قد الوان زاده

قد الوان زاده العشر الأواخر من رمضان - khutabaa.com | عربی | پژوهشـهای ایرانی.دریـای پارس. | المنبر - استمتع بالخطب - تفصيل الخطبة | الكتاب : بستان الواعظين ورياض السامعين | كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر 3 |

قد الوان زاده

العشر الأواخر من رمضان - khutabaa.com

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فها هي أيام رمضان تسارع مؤذنة بالانصراف والرحيل، قد الوان زاده وها هي أيام العشر تحل لتكون الفرصة الأخيرة لمن فرط في أول الشـهر، أو لتكون التاج الخاتم لمن أصلح ووفى فيما مضى.

أيها الأحبة: قد الوان زاده العشر الأخيرة من شـهر رمضان سوق عظيم يتنافس فيه المتنافسون، وموسم يضيق فيه المفرّطون، وامتحان تبتلى فيها الهمم، ويتميز أهل الآخرة من أهل الدنيا، طالما تحدث الخطباء وأطنب الوعاظ وأفاض الناصحون بذكر فضائل هذه الليالي، ويستجيب لهذا النداء قلوب خالطها الإيمان، فسلكت هذه الفئة المستجيبة طريق المؤمنين، وانضمت إلى قافلة الراكعين الساجدين، واختلطت دموع أصحابها بدعائهم في جنح الظلام، وربك يسمع ويجيب، وما ربك بظلام للعبيد. قد الوان زاده أما الفئة الأخرى فتسمع النداء وكأنـه لا يعنيها، وتسمع المؤمنين وهم يصلون في القيام لخالقهم وكأنـه ليس لهم حاجة، بل كأنـهم قد ضمنوا الجنة.

فهل يتأمل الشاردون؟! وهل يعيد الحساب المفرطون؟!

أيها المسلمون: هذه أيام شـهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تتقضَّى، شاهدة بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة ومستودعات محفوظة، تدعون يوم القيامة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ، ينادي ربكم: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

هذا هو شـهركم، وهذه هي نـهاياته، كم من مستقبل له لم يستكمله، وكم من مؤمل أن يعود إليه لم يدركه.

هلا تأملتم الأجل ومسيره، وهلا تبينتم خداع الأمل وغروره.

أيها المسلمون: إن كان في النفوس زاجر وإن كان في القلوب واعظ فقد بقيت من أيامـه بقية، بقيةٌ وأي بقية؟!

إنـها عَشْرُهُ الأخيرة، بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء.

في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر، هجر فراشـه، أيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي -رضي الله عنـهما- قائلاً: "ألا تقومان فتصليان؟!".

ويتجه إلى حجرات نسائه آمرًا وقائلاً: "أيقظوا صواحب الحجر، فرُبَّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة".

كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا بقي من رمضان عشرة أيام لا يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامـه، ولقد كان السلف الصالح من أسرع الناس امتثالا واتباعا للنبي، ففي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طـه: 132].

وقال سفيان الثوري -رحمـه الله تعالى-: "أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجّد بالليل ويجتهد فيه وينـهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك".

وكانت بعض نساء السلف الصالح تقول لزوجها بالليل: "قد ذهب الليل، وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت أمامنا ونحن قد بقينا".

أيها المسلمون: اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، لا تضيعوا فرصة في غير قربة.

إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع، ولكن الخوف بترك ما يخاف منـه العقوبة.

أيها الأحبة: قدموا لأنفسكم وجدوا وتضرعوا، تقول عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنـها-: يا رسول الله، أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني".

عُجُّوا -رحمكم الله- في عشركم هذه بالدعاء، فقد قال ربكم عز شأنـه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].

أتعلمون من هؤلاء العباد؟ الخلائق كلهم عباد الله، ولكن هؤلاء عباد مخصوصون، إنـهم العباد من أهل الدعاء، عباد ينتظرون الإجابة، إنـهم السائلون المتضرعون، سائلون مع عظم رجاء، ومتضرعون في رغبة وإلحاح: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)[البقرة: 186].

إن للدعاء شأنًا عجيبًا، وأثرًا عظيمًا، في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل، والتوفيق في الأعمال، والبركة في الأرزاق.

أرأيتم هذا الموفق الذي أدركه حظه من الدعاء، ونال نصيبه من التضرع والالتجاء، يلجأ إلى الله في كل حالاته، ويفزع إليه في جميع حاجاته، يدعو ويدعى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفان وأبناؤه البررة والناس من حوله كلهم يحيطونـه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحَسُن منـه الخلُق وزان منـه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسُن تدعو له وتحوطه، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق.

أين هذا من محروم مخذول لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه؟!

محروم سد على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.

أيها الإخوة: إن نزع حلاوة المناجاة من القلب أشد ألوان العقوبات والحرمان، ألم يستعذ النبي –صلى الله عليه وسلم- من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع؟!

إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجُّون إلى ربهم بالدعاء يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابًا واحدًا هو باب السماء، باب مفتوح لا يغلق أبدًا، فتحه من لا يرد داعيًا، ولا يخيب راجيًا، فهو غياث المستغيثين، وناصر المستنصرين، ومجيب الداعين.

أيها المجتهدون: يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة، وأحوال شريفة: العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه، فأين المتنافسون؟! فاجتهدوا بالدعاء -رحمكم الله-، سلوا ولا تعجزوا، ولا تستبطئوا الإجابة، فيعقوب -عليه السلام- فَقَدَ ولده الأول ثم فقد الثاني في أزمنة متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقًا: (عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف: 83].

ونبي الله زكريا -عليه السلام- كبر سنـه، واشتعل بالشيب رأسه، ولم يزل عظيم الرجاء في ربه، حتى قال محققًا: (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)[مريم: 4].

لا تستبطئ الإجابة -يا عبد الله-، فربك يحب تضرعك وصبرك ورضاك بأقداره، رضًا بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال نبينا: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي".

أيها الإخوة: ويجمل الدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترن بالاعتكاف، فقد اعتكف رسول الله هذه الأيام حتى توفاه الله.

عجيب هذا الاعتكاف في أسراره ودروسه! المعتكف ذكرُ الله أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجاة الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته. قد الوان زاده إذا أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم لازم هذا المعتكف بيت ربه وحبس من أجله نفسَه، ويقف عند أعتابه يرجو رحمته ويخشى عذابه، لا يطلق لسانـه في لغو، ولا يفتح عينـه لفحش، ولا تتصنت أذنـه لبذاءٍ، سلم من الغيبة والنميمة، جانب التنابز بالألقاب والقدح في الأعراض، استغنى عن الناس وانقطع عن الأطماع، علم واستيقن أن رضا الناس غاية لا تدرك.

في درس الاعتكاف انصرف المتعبد إلى التفكير في زاد الرحيل، وأسباب السلامة، السلامة من فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول المخالطة.

في مدرسة الاعتكاف يتبين للعابد أن الوقت أغلى من الذهب، فلا يبذله في غير حق، ولا يشتري بـه ما ليس بحمد، يحفظه عن مجامع سيئة، بضاعتها الغيبةُ والنميمة.

أيها المسلمون: أوقاتكم فاضلة تشغل بالدعاء والصلاة وقراءة القرآن وذكر الله وغيرها من العبادات، وتستغل فيها فرص الخير، وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلة القدر: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)[القدر: 2].

من قامـها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ليلة خير من ألف شـهر، خفي تعيينـها اختبارًا وابتلاء، ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جدّ في طلبه، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه. إنـها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء، وشقاء الأشقياء: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدخان: 4].

ولا يهلك على الله إلا هالك.

فيا ليلة القدر للعابدين اشـهدي، يا أقدامَ القانتين اركعي لربك واسجدي، يا ألسنة السائلين جِدِّي في المسألة واجتهدي.

يـا رجـال الليل جدوا *** ربَّ داع لا يــرَدّ

مـا يقـوم اللـيل إلا *** من له عـزم وجِـدّ

فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعملوا وجدّوا وأبشروا وأملوا، قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ * خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَـائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ * سَلَـامٌ هِي حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر).

أقول قولي هذا…

الخطبة الثانية

الحمد لله عَظيمِ الشأن، ودائمِ السلطان، أحمده سبحانـه وأشكره عن جزيل الإحسان، وأشـهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشـهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، بـه علا منارُ الإسلام وارتفع البنيان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان.

أما بعد:

أيها الناس: أوصيكم بتقوى الله -عز وجل-، فإن تقوى الله خلَف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)[النحل: 128].

أيها المسلمون: أيامكم هذه أعظم الأيام فضلاً، وأكثرها أجرًا، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار! وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته! المغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتته فرَص الشـهر وفرط في فضل العشر وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرف عينـه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة، ويحه ثم ويحه أدرك الشـهر! ألم يُحْظَ بمغفرة؟! ألم ينل رحمة؟! يا بؤسه! ألم تُقَلْ له عثرة؟! ساءت خليقته وأحاطت بـه خطيئته، قطع شـهره في البطالة وكأنـه لم يبق للصلاح عنده موضع، ولا لحبّ الخير في قلبه مَنْزَع.

طال رقاده حين قام الناس، هذا والله غاية الإفلاس، عصى رب العالمين واتبع غير سبيل المؤمنين، أُمر بالصلاة فضيعها، ووجبت عليه الزكاة فانتقصها ومنعها، دعته دواعي الخير فأعرض عنـها، مسؤولياته قصّر فيها، وقصّر فيمن تحت يديه من بنين وبنات، يفرط في مسؤولياته وقد علم أن من سُنَّة نبينا أنـه يوقظ أهله، أما هذا فقد اشتغل بالملهيات وقطع أوقاته في الجلبة في الأسواق والتعرض للفتن، بل قد يأتي بعضنا إلى المسجد ويرسل ابنته وزوجته وأخته تجول في الأسواق، وتتعرض للفتنة من الفساق، حتى غدا السوق في شـهر العبادة وَكْرًا للفساد.

فاتقوا الله -رحمكم الله-، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله.

اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا، اللهم وفقنا لإدراك ليلة القدر، اللهم اجعل شـهرنا شـهر خير وبركة للإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم أعتق رقابنا من النار.




[قد الوان زاده]

نویسنده و منبع | تاریخ انتشار: Mon, 03 Sep 2018 15:37:00 +0000



قد الوان زاده

عربی | پژوهشـهای ایرانی.دریـای پارس.

  ذكر خلاف نائب السلطان ببلاد التلنك

 ولما عاد السلطان من التلنك وشاع خبر موته، قد الوان زاده وكان ترك تاج الملك نصرة خان نائبا عنـه ببلاد التلنك، وهو من قدماء خواصه، بلغه ذلك فعمل عزاء السلطان، ودعا لنفسه، وتابعه الناس بحضرة بدركوت. قد الوان زاده فبلغ خبره إلى السلطان، فبعث معلمـه قطلوخان في عساكر عظيمة، فحصره بعد قتال شديد هلك فيه أمم من الناس، واشتد الحصار على أهل بدركوت، وهي منيعة، وأخذ قطلوخان في نقبها. قد الوان زاده فخرج إليه نصرة خان على الأمان في نفسه، فأمنـه وبعث بـه إلى السلطان، وأمن أهل المدينة والعسكر.

  ذكر انتقال السلطان لنـهر الكنك وقيام عين الملك

صفحة : قد الوان زاده 245

  ولما استولى القحط على البلاد، انتقل السلطان بعساكره إلى نـهر الكنك الذي تحج إليه الهنود، على مسيرة عشرة من دهلي، وأمر الناس بالبناء، وكانوا قبل ذلك صنعوا خياما من حشيش الأرض، فكانت النار كثيرا ما تقع فيها وتؤذي الناس، حتى كانوا يصنعون كهوفا تحت الأرض، فإذا وقعت النار رموا أمتعتهم بها وسدوا عليها بالتراب. ووصلت أنا في تلك الأيام لمحلة السلطان، وكانت البلاد التي بغربي النـهر حيث السلطان شديدة القحط، والبلاد التي بشرقيه خصبة، وأميرها عين الملك بن ماهر. ومنـها مدينة عوض، ومدينة ظفر آباد، ومدينة اللكنو، وغيرها. وكان الأمير عين الملك كل يوم يحضر خمسين ألف من، منـها قمح وأرز وحمص لعلف الدواب. فأمر السلطان أن تحمل الفيلة ومعظم الخيل والبغال إلى الجهة الشرقية المخصبة لترعى هنالك، وأوصى عين الملك بحفظها. وكان لعين الملك أربعة إخوة، وهم شـهر الله ونصر الله وفضل الله، ولا أذكر اسم الآخر، فاتفقوا مع أخيهم عين الملك أن يأخذوا فيلة السلطان ودوابه، ويبايعوا عين الملك، ويقوموا على السلطان. وهرب إليهم عين الملك بالليل، وكاد الأمر يتم لهم. ومن عادة ملك الهند أنـه يجعل مع كل أمير كبير أو صغير مملوكا له يكون عينا عليه، ويعرفه بجميع حاله، ويجعل أيضا جواري في الدور يكن عيونا له على أمرائه، ونسوة يسميهن الكناسات، يدخلن الدور بلا استئذان، ويخبرهن الجواري بما عندهن، فتخبر الكناسات بذلك المخبرين، فيخبر بذلك السلطان. ويذكرون أن بعض الأمراء كان في فراشـه مع زوجته، فأراد مماستها، فحلفته برأس السلطان أن لا يفعل، فلم يسمع منـها، فبعث إليه السلطان صباحا، وأخبره بذلك، وكان سبب هلاكه.

صفحة : 246

  وكان للسلطان مملوك يعرف بابن ملك شاه، هو عين على عين الملك المذكور، فأخبر السلطان بفراره وجوازه النـهر، فسقط في يده، وظن أنـها القاضية عليه، لأن الخيل والفيلة والزرع كل ذلك عند عين الملك، وعساكر السلطان مفترقة، فأراد أن يقصد حضرته ويجمع العساكر، وحينئذ يأتي لقتاله. وشاور أرباب الدولة في ذلك. وكان أمراء خراسان والغرباء أشد الناس خوفا من هذا القائم، لأنـه هندي، وأهل الهند مبغضون في الغرباء، لإظهار السلطان لهم، فكرهوا ما ظهر له، وقالوا: يا خوند عالم، إن فعلت ذلك بلغه الخبر، فاشتد أمره ورتب العساكر، وانثال عليه طلاب الشر ودعاة الفتن، والأولى معالجته قبل استحكام قوته. وكان أول من تكلم بهذا ناصر الدين مطهر الأوهري، ووافقه جميعهم. ففعل السلطان بإشارتهم. وكتب تلك اللية إلى من قرب منـه من الأمراء والعساكر، فأتوا من حينـهم. وأدار في ذلك حيلة حسنة، فكان إذا قدم على محلته مثلا مائة فارس، بعث الآلاف من عنده للقائهم ليلا، ودخلوا معهم إلى المحلة، كأن جميعهم مدد له.وتحرك السلطان مع ساحل النـهر، ليجعل مدينة قنوج وراء ظهره، ويتحصن بها لمنعتها وحصانتها. وبينـها وبين الموضع الذي كان فيه ثلاثة أيام. فرحل أول مرحلة، وقد عبأ جيشـه للحرب، وجعلهم صفا واحدا، عند نزولهم كل واحد منـهم بين يديه سلاحه وفرسه إلى جانبه، ومعه خباء صغير يأكل بـه ويتوضأ، ويعود إلى مجلسه. والمحلة الكبرى على بعد منـهم. ولم يدخل السلطان في تلك الأيام الثلاثة خباء، ولا استظل بظلم. وكنت في يوم منـها بخبائي، فصاح بي فتى من فتياني اسمـه سنبل، واستعجلني، وكان معي الجواري، فخرجت إليه. فقال: إن السلطان أمر الساعة أن يقتل كل من معه امرأته أو جاريته، فشفع عنده الأمراء. فأمر أن لا تبقى الساعة بالمحلة أمرأة، وأن يحملن إلى حصن هنالك على ثلاثة أميال، يقال له كنبيل. فلم تبق امرأة بالمحلة، ولا مع السلطان. وبتنا تلك الليلة على تعبئة، فلما كان في اليوم الثاني رتب السلطان عسكره أفواجا، وجعل مع كل فوج الفيلة المدرعة، عليها الأبراج، فوقها المقاتلة، وتدرع العسكر، وتهيأوا للحرب. وباتوا تلك الليلة على أهبة. ولما كان اليوم الثالث، بلغ الخبر بأن عين الملك الثائر جاز النـهر، فخاف السلطان من ذلك، وتوقع أنـه لم يفعله إلا بعد مراسلة الأمراء الباقين مع السلطان، فأمر في الحين بقسم الخيل العتاق على خواصه، وبعث لي حظا منـها. وكان لي صاحب يسمى أمير أميران الكرماني من الشجعان، فأعطيته فرسا منـها أشـهب اللون. فلما حركه جمح به، فلم يستطع إمساكه، ورماه عن ظهره فمات رحمـه الله تعالى. وجد السلطان ذلك اليوم في مسيره، فوصل بعد العصر إلى مدينة قنوج، وكان يخاف أن يسبقه القائم إليها. وبات ليلته تلك، يرتب الناس بنفسه، ووقف علينا، ونحن في المقدمة مع ابن ملك فيروز، ومعنا الأمير غدا ابن مـهنا، والسيد ناصر الدين مطهر، وأمراء خراسان فأضافنا إلى خواصه وقال: أنتم أعزة علي، ينبغي أن تفارقوني. وكان في عاقبة ذلك الخير، فإن القائم ضرب في آخر الليل على المقدمة، وفيها الوزير خواجه جهان، فقامت ضجة في الناس كبيرة، فحينئذ أمر السلطان أن لا يبرح أحد من مكانـه، ولا يقاتل الناس إلا بالسيوف.

