجف الناس بالجملة ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منـه ملل ولا ضجر ولا جفاء فمتى فارقت أحداً فعلى حسنى في القول والفعل فإنك لا تدري هل أنت راجع إليه فلذلك قال الأول (ولما مضى سلم بكيت على سلم) وإياك والبيت السائر.
وكنتَ إذا حللتَ بدارِ قومٍ
رحلتَ بخزيةٍ وتركتَ عارا
واحرص على ما جمع قول القائل ثلاثة تبقي لك الود في صدر أخيك أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه واحذر كل ما بينـه لك القائل: كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم فإذا غرسته يقلعك وقول الآخر ابن آدم ذئب مع الضعف أسد مع القوة، وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره. ويحكى أن ابن المقفع خطب من الخليل صحبته فجاوبه أن الصحبة رق ولا أضع رقي في يديك حتى أعرف كيف ملكتك واستمل من عين من تعاشره وتفقد في فلتات الألسن وصفحات الأوجه ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن لا تبينـه فإن الكلام سلاح السلم وبالأنين يعرف ألم الجرح واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية يجعلها نـهاية لك.
وخذْ من الدّهر ما أتاك به
من قرّ عيناً بعيشـه نفعه
غذ الأفكار تجلب الهموم وتضاعف الغموم وملازمة القطوب عنوان المصائب والخطوب يستريب بـه الصاحب ويشمت العدو والمجانب ولا تضر بالوساوس إلا نفسك لأنك تنصر بها الدهر عليك، ولله درون القائل:
إذا ما كنتَ للأحزان عوناً
عليك مع الزمان فمن تلوم
مع انـه لا يرد عليك الغائب الحزن ولا يرعوي بطول عتبك الزمن.
ولقد شاهدت بغرظ ناطة شخصاً قد ألقته الهموم وعشقته الغموم ومن صغره إلى كبره لا تراه أبداً خلياً من فكرة حتى لقب "بصدر الهم" ومن أعجب ما رأيته منـه أنـه يتنكد في الشدة ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج ويتنكد في الرخاء خوفاً من أن لا يدوم. وينشد: "توقع زوالاً إذا قيل تم" وينشد "وعند التناهي يقصر المتطاول".
وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب ومثل هذا عمره محسور يمر ضياعاً، ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العالم ما تحسنـه حسداً لك وقصداً لتصغير قدرك عندك وتزهيداً لك فيه فلا يحملك ذلك على أن تزهد في علمك وتركن إلى العلم الذي مدحوه فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلمـه فصعب عليه ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه فبقي مخبل المشي كما قيل:
إن الغراب وكان يمشي مشيةً
فيما مضى من سالف الأجيال
حسدّ القطا وأرادَ يمشي مشيها
فأصابه ضربٌ من العقَّال
فأضلَّ مشيته وأخطأ مشيها=فلذلك كنَّوهُ أبا مرقال ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزمان وأهله ويقول ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل ولا مكان يرتاح فيه فإن الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممن صحبه الحرمان واستحقت طلعته للهوان وأبرموا على الناس بالسؤال فمقتوهم وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها فاستراحوا إلى الوقوع في الناس وأقاموا الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم ولا تزل هذين البيتين من فكرك.
لنْ إذا ما نلتَ عزَّا
فأخو العزّ يلين
فإذا نابكَ دهرٌ
فكما كنتَ تكون
والأمثال تضرب لذب اللب الحكيم وذوا البصر يمشي على الصراط المستقيم والفطن يقنع بالقليل ويستدل باليسير والله سبحانـه خليفتي عليك لا رب سواه.
"وصية هارون الرشيد لمعلم ولده الأمين"
يا احمر: إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مـهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمـه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته بتعظيم بني هاشم إذا دخلوا عليم ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنـه فتميت ذهنـه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقومـه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة.
"ومن وصية ابن شداد لابنـه"
عليك بتقوى الله العظيم وليكن أولى الأمور شكر الله وحسن النية في السر والعلانية فإن الشكور يزداد والتقوى خير زاد وكن كما قال الحطيئة:
ولستُ أرى السّعادةَ جمعَ مالٍ
ولكنّ التّقيّ هو السّعيدُ
وتقوى الله خير الزّاد ذخراً
وعندَ الله للأتقى مزيدُ
ثم قال: أي بني لا تزهدن في معروف فإن الدهر ذو صروف والأيام ذات نوائب على الشاهد والغائب فكم من راغب قد كان مرغوباً إليه وطالب أصبح مطلوباً ما لديه: واعلم أن الزمان ذو ألوان ومن يصحب الزمان يرى الهوان.