صفحة : 247

  فاستل العسكر سيوفهم، ونـهضوا إلى أصحابهم. وحمي القتال، وأمر السلطان أن يكون شعار جيشـه دهلي وغزنة. فإذا لقي أحدهم فرسا قال له: دهلي. فإن أجابه بغزنة، علم أنـه من أصحابه، وإلا قاتله، وكان القائم إنما قصد أن يضرب على موضع السلطان، فأخطأ بـه الدليل، فقصد موضع الوزير، فضرب عنق الدليل. وكان في عسكر الوزير الأعاجم والترك والخراسانيون، وهم أعداء الهنود، فصدقوا القتال. وكان جيش القائم نحو الخمسين ألفا، فانـهزموا عند طلوع الفجر. وكان الملك إبراهيم المعروف بالبنجي  بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم  التتري قد أقطعه السلطان بلاد سنديلة، وهي قرية من بلاد عين الملك، فاتفق معه على الخلاف، وجعله نائبه. وكان داود بن قطب الملك وابن ملك التجار على فيلة السلطان وخيله فوافقاه أيضا، وجعل داود حاجبه. وكان داود هذا لما ضربوا على محلة الوزير يجهر بسب السلطان ويشتمـه أقبح شتم، والسلطان يسمع ذلك ويعرف كلامـه. فلما وقعت الهزيمة قال عين الملك لنائبه إبراهيم التتري: ماذا ترى يا ملك إبراهيم  قد فر أكثر العسكر وذوو النجدة منـهم، فهل لك أن ننجو بأنفسنا  فقال إبراهيم لأصحابه بلسانـهم: إذا أراد عين الملك أن يفر، فإني سأقبض على دبوقته. فإذا فعلت ذلك، فاضربوا أنتم فرسه ليسقط إلى الأرض، فنقبض عليه، ونأتي بـه إلى السلطان، ليكون ذلك كفارة لذنبي في الخلاف معه، وسببا لخلاصي. فلما أراد عين الملك الفرار، قال له إبراهيم: إلى أين يا سلطان علاء الدين  وكان يسمى بذلك، وأمسك بدبوقته، وضرب أصحابه فرسه، فسقط على الأرض، ورمى إبراهيم بنفسه عليه فقبضه، وجاء أصحاب الوزير ليأخذوه فمنعهم وقال: لا أتركه حتى أوصله للوزير، أو أموت دون ذلك، فتركوه، فأوصله إلى الوزير. وكنت أنظر عند الصبح إلى الفيلة والأعلام يؤتى بها إلى السلطان. ثم جاءني بعض العراقيين فقال: قد قبض على عين الملك، وأتى بـه الوزير، فلم أصدقه. فلم يمر إلا يسير، وجاءني الملك تمور الشربدار فأخذ بيدي وقال: أبشر، فقد قبض على عين الملك، وهو عند الوزير. فتحرك السلطان عند ذلك ونحن معه إلى محلة عين الملك على على نـهر الكنك، فنـهبت العساكر ما فيها، واقتحم كثير من عسكر عين الملك النـهر فغرقوا. وأخذوا داود بن قطب الملك وابن ملك التجار وخلق كثير معهم، ونـهبت الأموال والخيل والأمتعة. ونزل السلطان على المجاز، وجاء الوزير بعين الملك، وقد أركب على ثور، وهوو عريان مستور العورة بخرقة مربوطة بحبل وباقية في عنقه، فوقف على باب السراجة، ودخل الوزير إلى السلطان، فأعطاه الشربة عناية به.

 وجاء أبناء الملوك إلى عين الملك فجعلوا يسبونـه ويبصقون في وجهه ويصفعون أصحابه. وبعث إليه السلطان الملك الكبير، فقال له: ما هذا الذي فعلت  فلم يجد جوابا. فأمر بـه السلطان أن يكسى ثوبا من ثياب الزمالة، وقيد بأربعة كبول، وغلت يداه إلى عنقه، وسلم للوزير ليحفظه. وجاز إخوته النـهر هاربين، ووصلوا مدينة عوض، فأخذوا أهلهم وأولادهم وما قدروا عليه من المال، وقالوا لزوجة أخيهم عين الملك: اخلصي بنفسك، وبنوك معنا. فقالت: أفلا أكون كنساء الكفار اللاتي يحرقن أنفسهن مع أوزواجهن  فأنا أيضا أموت لموت زوجي، وأعيش لعيشـه، فتركوها. وبلغ ذلك السلطان، فكان سبب خيرها، وأدركته لها رقة، وأدرك الفتى سهيل نصر الله من أولئك الإخوة فقتله، وأتىالسلطان برأسه. وأتى بأم عين الملك وأخته وامرأته فسلمن إلى الوزير، وجعلن في خباء بقرب خباء عين الملك. فكان يدخل إليهن، ويجلس معهن، ويعود إلى محبسه. ولما كان بعد العصر من يوم الهزيمة، أمر السلطان بسراح لفيف من الناس الذي مع عين الملك من الزمالة والسوقة والعبيد ومن لا يعبأ به، وأتي بملك إبراهيم البنجي الذي ذكرناه، فقال ملك العسكر الملك نوا: يا خوند عالم، أقتل هذا، فإنـه من المخالفين. فقال الوزير: إنـه قد فدى نفسه بالقائم، فعفا عنـه السلطان وسرحه إلى بلاده.

 ولما كان بعد المغرب جلس السلطان ببرج الخشب، وأتى باثنين وستين رجلا من كبار أصحاب القائم، وأتى بالفيلة، فطرحوا بين أيديها، فجعلت تقطعهم بالحدائد الموضوعة على أنيابها، وترمي ببعضهم إلى الهواء، وتتلقفه. والأبواق والأنفار والطبول تضرب عند ذلك، وعين الملك واقف يعاين مقتلهم، ويطرح منـهم عليه، ثم أعيد إلى محبسه.

صفحة : 248

  وأقام السلطان على جواز النـهر أياما لكثرة الناس وقلة القوارب. وأجاز أمتعته وخزائنـه على الفيلة، وفرق الفيلة على خواصه، ليجيزوا أمتعتهم، وبعث إلي بفيل منـها أجزت عليه رحلي. وقصد السلطان ونحن معه إلى مدينة بهرايج  وضبط اسمـها بفتح الباء المحدة وهاء مسكن وراء وألف وياء آخر الحروف مكسورة وجيم  ، وهي مدينة في عدوة نـهر السرو، وهو واد كبير شديد الانحدار، وأجازه السلطان برسم زيارة قبر الشيخ الصالح البطل سالار عود، الذي فتح أكثر تلك البلاد، وله أخبار عجيبة وغزوات شـهيرة. وتكاثر الناس للجواز وتزاحموا، حتى غرق مركب كبير كان فيه نحو ثلاثمائة نفس، لم ينج منـهم إلا أعرابي من أصحاب الأمير غدا، وكنا ركبنا نحن مركبا صغيرا، فسلمنا الله تعالى. وكان العربي الذي سلم من الغرق يسمى بسالم، وذلك اتفاق عجيب.

 وكان أراد أن يصعد معنا في مركبنا، فوجدنا قد ركبنا النـهر، فركب في المركب الذي غرق. فلما خرج، ظن الناس أنـه كان معنا. فقامت ضجة في أصحابنا وفي سائر الناس، وتوهموا أنا غرقنا. ثم لما رأونا بعد استبشروا بسلامتنا. وزرنا قبر الصالح المذكور، وهو في قبة لم نجد سبيلا إلى ها لكثرة الزحام. وفي تلك الوجهة دخلنا غيضة قصب، فخرج علينا منـها الكركدن، فقتل وأتى الناس برأسه. وهو دون الفيل، ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف، وقد ذكرناه.

  ذكر عودة السلطان لحضرته ومخالفة علي شاه كر

 ولما ظفر السلطان بعين الملك كما ذكرنا، عاد إلى حضرته بعد مغيب عامين ونصف، وعفا عن عين الملك، وعفا أيضا عن نصرة خان القائم ببلاد التلنك، وجعلهما معا على عمل واحد، وهو النظر على بساتين السلطان. وكساهما وأركبهما، وعين لهما نفقة من الدقيق واللحم في كل يوم. وبلغ الخبر بعد ذلك أن أحد أصحاب قطلوخان، وهو علي شاه كر، ومعنى كر الأطرش، خالف على السلطان. وكان شجاعا حسن الصورة والسيرة، فغلب على بدر كوت، وجعلها مدينة ملكه. وخرجت العساكر إليه، وأمر السلطان معلمـه أن يخرج إلى قتاله، فخرج في عساكر عظيمة، وحصره ببدر كوت، ونقبت أبراجها، واشتدت بـه الحال، فطلب الأمان فأمنـه قطلوخان، وبعث بـه إلى السلطان مقيدا، فعفا عنـه ونفاه إلى مدينة غزنة من طرف خراسان، فأقام بها مدة. ثم اشتاق إلى وطنـه، فأراد العودة إليه، لما قضاه الله من حينـه، فقبض عليه ببلاد السند، وأتي بـه السلطان. فقال له: إنما جئت لتثير الفساد ثانية، وأمر بـه فضربت عنقه.

  ذكر فرار أمير بخت وأخذه

صفحة : 249

  وكان السلطان قد وجد على أمير بخت الملقب بشرف الملك، أحد الذين وفدوا معنا على السلطان، فحط مرتبه من أربعين ألفا إلى ألف واحد، وبعثه في خدمة الوزير إلى دهلي. فاتفق أن مات أمير عبد الله الهروي في الوباء في التلنك، وكان ماله عند أصحابه بدهلي، فاتفقوا مع أمير بخت على الهروب. فلما خرج الوزير من دهلي إلى لقاء السلطان، هربوا مع أمير بخت وأصحابه، ووصلوا إلى أرض السند في سبعة أيام، وهو مسيرة أربعين يوما وكان معهم الخيل مجنوبة، وعزموا على أن يقطعوا نـهر السند عوما، ويركب أمير بخت وولده ومن لا يحسن العوم في معدية قصب يصنعونـها، وكانوا قد أعدوا حبالا من الحرير برسم ذلك. فلما وصلوا إلى النـهر خافوا من عبوره بالعوم، فبعثوا رجلين منـهم إلى جلال الدين صاحب مدينة أوجه، فقالا له: إن ها هنا تجارا أرادوا أن يعبروا النـهر، وقد بعثوا إليك بهذا السرج، لتبيح لهم الجواز، فأنكر أمير أن يعطى التجار مثل ذلك السرج، وأمر بالقبض على الرجلين. ففر أحدهما، ولحق بشرف الملك وأصحابه، وهم نيام لما لحقهم من الإعياء ومواصلة السهر، فأخبرهم الخبر، فركبوا مذعورين وفروا، وأمر جلال الدين نائبه، فركب في العسكر، وقصدوا نحوهم. فوجدوهم قد ركبوا، فاقتفوا أثرهم فأدركوهم. فرموا العسكر بالنشاب، ورمى طاهر بن شرف الملك نائب الأمير جلال الدين بسهم، فأثبته في ذراعه، وغلب عليهم، فأتى بهم إلى جلال الدين، فقيدهم وغل أيديهم، وكتب إلى الوزير في شأنـهم. فأمر الوزير أن يبعثهم إلى الحضرة، فبعثهم إليها. وسجنوا بها، فمات طاهر في السجن. فأمر السلطان أن يضرب شرف الملك مائة مقرعة في كل يوم، فبقي على ذلك مدة، ثم عفا عنـه. وبعثه مع الأمير نظام الدين أمير نجلة إلى بلاد جنديري، فانتهت حاله إلى أن كان يركب البقر، ولم يكن له فرسه يركبه. وأقام على ذلك مدة، ثم وفد ذلك الامير على السلطان وهو معه. فجعله السلطان شاشنكير  جاشنكير  ، وهو الذي يقطع اللحم بين يدي السلطان. ويمشي مع الطعام. ثم إنـه بعد ذلك نوه بـه ورفع مقداره. وانتهت حاله إلى أن مرض. فزاره السلطان وأمر بوزنـه بالذهب، وأعطاه ذلك. وقد قدمنا هذه الحكاية في السفر الأول. وبعد ذلك زوجه بأخته وأعطاه بلاد جنديري التي كان بها البقر في خدمة الأمير نظام الدين. فسبحان مقلب الأرض ومحول الأحوال.

  ذكر خلاف شاه أفغان بأرض السند

 وكان شاه أفغان خالف على السلطان بأرض ملتان من بلاد السند، وقتل الأمير بها، وكان يسمى بـه زاد، وادعى السلطنة لنفسه. وتجهز السلطان لقتاله، فعلم أنـه لا يقاومـه. فهرب ولحق بقومـه الأفغان، وهم ساكنون بجبال منيعة لا يقدر عليها، فاغتاظ السلطان مما فعله، وكتب إلى عماله أن يقبضوا على من وجدوه من الأفغان ببلاده، فكان ذلك سببا لخلاف القاضي جلال.

  ذكر خلاف القاضي جلال

صفحة : 250

  وكان القاضي جلال وجماعة من الأفغانيين قاطنين بمقربة من مدينة كنباية ومدينة بلوذرة، فلما كتب السلطان إلى عماله بالقبض على الأفغانيين كتب إلى ملك مقبل نائب الوزير ببلاد الجزرات ونـهر واله، أن يحتال في القبض على القاضي جلابل ومن معه. وكانت بلاد بلوذرة إقطاعا لملك الحكماء، وكان ملك الحكماء متزوجا بربيبة السلطان زوجة أبيه تغلق، ولها بنت من تغلق هي التي تزوجها الأمير غدا. وملك الحكماء إذ ذاك في صحبة مقبل، لأن بلاده تحت نظره. فلما وصلوا إلى بلاد الجزرات أمر مقبل ملك الحكماء أن يأتي بالقاضي جلال وأصحابه. فلما وصل ملك الحكماء إلى بلاده حذرهم في خفية، لأنـهم كانوا من أهل بلاده، وقال: إن مقبلا طلبكم ليقبض عليكم فلا تدخلوا عليه إلا بالسلاح، فركبوا في نحو ثلاثمائة مدرع وأتوه وقالوا: لا ندخل إلا جملة. فظهر له أنـه لا يمكن القبض عليهم وهم مجتمعون، وخاف منـهم. فأمرهم الرجوع، وأظهر تأمينـهم. فخلفوا عليه، ودخلوا مدينة كنباية، ونـهبوا خزانة السلطان بها، وأموال الناس، ونـهبوا مال ابن الكومي التاجر، وهو الذي عمر المدرسة الحسنة بإسكندرية، وسنذكره إثر هذا. وجاء ملك مقبل لقتالهم فهزموه هزيمة شنيعة. وجاء الملك عزيز الخمار والملك جهان بنبل لقتالهم في سبعة آلاف من الفرسان، فهزموه أيضا، وتسامع بهم أهل الفساد والجرائم فانثالوا عليهم. وادعى القاضي جلال السلطنة، وبايعه أصحابه. وبعث السلطان إليه العساكر فهزمـها. وكان بدولة أباد جماعة من الأفغان فخالفوا أيضا.

  ذكر خلاف ابن الملك مل

 وكان ابن الملك مل ساكنا بدولة آباد في بعض من الأفغان، فكتب السلطان إلى نائبه بها، وهو نظام الدين أخو معلمـه قطلوخان أن يقبض عليهم، وبعث إليه بأجمال كثيرة من القيود والسلاسل، وبعث بخلع الشتاء. وعادة ملك الهند أن يبعث لكل أمير على مدينة، ولوجوهخلعتين في السنة: واحدة للشتاء والثانية للصيف. وإذا جاءت الخلع، يخرج الأمير والجند للقائها. فإذا وصولوا إلى الآتي بها نزلوا عن دوابهم، وأخذ كل واحد خلعته، وحملها على كتفه وخدم لجهة السلطان. وكتب السلطان لنظام الدين إذا خرج الأفغان ونزلوا عن دوابهم لأخذ الخلع فاقبض عليهم عند ذلك. وأتى أحد الفرسان الذين أوصلوا الخلع إلى الأفغان، فأخبرهم بما يراد بهم. فكان نظام الدين ممن احتال، فانعكست عليه، فركب وركب الأفغان معه حتى إذا لقوا الخلع، ونزل نظام الدين عن فرسه، حملوا عليه وأصحابه، فقبضوا عليه وقتلوا كثيرا من أصحابه، ودخلوا المدينة فاستولوا على الخزائن، وقدموا على أنفسهم ناصر الدين ابن ملك مل، وانثال عليهم المفسدون، فقويت شوكتهم.

  ذكر خروج السلطان بنفسه إلى كنباية

صفحة : 251

  ولما علم السلطان ما فعله الأفغان بكنباية ودولة آباد، خرج بنفسه، وعزم أن يبدأ بكنباية، ثم يعود إلى دولة آباد. وبعث أعظم ملك البايزيدي صهره في أربعة آلاف مقدمة، فاستقبله جند القاضي جلال، فهزموه وحصروه ببلوذرة، وقاتلوه بها. وكان في جند القاضي جلال شيخ يسمى جلول، وهو أحد الشجعان. فلا يزال يفتك في الجند ويقتل، ويطلب المبارزة فلا يتجاسر أحد على مبارزته. واتفق يوما أنـه دفع فرسه، فكبا بـه في حفرة فسقط عنـه وقتل. ووجدوا عليه درعين، فبعثوا برأسه إلى السلطان، وصلبوا جسده بسور بلوذرة، وبعثوا يديه ورجليه إلى البلاد. ثم وصل السلطان ب فلم يكن للقاضي جلال من ثبات، ففر في أصحابه، وتركوا أموالهم وأولادهم، فنـهب ذلك كله، ودخلت المدينة، وأقام بها السلطان أياما ثم رحل عنـها، وترك بها صهره شرف الملك أمير بخت الذي قدمنا ذكره، وقضية فراره وأخذه بالسند وسجنـه، وما جرى له من الذل، ثم من العز. وأمره بالبحث عمن كان في طاعة جلال الدين، وترك معه الفقهاء ليحكم بأقوالهم. فأدى ذلك إلى قتل الشيخ علي الحيدري حسبما قدمناه. ولما هرب القاضي جلال لحق بناصر الدين ملك مل بدولة آباد، ودخل في جملته. فأتى السلطان بنفسه إليهم، واجتمعوا في نحو أربعين ألفا من الأفغان والترك والهنود والعبيد، وتحالفوا على أن لا يفروا، وأن يقاتلوا السلطان. وأتى السلطان لقتالهم ولم يرفع الشطر الذي هو علامته. فلما استحر القتال رفع الشطر، ولما عاينوه دهشوا وانـهزموا أقبح هزيمة. ولجأ ابن ملك مل والقاضي جلال في نحو أربعمائة من خواصهما إلى قلعة الدويقير، وسنذكرها وهي من أمنع القلاع في الدنيا، واستقر السلطان بمدينة دولة آباد والدويقير هي قلعتها. وبعث لهم أن ينزلوا على حكمـه فأبوا أن ينزلوا إلاعلى الأمان. فأبى السلطان أن يؤمنـهم، وبعث لهم الأطعمة تهاونا بهم، وأقام هنالك. وهذا آخر عهدي بهم.

  ذكر قتال مقبل وابن الكولمي

 وكان ذلك قبل خروج القاضي جلال وخلافه. وكان تاج الدين الكولمي من كبار التجار، فنزل على السلطان من أرض الترك بهدايا جليلة، منـها المماليك والجمال والمتاع والسلاح والثياب. فأعجب السلطان فعله وأعطاه اثني عشر لكا، ويذكر أنـه لم تكن قيمة هديته إلا لكا واحدا. وولاه مدينة كنباية. وكانت لنظر الملك المقبل نائب الوزير، ووصل إليها، وبعث السفن إلى بلاد المليبار وجزيرة سيلان وغيرها. وجاءته التحف والهدايا في السفن، وعظمت حاله، ولما لم يبعث أموال تلك الجهات إلى الحضرة، بعث الملك مقبل إلى ابن الكولمي أن يبعث ما عنده من الهدايا والأموال مع هدايا تلك الجهات على العادة. امتنع ابن الكولمي عن ذلك وقال: أنا أحملها بنفسي، أو أبعثها مع خدامي، ولا حكم لنائب الوزير علي ولا للوزير، واغتر بما أولاه السلطان من الكرامة والعطية. فكتب مقبل إلى الوزير بذلك، فوقع له الوزير على ظهر كتابه: إن كنت عاجزا عن بلادنا فاتركها وراجع إلينا.

 ولما وصله الجواب تجهز فيومماليكه، والتقيا بظاهر كنباية. فانـهزم الكولمي، وقتل جملة من الفريقين. واستخفى ابن الكولمي في دار الناخوذة  الناخذا  ، إلياس أحد كبراء التجار.

 ودخل مقبل المدينة فضرب رقاب جند ابن الكولمي، وبعث له الأمان نظير أن يأخذ ماله المختص بـه ويترك مال السلطان وهديته ومجبى البلد، وبعث مقبل بذلك كله مع خدامـه إلى السلطان، وكتب شاكيا من ابن الكولمي، وكتب ابن الكولمي شاكيا منـه. وبعث السلطان ملك الحكماء ليتنصف بينـهما. وبأثر ذلك كان خروج القاضي جلال الدين. فنـهب مال ابن الكولمي، وهرب ابن الكولمي في بعض مماليكه ولحق بالسلطان.

  ذكر الغلاء الواقع بأرض الهند

صفحة : 252

  وفي مدة غياب السلطان عن حضرته، إذ خرج يقصد بلاد المعبر، وقع الغلاء، واشتد الأمر، وانتهى المن إلى ستين درهما، ثم زاد على ذلك. وضاقت الأحوال، وعظم الخطب، ولقد خرجت مرة إلى لقاء الوزير، فرأيت ثلاث نسوة يقطعن قطعا من جلد فرس مات منذ أشـهر ويأكلنـه. وكانت الجلود تطبخ وتباع في الأسواق. وكان الناس إذا ذبحت البقر، أخذوا دماءها فأكلوها. وحدثني بعض طلبة خراسان أنـهم دخلوا بلدة تسمى أكروهة، بين حانسي وسرستي فوجدوها خالية، فقصدوا بعض المنازل ليبيتو به، فوجدوا في بعض بيوته رجلا قد أضرم نارا، وبيده رجل آدمي، وهو يشويها في النار ويأكل منـها، والعياذ بالله. ولما اشتد الحال، أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفطة ستة أشـهر. فكانت القضاة والكتاب والأمراء يطوفون بالأزقة والحارات، ويكتبون الناس، ويعطون لكل أحد نفقة ستة أشـهر، بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب في اليوم لكل واحد. وكنت في تلك المدة أطعم الناس من الطعام الذي أصنعه بمقبرة السلطان قطب الدين، حسبما يذكر، فكان الناس ينتعشون بذلك. و الله تعالى ينفع بالقصد فيه. وإذ قد ذكرنا من أخبار السلطان، وما كان في أيامـه من الحوادث ما فيه الكفاية، فلنعد إلى ما يخصنا من ذلك، ونذكر كيفية وصولنا أولا إلى حضرته، وتنقل الحال إلى خروجنا عن الخدمة، ثم خروجنا عن السلطان في الرسالة إلى الصين، وعودنا منـها إلى بلادنا، إن شاء الله تعالى.

  ذكر وصولنا إلى دار السلطان وعند قدومنا وهو غائب

 ولما دخلنا حضرة دهلي قصدنا باب السلطان، ودخلنا الباب الأول ثم الثاني والثالث، ووجدنا عليه النقباء، وقد تقدم ذكرهم. فلما وصلنا إليهم تقدم بنا نقيبهم إلى مشور عظيم متسع، فوجدنا بـه الوزير خواجه جهان ينتظرنا. فتقدم ضياء الدين خداوند زاده، ثم تلا أخوه قوام الدين، ثم أخوهما عماد الدين، ثم تلوتهم، ثم تلاني أخوهم برهان الدين، ثم الأمير مبارك السمرقندي، ثم أرون بغا التركي، ثم ملك زاده ابن أخت خدواند زاده، ثم بدر الدين الفصال.

 ولما دخلنا من الباب الثالث ظهر لنا المشور الكبير المسمى هزار اسطون  استون  ومعنى ذلك ألف سارية، وبه يجلس السلطان الجلوس العام. فخدم الوزير عند ذلك حتى قرب رأسه من الأرض، وخدمنا نحن بالركوع، وأوصلنا أصابعنا إلى الأرض، وخدمتنا لناحية سرير السلطان، وخدم جميع من معنا. فلما فرغنا من الخدمة، صاح النقباء بأصوات عالية: بسم الله، وخرجنا.

  ذكر وصولنا لدار أم السلطان

  وذكر فضائلها

 وأم السلطان تدعى المخدومة جهان، وهي من أفضل النساء، كثيرة الصدقات، عمرت زوايا كثيرة، وجعلت فيها الطعام للوارد والصادر. وهي مكفوفة البصر، وسبب ذلك انـه لما ملك ابنـها، جاء إليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زي، وهي على سرير الذهب المرصع بالجوهر، فخدمن بين يديها جميعا، فذهب بصرها للحين، وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع. وولدها أشد الناس برا بها. ومن بره أنـها سافرت معه مرة فقدم السلطان قبلها بمدة، فلما قدمت خرج لاستقبالها، وترجل عن فرسه وقبل رجلها، وهي في المحفة بمرأى من الناس أجمعين.

 ولنعد لما قصدناه فنقول، ولما انصرفنا عن دار السلطان خرج الوزير ونحن معه إلى باب الصرف، وهم يسمونـه باب الحرم، وهنالك سكنى المخدومة جهان. فلما وصلنا بابها نزلنا عن الدواب، وكل واحد منا قد أتى بهدية على قدر حاله.

 ودخل معنا قاضي قضاة المماليك كمال الدين بن البرهان، فخدم الوزير والقاضي عند بابها، وخدمنا كخدمتهم، وكتب كاتب بابها هدايانا. ثم رجعوا إلى الوزير، ثم عادوا إلى القصر، ونحن وقوف. ثم أمرنا بالجلوس في سقيف هنالك، ثم أتوا بالطعام، وأوتوا بقلال من الذهب يسمونـها السين  بضم السين والياء أخر الحروف  ، وهي مثل القدور، ولها مرافع من الذهب تجلس عليها، يسمونـها السبك  بضم السين وضم الباء الموحدة  وأتوا بأقداح وطسوت وأباريق كلها ذهب، وجعلوا الطعام سماطين، وعلى كل سماط صفان. ويكون في رأس الصف كبير القوم الواردين.

صفحة : 253

  ولما تقدمنا للطعام، خدم الحجاب والنقباء، وخدمنا لخدمتهم. ثم أتوا بالشربة فشربنا. وقال الحجاب: بسم الله، ثم أكلنا، وأتوا بالفقاع والتنبول. وقال الحجاب: بسم الله، فخدمنا جميعا. ثم دعينا إلى موضع هنالك، فخلع علينا حلل الحرير المذهبة، وأتوا بنا إلى باب القصر، تحت ثياب غير مخيطة من حرير وكتان. فأعطي كل واحد منا نصيبه منـها. ثم أتوا بطيفور ذهب فيه الفاكهة اليابسة، وبطيفور مثله فيه الجلاب، وطيفور ثالث فيه التنبول. ومن عادتهم أن الذي يخرج له ذلك، يأخذ الطيفور بيده، ويجعله على كاهله، ويخدمـه بيده الثانية إلى الأرض. فأخذ الوزير الطيفور بيده قصد أن يعلمني كيف أفعل إيناسا منـه وتواضعا ومبرة، جزاه الله الخير. ففعلت كما فعل، وانصرفنا إلى الدار المعدة لنزولنا بمدينة دهلي، وبمقربة من دروازة بالم منـها، وبعث لنا الضيافة.

  ذكر الضيافة

 ولما وصلت إلى الدار التي أعدت لنزولي وجدت فيها ما يحتاج إليه من فرش وبسط وحصر وأوان وسرير الرقاد، وأسرتهم بالهند خفيفة الحمل، يحمل السرير منـها الرجل الواحد ولا بد لكل أحد أن يستصحب السرير في السفر، يحمله غلامـه على رأسه، وهو أربع قوائم مخروطة، يعرض عليها أربعة أعواد، وتنسج عليها ضفائر من الحرير والقطن، فإذا نام الانسان عليه لم يحتج إلى ما يرطبه به، لأنـه يعطي الرطوبة من ذاته. وجاءوا مع السرير بمضربين ومخدتين ولحاف، كل ذلك من الحرير وعادتهم أن يجعلوا للمضربات واللحوف  اللحف  وجوها تغشيها وأتوا تلك الليلة برجلين أحدهما الطاحوني ويسمونـه الخراص والثاني الجزار ويسمونـه القصاب فقالوا لنا خذوا من هذا كذا وكذا من الدقيق، ومن هذا كذا وكذا من اللحم، لأوزان لا أذكرها الآن وعادتهم أن يكون اللحم الذي يعطون بقدر وزن الدقيق، وهذا الذي ذكرناه في ضيافة أم السلطان، وبعدها وصلتنا ضيافة السلطان وسنذكرها. ولما كان من غير ذلك اليوم ركبنا إلى دار السلطان، وسلمنا على الوزير، فأعطاني بدرتين، كل بدرة من ألف دينار دراهم، وقال لي: هذه سر ششتي  شستي  ومعناه لغسل رأسك، وأعطاني خلعة من المرعز، وكتب جميع أصحابي وخدامي وغلماني، فجعلوا أربعة أصناف: فالصنف الأول منـها أعطي كل واحد منـها مائتي دينار، والصنف الثاني أعطي كل واحد منـهم مائة وخمسين دينارا والصنف الثالث أعطي كل واحد مائة دينار، والصنف الرابع أعطي كل واحد خمسة وسبعين دينارا، وكانوا نحو أربعين وكان جملة ما أعطوه أربعة آلاف دينار ونيفا، وبعد ذلك عينت ضيافة السلطان، وهي ألف رطل هندية من الدقيق، ثلثها من الميرا وهو الدرمك، وثلثاها من الخشكار وهو المدهون، وألف رطل من اللحم، ومن السكر والسمن والسليف والفوفل أرطال كثيرة، لا أذكر عددها والألف من ورق التنبول والرطل الهندي عشرون رطلا من أرطال المغرب، وخمسة وعشرون من أرطال مصر، وكانت ضيافة خداوند زاده أربعة آلاف رطل من الدقيق، ومثلها من اللحم، مع ما يناسبها مما ذكرناه.

 ذكر وفاة بنتي وما فعلوا في ذلك ولما كان بعد شـهر ونصف من مقدمنا توفيت بنت لي سنـها دون السنة. فاتصل خبر وفاتها بالوزير، فأمر أن تدفن في زاوية بناها خارج دروازة بالم، بقرب مقبرة هنالك لشيخنا إبراهيم القونوي، فدفناها بها وكتب بخبرها إلى السلطان فأتاه الجواب في عشي اليوم الثاني، وكان بين متصيد السلطان وبين الحضرة مسيرة عشرة أيام وعادتهم أن يخرجوا إلى قبر الميت صبيحة الثالث من دفنـه، ويفرشون جوانب القبر بالبسط وثياب الحرير، ويجعلون على القبر الأزاهير، وهي لا تنقطع هنالك في فصل من الفصول كالياسمين وقل شبه  كل شبو  وهي زهر أصفر، وريبول وهو أبيض، والنسرين وهو على صنفين أبيض وأصفر، ويجعلون أغصان النارنج والليمون بثمارها، وإن لم يكن فيها ثمار علقوا منـها حبات بالخيوط، ويصبون على القبر الفواكه اليابسة وجوز النارجيل، ويجتمع الناس ويؤتى بالمصاحف فيقرأون القرآن، فإذا ختموا أتوا بماء الجلاب فسقوه الناس، ثم يصب عليهم ماء الورد صبا، ويعطون التنبول وينصرفون.