ثم قال: أي بني كن جواداً بالمال في موضع الحق. بخيلاً بالأسرار عن جميع الخلق فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر وأن أحمد بخل الحر الضن بمكتوم السر وكن كما قال قيس بن الخطيم:
أجودُ بمكنون التِّلاد وإنّني
بسرّك عمّن سالني لضنينُ
إذا جاوزَ الإثنين سرُّ فإنـه
بنث وتكثير الحديث قمين
وعندي له يوماً إذا ما ائتمنتني
مكانٌ بسوداء الفؤاد مكين
ثم قال: أي بني وإن غلبت يوماً على المال فلا تدع الحيلة على حال فإن الكريم يحتال والدنيء عيال وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالاً أقل ما تكون في الباطن مالاً فإن الكريم من كرمت طبيعته وظهرت عند الأنفاذ نعمته.
ثم قال: أي بني وإن سمعت كلمة من حاسد فكن كأنك لست بالشاهد فإنك إن أمضيتها حيالها رجع العيب على من قالها وكان يقال الأريب العاقل هو الفطن المتغافل.
"وصية بعض نساء العرب إلى ابنـها وقد أراد السفر"
قال أبان بن تغلب وكان عابداً من عباد أهل البصرة شـهدت أعرابية وهي توصي ولداً لها يريد سفراً وهي تقول له.
أي بني أجلس أمنحك وصيتي وبالله توفيقك فإن الوصية أجدى عليك من كثير عقلك. فقال أبان فوقفت مستمعاً لكلامـها مستحسناً لوصيتها فإذا هي تقول. أي بني إياك والنميمة فإنـها تزرع الضغينة وتفرق بين المحبين وإياك والتعرض للعيوب فتتخذ غرضاً وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام. وقلما اعتورت السهام غرضاً إلا كلمته حتى يهي ما اشتد من قوته. وإياك والجود بدينك والبخل بمالك. وإذا هززت فاهزز كريماً يلن لهزتك ولا تهزز اللئيم فإنـه صخرة لا ينفجر ماؤها ومثل لنفسك مثال ما استحسنت من غيرك فاعمل بـه وما استقبحت من غيرك فاجتنبه فإن المرء لا يرى عيب نفسه ومن كانت مودته بشره وخالف ذلك منـه فعله كان صديقه منـه على مثل الريح في تصرفها، والغدر أقبح ما تعامل بـه الناس بينـهم ومن جميع الحلم والسخاء فقد أجاد الحلة ريطتها وسربالها.
الفصل الثاني عشر في رسائل التنصل والتبرؤ
"كتب أبو الحسن علي بن الرومي المتوفي سنة 284ه? إلى القاسم بن عبيد الله"
ترفع عن ظلمي إن كنت بريئاً وتفضل بالعفو إن كنت مسيئاً فو الله إني لأطلب عفو ذنب لم اجنـه وألتمس الإقالة مما لا أعرفه لتزداد تطوالاً وأزداد تذللاً وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واش يكيدها وأحرسها بوفائك زمن باغ يحاول إفسادها وأسأل الله تعالى أن يجعل حظي منك بقدرودي لك ومحلي من رجالك بحيث استحق منك.
"وكتب أبو الوليد بن زيدون المتوفي بأشبيلية سنة 463ه?"
يا مولاي وسيدي الذي ودادي له واعتمادي عليه واعتدادي بـه وامتدادي منـه ومن أبقاه الله ماضي حد العزم وأرى زند الأمل ثابت عهد النعمة إن سلبتني أعزك الله لباس نعمائك وعطلتني من حلى إيناسك وأظمأتني إلى برود إسعافك ونفضت بي كف حياطتك وغضضت عني طرف حمايتك بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك وسمع الأصم ثنائي عليك وأحس الجماد باستحمادي إليك.
فلا غزو قد يغض الماء شاربه ويقتل الدواء المستشفى بـه ويؤتى الحذر من مأمنـه وتكون منية المتمني في أمنيته والحين قد يسبق جهد الحريص.
كلُّ المصائبِ قد تمر?ُ على الفتى
وتهون غير شماتةِ الحسَّادِ
وإني لأتجلد وأرى للشامتين أني لريب الدهر لا أتضعضع فأقول هل أنا إلا يد أدماها سوارها وجبين عض بـه إكليله ومشرفي ألصقه بالأرض صاقله وسمـهري عرضه على النار مثقفه وعبد ذهب بـه سيده مذهب الذي يقول:
فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازماً
فليقسُ أحياناً على من يرحمُ
هذا العتب محمود عواقبه وهذه النبوة غمرة ثم تنجلي وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشع ولن يربيني من سيدجي إن أبطأ سبييه أو تأخر غير ضنين غناؤه فأبطأ الدلاء فيضاً أملؤها وأثقل السحائب مشياً أحفلها وأنفع الحيا ما صادف جدباً وألذ ال ما أصاب غليلاً ومع اليوم غد و (لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ) [الرعد: 38] له الحمد على اهتباتله ولا عتب عليه في اغتفاله.