صفحة : 254

  ولما كان صبيحة الثالث من دفن هذه البنت، خرجت الصبح على العادة، وأعددت ما تيسر من ذلك كله، فوجدت الوزير قد أمر بترتيب ذلك، وأمر بسراجة فضربت على القبر، وجاء الحاجب شمس الدين الفوشنجي الذي تلقانا بالسند، والقاضي نظام الدين الكرواني وجملة من كبار أهل المدينة، ولم آت إلا والقوم المذكورون، قد أخذوا مجالسهم، والحاجب بين أيديهم، وهم يقرأون القرآن فقعدت مع أصحابي بمقربة من القبر. فلما فرغوا من القرأة، قرأ القراء بأصوات حسان، ثم قام القاضي فقرأ رثاء في البنت المتوفاة، وثناء على السلطان. وعند ذكر اسمـه قام الناس جميعا قياما فخدموا ثم جلسوا، ودعا القاضي دعاء حسنا، ثم أخذ الحاجب وأصحابه براميل ماء الورد وصبوا على الناس، ثم داروا عليهم بأقداح شربة النبات، ثم فرقوا عليهم التنبول، ثم أتي بإحدى عشرة خلعة لي ولأصحابي ثم ركب الحاجب وركبنا معه إلى دار السلطان، فخدمنا للسرير على العادة، وانصرفت إلى منزلي فما وصلت إلا وقد جاء الطعام من دار المخدومة جهان، ما ملأ الدار ودور أصحابي، وأكلوا جميعا، وأكل المساكين. وفضلت الأقراص والحلواء والنبات، فأقمت بقاياها أياما، وكان فعل ذلك كله بأمر السلطان. وبعد أيام جاء الفتيان من دار المخدومة جهان بالدولة وهي المحفة التي يحمل فيها النساء، ويركبها الرجال وهي شبه السرير، سطحها من ضفائر الحرير والقطن، وعليها عود شبه الذي على البوجات عندنا، معوج من القصب الهندي المغلوق، ويحملها ثمانية رجال في نوبتين: يستريح أربعة، ويحمل أربعة، وهذه الدول بالهند كالحمير بديار مصر، عليها ينصرف أكثر الناس فمن كان له عبيدا حملوه، ومن لم يكن له عبيد اكترى رجالا يحملونـه. وبالبلد منـهم جماعة يسيرة، يقفون في الأسواق وعند باب السلطان، وعند أبواب الناس للكري، وتكون دول النساء مغشاة بغشاء حرير. وكذلك كانت هذه الدولة التي أتى الفتيان بها من دار أم السلطان، فحملوا فيها جاريتي، وهي أم البنت المتوفاة وبعثت أنا معها عن هدية جارية تركية فاقامت الجارية أم البنت عندهم ليلة، وجاءت في اليوم الثاني وقد أعطوها ألف دينار دراهم، وأساور ذهب مرصعة، وتهليلا من الذهب مرصعا وقميص كتان مزركشا بالذهب وخلعة حرير مذهبة وتختا بأثواب ولما جاءت بذلك أعطيته لأصحابي وللتجار الذين لهم علي الدين، محافظة على نفسي، وصونا لعرضي لأن المخبرين يكتبون إلى السلطان بجميع أحوالي.

  ذكر إحسان السلطان والوزير

  في أيام غيبة السلطان عن الحضرة

 وفي أثناء إقامتي أمر السلطان أن يعين لي من القرى ما يكون فائدة خمسة آلاف دينار في السنة، فعينـها لي الوزير وأهل الديوان، وخرجت إليها فمنـها قرية تسمى بدلي  بفتح الباء الموحدة وفتح الدال المـهملة وكسر اللام  وقرية تسمى بسهي  بفتح الباء الموحدة والسين المـهمل وكسر الهاء  ونصف قرية تسمى بلرة  بفتح الباء الموحدة واللام والراء  ، وهذه القرى على مسافة ستة عشر كروها، وهو الميل، بصدي يعرف بصدي هندبت، والصدي عندهم مجموع مائة قرية من قرى بلاد الهند، وأحواز المدينة مقسومة أصداء، وكل صدي له جوطري، وهو شيخ من كفار تلك البلاد، ومتصرف، وهو الذي يضم مجابيها. وكان قد وصل في ذلك الوقت سبي من الكفار، فبعث الوزير إلي عشر جوار منـه، فأعطيت الذي جاء بهن واحدة منـهن، فلما رضي بذلك، وأخذ أصحابي ثلاثا صغارا منـهن، وباقيهن لا أعرف ما اتفق لهن. والسبي هنالك رخيص الثمن، لأنـهن قذرات لا يعرفن مصالح الحضر، والمعلمات رخيصات الأثمان، فلا يفتقر أحد إلى شراء السبي. والكفار ببلاد الهند في بر متصل وبلاد متصلة مع المسلمين والمسلمون غالبون عليهم وإنما يمتنع الكفار بالجبال والأوعار، ولهم غيضات من القصب، وقصبهم غير مجوف، ويعظم ويلتف بعضه على بعض، ولا تؤثر فيه النار، وله قوة عظيمة فيسكنون تلك الغياض، وهي لهم مثل السور، وبداخلها تكون مواشيهم وزروعهم، ولهم فيها المياه مما يجتمع من ماء المطر فلا يقدر عليهم الا بالعساكر القوية من الرجال الذين يدخلون تلك الغياض، ويقطعون تلك القصب بآلات معدة لذلك.

  ذكر العيد الذي شـهدته أيام غيبة السلطان

صفحة : 255

  وأطل عيد الفطر، والسلطان لم يعد بعد إلى الحضرة، فلما كان يوم العيد ركب الخطيب على الفيل، وقد مـهد له على ظهره شبه السرير، وركزت أربعة أعلام في أركانـه الأربعة، وليس الخطيب ثياب السود، وركب المؤذنون على الفيلة يكبرون أمامـه، وفقهاء المدينة وقضاتها وكل واحد يستصحب صدقة يتصدق بها حين الخروج إلى المصلى ونصب على المصلى صيوان قطن، وفرش ببسط، واتجمع الناس ذاكرين الله تعالى. ثم صلى بهم الخطيب وخطب وانصرف الناس إلى منازلهم، وانصرفنا إلى دار السلطان وجعل الطعام، فحضره الملوك والأمراء، والأعزة وهم الغرباء، وأكلوا وانصرفوا.

  ذكر قدوم السلطان ولقائنا له

 ولما كان في رابع شوال نزل السلطان بقصر اسمـه تلبت  بكسر التاء المعلوة الأولى وسكون اللام وفتح الباء الموحدة ثم تاء كالأولى  ، وهي على مسافة سبعة أميال من الحضرة فأمرنا الوزير بالخروج اليه فخرجنا، ومع كل انسان هديته من الخيل والجمال والفواكه الخراسانية والسيوف المصرية والمماليك والغنم المجلوبة من بلاد الأتراك فوصلنا إلى باب القصر واجتمع جميع القادمين فكانوا يدخلون إلى السلطان على قدر مراتبهم، ويخلع عليهم ثياب الكتان المزركشة بالذهب، ولما وصلت إلى النوبة، دخلت فوجدته قاعدا على كرسي، فظننته أحد الحجاب حتى رأيت معه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي، وكنت عرفته أيام غيبة السلطان، فخدم الحاجب، فخدمت واستقبلني أمير حاجب، وهو ابن عم السلطان فيروز، وخدمت ثانية لخدمته، ثم قال لي ملك الندماء بسم الله، مولانا بدر الدين. وكانوا يدعونني بأرض الهند بدر الدين وكل من كان من أهل الطلب إنما يقال له مولانا فقربت من السلطان حتى أخذ بيدي وصافحني وأمسك يدي وجعل يخطابني بأحسن خطاب، ويقول لي بالفارسي، حلت البركة، قدومك مبارك، اجمع خاطرك، اعمل معك من المراحم، وأعطيك من الأنعام، ما يسمع بـه أهل بلادك، فيأتون إليك. ثم سألني عن بلادي فقلت له: بلاد المغرب فقال لي: بلاد عبد المؤمن  فقلت له: نعم. وكان كلما قال لي كلاما جيدا قبلت يده حتى قبلتها سبع مرات. وخلع علي، وانصرفت واجتمع الواردون، فمد لهم سماط. ووقف على رؤوسهم قاضي القضاة صدر الجهان كمال الدين الغزنوي، وعماد الملك عرض المماليك، والملك جلال الدين الكيجي، وجماعة من الحجاب والامراء، وحضر كذلك خداوند زاده غياث الدين، ابن عم خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ الذي قدم معنا، وكان السلطان يعظمـه ويخاطبه بالأخ وتردد إليه مرارا من بلاده. والواردون الذين خلع عليهم في ذلك اليوم هم خداوند زاده قوام الدين وإخوته ضياء الدين وعماد الدين وبرهان الدين وابن أخيه أمير بخت ابن السيد تاج الدين، وكان جده وجيه الدين وزير خراسان، وكان علاء الدين أمير هند ووزيرا أيضا، والأمير هبة الله ابن الفلكي التبريزي، وكان أبوه نائب الوزير بالعراق، وهو الذي بنى المدرسة الفلكية بتبريز، وملك كراي من أولاد بهرام جور  جوبين  صاحب كسرى، وهو من أهل جبل بدخشان الذي منـه يجلب الياقوت البلخش واللازورد، والأمير مبارك شاه السمرقندي، وأرون بغا البخاري، وملك زاده الترمذي، وشـهاب الدين الكازروني، التاجر الذي قدم تبريز بالهدية إلى السلطان فسلب في طريقه.

  ذكر السلطان إلى حضرته

  وما أمر لنا بـه من المراكب

 وفي الغد من يوم خروجنا إلى السلطان أعطي كل واحد منا فرسا من مراكب السلطان، عليه سرج ولجام محليان وركب السلطان ل حضرته، وركبنا في مقدمته مع صدر الجهان، وزينت الفيلة أمام السلطان، وجعلت عليها الأعلام، ورفعت عليها ستة عشر شطرا، منـها مزركشة، ومنـها مرصعة، ورفع فوق رأس السلطان شطر منـها، وحملت أمامـه الغاشية، وهي ستارة مرصعة، وجعل على بعض الفيلة رعادات صغار، فلما وصل السلطان إلى قرب المدينة، قذف في تلك الرعادات بالدنانير والدراهم مختلطة، والمشاة بين يدي السلطان وسواهم ممن حضر يلتقطون ذلك. ولم يزالوا ينثرونـها إلى أن وصلوا القصر وكان بين يديه آلاف من المشاة على الأقدام وصنعت قباب الخشب المكسوة بثياب الحرير، وفيها المغنيات حسبما ذكرنا ذلك.

  ذكر نا اليه وما أنعم بـه من الإحسان والولاية

صفحة : 256

  ولما كان يوم الجمعة، ثاني يوم السلطان، أتينا باب المشور، فجلسنا في سقائف الباب الثالث، ولم يكن الإذن حصل لنا بال، وخرج الحاجب شمس الدين الفوشنجي، فأمر الكتاب أن يكتبوا أسماءنا، وأذن لهم في نا، و بعض أصحابنا، وعين لل معي ثمانية، فدخلنا ودخلوا معنا، ثم جاءوا بالبدر والقبان، وهو الميزان، وقعد قاضي القضاة والكتاب، ودعوا من بالباب من الأعزة وهم الغرباء، فعينوا لكل نصيبه من تلك البدر، فحصل لي خمسة آلاف دينار وكان مبلغ المال مائة ألف دينار، تصدقت بـه أم السلطان لما قدم ابنـها، وانصرفنا ذلك اليوم وكان السلطان بعد ذلك يستدعينا للطعام بين يديه، ويسأل عن أحوالنا، ويخاطبنا بأجمل الكلام ولقد قال لنا في بعض الأيام: أنتم شرفتمونا بقدومكم فما نقدر على مكافأتكم فالكبير منكم مقام والدي، والكهل مقام أخي، والصغير مقام ولدي، وما في ملكي أعظم من مدينتي هذه أعطيكم إياها فشكرناه ودعونا له.

 ثم بعد ذلك أمر لنا بالمرتبات فعين لي اثني عشر ألف دينار في السنة، وزادني قريتين على الثلاث التي أمر لي بها قبل، إحداهما قرية جوزة، والثانية قرية ملك بور، وفي بعض الأيام بعث لنا خداوند زاده، وغياث الدين وقطب الملك صاحب السند فقالا لنا: إن خوند عالم يقول لكم: من كان منكم يصلح للوزارة أو الكتابة أو الإمارة أو القضاة أو التدريس أو المشيخة، أعطيته ذلك فسكت الجميع لأنـهم كانوا يريدون تحصيل الأموال والانصراف إلى بلادهم، وتكلم أمير بخت ابن السيد تاج الدين الذي تقدم ذكره فقال: أما الوزارة فميراثي، وأما الكتابة فشغلي، وغير ذلك لا أعرفه.

 وتكلم هبة الله الفلكي فقال مثل ذلك، وقال لي خداوند زاده بالعربي: ما تقول أنت يا سيدي  وأهل تلك البلاد ما يدعون العربي إلا بالتسويد ، وبذلك يخاطبه السلطان، تعظيما للعرب، فقلت له: أما الوزارة والكتابة فليست شغلي، وأما القضاء والمشيخة فشغلي وشغل آبائي، وأما الإمارة فتعلمون أن الأعاجم ما أسلمت إلا بأسياف العرب، فلما بلغ ذلك السلطان أعجبه كلامي وكان بهزار أسطون يأكل الطعام، فبعث عنا، فأكلنا بين يديه، وهو يأكل، ثم انصرفنا إلى خارج هزار اسطون، فقعد أصحابي وانصرفت بسبب دمل كان يمنعني الجلوس، فاستدعانا السلطان ثانية فحضر أصحابي، واعتذر واله عني بعد صلاة العصر، فصليت بالمشور المغرب والعشاء الآخرة، ثم خرج الحاجب فاستدعانا، فدخل خداوند زاده ضياء الدين، وهو أكبر الإخوة المذكورين، فجعله السلطان أمير داد وهو من الأمراء الكبار، فجلس بمجلس القاضي. فمن كان له حق على أمير أو كبير أحضره بين يديه، وجعل مرتبه على هذه الخطة خمسين ألف دينار في السنة، عين له مجاشر فائدها ذلك المقدار، فأمر له بخمسين ألفا عن يد، وخلع عليه خلعة حرير مزركشة تسمى صورة الشير، ومعناه صورة السبع، لأنـه يكون في صدرها وظهرها صورة سبع، وقد خيط في باطن الخلعة بطاقة بمقدار مازركش فيها من الذهب، وأمر له بفرس من الجنس الأول، والخيل عندهم أربعة أجناس وسروجهم كسروج أهل مصر، ويكسون أعظمـها بالفضة المذهبة، ثم دخل أمير بخت، فأمره أن يجلس مع الوزير في مسنده، ويقف على محاسبات الدواوين وعين له مرتبا أربعين ألف دينار في السنة أعطى مجاشر فائدها بمقدار ذلك، وأعطى أربعين ألفا عن يد، وأعطى فرسا مجهزا، وخلع عليه كخلعة الذي قبله، ولقب شرف الملك.

صفحة : 257

  ثم دخل هبة الله بن الفلكي فجعله رسول دار، ومعناه حاجب الإرسال، وعين له مرتبا أربعين ألف دينار في السنة أعطى مجاشر يكون قائدها بمقدار ذلك وأعطى أربعة وعشرين ألفا عن يد وأعطى فرسا مجهزا وخلعة، وجعل لقبه بهاء الملك. ثم دخلت فوجدت السلطان على سطح القصر مستندا إلى السرير، والوزير خواجه جهان بين يديه، والملك الكبير قبولة واقف بين يديه فلما سلمت عليه، قال لي الملك الكبير: أخدم فقد جعلك خوند عالم قاضي دار الملك دهلي، وجعل مرتبك اثني عشر ألف دينار في السنة، وعين لك مجاشر بمقدارها، وأمر لك باثني عشر ألفا نقدا تأخذها من الخزانة غدا إن شاء الله، وأعطاك فرسا بسرجه ولجامـه، وأمر لك بخلعة محاربي، وهي التي يكون في صدرها وظهرها شكل محراب، فخدمت وأخذ بيدي فتقدم بي إلى السلطان، فقال لي السلطان: لا تحسب قضاء دهلي من أصغر الأشغال، هو أكبر الأشغال عندنا، وكنت أفهم قوله، ولا أحسن الجواب عنـه وكان السلطان يفهم العربي ولا يحسن الجواب عنـه، فقلت له: يا مولانا أنا على مذهب مالك،، وهؤلاء حنفية وأنا لا أعرف إنسانا فقال لي: قد عينت بهاء الدين الملتاني وكمال الدين البجنوري ينوبان عنك ويشاورانك، وتكون أنت تسجل على العقود وأنت عندنا بمقام الوالد، فقلت له: بل عبدكم وخديمكم فقال لي باللسان العربي، بل أنت سيدنا ومخدومنا، تواضعا منـه وفضلا وإيناسا، ثم قال لشرف الملك أمير بخت، إن كان الذي ترتب له لا يكفيه لأنـه كثير الإنفاق، فأنا أعطيه زاوية إن قجر على إقامة حال الفقراء، وقال: قل له هذا بالعربي، وكان يظن أنـه يحسن العربي ولم يكن كذلك وفهم السلطان ذلك فقال له: برو ويكجا بخصبي  بخسبي  وآن حكاية بروابكوي وتفهيم كني  بكني  تافردا إن شاء الله بيش من بيايي  و  جواب أو بكري  بكوي  معناه: امشوا الليلة فارقدوا في موضع واحد، وفهمـه هذه الحكاية، فإذا كان بالغد إن شاء الله تجيء إلي وتعلمني بكلامـه، فانصرفنا وذلك في ثلث الليل، وقد ضربت النوبة. والعادة عندهم إذا ضربت لا يخرج أحد فانتظرنا الوزير حتى خرج، وخرجنا معه، ووجدنا أبواب دهلي مسدودة فبتننا عند السيد أبي الحسن العبادي العراقي، بزقاق يعرف بسرابور خان وكان هذا الشيخ يتجر بمال السلطان ويشتري له الأسلحة والأمتعة بالعراق وخراسان. ولما كان بالغد بعث عنا، فقبضنا الأموال والخيل والخلع، وأخذ كل واحد منا البدرة بالمال، فجعلها على كاهله، ودخلنا كذلك على السلطان فخدمنا، وأتينا بالأفراس فقبلنا حوافرها، بعد أن جعلت عليها الخرق، وقدناها بأنفسنا إلى باب دار السلطان فركبناها وذلك كله عادة عندهم، ثم انصرفنا وأمر السلطان لأصحابه بألفي دينار وعشر خلع، ولم يعط لأصحاب أحد سواي شيئا وكان أصحابي لهم رواء ومنظر، فأعجبوا السلطان وخدموا بين يديه وشكرهم.