فإن يكن الفعلُ الذي ساءَ واحداً
فأفعالهُ اللائي سررنَ ألوفُ
وأعود فأقول ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك والجهل إلي لم يأت من ورائه حلمك والتطاول الذي لم تستغرقه تطولك والتحامل الذي لم يف بـه احتمالك ولا أخلو من أن أكون بريئاً فأين عدلك أو مسيئاً فأين فضلك.
ألاَّ يكن ذبنٌ فعدلك واسعٌ
أو كان لي ذنبٌ ففضلك أوسع
فهبني مسيئاً كالذي قلت طالباً
قصاصاً فأين الأخذ يا عزّ بالفضل
حنانيك قد بلغ السيل الزبى ونالني ما حسبي بـه وكفى وما أراني إلا لو أمرت بالسجود لآدام فأبيت واستكبرت.
وقال لي نوح اركب معنا فقلت سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وأمرت ببناء صرح لعلي أطلع إلى إله موسى وعكفت على العجل واعتديت في السبت وتعاطيت فعقرت وشربت من النـهر الذي ابتلى بـه جيوش طالوت وقدت الفيل لأبرهة وعاهدت قريشاً على ما في الصحيفة وتأولت في بيعة العقبة واستنفرت إلى العير ببدر وانخذلت بثلث الناس يوم أحد وتخلفت عن صلاة العصر في بني قريظة وجئت بالإفك على عائشة الصديقية وأنفت عن إمارة أسامة وزعمت أن خلافة أبي بكر كانت فلتة ورويت رمحي من كتيبة خالد ومزقت الأديم الذي باركت يد الله عليه وضحيت بأشمط عنوان السجود بـه وبذلت لقطام.
ثلاثة آلافٍ وعبدٌ وقينةٌ
وضربُ عليّ بالحسامِ المسمَّمِ
وكتبت إلى عمر بن سعد أن جعجع بالحسين وتمثلت عندما بلغني من وقعة الحرة.
ليت أشياخي ببدرٍ شـهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
ورجمت الكعبة وصلبت العائذ على الثنية لكان فيما جرى علي ما يحتمل أن يكون نكالاً ويدعى ولو على المجاز عقابا.
وحسبك من حادث بازمرئٍ
ترى حاسديهِ له راحمينا
فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح ونبأ جاء بـه فاسق وهم المـهمازون المشاؤون بنميم والواشون الذين لا يلبثون أن يصدعوا العصا والغواة الذين لا يتركون أديماً صحيحاً والسعاة الذين ذكرهم الأحنف بن قيس فقال ما ظنك بقوم الصدق محمود إلا منـهم.
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً
وليسَ وراءَ الله للمرءِ مذهبُ
والله ما غششتك بعد النصيحة ولا انحرفت عنك بعد الصاغية إليك ولا نصبت لك بعد التشيع فيك ولا أزمعت يأساً منك مع ضمان تكلفت بـه الثقة عنك وعهد أخذه حسن الظن عليك ففيم عبث الجفاء بأذمتي وعاث العقوق في مواتى وتمكن الضياع من وسائلي ولم ضاقت مذاهبي وأكدت مطالبي وعلام رضيت من المركب بالتعليق بل من الغنيمة بالإياب وأنى غلبني المغلب وفجر على العاجز الضعيف ولطمتني غير ذات سوار.
ومالك لم تمنع من قبل أن أفترس وتدركني ولما أمزق.
أم كيف لا تضطرم جوانح الأكفاء حسداً لي على الخصوص بك وتنقطع أنفاس النظراء منافسة لي على الكرامة فيك وقد زانني اسم خدمتك وزهاني وسم نغمتك وأبليت البلاء الجميل في سماطك وقمت المقام المحمود على بساطك.