  ذكر عطاء ثان أمر لي بـه وتوقفه مدة

صفحة : 258

  وكنت يوما بالمشور، بعد أيام من توليتي القضاء والإحسان إلي، وأنا قاعد تحت شجرة هنالك، وإلى جانبي مولانا ناصر الدين الترمذي العالم الواعظ، فأتى بعض الحجاب فدعا مولانا ناصر الدين، فدخل إلى السلطان، فخلع عليه، وأعطاه مصحفا مكللا بالجوهر، ثم أتاني بعض الحجاب فقال: أعطني شيئا وآخذ لك خط خرد باثني عشر ألفا، أمر لك بها خوند عالم فلم أصدقه وظننته يريد الحيلة علي، وهو مجد في كلامـه، فقال بعض الأصحاب: أنا أعطيه، فأعطاه دينارين أو ثلاثة، وجاء بخط خرد ومعناه الخط الأصغر مكتوبا بتعريف الحاجب، ومعناه أمر خوند عالم أن يعطي من الخزانة الموفورة كذا لفلان بتبليغ فلان أي بتعريفه، ويكتب المبلغ اسمـه ثم يكتب على تلك البراءة ثلاثة من الأمراء: وهم الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان، والخريطة دار وهو صاحب وهو صاحب خريطة الكاغد والأقلام، والأمير نكبية الدوادار صاحب الدواة، فإذا كتب كل واحد منـهم خطه، تذهب البراءة إلى ديوان الوزارة فينسخها كتاب الديوان عندهم، ثم تثبت في ديوان الأشراف، ثم تثبتا في ديوان النظر، ثم تكتب البراونة، وهي الحكم من الوزير للخازن بالعطاء، ثم يثبتها الخازن في ديوانـه، ويكتب تلخيصا في كل يوم بمبلغ ما أمر بـه السلطان ذلك اليوم من المال، ويعرضه عليه فمن أراد التعجيل بعطائه أمر بتعجيله ومن أراد التوقيف وقف له ولكن لا بد من عطاء ذلك، ولو طالت المدة فقد توقفت هذه الاثنا عشر ألفا ستة أشـهر ثم أخذتها مع غيرها حسبما يأتي. وعادتهم إذا أمر السلطان بإحسان لأحد يحط منـه العشر فمن أمر له مثلا بمائة ألف، أعطي تسعين ألفا، أو بعشرة آلاف أعطي تسعة آلاف.

  ذكر طلب الغرماء ما لهم قبلي ومدحي للسلطان

  وأمره بخلاص ديني وتوقف ذلك مدة

 وكنت حسبما ذكرته قد استدنت من التجار مالا أنفقته في طريقي، وما صنعت بـه الهدية للسلطان، وما أنفقته في إقامتي فلما أرادوا السفر إلى بلادهم ألحوا علي في طلب ديونـهم فمدحت السلطان في قصيدة طويلة أولها:

  إليك أمير المؤمنين الـمـبـجـلا                      أتينا نجد السير نحوك في الـفـلا

  فجئت محـلا مـن عـلائك زائرا                      ومغناك كهف لـلـزيارة أهـلا

  فلو أن فوق الشمس للمجـد رتـبة                      لكنت لأعلاها إمامـا مـؤهـلا

  فأنت الإمام الماجد الأوحـد الـذي                      سجاياه حتما أن يقـول ويفـعـلا

  ولي حاجة من فيض جودك أرتجي                      قضاها وقصدي عند مجدك سهلا

  أأذكرها أم قد كفانـي حـياؤكـم                      فإن حياكم ذكره كـان أجـمـلا

  فعجل لمن واقى مـحـلـك زائرا                      قضا دينـه إن الغـريم تـعـجـلا

صفحة : 259

  فقدمتها بين يديه، وهو قاهد على كرسي، فجعلها على ركبته، وأمسك طرفها بيده، وطرفها الثاني بيدي. وكنت إذا أكملت بيتا منـها أقول لقاضي القضاة كمال الدين الغزنوي بين معناه لخوند عالم، فيبينـه ويعجب السلطان وهم يحبون الشعر العربي فلما بلغت إلى قولي: فعجل لمن وافى، البيت، قال: مرحمة ومعناه: ترحمت عليك فأخذ الحجاب حينئذ بيد ليذهبوا بي إلى موقفهم، وأخدم على العادة فقال السلطان اتركوه حتى يكملها فأكملتها وخدمت، وهنأني الناس بذلك، وأقمت مدة، وكتبت رفعا، وهم يسمونـه عرض داشت، فدفعته إلى قطب الملك صاحب السند، فدفعه للسلطان فقال له: امض إلى خواجه جهان فقل له: يعطي دينـه فمضى إليه وأعلمـه، فقال: نعم وأبطأ ذلك أياما وأمره السلطان في خلالها بالسفر إلى دولة آباد وفي أثناء ذلك خرج السلطان إلى الصيد، وسافر الوزير، فلم آخذ شيئا منـها إلا بعد مدة. والسبب الذي توقف بـه عطاؤها أذكره مستوفى وهو أنـه لما عزم الذي كان لهم علي الدين إلى السفر، قلت لهم: إذا أنا أتيت دار السلطان فدرهوني على العادة في تلك البلاد، لعلمي أن السلطان متى يعلم بذلك خلصهم، وعادتهم أنـهم متى كان لأحد دين على رجل من ذوي العناية وأعوزه خلاصه وقف له بباب دار السلطان فإذا أراد ال قال له: دروهي، وحق رأس السلطان ما تدخل حتى تخلصني، فلا يمكنـه ان يبرح من مكانـه حتى يخلصه، أو يرغب إليه في تأخيره. فاتفق يوما أن خرج السلطان إلى زيارة قبر أبيه، ونزل بقصر هنالك فقلت لهم: هذا وقتكم، فلما أردت ال، وقفوا لي بباب القصر فقالوا لي دروهي السلطان ما تدخل حتى تخلصنا. وكتب كتاب الباب بذلك إلى السلطان، فخرج حاجب قصة شمس الدين، وكان من كبار الفقهاء، فسألهم لأي شيء درهتموه  فقالوا: لنا عليه الدين فرجع إلى السلطان فأعلمـه بذلك، فقال له: أسألهم كم مبلغ الدين  فقالوا له خمس وخمسون ألف دينار، فعاد إليه فأعلمـه فأمره أن يعود إليهم، ويقول لهم: إن خوند عالم يقول لكم: المال عندي وأنا أنصفكم منـه فلا تطلبوه بـه وأمر عماد الدين السمناني وخداوند زاده غياث الدين أن يقعدوا بهزار أسطون، ويأتي أهل الدين بعقودهم، وينظروا إليها، ويتحققوها ففعلا ذلك وأتى الغرماء بعقودهم فدخلا إلى السلطان وأعلماه بثبوت العقود، فضحك وقال: ممازحا: أنا أعلم أنـه قاض جهز شغله فيها ثم أمر خداوند زاده أن يعطيني ذلك من الخزانة فطمع في الرشوة على ذلك وامتنع أن يكتب خط خرد، فبعثت إليه مائتي تنكة، فردها ولم يأخذها وقال لي عنـه بعض خدامـه: إنـه طلب خمسمائة تنكة فامتنعت من ذلك وأعلمت عميد الملك بن عماد الدين السمناني بذلك، فأعلم بـه أباه وأعلمـه الوزير، وكانت بينـه وبين خداوند زاده عداوة فأعلم السلطان بذلك، وذكر له كثيرا من أفعال خداوند زاده، فغير خاطر السلطان عليه، فأمر بحبسه في المدينة وقال: لأي شيء أعطاه فلان ما أعطاه ووقفوا ذلك حتى يعلم هل يعطي خداوند زاده شيئا إذا منعته أو يمنعه إذا أعطيته فبهذا السبب توقف عطاء ديني.

  ذكر خروج السلطان إلى الصيد وخروجي معه

  وما صنعت في ذلك

صفحة : 260

  ولما خرج السلطان إلى الصيد خرجت معه من غير تربص، وكنت قد أعددت ما يحتاج إليه، وعملت ترتيب أهل الهند، فاشتريت سراجة، وهي أفراج. وضربها هنالك مباح ولا بد منـها لكبار الناس وتمتاز سراجة السلطان بكونـها حمراء، وسواها بيضاء منقوشة بالأزرق، واشتريت الصيوان، وهو الذي يظل بـه داخل السراجة، ويرفع على عمودين كبيرين ويجعل ذلك الرجال على أعناقهم، ويقال لهم اليكوانية والعادة هنالك أن يكتري المسافر اليكوانية، وقد ذكرناهم، ويكتري من يسوق له العشب لعلف الدواب لأنـهم لا يطعمونـها التبن ويكتري الكهارين، وهم الذين يحملون أواني المطبخ، ويكتري من يحمله في الدولة، وقد ذكرناها، ويحملها فارغة، ويكتري الفراشين، وهم الذين يضربون السراجة، ويفرشونـها، ويرفعون الأحمال على الجمال، ويكتري الدوادوية، وهم الذين يمشون بين يديه، ويحملون المشاعل بالليل، فاكتريت أنا جميع من احتجت له منـهم، وأظهرت القوة والهمة، وخرجت يوم خروج السلطان وغيري أقام بعده اليومين والثلاثة، فلما كان بعد العصر من يوم خروجه ركب الفيل، وقصده أن يتطلع على أحوال الناس، ويعرف من تسارع إلى الخروج، ومن أبطأ وجلس خارج السراجة على كرسي، فجئت وسلمت ووقفت في موقفي بالميمنة، فبعث إلي الملك الكبير قبولة سرجامدار، وهو الذي يشرد الذباب عنـه، فأمرني بالجلوس عناية بي، ولم يجلس في ذلك اليوم سواي ثم أتى بالفيل، وألصق بـه سلم فركب عليه، ورفع الشطر فوق رأسه وركب معه الخواص وجال ساعة، ثم عاد إلى السراجة. وعادته إذا ركب، ان يركب الأمراء أفواجا كل أمير بفوجه وعلاماته وطبوله وأنفاره وصرناياته يسمون ذلك المراتب، ولا يركب أمام السلطان، إلا الحجاب وأهل الطرق والطبالة الذين يتقلدون الأطبال الصغار، والذين يضربون الصرنايات. ويكون عن يمين السلطان نحو خمسة عشر رجلا، وعن يساره مثل ذلك، منـهم قضاة القضاة والوزير وبعض الأمراء الكبار وبعض الأعزة، وكنت أنا من أهل ميمنته، ويكون بين يديه المشاءون والأدلاء، ويكون خلفه علاماته، وهي من الحرير المذهب، والأطبال على الجمال وخلف ذلك مماليكه، وأهل دخلته، وخلفهم الأمراء وجميع الناس، ولا يعلم أحد أين يكون النزول فإذا مر السلطان بمكان يعجبه النزول بـه أمر بالنزول، ولا تضرب سراجة أحد حتى تضرب سراجته، ثم يأتي الموكلون بالنزول فينزلون، كل واحد في منزله خلال ذلك ينزل السلطان على نـهر أو بين أشجار، وتقدم بين يديه لحوم الأغنام والدجاج المسمنة والكراكي وغيرها من أنواع الصيد، ويحضر أبناء الملوك في يد كل واحد منـهم سفود، ويوقدون النار ويشوون ذلك، ويؤتى بسراجة صغيرة فتضرب للسلطان ويجلس من معه من الخواص خارجها، ويؤتى بالطعام، ويستدعي من شاء فيأكل معه، وكان في بعض تلك الأيام وهو بداخل السراجة يسأل عمن بخارجها، فقال له السيد ناصر الدين مطهر الأوهري أحد ندمائه ثم فلان المغربي، وهو متغير فقال لماذا  فقال: بسبب الدين الذي عليه وغرماؤه يلحون في الطلب وكان خوند عالم قد أمر الوزير بإعطائه فسافر قبل ذلك فإن طلب مولانا أن يصبر أهل الدين حتى يقدم الوزير أو أمر بإنصافهم. وحضر لهذا الملك دولة شاه وكان السلطان يخاطبه بالعم فقال: يا خوند عالم كل يوم وهو يكلمني بالعربية ولا أدري ما يقول يا سيدي ناصر الدين ماذا، وقصد أن يكرر ذلك الكلام فقال يتكلم لأجل الدين الذي عليه فقال السلطان إذا دخلنا دار الملك، فامض أنت يا أومار، ومعناه: يا عم إلى الخزانة، فأعطه ذلك المال وكان خداوند زاده حاضرا، فقال يا خوند عالم إنـه كثير الإنفاق، وقد رأيته ببلادنا عند السلطان طرمشيرين. وبعد هذا الكلام استحضرني السلطان للطعام، ولا علم عندي بما جرى فلما خرجت قال لي السيد ناصر الدين: أشكر للملك دولة شاه وقال لي الملك دولة شاه: أشكر لخداوند زاده. وفي بعض تلك الأيام، ونحن مع السلطان في الصيد ركب في المحلة، وكان طريقه على منزلي وكان معه في الميمنة وأصحابي في الساقة، وكان لي خباء عند السراجة، فوقف أصحابي عندها، وسلموا على السلطان فبعث عماد الملك وملك دولة شاه ليسأل لمن تلك الأخبية والسراجة فقيل لهما: لفلان أخبراه ذلك فتبسم. فلما كان بالغد، نفذ الأمر أن أعود أنا وناصر الدين مطهر الأوهري وابن قاضي مصر وملك صبيح إلى البلد، فخلع علينا وعدنا إلى الحضرة.

صفحة : 261

   ذكر الجمل الذي أهديته للسلطان

 وكان السلطان في تلك الأيام سألني عن الملك الناصر هل يركب الجمل، فقلت: نعم يركب المـهاري في أيام الحج فيسير إلى مكة من مصر في عشرة أيام ولكن تلك الجمال ليست كجمال هذه البلاد. وأخبرته أن عندي جملا منـها فلما عدت إلى الحضرة بعثت عن بعض عرب مصر فصور لي صورة الكور الذي تركب المـهاري بـه من القير، وأريتها بعض النجارين فعمل الكور وأتقنـه وكسوته بالملف، وصنعت له ركبا وجعلت على الجمل عباءة حسنة وجعلت له خطام حرير وكان عندي رجل من أهل اليمن يحسن عمل الحلواء، فصنع منـها ما يشبه التمر وغيره، وبعثت الجمل والحلواء إلى السلطان وأمرت الذي حملها أن يدفعها على يد ملك دولة شاه وبعثت له بفرس وجملين فلما وصله ذلك دخل على السلطان وقال: يا خوند عالم رأيت العجب قال: وما ذلك  قال: فلان بعث جملا عليه سرج فقال: ائتوا به. فأدخل الجمل داخل السراجة، وأعجب بـه السلطان، وقال لراجلي: اركبه فركبه ومشاه بين يديه وأمر له بمائتي دينار دراهم وخلعة، وعاد الرجل إلي فأعلمني فسرني ذلك وأهديت له جملين بعد عودته إلى الحضرة.

  ذكر الجملين اللذين أهديتهما إليه والحلواء

  وأمره بخلاص ديني وما تعلق بذلك

 ولما عاد إلي راجلي الذي بعثته بالجمل، فأخبرني بما كان من شأنـه صنعت كورين اثنين، وجعلت مقدم كل واحد ومؤخره مكسوا بصفائح الفضة المذهبة وكسوتها بالملف وصنعت رسنا مصفحا بصفائح الفضة المذهبة، وجعلت لهما جلين من زردخانة مبطنين، بالكمخا، وجعلت للجملين الخلاخيل من الفضة المذهبة، وصنعت أحد عشر طيفورا، وملأتها بالحلواء، وغطيت كل طيفور بمنديل حرير، فلما قدم السلطان من الصيد وقعد ثاني يوم قدومـه بموضع جلوسه العام، غدوت عليه بالجمال، فأمر بها، فحركت بين يديه، وهرولت فطار خلخال أحدهما فقال لبهاء الدين ابن الفلكي: بايل ورداري، معنى ذلك: ارفع الخلخال، فرفعه ثم نظر إلى الطيافير فقال: جداري  جه داري  درآن طبقها حلوا است، معنى ذلك: ما معك في تلك الأطباق، حلواء هي  فقلت له: نعم فقال للفقيه ناظر الدين الترمذي الواعظ: ما أكلت قط، ولا رأيت مثل الحلواء التي بعثها الينا ونحن بالمعسكر، ثم أمر بتلك الطيافير أن ترفع لموضع جلوسه فرفعت وقام إلى مجلسه، واستدعاني، وأمر بالطعام، فأكلت ثم سألني عن نوع الحلواء الذي بعثت له: فقلت له: يا خوند عالم، تلك الحلواء أنواعها كثيرة، ولا أدري عن أي نوع تسألون منـها فقال: إيتوا بتلك الأطباق وهم يسمون الطيفور طبقا، فأتوا بها وقدموها بين يديه وكشفوا عنـها، فقال: عن هذا سألتك، وأخذ الصحن الذي هي فيه فقلت له: هذه يقال لها المقرصة، ثم أخذ نوعا آخر فقال: وما اسم هذه  فقلت له هي لقيمات القاضي. وكان بين يديه تاجر من شيوخ بغداد يعرف بالسامري، وينتسب إلى آل العباس رضي الله تعالى عنـه، وهو كثير المال ويقول له السلطان والدي، فحسدني وأراد أن يخجلني فقال: ليست هذه لقيمات القاضي، بل هي هذه وأخذ قطعة من التي تسمى جلد الفرس وكان بإزائه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي، وكان كثيرا ما يمازح هذا الشيخ بين يدي السلطان فقال: يا خواجة أنت تكذب والقاضي يقول الحق. فقال له السلطان: وكيف ذلك فقال: يا خوند عالم هو القاضي وهي لقيماته، فإنـه أتى بها فضحك السلطان وقال: صدقت. فلما فرغنا من الطعام أكل الحلواء ثم شرب الفقاع بعد ذلك وأخذنا التنبول وانصرفنا فلم يكن غير هنيهة وأتاني الخازن فقال: ابعث أصحابك يقبضون المال، فبعثتهم وعدت إلى داري بعد المغرب فوجدت المال بها وهو ثلاث بدر فيها ستة آلاف ومائتان وثلاث وثلاثون تنكة، وذلك صرف الخمسة والخمسين ألفا التي هي دين علي، وصرف الاثني عشر ألفا التي أمر لي بها فيما تقدم، بعد حط العشر على عادتهم وصرف التنكة ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب.

  ذكر خروج السلطان وأمره لي بالإقامة بالحضرة

صفحة : 262

  وفي تاسع جمادى الأولى خرج السلطان برسم قصد بلاد المعبر، وقتال القائم بها وكنت قد خلصت أصحاب الدين، وعزمت على السفر، وأعطيت مرتب تسعة أشـهر للكهارين والفراشين والكيوانية والدوادوية، وقد تقدم ذكرهم فخرج الأمر بإقامتي في جملة ناس وأخذ الحاجب خطوطنا بذلك لتكون حجة له، وتلك عادتهم خوفا من أن ينكر المبلغ، وأمر لي بستة آلاف دينار دراهم، وأمر لابن قاضي مصر بعشرة آلاف وكذلك كل من أقام من الأعزة، وأما البلديون فلم يعطوا شيئا، وأمر لي السلطان أن أتولى النظر في مقبرة السلطان قطب الدين، الذي تقدم ذكره. وكان السلطان يعظم تربته تعظيما شديدا، لأنـه كان خديما له ولقد رأيته اذا أتى قبره يأخذ نعله فيقبله ويجعله فوق رأسه. وعادتهم أن يجعلوا نعل الميت عند قبره فوق متكأة. وكان إذا وصل القبر خدم له كما كان يخدم أيام حياته، وكان يعظم زوجته، ويدعوها بالأخت وجعلها مع حرمـه وزوجها بعد ذلك لابن قاضي مصر، واعتنى بـه من أجلها وكان يمضي لزيارتها في كل جمعة. ولما خرج السلطان بعث عنا للوداع فقام ابن قاضي مصر فقال: أنا لا أودع ولا أفارق خوند عالم، فكان له في ذلك الخير، فقال له السلطان: إمض فتجهز للسفر، وقدمت بعده للوداع، وكنت أحب الإقامة، ولم تكن عاقبتها محمودة، فقال: مالك من حاجة فأخرجت بطاقة فيها ست مسائل فقال لي: تكلم بلسانك فقلت له إن خوند عالم أمر لي بالقضاء، وما قعدت لذلك بعد وليس مرادي من القضاء الا حرمته فأمرني بالقعود للقضاء وقعود النائبين معي، ثم قال لي: إيه  فقلت وروضة السلطان قطب الدين، ماذا أفعل بها  فإني رتبت فيها أربعمائة وستين شخصا ومحصول أوقافها لا يفي بمرتباتهم وطعامـهم. فقال للوزير بنجاه هزار ومعناه خمسين الفا ثم قال: لا بد لك من غلة بدية يعني أعطه مائة الف من من الغلة، وهي القمح والأرز، ينفقها في هذه السنة حتى تأتي غلة الروضة والمن عشرون رطلا مغربية. ثم قال لي ماذا أيضا فقلت: إن أصحابي سجنوا بسبب القرى التي أعطيتموني، فإني عوضتها بغيرها فطلب أهل الديوان ما وصلني منـها او الاستظهار بأمر خوند عالم أن يرفع عني ذلك فقال كم وصلك منـها فقلت خمسة آلاف دينار فقال هي إنعام عليك فقلت له: وداري التي أمرتم لي بها مفتقرة إلى البناء فقال للوزير: عمارة كنيد، أي معناه عمروها ثم قال لي: ديكر نماند، معناه هل بقي لك كلام  فقلت له: لا فقال لي: وصية ديكر هست، معناه: أوصيك أن لا تأخذ الدين لئلا تطلب فلا تجد من يبلغ خبرك إلي. أنفق على قدر ما أعطيتك قال الله تعالى:  ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط   وكلوا واشربوا ولا تسرفوا   والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما  . فأردت أن أقبل قدمـه، وأمسك رأسي بيده فقبلتها وانصرفت وعدت إلى الحضرة فاشتغلت بعمارة داري، وأنفقت فيها أربعة آلاف دينار، أعطيت منـها من الديوان ستمائة دينار، وزدت عليها الباقي، وبنيت بإزائها مسجدا واشتغلت بترتيب مقبرة السلطان قطب الدين وكان قد أمرني أن تبنى عليه قبة يكون ارتفاعها في الهواء مائة ذراع، بزيادة عشربن ذراعا على ارتفاع القبة المبنية على قازان ملك العراق، وأمر أن تشتري قرية تكون وقفا عليها، وجعلها بيدي علي أن يكون لي العشر من فائدها على العادة.

  ذكر ما فعلته في ترتيب المقبرة

صفحة : 263

  وعادة أهل الهند أن يرتبوا لأمواتهم ترتيبا كترتيبهم بقيد الحياة، ويؤتى بالفيلة والخيل فتربط عند باب التربة، وهي مزينة. فرتبت أنا في هذه التربة بحسب ذلك ورتبت من قراء القرآن مائة وخمسين، وهم يسمونـهم اميين، ورتبت من الطلبة ثمانين، ومن المعيدين، ويسمونـهم المكررين، ثمانية، ورتبت لها مدرسا، ورتبت من الصوفية ثمانين، ورتبت الإمام والمؤذنين والقراء بالأصوات الحسان والمداحين وكتاب الغيبة والمعرفين، وجميع هؤلاء يعرفون عندهم بالأرباب، ورتبت صنفا آخر يعرفون بالحاشية، وهم الفراشون والطباخون والدوادوية والأبدارية، وهم السقاءون والشربدارية الذين يسقون الشربة، والتنبول دارية الذين يعطون التنبول والسلحدارية والنيزدارية والشطر دارية والطشت دارية والحجاب والنقباء فكان جميعهم أربعمائة وستين. وكان السلطان أمر أن يكون الطعام بها كل يوم اثني عشر منا من الدقيق ومثلها من اللحم، فرأيت أن ذلك قليل، والزرع الذي أمر بـه كثير فكنت أنفق كل يوم خمسة وثلاثين منا من الدقيق ومثلها من اللحم وما يتبع ذلك من السكر، والنبات، والسمن، والتنبول، وكنت أطعم المرتبين وغيرهم من صادر ووارد وكان الغلاء شديدا فارتفق الناس بهذا الطعام وشاع خبره، وسافر الملك صبيح إلى السلطان بدولة آباد سأله عن حال الناس. فقال له لو كان بدهلي اثنان مثل فلان لما شكا الجهد، فأعجب ذلك السلطان، وبعث إليه بخلعة من ثيابه وكنت أصنع في المواسم وهي العيدان والمولد الكريم ويوم عاشوراء وليلة النصف من شعبان ويوم وفاة السلطان قطب الدين مائة من الدقيق ومثلها لحما فيأكل الفقراء والمساكين، وأما أهل الوظيفة فيجعل أمام كل إنسان منـهم ما يخصه ولنذكر عادتهم في ذلك.

  ذكر عادتهم في إطعام الناس في الولائم

 وعادتهم ببلاد الهند وببلاد السرى أنـه إذا فرغ من أكل الطعام في الوليمة جعل أمام كل إنسان من الشرفاء والفقهاء والمشايخ والقضاة وعاء شبه المـهد له أربع قوائم منسوج سطحه من الخوص، وجعل عليه الرقاق، ورأس غنم مشوي، وأربعة أقراص معجونة بالسمن مملوءة بالحلواء الصابونية مغطاة بأربع قطع من الحلواء كأنـها الآجر وطبقا صغيرا مصنوعا من الجلد فيه الحلواء والسموسك، ويغطى ذلك الوعاء بثوب قطن جديد. ومن كان دون من ذكرناه جعل أمامـه نصف رأسه غنم، ويسمونـه الزلة ومقدار النصف مما ذكرناه. ومن كان دون هؤلاء أيضا جعل أمامـه مثل الربع من ذلك ويرفع رجال كل أحد ما جعل أمامـه وأول ما رأيتهم يصنعون هذا بمدينة السرا حضرة السلطان أوزبك، فامتنعت أن يرفع رجالي ذلك إذ لم يكن لي بـه عهد وكذلك يبعثون أيضا لدار كبراء الناس من طعام الولائم.

  ذكر خروجي إلى هزار أمروها

 وكان الوزير قد أعطاني من الغلة المأمور بها للزاوية عشرة آلاف، ونفذ لي الباقي في هزار أمروها. وكان والي الخراج بها عزيز الخمار، وأميرها شمس الدين البذخشاني. فبعثت رجالي فأخذوا بعض الإحالة، وتشكوا من تعسف عزيز الخمار. فخرجت بنفسي لاستخلاص ذلك. وبين دهلي وهذه العمالة ثلاثة أيام، وكان ذلك في أوان نزول المطر. فخرجت في نحو ثلاثين من أصحابي، واستصحبت معي أخوين من المغنين المحسنين يغنيان لي في الطريق، فوصلنا إلى بلدة بجنور، وضبط اسمـها  بكسر الباء الموحدة وسكون الجيم وفتح النون وآخره راء  فوجدت بها أيضا ثلاثة أخوة من المغنين، فاستصحبتهم. فكانوا يغنون لي نوبة والآخران نوبة.

صفحة : 264

  ثم وصلنا إلى أمروها وهي بلدة صغيرة حسنة، فخرج عمالها للقائي، وجاء قاضيها الشريف أمير علي، وشيخ زاويتها، وأضافاني معا ضيافة حسنة. وكان عزيز الخمار بموضع يقال له: أفغان بور، على نـهر السرو. وبيننا وبينـه النـهر، ولا معدية فيه. فأخذنا الأثقال في معدية صنعناها من الخشب والنبات، وجزنا في اليوم الثاني. وجاء نجيب أخو عزيز في جماعة من أصحابه، وضرب لنا سراجة. ثم جاء أخوه الوالي، وكان معروفا بالظلم، وكانت القرى التي في عمالته ألفا وخمسمائة قرية، ومجباها ستون لكا في السنة، له فيها نصف العشر. ومن عجائب النـهر الذي نزلنا عليه، أنـه لا يشرب منـه أحد في أيام نزول المطر، ولا تسقى منـه دابة. ولقد أقمنا عليه ثلاثا. فما غرف منـه أحد غرفة، ولا كدنا نقرب منـه، لأنـه ينزل من جبل قراجيل التي بها معادن الذهب، ويمر على الخشاش المسمومة، فمن شرب منـه مات. وهذا الجبل متصل مسيرة ثلاثة أشـهر، وينزل منـه إلى بلاد تبت حيث غزلان المسك. وقد ذكرنا ما اتفق على جيش المسلمين بهذا الجبل. وبهذا الموضع جاء إلي جماعة من الفقراء الحيدرية، وعملوا السماع، وأوقدوا النيران فدخلوها ولم تضرهم. وقد ذكرنا ذلك. وكانت قد نشأت بين أمير هذه البلاد شمس الدين البذخشاني وبين واليها عزيز الخمار منازعة. وجاء شمس الدين لقتاله، فامتنع منـه بداره. وبلغت شكاية أحدهما الوزير بدهلي، فبعث إلي الوزير وإلى الملك شاه أمير المماليك بأمروها، وهم أربعة آلاف مملوك للسلطان، وإلى شـهاب الدين الرومي أن ننظر في قضيتهما. فمن كان على الباطل بعثناه مثقفا إلى الحضرة. فاجتمعوا جميعا بمنزلي وادعى عزيز على شمس الدين دعاوى. منـها أن خديما له يعرف بالرضى الملتاني نزل بدار خازن عزيز المذكور فشرب بها الخمر، وسرق خمسة آلاف دينار من المال الذي عند الخازن. فاستفهمت الرضى عن ذلك فقال لي: ما شربت الخمر منذ خروجي من ملتان، وذلك منذ ثمانية أعوام. فقلت له: أو شربتها بملتان  قال: نعم. فأمرت بجلده ثمانين وسجنته بسبب الدعوى للوث ظهر عليه. وانصرفت عن أمروها. فكانت غيبتي نحو شـهرين، وكنت في كل يوم أذبح لأصحابي بقرة. وتركت أصحابي ليأتوا بالزرع المنفذ على عزيز وحمله عليه. فوزع على أهل القرى التي لنظره ثلاثون ألف من يحملونـها على ثلاثة آلاف بقرة. وأهل الهند لا يحملون إلا على البقر، وعليه يرفعون أثقالهم في الأسفار. وركوب الحمير عندهم عيب كبير. وحميرهم صغار الأجرام، يسمونـها اللاشة، وإذا أرادوا إشـهار أحدهم بعد ضربه أركبوه الحمار.