ألستُ الموالى فيك غرّ قصائد
هي الأنجمُ اقتادت مع الليلي أنجما
ثناءٌ يظلُّ الروض منـه منوراً
ضحّى ويخال الوشى فيه منمنما
وهل لبس الصباح إلا برداً طرزته بفضائلك وتقلدت الجوزاء إلا عقداً فصلته بمآثرك واستملى الربيع إلا ثناء أملأته في محاسنك وبث المسك إلا حديثاً أذعته في محامدك (ما يوم حليمة بسر) وإن كنت لم أكسك سليباً ولا حليتك عطلاً ولا وسمتك غفلاً بل وجدت آجراً وجصاً فبنيت ومكان القول ذا سعة فقلت حاشا لك أن أعد من العاملة الناصية وأكون كالذبابة المنصوبة تضيء للناس وهي تحترق (فلك المثل الأعلى) وهو بك وبي وفيك أولى ولعمرك ما جهلت أن (صريح الرأي) أن أتحول إذا بلغتني الشمس (وبنا بي المنزل) واصفح عن المطامع التي تقطع أعناق الرجال فلا (استوطئ العجز) ولا أطمئن إلى الغرور. ومن الأمثال المضروبة: خامري أم عامري.
وإني مع المعرفة أن الجلاء سباء والنقلة مثلة.
ومن يغتربْ عن قومـه لم يزل يرى
مصارعَ مظلوم مجرا مسحبا
ويدفن منـه الصالحات وإن يسيء
يكن ما أساء النار في راس كبكبا
عارف أن الأدب الوطن لا يخشى فراقه والخليط لا يتوقع زياله والنسيب لا يخفى والجمال لا يجفى.
ثم ما قران السعد بالكواكب أبهى أثراً ولا أثنى خطراً من اقتران غنى النفس بـه وانتظامـها نسقاً معه فغن الحائز لهما الضارب بسهم فيهما "وقليل ما هم" أينما توجه ورد منـهل بر وحط في جناب قبول وضوحك قبل إنزال رحلة وأعطى حكم الصبي على أهله.
وقيلَ له أهلاً وسهلاً ومرحبا
فهذا مبيتٌ صالحٌ ومقيل
غير ان الوطن محبوب والمنشأ مألوف واللبيب يحن إلى وطنـه النجيب إلى عطنـه والكريم لا يجفوا أرضاً بها قوابله ولا ينسى بلداً فيها مراضعه، قال الأول:
أحبّ بلادَ الله ما بين منعجٍ
إليّ وسلمى أن يصوبَ سحابها
بلاد بها حلّ الشّباب تمائمي
وأوّل أرضٍ مسّ جلدي ترابها
هذا إلى مغالاتي بعقد جوارك ومنافستي بلحظة من قربك واعتقادي أن الطمع في غيرك طبع والغنى ممن سواك عناء والبدل منك أعور والعوض لفاء وكل الصيد في جوف الفرا.
وإذا نظرتُ إلى أميري زادني
ضنَّا بهِ نظري إلى الأمراء
وفي كل شجر نار وأستمجد (المرخ والعهفار) فما هذه البراءة ممن يتولاك والميل عمن لا يميل عنك وهلا كان هواك فيمن هواه ورضاك فيمن رضاه لك.
يا من يعزُّ علينا أن نفارقهم
وجداننا كلَّ شيء بعدكم عدمُ
أعيذك ونفسي من أن أشيم خلباً وأستمطر جهاماً وأكدم في غير مكدم وأشكو شكوى الجريح إلى الغربان والزخم فما أبسست لك إلا لتدر ولا حركت لك الحوار إلا لتحن ولا نبهتك إلا لأنام.
ولا سريت إليك إلا لأحمد السرى لديك.
وإنك إن سنيت عقد أمري تيسر ومتى أعذرت في فك أسري لم يتعذر وعلمك محيط بأن المعروف ثمرة النعمة والشفاعة زكاة المروءة وفضل الجاه يعوذ بـه صدقه.
وإذا امرؤٌ أهدى إليك صنيعةً
من جاهله فكأنّهامن ماله
لعلي ألقي العصا بذارك وتستقر بي النوى في ظلك وأستأنف التأديب بأدبك والاحتمال على مذهبك فلا أوجد للحاسد مجال لحظة ولا أدع للقادح مساغ لفظه.
والله ميسرك من إطلابي بهذه الطلبة وإشكائي من هذه الشكوى بصنيعة تصيب منـها مكان المصنع وتستودعها أحفظ مستودع حسبما أنت خليق له وأنا منك حري بـه وذلك بيده وهين عليه.