  ذكر مكرمة لبعض الأصحاب

 وكان السيد ناصر الدين الأوهري قد ترك عندي لما سافر ألفا وستين تنكة، فتصرفت فيها، فلما عدت إلى دهلي وجدته قد أحال في ذلك المال خداوندزاده قوام الدين، وكان قد قدم نائبا على الوزير. فاستقبحت أن أقول له: تصرفت بالمال، فأعطيته نحو ثلثه. وأقمت بداري أياما. وشاع أني مرضت. فأتى ناصر الدين الخوارزمي صدر الجهان لزيارتي. فلما رآني قال: ما أرى بك مرضا  فقلت له: إني مريض القلب. فقال لي: عرفني بذلك. فقلت له: ابعث إلي نائبك شيخ الإسلام أعرفه به. فبعثه إلي فأعلمته، فعاد إليه فأعلمـه. فبعث إلي بألف دينار دراهم. وكان له عندي قبل هذا ألف ثان. ثم طلب مني بقية المال. فقلت في نفسي: ما يخلصني منـه إلا صدر الجهان المذكور، لأنـه كثير المال. فبعثت إليه بفرس مسرج، قيمته وقيمة سرجه ألف وستمائة دينار، وبفرس ثان قيمته وقيمة سرجه ثمانمائة دينار، وبغلتين قيمتهما ألف ومائتا دينار، وبتركش فضة، وبسيفين غمداهما مغشيان بالفضة. وقلت له: أنظر قيمة الجميع، زابعث إلي ذلك، فأخذ ذلك، وعمل لجميعه قيمة ثلاث آلاف دينار، فبعث إلي ألفا، واقتطع الألفين، فتغير خاطري، ومرضت بالحمى، وقلت لنفسي: إن شكوت بـه إلى الوزير افتضحت. فأخذت خمسة أفراس وجاريتين ومملوكين وبعثت الجميع للملك مغيث الدين محمد بن ملك الملوك عماد الدين السمناني وهو فتي السن، فرد علي ذلك، وبعث إلي مائتي تنكة واغزر، وخلصت من ذلك المال. فشتان بين فعل محمد ومحمد.

  ذكر خروجي من محلة السلطان

صفحة : 265

  وكان السلطان لما توجه إلى بلاد المعبر وصل إلى التلنك، ووقع الوباء بعسكره، فعاد إلى دولة آباد، ثم وصل إلى نـهر الكنك فنزل عليه، وأمر الناس بالبناء. وخرجت في تلك الأيام إلى محلته، واتفق ما سردناه من مخالفة عين الملك، ولازمت السلطان في تلك الأيام، وأعطاني من عتاق الخيل، لما قسمـها على خواصه، وجعلني فيهم، وحضرت معه الوقيعة على عين الملك والقبض عليه، وجزت معه نـهر الكنك ونـهر السرو، لزيارة قبر الصالح البطل سالارعود  مسعود  ، وقد استوفيت ذلك كله، وعدت معه إلى حضرة دهلي لما عاد إليها.

  ذكر ما هم بـه السلطان من عقابي

  وما تداركني من لطف الله تعالى

 وكان سبب ذلك أني ذهبت يوما لزيارة الشيخ شـهاب الدين ابن الشيخ الجام، بالغار الذي احتفره خارج دهلي، وكان قصدي رؤية ذلك الغار. فلما أخذه السلطان، سأل أولاده عمن كان يزوره، فذكروا أناسا أنا من جملتهم. فأمر السلطان أربعة من عبيده بملازمتي بالمشور. وعادته أنـه متى فعل ذلك مع أحد قلما يتخلص. فكان أول يوم من ملازمتهم لي يوم الجمعة، فألهمني الله تعالى إلى تلاوة قوله:  حسبنا الله ونعم الوكيل  فقرأتها ثلاثا وثلاثين ألف مرة، وبت بالمشور، وواصلت إلى خمسة أيام، في كل يوم منـها أختم القرآن وأفطر على الماء خاصة، ثم أفطرت بعد خمس، وواصلت أربعا، وتخلصت بعد قتل الشيخ، والحمد لله تعالى.

  ذكر انقباضي عن الخدمة وخروجي عن الدنيا

 ولما كان بعد مدة انقبضت عن الخدمة، ولازمت الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الخاشع الورع فريد الدهر ووحيد العصر كمال الدين عبد الله الغاري، وكان من الأولياء، وله كرامات كثيرة، فقد ذكرت منـها ما شاهدته عند ذكر اسمـه. وانقطعت إلى خدمة هذا الشيخ، ووهبت ما عندي للفقراء والمساكين. وكان الشيخ يواصل عشرة أيام، وربما واصل عشرين. فكنت أحب أن أواصل، فكان ينـهاني ويأمرني بالرفق على نفسي في العبادة، ويقول لي: إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وظهر لي من نفسي تكاسل بسبب شيء بقي معي، فخرجت عن جميع ما عندي من قليل وكثير، وأعطيت ثياب ظهري لفقير، ولبست ثيابه. ولزمت هذا الشيخ خمسة أشـهر، والسلطان إذ ذاك غائب ببلاد السند.

  ذكر بعث السلطان عني وإبايتي الرجوع

  إلى الخدمة واجتهادي في العبادة

 ولما بلغه خبر خروجي عن الدنيا استدعاني وهو يومئذ بسوستان، فدخلت عليه في زي الفقراء، فكلمني أحسن كلام وألطفه، وأراد مني الرجوع إلى الخدمة فأبيت، وطلبت منـه الإذن في السفر إلى الحجاز، فأذن لي فيه، وانصرفت عنـه، ونزلت بزاوية تعرف بالنسبة إلى الملك بشير، وذلك في أواخر جمادى الثانية سنة اثنتين وأربعين. فاعتكفت بها شـهر رجب وعشرة من شعبان، وانتهيت إلى مواصلة خمسة أيام، وأفطرت بعدها على قليل أرز دون إدام. وكنت أقرأ القرآن كل يوم، وأتهجد بما شاء الله. وكنت إذا أكلت الطعام آذاني، فإذا طرحته وجدت الراحة. وأقمت كذلك أربعين يوما، ثم بعث عني ثانية.

  ذكر ما أمرني بـه من التوجه إلى الصين في الرسالة

 ولما كملت لي أربعون يوما بعث إلي السلطان خيلا مسرجة وجواري وغلمانا وثيابا ونفقة، فلبست ثيابه وقصدته. وكانت لي جبة قطن زرقاء مبطنة، لبستها أيام اعتكافي. فلما جردتها ولبست ثياب السلطان أنكرت نفسي. وكنت متى نظرت إلى تلك الجبة أجد نورا في باطني، ولم تزل عندي إلى أن سلبني الكفار في البحر. ولما وصلت إلى السلطان زاد في إكرامي على ما كنت أعهده، وقال لي: إنما بعثت إليك لتتوجه عني رسولا إلى ملك الصين. فإني أعلم حبك في الأسفار والجولان. فجهزني بما أحتاج له، وعين للسفر معي من يذكر بعد.

  ذكر سبب بعث الهدية للصين

  وذكر من بعث معي وذكر الهدية

صفحة : 266

  وكان ملك الصين قد بعث إلى السلطان مائة مملوك وجارية وخمسمائة ثوب من الكمخا، منـها مائة من التي تصنع بمدينة الزيتون، ومائة من التي تصنع بمدينة الخنسا، وخمسة أمنان من المسك، وخمسة أثواب مرصعة بالجوهر، ومثلها من التراكش مزركشة، ومثلها سيوف. وطلب من السلطان يأذن له في بناء بيت الأصنام بناحية جبل قراجيل المتقدم ذكره، ويعرف الموضع الذي هو بـه بسمـهل  بفتح السين المـهمل وسكون الميم وفتح الهاء  . وإليه يحج أهل الصين. وتغلب عليه جيش الإسلام بالهند فخربوه وسلبوه. ولما وصلت هذه الهدية إلى السلطان كتب إليه بأن هذا المطلب لا يجوز في ملة الإسلام إسعافه، ولا يباح بناء كنيسة بأرض المسلمين إلا لمن يعطي الجزية. فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه والسلام على من اتبع الهدى. وكافأة على هديته بخير منـها، وذلك مائة فرس من الجياد مسرجة ملجمة ومائة مملوك ومائة جارية من كفار الهند مغنيات ورواقص، ومائة ثوب بيرمية، وهي من القطن ولا نظير لها في الحسن قيمة الثوب منـها مائة دينار، ومائة شقة من ثياب الحرير المعروفة بالجز  بضم الجيم وزاي  ، وهي التي يكون حرير إحداها مصبوغا بخمسة ألوان وأربعة، ومائة ثوب من الثياب المعروفة بالصلاحية، ومثلها من الشيرين باف، ومثلها من الشان باف، وخمسمائة ثوب من المرعز، مائة منـها سود، ومائة بيض، ومائة حمر، ومائة خضر، ومائة زرق، ومائة شقة من الكتان الرومي، ومائة فضلة من الملف، وسراجة، وست من القباب، وأربع حسك من ذهب، وست حسك من فضة منيلة، وأربعة طسوت من الذهب ذات أباريق كمثلها، وستة طسوت من الفضة، وعشر خلع من ثياب السلطان مزركشة، وعشر شواش من لباسه، إحداها مرصعة بالجوهر، وعشرة تراكش مزركشة، وأحدها مرصع بالجواهر، وعشرة من السيوف، أحدها مرصع الغمد بالجوهر، ودشت بان  دستبان  وهو قفاز مرصع بالجواهر، وخمسة عشر من الفتيان. وعين السلطان للسفر معي بهذه الهدية الأمير ظهير الدين الزنجاني، وهو من فضلاء أهل العلم، والفتى كافور الشريدار، وإليه سلمت الهدية، وبعث معنا الأمير محمد الهروي في ألف فارس ليوصلنا إلى الموضع الذي نركب منـه البحر. وتوجه صحبتنا أرسال ملك الصين، وهم خمسة عشر رجلا، يسمى كبيرهم ترسي، وخدامـهم نحو مائة رجل. وانفصلنا في جمع كبير ومحلة عظيمة، وأمر لنا السلطان بالضيافة مدة سفرنا ببلاده.

 وكان سفرنا في السابع عشر لشـهر صفر سنة ثلاث وأربعين، وهو اليوم الذي اختاروه للسفر، لأنـهم يختارون للسفر من أيام الشـهر ثانيه، أو سابعه أو الثاني عشر أو السابع عشر أو الثاني والعشرين أو السابع والعشرين. فكان نزولنا في أول مرحلة بمنزل تلبت على مسافة فرسخين وثلث من حضرة دهلي.

 ورحلنا منـها إلى منزل هيلوور ، ورحلنا منـه إلى مدينة بيانة  وضبط اسمـها بفتح الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف مع تخفيفها وفتح النون  ، وهي كبيرة حسنة البناء مليحة الأسواق، ومسجدها الجامع من أبدع المساجد، وحيطانـه وسقفه حجارة. والأمير بها مظفر ابن الداية، وأمـه هي داية للسلطان. وكان بها قبله الملك مجير ابن أبي الرجاء، أحد كبار الملوك، وقد تقدم ذكره، وهو ينتسب إلى قريش وفيه تجبر، وله ظلم كثير. قتل من أهل هذه المدينة جملة، ومثل بكثير منـهم.

 ولقد رأيت من أهلها رجلا حسن الهيئة قاعدا في أسطوان منزله، وهو مقطوع اليدين والرجلين. وقدم السلطان مرة على هذه المدينة، فتشكى الناس من الملك مجير المذكور. فأمر السلطان بالقبض عليه، وجعلت في عنقه الجامعة وكان يقعد بالديوان بين يدي الوزير، وأهل البلد يكتبون عليه المظالم، فأمره السلطان بإرضائهم، فأرضاهم بالأموال. ثم قتله بعد ذلك. ومن كبار أهل هذه المدينة الإمام العالم عز الدين الزبيري من ذرية الزبير ابن العوام رضي الله عنـه، أحد كبار الفقهاء الصلحاء. لقيته بكاليور عند الملك عز الدين البنتاني، المعروف بأعظم ملك. ثم رحلنا من بيانة فوصلنا إلى مدينة كول  وضبط اسمـها بضم الكاف  مدينة حسنة ذات بساتين، وأكثر أشجارها العنبا. ونزلنا بخارجها في بسيط أفيح. ولقينا بها الشيخ الصالح العابد شمس الدين المعروف بابن العارفين، وهو مكفوف البصر معمر، وبعد ذلك سجنـه السلطان، ومات في سجنـه، وقد ذكرنا حديثه.

  ذكر غزوة شـهدناها بكول

صفحة : 267

  ولما بلغنا إلى مدينة كول، بلغنا أن بعض كفار الهنود حاصروا بلدة الجلالي وأحاطوا بها، وهي على مسافة سبعة أميال من كول. قصدناها والكفار يقاتلون أهلها وقد أشرفوا على التلف، ولم يعلم الكفار بنا، حتى صدقنا الحملة عليهم، وهم في نحو ألف فارس، وثلاثة آلاف راجل، فقتلناهم عن آخرهم، واحتوينا على خيلهم وأسلحتهم، واستشـهد من أصحابنا ثلاثة وعشرون فارسا وخمسة وخمسون راجلا، واستشـهد الفتى كافور الساقي الذي كانت الهدية مسلمة بيده. فكتبنا إلى السلطان بخبره، وأقمنا في انتظار الجواب. وكان الكفار في أثناء ذلك ينزلون من جبل هنالك منيع، فيغيرون على نواحي بلدة الجلالي. وكان أصحابنا يركبون كل يوم مع أمير تلك الناحية ليعينوه على معتهم.

  ذكر محنتي بالأسر وخلاصي منـه

  وخلاصي من شدة بعده على يد ولي من أولياء الله تعالى

 وفي بعض تلك الأيام ركبت في جماعة من أصحابي، ودخلنا بستانا نقيل فيه، وذلك في فصل القيظ. فسمعنا الصياح، فركبنا ولحقنا كفارا أغاروا على قرية من قرى الجلالي. فاتبعناهم فتفرقوا، وتفرق أصحابنا في طلبهم. وانفردت في خمسة من أصحابنا. فخرج علينا جملة من الفرسان والرجال من غيضة هنالك، ففررنا منـهم لكثرتهم. واتبعني نحو عشرة منـهم، ثم انقطعوا عني إلا ثلاثة منـهم. ولا طريق بين يدي، وتلك الأرض كثيرة الحجارة. فنشبت يد فرسي بين الحجارة فنزلت عنـه، واقتلعت يده، وعدت إلى ركوبه. والعادة بالهند أن يكون مع الإنسان سيفان أحدهما معلق بالسراج ويسمى الركابي والآخر في التركش. فسقط سيفي الركابي من غمده، وكانت حليته ذهبا، فنزلت فأخذته وتقلدته وركبت، وهم في أثري. ثم وصلت إلى خندق عظيم فنزلت ودخلت في جوفه فكان آخر عهدي بهم.

 ثم خرجت إلى واد في وسط شجراء ملتفة في وسطها طريق. فمشيت عليها ولا أعرف منتهاها، فبينا أنا في ذلك خرج علي نحو أربعين رجلا من الكفار بأيديهم القسي فأحدقوا بي، وخفت أن يرموني رمية رجل واحد إن فررت منـهم، وكنت غير متدرع، فألقيت بنفسي إلى الأرض، واستأسرت. وهم لا يقتلون من فعل ذلك، فأخذوني وسلبوني جميع ما علي، غير جبة وقميص وسروال، ودخلوا بي إلى تلك الغابة، فانتهوا بي إلى موضع جلوسهم منـها على حوض ماء بين تلك الأشجار، وأتوني بخبز ماش وهو الجلبان فأكلت منـه وشربت من الماء. وكان معهم مسلمان، كلماني بالفارسية، وسألاني عن شأني، فأخبرتهما ببعضه وكتمتهما أني من جهة السلطان فقالا لي: لا بد أن يقتلك هؤلاء أو غيرهم، ولكن هذا مقدمـهم. وأشاروا إلى رجل منـهم، فكلمته بترجمة المسلمين وتلطفت له. فوكل بي ثلاثة منـهم، أحدهم شيخ ومعه ابنـه والآخر أسود خبيث. وكلمني أولئك الثلاثة، ففهمت منـهم أنـهم أمروا بقتلي واحتملوني عشي النـهار إلى كهف. وسلط الله على الأسود منـهم حمى مرعدة، فوضع رجليه علي، ونام الشيخ وابنـه. فلما أصبح الصباح، تكلموا فيما بينـهم، وأشاروا إلي بالنزول معهم إلى الحوض، وفهمت أنـهم يريدون قتلي، فكلمت الشيخ وتلطفت إليه فرق لي، وقطعت كمي قميصي وأعطيته إياهما، لكي لا يأخذه أصحابه في إن فررت.

 ولما كان عند الظهر سمعنا كلاما عند الحوض، فظنوا أنـهم أصحابهم فأشاروا إلي بالنزول معهم، فنزلنا ووجدنا قوما آخرين، فأشاروا عليهم أن يذهبوا في صحبتهم فأبوا. وجلس ثلاثتهم أمامي، وأنا مواجه لهم. ووضعوا حبل قنب كان معهم بالأرض، وأنا أنظر إليهم وأقول في نفسي، بهذا الحبل يربطوني عند القتل. وأقمت كذلك ساعة، ثم جاء ثلاثة من أصحابهم الذين أخذوني، فتكلموا معهم، وفهمت أنـهم قالوا لهم: لأي شيء ما قتلتموه  فأشار الشيخ إلى الأسود. كأنـه اعتذر بمرضه، وكان أحد هؤلاء الثلاثة شابا حسن الوجه، فقال لي: أتريد أن أسرحك  فقلت: نعم. فقال: اذهب. فأخذت الجبة التي كانت علي فأعطيته إياها. وأعطاني منيرة بالية عنده وأراني الطريق، فذهبت وخفت أن يبدو لهم، فيدركونني. فدخلت غيضة قصب وأخفيت نفسي فيها إلى أن غابت الشمس.