?مكاتبات متفرقة
"كتب الدولة العلية العثمانية إلى إحدى الدول الأوروبية"
أيها الوزير الأفخم: إن لفظة (تقسيم تركيا) إفك لا يفوه بـه عاقل ولا يتصوره إنسان تكاد تنفطر له السماء دهشة وترتج له الأرض وحشة بل تخر دونـه الجبال وتنفك عنده الآمال كأن أوروبا تستطيعه ولكنـها لم تفعله: ولن تفعله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فقل: (اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 26] تقسم تركيا كلمة ليست اكبر من أوروبا فقط بل هي أكبر من منظومة هذا العالم الشمسي الذي تراه أو تسمع بـه إن كنت لا تراه فلا يليق أن يفوه بـه إلا فم القدرة الإلهية (قَآئِمٌ عَلَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الرعد: 33] (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَىَ أَمْرِهِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21] تقسيم تركيا ربما يكون ولكن متى يكون؟ يكون حينما يتحلى وجه البسيطة بدمائنا الطاهرة الزكية يوم ترى الأرض لابسة تلك الحلة الأرجوانية الثمينة حيث تتمشى الدماء على فيروزج الفضاء محاطة كواكب الوجود بكتائب جنود العدم المطلق: لا أرض لمن تقل ولا سماء لمن تظل ولا قائم موجود ولا دائم مقصود، هنالك تتحدث شياطين الخيال في أندية المحال بحديث ذلك التقسيم المشؤوم ولا من سميع ولا من مجيب فالويل ثم الويل يوم ذلك التقسيم الموهوم والثبور ثم الثبور إذا تنزلت السماء بقضاء ذلك الهول المقسوم: إن في
ذلك لبلاغاً يتفكرون.
"وكتب ابن العميد المتوفى سنة 360ه? في شكر صديق له على مراسلته إياه"
وصل ما وصلتني بـه جعلني الله فداك من كتابك بل نعمتك التامة ومنتك العامة فقرت عيني بوروده وشفيت نفسي بوفوده ونشرته فحكى نسيم الرياض غب المطر وتنفس الأنوار في السحر وتأملت مفتتحه وما اشتمل عليه من لطائف كلمم وبدائعه حكمك فوجدته قد تحمل من فنون البر عنك و ضروب الفضل منك جداً وهزلاً ملأ عيني وغمر قلبي وغلب فكري وبهر لبي فبقيت ا أدري أسموط درون خصصتني بها أم عقود جوهر منحتنيها ولا أدري أجدك أبلغ وألطف أم هزلك أرفع وأظرف وأنا أوكل بتتبع ما انطوى عليه نفساً لا ترى الحظ إلا ما اقتنته منـه ولا تعد الفضل إلا فيما أخذته وأمتع بتأمله عيناً لا تقر إلا بمثله مما يصدر عن بدك ويرد من عندك وأعطيه نظراً لا يمله وطرفاً لا يطردونـه، وأجعله مثالاً أرتسمـه وأحتذيه وأمتع خلقي برونقه وأعذي نفسي ببهجته وأمزج قريحتي برقته وأشرح صدري بقراءته ولئن كنت عن تحصيل ما قلته عاجزاً وفي تعديد ما ذكرته متخلفاً لقد عرفت أن ما سمعت بـه منـه السحر الحلال.
"وكتب السيد توفيق البكري في سفراه إلى الآستانة العلية"
كتابي إلى السيد الأجل وأنا أحمد الله إليه وأدعوه أن يديم النعمة والسلامة عليه، وبعد: فلما اعتزمت عى الرحلة هذا العام إلى قبة السلام ودا خلافة الإسلام وفارقت مصر وساكنـها وأرباضها ومواطنـها ركبت سفينة عدولية إلى الثغور الفرنجية فجرت في خضم عجاج ملتطم الأمواج لع دوي من جرجرة الآذي أخضر الجلد كأنـه إفرند تصطخب فيه النينان وتجري لفي جوفه الدعاميص، والحيتان إذا ما زحه الأصيل وبالعشي خلته كسرت، عليه الحلي أو مزج بالرحيق القطربلي وإن لاحت بـه نجوم السماء خلته صفائح من فضة بيضاء سمرت بمسامير صغار من نشضار وأخذت السفينة تشق عبابه وتفلق حبابه بين ريح رخاء أو زعزع هوجاء فهي تارة في طريق معبد ورةميث مسرد وطوراً فو حزن وردد أو على صرح ممرد وطان معنا في الفلك رهط من العرب والترك فكنا نتوار د معهم جوائب الأخبار وطرف الأحاديث والأسمار ما يزري بالمنـهل العذب واللؤلؤ الرطب إلى أن يميل ميزان وتغرق ذكاء في البحار ويمسي الكون من السواد في لبوس حديد أو لباس حداد وتبرق ونجوم السماء في أكناف الظلماء كأنـها سكاك دلاص أو فلق رصاص أو عيون جراد أو جمر في خلال رماد أو درون في بحر أو ثقوب في قبة الديجور يلوح منـها النور ويبدو الهلال كأنـه خنجر من ضياء يشق طياليس الظلماء أو قلادة أو دنملج غادة أو سنان لواه الضراب أو الليل فيل وهو ناب فنأخذ مجلساً نسمـه الكافور وأرضه عنبر مذور رقمت فيه زرابي مثبوتات ومنابذ وحسبانات وأنماط مفروشة وأبسط منقوشة.
بسط أجادَ الرسمَ صانعها
وزها عليه النقشُ والشكلُ
فيكاد يقطف من أزهارها
ويكاد يسقط فوقها النحلُ
وحوله شموع تزهر وأضواء تبهر وقد دارت عليه سقاة جماع الثريا بأقداح الحميا وأكواب الفانيذ المروق وقوارير الجلاب المصفق ثم تجيء قينة في يدها ناي كأنـه صور إسرافيل يحيي الرفات وينشر الأموات حتى إذا بدا الضياء كابتسام الشفة اللمياء دخلنا المضجع لنـهجع وهلّم جراً في أيامنا الأخرى إلى أن وطئنا أرض القوم بعد ثلاثة أيام وبعض يوم فلما أضحت مرأى عين كبرنا تكبر ابن الحسين.
كبرتُ حول ديارهم لما بدت
منـها الشموس وليس فيها المشرق
وراقنا ما رأينا من عمران وحضارة ورفهينة وشارة وزراعة وصناعة وتجارة وضخامة وسلكان بنيان وجواد كالأودية بين الأطواد وكأنما الناس في المدينة احتفلوا ليوم الزينة أو هم لكثرة الحركة منـهزموا معركة ىفيهم غادون ورائحون زرافات ووحداناً إناثاً وذكراناً وقد لبثنا في تيك البلدان هنيهة من الزمان نتقلب في جنباتها ونتنقل في أنحائها وجهاتها إلى أن قدمنا القسطنطينية إيوان الخلافة الإسلامية وعش الدعوة المحمدية فإذا النعيم والملك الكبير والجنةوالحرير وإذا بقعة أطيب الأرضين رقعة وأمرعها نجعة وقد اعتلت منائرها في الفضاء وحلقت قصورها بالسماء فلبست أردية الغيوم وتقلدت عقود النجوم ولاحت مقاصيرها البيضاء في أكنافها الخضراء وجرى بينـها خليج الماء فكأنـها النجوم والمجرة والسماء واكتظت نواحيها بالآثار وحشدت بالجوامع الكبار ناهيك "بأيا صوفية" وما أدراك ما "أيا صوفية" هو بنية تعلوها شرافات علية وقبة ضخمة جوفاء كأنـها قبة السماء وأرض تلك البنية كالماوية من مرمر ألاق ذي بصيص براق وافيها دعائم كل دعامة كالحق واستقامة وبها محاريب وحنايا وأقبية زوايا ومنبر كأنـه أريكة سلطان في الخورنق أو غمدان هذا وقد نزلت من كنف أمير المؤمنين وخليقة رب العالمين ىفي دار السعادة ومرع الفضل والمجاد ومطلع الجود وفل السعود وحظيرة لنع ومشعر الهمم وأقمت ضيفاً تعند السيد السند الهزبري النضد تاج آل محمد السيد فلان في عصابة من الصوابة لاعيب فيهم غير أنـهم ينسون الغريب وطنـه وحامته وسكنـه لهم أعراق عربية وأخلاق هاشمية وحماس وسماح كالماء والراح ولم أكد ألقي العصا وتستقر بين النوى حتى جاءني سلام من أمير المؤمنين خلته السلام الذي ذكره في قوله تعالى: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ) [الحجر: 46].
"كتبت السيدة وردة اليازجية إلى السيدة عائشة تيمور المتوفاة سنة 1300ه?"
سيدتي ومولاتي: أعرض أنني بينما أنا ألهج بذكر ألطافكم السنية أتنسم شذا أنفاسكم العبقرية وأترقب لقاء أثر من لدنكم يتعللل بـه الخاطر ويكتحل بإثمد مداد الناظر.
وصلتني مكاتبكم فجلت العين أقذاءها وردت إلى النفس صفاءها فتناولتها بالقلب لا بالبنان وتصفحت ما في طيها من سحر البيان، فقلت:
هذا الكتابُ الذي هامَ الفؤاد به
يا ليتني قلمٌ لفي كفّ كاتبه
ولعمري إنـه كتاب حوى بدائع المنثور والمنظوم وتحلى من درر الفصاحة فأخجلت لديه دراي النجوم وقد تطفلت على مقالكم العالي بهذا الجواب ناطقاً بتقصيري وضمنته من مدح سجاياكم الغراء وما يشفع لدى مكارمكم في قبو معازيري لا زلتم للفضل معهدناً وذخر اً وللأدب كنزاً وفخراً.
?"وكتبت السيدة عائشة تيمور إلى السيدة وردة اليازجية المتوفاة سنة 1313ه?"
استهل براعة سلام مل الشوق وتقلد الشقق ما نشقت ناشقة عف الوداد كفالته ورضيت المجال في صدق المقال لنطق بخالص الوفاء مداد حروفه وأقام بأداء التحية العاطرة قبل فض ختام مظروفه ولعمري قد توجته أزهار الثناء بلآلئ غراء كللته زواهر الوفاء من خالص الوداد إلى حضرة من لا تزال تستروح الأسماع بنسيم أنبائها صباح مساء، وتتشوق الأرواح إلى استطلاع بدر إنسانـها الكامل أطرافاً وآناء، ومما زادني شوقاً إلى شوق حتى لقد شبّ فيه طفل الشفق تعن الطوق اجتلائي حديقة "الورد" القدسية ونافجة الأدب المكية فيالها من حديقة رقمتها أحداق الأذهان فاقتبست نوراً وانشقتها مسام الآذان فثملت طرباً وسروراً ومنذ سرحت في أرجاء تلك اليانعة إنان العيون وشرحت بأفكار البصيرة أسرار ذلك الدر المصون لم أزل بين طرب أتوشح وأدب أتعجب من حسن اختتامـه وافتتاحه وجعلت أغازل من نرجس تلك الروضة تعيوناً ملكت مني الحواس وهصرت من غصون ألفاتها كل ممشوق أهيف مياس وأتأدب في حضرة وردها خوفً من شوكة سلطانـها وأن حياتي بجميل الالتفات ضاحكة عن نفس جماثة وإذا بالياسمين الغض قد ألقى نفسه على الثرى ونادى بلسان الإفصاح هل لهذه النضرة نظيرة يا ترى فأشار المنثور بكفه الخضيب أن لا نظير لتك الغادة ونطق الزنبق بلسان البيان لا تكتموا الشـهادة فعد ذلك صفق الطير بأكف الأجنحة وبشر وجرى الماء لإذاعة نبأ السرور فعثر بذيل النسيم وتكسر وتمايل أغصانـها المورقة لسماع هذا الحديث وأخذت نسماتها العاطرة في السير الحثيث إذاعة لتلك البشائر في العشائر ونشراً لهذه الفضائل التي سارت مسير المثل السائر فقلت بلسان الصادق الأمين بعد تحقق هذا النبأ اليقين هكذا وهكذا تكون الحديقة وإلا وكذلك كذلك لتكتب الفضائل وتملي.
وحدثني يا سعد عنـهم فزدتني
غراماً فزدني من حديثك يا سعدُ
فتحمل عني أيها الصديق تحية إلى ربة هاتيك الحديقة واشرح لديها حديث شغفي بفضلها الباهر على الحقيقة وأعتذر عن كتابي هذا فقد جاء يمشي على استحياء وكلما حركة الشوق يبطئه الحياء وكيف وقد حل في منيع الفضائل والمقام الذي لم يدع مقالاً لقائل فكأني إما أهدي الثمر إلى هجر وأمنح البحر الخضم بالمطر أدام الله معالي تلك الحضرة وزادها في كل حال بهجة ونضرة ما لاح جبين وبلغ غاية الكمال.
?"وكتب السيد عبد الله النَّدي المتوفى سنة 1314ه?"
أستاذي وقدوتي وملاذي وعمدتي، ربيت فأحسنت وغذيت فأسمنت مؤدباً ليثا ولنت فسودت وجدت فعودت مـهذباً غيثاً وعلمت فأفهمت وأشرت فألهمت غرض سهمك وقد نلت ما أملت فيمن تعليه عولت حسن فهمك.
غلامك الشـهيرُ بالنّديم
منْ صار في البيان كالنّسيم
وكيف لا يكون لساني قوس البديع وكلامي السهم السريع وأنت باريه وراميه أم كيف لا يكون مقامي الحصن المنيع وقدري العزيز الرفيع وأنت معليه وبانيه وفوجه جمال العلم أنت غرته وإنسان عين العلم أنت قرته وحاليه وجاليه وجبين العقل أنت طرته وكتاب الفضل أنت صورته وطاليه وتاليه.
على بابك العالي من الفضل رايةٌ
على رأس أرباب المعارف تخفقُ
فعلمك جناتٌ من الفضل رايةٌ
وكلك خبراتٌ وغيثك مغدقٌ
أرى غصن من يدعو إلى الفضل نفسه
من الفضل عرياناً وغصنك مورقٌ
إذا رمت إنشاء فعن صدق فكرة
تهادى بأبكار وغيرك يسرق
"وكتب أيضاً في التوادد"
بينما أنا راكب لجة بحر الفكر مجد في طلب فريدة بكر تارة أغوص ومرة أسبح وآونة أقف وطوراً أصفح لا يقر لي قرارا ولا يمكنني الفرار ولا يقصر عن طرح شباكي ذراعٌ ولا يطوى لسفينتي شراع كلما أدركني الملل هاجت عليّ رياح الأمل حتى دخلت في بحر عجاج متلاطم الأمواج فاقتحمت هذا المركب الصعب وتهت بين الجزائر والشعب فتعلقت أفكاري بالسواري والحبال وبت بليلة نجومـها كواحل لا يرى فيها بر ولا سواحل وقلت اشتداد الأمر يستدعي ضده ولا يأتي الفرج إلا بعد الشدة، وعينيك ما سل سيفها على مفرق مساها حتى سمعت (بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) [هود: 41] فكان من تمام حظي وسعودي أن تركت لجنة اليم (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ ) [هود: 44] وتنصرف خوفي وارتباكي وبادرت بطرح شباكي فإذا هي قد ملئت بأص الجوهر وعلقت بها شجرة العنبر فتفتح الصدف عن درون يستخدم الأقمار وفاح العنبر بما أذهب شذى الأزهار.
وصرت ما بينـها كسرى الزمان له
شمسٌ تنادمـه في مجلس عطر
ونلت أقصى أمان كنت آملها
الأنس في خلدي والنور في نظري
ولما جلوت الطرف بما فيها من الظرف ووقعت ندي الموقع الحسن أردت أن أسومـها بثمن فإذا هي درة يتيمة لا يقدر لها أحد على قيمة فاستهديتها من ربها لشغفي بحبها وجعلت القلب لها كنزاً والفؤاد لها حرزاً ألا وهي محة العزيز الحافظ أبدع مرئي وأبلغ لافظ.
"وكتب إبراهيم بك المويلحي المتوفى سنة 1323 يعزي محمود باشا البارودي"
أنت فوق أن تعزى عن الأحبا
ب فوق الذي يعزيك عقلا
وبألفاظك اهتدي فإذا عزا
ك قال الذي له لت قبلا
وقتلت الزمان علماً فما يغ
رب قولاً ولا يجدد فعلا
نعم إن يا "محمود" الخصال و"سامي" الفعال لأنت الشـهم المجرب لصروف الحدثان والعالم الخبير بأحوال الزمان قد أعددت لنوازل المقدور نزلاً من الصبر المأجور وصرفت ضيف الشجون والهموم إلى قرى الفضائل العلوم وأخذت من المصاب العظيم بسيرة ذاك الفيلسوف الحكيم بين هو جالسٌ يوماً في الدرس بين تلاميذه إذ جاءه من أخبره بأن ابنـه الوحيد مات وهو رطب الشباب غض العمر فلم يتوله الفزع ولم يظهر عليه الاضطراب ولم يبد على وجهه الكدر وما زاد على أن استرجع واستمر في قراءة درسه كما كان فلما انتهى منـه بادر أحد الحاضرين من أصحابه ممن حيرتهم الدهشة في أمره ويسأله كيف لم يسله الحزن ثوب الثبات برهة مفاجأته بالخبر فقال له: "لو فاجأتني النازلة على غرة مني لجزعت وحزنت ولكني ما وزلت أقدر لابني منذ يوم ولادته حلول أجله كل يوم من أيام حياته ولمثل هذا اليوم كنت أعده من زمان طويل وكان كلما مضى عام من أعوام اعتبرته خلسة اختلسها من الدهر حتى مضى على هذه العارية عشرون عاماً فشكري لله اليوم على أن أبقاها في يدي و لهذه المدة يوم مقام الحزن عند غير لدى استرداها" وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة قلبه فيقولون نعم فيقول الله تعالى ماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد" وأنت يا محمود صلوات الله عليك ورحمته لقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ {155} الّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنّا للّهِ وَإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مّن رّبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155 157] أول من يمثل لحكم القضاء ويسترجع عنـه نزول
البلاء ويعمل بأدب الدين في التجلد والتصبر ويأخذ بسيرة الحكماء في التدبر والتبصر.
ومن كان ذا نفس كنفسك حرة
ففيه لها مغنٍ وفيها له مسلْ
لقراءة تتمة الكتاب (الجزء الأول من جواهر الأدب)
[انشا در مورد اشباح]نویسنده و منبع | تاریخ انتشار: Tue, 29 Jan 2019 16:23:00 +0000