 ثم خرجت وسلكت الطريق التي أرانيها الشاب، فأفضت بي إلى ماء فشربت منـه، وسرت إلى ثلث الليل، فوصلت إلى جبل، فنمت تحته. فلما أصبحت سلكت الطريق فوصلت ضحى إلى جبل من الصخر عال فيه شجر أم غيلان والسدر، فكنت أجني النبق فآكله حتى أثر الشوك في ذراعي آثارا هي باقية حتى الآن.

صفحة : 268

  ثم نزلت من ذلك الجبل إلى أرض مزروعة قطنا، وبها أشجار الخروع، وهنالك باين، والباين عندهم بئر متسعة جدا مطوية بالحجارة لها درج ينزل عليها إلى ورد الماء وبعضها يكون في وسطه وجوانبه القباب من الحجر والسقائف والمجالس، ويتفاخر ملوك البلاد وأمراؤها بعمارتها في الطرقات التي لا ماء بها، وسنذكر بعض ما رأيناه منـها فيما بعد. ولما وصلت إلى الباين شربت منـه ووجدت عليه شيئا من عساليج الخردل، قد سقطت لمن غسلها، فأكلت منـها، وادخرت باقيها، ونمت تحت شجرة خروع. فبينما أنا كذلك إذ ورد الباين نحو أربعين فارسا مدرعين، فدخل بعضهم إلى المزرعة، ثم ذهبوا وطمس الله أبصارهم دوني. ثم جاء بعدهم نحو خمسين في السلاح. ونزلوا إلى الباين. وأتى أحدهم شجرة إزاء الشجرة التي كنت تحتها، فلم يشعر بي، ودخلت إذ ذاك في مزرعة القطن، وأقمت بها بقية نـهاري. وأقاموا على الباين يغسلون ثيابهم ويلعبون. فلما كان الليل هدأت أصواتهم. فعلمت أنـهم قد مروا أو ناموا، فخرجت حينئذ، واتبعت أثر الخيل والليل مقمر، وسرت حتى انتهيت إلى باين آخر عليه قبة، فنزلت إليه وشربت من مائه، وأكلت من عساليج الخردل التي كانت عندي، ودخلت القبة فوجدتها مملوءة بالعشب مما يجمعه الطير، فنمت عليها، وكنت أحس حركة حيوان في ذلك العشب أظنـه حية فلا أبالي بها لما بي من الجهد. فلما أصبحت سلكت طريقا واسعة تفضي إلى قرية خربة، وسلكت سواها، فكانت كمثلها. وأقمت كذلك أياما، وفي بعضها وصلت إلى أشجار ملتفة، بينـها حوض ماء، وداخلها شبه بيت، وعلى جوانب الحوض نبات الأرض كالنجيل وغيره، فأردت أن أقعد هنالك حتى يبعث الله من يوصلني إلى العمارة. ثم إني وجدت يسير قوة، فنـهضت على طريق وجدت بها أثر البقر، ووجدت ثورا عليه بردعة ومنجل، فإذا تلك الطريق تفضي إلى قرى الكفار. فاتبعت طريقا أخرى، فأفضت بي إلى قرية خربة. ورأيت بها أسودين عريانين فخفتهما، وأقمت تحت أشجار هنالك. فلما كان الليل دخلت القرية، ووجدت دارا في بيت من بيوتها شبه خابية كبيرة، يصنعونـها لاختزان الزرع، وفي أسفلها نقب يسع الرجل، فدخلتها ووجدت داخلها مفروشا بالتبن وفيه حجر جعلت رأسي عليه ونمت. وكان فوقها طائر يرفرف بجناحيه أكثر الليل وأظنـه كان يخاف فاجتمعنا خائفين.

 وأقمت على تلك الحال سبعة أيام من يوم أسرت، وهو يوم السبت، وفي السابع منـها وصلت إلى قرية للكفار عامرة، وفيها حوض ماء، ومنابت خضر فسألتهم الطعام فأبوا أن يعطوني، فوجدت حول بئر بها أوراق فجل فأكلتها. وجئت القرية فوجدت جماعة كفار لهم طليعة، فدعاني طليعتهم فلم أجبه، وقعدت إلى الأرض. فأتى أحدهم بسيف مسلول ورفعه ليضربني به، فلم ألتفت إليه لعظيم ما بي من الجهد، ففتشني فلم يجد عندي شيئا، فأخذ القميص الذي كنت أعطيت كميه للشيخ الموكل بي.

صفحة : 269

  ولما كان في اليوم الثامن اشتد بي العطش وعدمت الماء، ووصلت إلى قرية خراب، فلم أجد بها حوضا. وعادتهم بتلك القرى أن يصنعوا أحواضا يجتمع بها ماء المطر فيشربون منـه جميع السنة. فاتبعت طريقا، فافضت بي إلى بئر غير مطوية، عليها حبل مضنوع من نبات الأرض وليس فيه آنية يستقى بها، فربطت خرقة كانت على رأسي في الحبل، وامتصصت ما تعلق بها من الماء، فلم يروني، فربطت خفي واستقيت بـه فلم يروني، فاستقيت بـه ثانيا، فانقطع الحبل ووقع الخف في البئر، فربطت الخف الآخر وشربت حتى رويت، ثم قطعته فربطت أعلاه على رجلي بحبل البئر، وبخرق وجدتها هنالك. فبينا أنا أربطها وأفكر في حالي إذ لاح لي شخص، فنظرت إليه فإذا رجل أسود اللون بيده إبريق وعكاز، وعلى كاهله جراب. فقال لي: سلام عليكم. فقلت له: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال لي بالفارسية: جيكس  جه كسى  معناه: من أنت  فقلت له: أنا تائه. فقال لي: وأنا كذلك. ثم ربط إبريقه بحبل كان معه واستقى ماء، فأردت أن أشرب، فقال لي: إصبر. ثم فتح جرابه، فأخرج منـه غرفة حمص أسود مقلي مع قليل أرز. فأكلت منـه وشربت، وتوضأ وصلى ركعتين، وتوضأت أنا وصليت. وسألني عن اسمي فقلت له: محمد، وسألته عن اسمـه فقال لي: القلب الفارح. فتفاءلت بذلك وسررت به. ثم قال لي: بسم الله. ترافقني  فقلت: نعم. فمشيت معه قليلا. ثم وجدت فتورا في أعضائي، ولم أستطع النـهوض فقعدت. فقال لي: ما شأنك. فقلت له: كنت قادرا على المشي قبل أن ألقاك، فلما لقيتك عجزت. فقال: سبحان الله، اركب فوق عنقي. فقلت له: إنك ضعيف، ولا تستطيع ذلك. فقال: يقويني الله. لا بد لك فركبت على عنقه. وقال لي أكثر من قراءة: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأكثرت من ذلك.

 وغلبتني عيني فلم أفق إلا لسقوطي على الأرض، فاستيقظت ولم أر للرجل أثرا، وإذا أنا في قرية عامرة، فدخلتها فوجدتها لرعية الهنود وحاكمـها من المسلمين، فأعلموه بي فجاء إلي فقلت له: ما اسم هذه القرية  فقال لي: تاج بوره. وبينـها وبين مدينة كول حيث أصحابنا فرسخان. وحملني ذلك الحاكم إلى بيته، فأطعمني طعاما سخنا واغتسلت. وقال لي: عندي ثوب وعمامة أودعهما عندي رجل عربي مصري من أهل المحلة التي بكول. فقلت له: هاتهما ألبسهما إلى أن أصل إلى المحلة. فأتى بهما، فوجدتهما من ثيابي التي كنت قد وهبتها لذلك العربي لما قدمنا كول. فطال تعجبي من ذلك.

 وفكرت بالرجل الذي حملني على عنقه، فتذكرت ما أخبرني بـه ولي الله تعالى أبو عبد الله المرشدي، حسبما ذكرناه في السفر الأول، إذ قال لي: ستدخل أرض الهند وتلقى بها أخي ويخلصك من شدة تقع فيها. وتذكرت قوله لما سألته عن اسمـه فقال: القلب الفارح وتفسيره بالفارسية دلشاد، فعلمت أنـه هو الذي أخبرني بلقائه، وأنـه من الأولياء. ولم يحصل لي من صحبته إلا المقدار الذي ذكر، وأتيت تلك الليلة إلى أصحابي بكول معلما لهم بسلامتي، فجاءوا إلي بفرس وثياب، واستبشروا بي ووجدت جواب السلطان قد وصلهم، وبعث بفتى يسمى بسنبل الجامدار، عوضا من كافور المستشـهد، وأمرنا أن نتمادى على سفرنا. ووجدتهم أيضا قد كتبوا للسلطان بما كان من أمري، وتشاءموا بهذه السفرة لما جرى فيها علي وعلى كافور، وهم يريدون أن يرجعوا. فلما رأيت تأكيد السلطان في السفر أكدت عليهم، وقوي عزمي. فقالوا: ألا ترى ما اتفق في بداية هذه السفرة  والسلطان يعذرك، فلنرجع إليه أو تقيم حتى يصل جوابه. فقلت لهم: لا يمكن المقام، وحيثما كنا أدركنا الجواب. فرحلنا من كول ونزلنا برج بوره، وبه زاوية حسنة، فيها شيخ حسن الصورة والسيرة يسمى بمحمد العريان، لأنـه لا يلبس عليه إلا ثوبا من سرته إلى أسفل، وباقي جسده مكشوف. وهو تلميذ الصالح الولي محمد العريان القاطن بقرافة مصر نفع الله به.

 حكاية هذا الشيخ

صفحة : 270

  وكان من أولياء الله تعالى، قائما على قدم التجرد، يلبس تنورة، وهو ثوب يستر من سرته إلى أسفل. ويذكر أنـه كان إذا صلى العشاء الآخرة أخرج كل ما بقي بالزاوية من طعام وإدام وماء، وفرقه على المساكين، ورمى بفتيلة السراج وأصبح على غير معلوم. وكانت عادته أن يطعم أصحابه عند الصباح خبزا وفولا. فكان الخبازون والفوالون يستبقون إلى زاويته، فيأخذ منـهم مقدار ما يكفي الفقراء، ويقول لمن أخذ منـه ذلك: اقعد، حتى يأخذ أول ما يفتح بـه عليه في ذلك اليوم قليلا أو كثيرا. ومن حكاياته أنـه لما وصل قازان ملك التتر إلى الشام بعساكره، وملك دمشق ما عدا قلعتها، وخرج الملك الناصر إلى معته، ووقع اللقاء على مسيرة يومين من دمشق، بموضع يقال له قشحب. والملك الناصر إذ ذاك حديث السن لم يعهد الوقائع. وكان الشيخ العريان في صحبته فنزل. وأخذ قيدا فقيد بـه فرس الملك الناصر لئلا يتزحزح عند اللقاء لحداثة سنـه فيكون ذلك سبب هزيمة المسلمين. فثبت الملك الناصر وهزم التتر هزيمة شنعاء، قتل منـهم فيها كثير وغرق كثير بما أرسل عليه من المياه. ولم يعد التتر إلى قصد بلاد الإسلام بعدها. وأخبرني الشيخ محمد العريان المذكور تلميذ هذا الشيخ أنـه حضر هذه الوقيعة وهو حديث السن. ورحلنا من برج بوره ونزلنا على الماء المعروف باب سياه، ثم رحلنا إلى مدينة قنوج  وضبط اسمـها بكسر القاف وفتح النون وواو ساكن وجيم  مدينة كبيرة حسنة العمارة حصينة رخيصة الأسعار كثيرة السكر، ومنـها يحمل إلى دهلي. وعليها سور عظيم، وقد تقدم ذكرها. وكان بها الشيخ معين الدين الباخرزي، أضافنا بها، وأميرها فيروز البدخشاني من ذرية بهرام جور  جوبين  صاحب كسرى. وسكن بها جماعة من الصلحاء الفضلاء المعروفين بمكارم الأخلاق يعرفون بأولاد شرف جهان، وكان جدهم قاضي القضاة بدولة آباد، وهو من المحسنين المتصدقين، وانتهت الرياسة ببلاد الهند إليه.

 حكاية يذكر أنـه عزل مرة عن القضاء وكان له أعداء، فادعى أحدهم عند القاضي الذي ولي بعده أن له عشرة آلاف دينار قبله، ولم تكن له بينة، وكان قصده أن يحلفه. فبعث القاضي له، فقال لرسوله: بم ادعى علي  فقال: بعشرة آلاف دينار. فبعث إلى مجلس القاضي عشرة آلاف، وسلمت للمدعي. وبلغ خبره السلطان علاء الدين، وصح عنده بطلان تلك الدعوى، فأعاده إلى القضاء، وأعطاه عشرة آلاف. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثا، ووصلنا فيها جواب السلطان في شأني بأنـه لم يظهر لفلان أثر، فيتوجه وجيه الملك قاضي دولة آباد عوضا منـه. ثم رحلنا من هذه المدينة فنزلنا بمنزل هنول ثم بمنزل وزير بور ثم بمنزل البجالصة، ثم وصلنا إلى مدينة موري  وضبط اسمـها بفتح الميم وواو وراء  وهي صغيرة، ولها أسواق حسنة. ولقيت بها الشيخ الصالح المعمر قطب الدين المسمى بحيدر الفرغاني، وكان بحال المرض، فدعاني وزودني رغيف شعير، وأخبرني أن عمره ينيف على مائة وخمسين، وذكر لي أصحابه أنـه يصوم الدهر، ويواصل كثيرا، ويكثر الأعتكاف، وربما أقام في خلوته أربعين يوما يقتات فيها بأربعين تمرة، في كل يوم واحدة. وقد رأيت بدهلي الشيخ المسمى برجب البرقعي دخل الخلوة بأربعين تمرة فأقام بها أربعين يوما ثم خرج، وفضل معه منـها ثلاث عشرة تمرة. ثم رحلنا ووصلنا إلى مدينة مره وضبط اسمـها  بفتح وسكون الراء وهاء  ، وهي مدينة كبيرة، أكثر سكانـها كفار تحت الذمة، وهي حصينة. وبها القمح الطيب الذي ليس مثله بسواها، ومنـها يحمل إلى دهلي، وحبوبه طوال شديدة الصفرة ضخمة، ولم أر قمحا مثله إلا بأرض الصين. وتنسب هذه المدينة إلى المالوة  بفتح اللام  ، وهي قبيلة من قبائل الهنود كبار الأجسام عظام الخلق حسان الصور، لنسائهم الجمال الفائق، وهن مشـهورات بطيب الخلوة ووفرة الحظ من اللذة. وكذا نساء المرهتة ونساء جزيرة ذيبة المـهل. ثم سافرنا إلى مدينة علابور  وضبط اسمـها بفتح العين ولام وألف وباء موحدة مضمومة وواو وراء  مدينة صغيرة أكثر سكانـها الكفار تحت الذمة، وعلى مسيرة يوم منـها سلطان كافر اسمـه قتم  بفتح القاف والتاء المعلوة  وهو سلطان جنبيل  بفتح الجيم وسكون النون وكسر الباء الموحدة وياء مد ولام  الذي حاصر مدينة كيالير وقتل بعد ذلك.

 حكاية

صفحة : 271

  كان هذا السلطان الكافر قد حاصر مدينة رابري، وهي على نـهر اللجون، كثيرة القرى والمزارع. وكان أميرها خطاب الأفغاني، وهو أحد الشجعان واستعان السلطان الكافر بسلطان كافر مثله يسمى رجو  بفتح الراء وضم الجيم  وبلده يسمى سلطان بور، وحاصر مدينة رابري، فبعث خطاب إلى السلطان يطلب منـه الإعانة، فأبطأ عليه المدد وهو على مسيرة أربعين من الحضرة، فخاف أن يتغلب الكفار عليه، فجمع من قبيلة الأفغان نحو ثلاثمائة ومثلهم من المماليك، ونحو أربعمائة من سائر الناس، وجعلوا العمائم في أعناق خيلهم، وهي عادة أهل الهند إذا أرادوا الموت وباعوا نفوسهم من الله تعالى. وتقدم خطاب وقبيلته وتبعهم الناس، وفتحوا الباب عند الصبح، وحملوا على الكفار حملة واحدة، وكانوا نحو خمس عشر ألفا، فهزموهم بإذن الله وقتلوا سلطانيهم: قتم ورجو، وبعثوا برأسيهما إلى السلطان. ولم ينج من الكفار إلا الشريد.

  ذكر أمير علابور واستشـهاده

 وكان أمير علابور بدر الحبشي من عبيد السلطان، وهو من الأبطال الذين تضرب بهم الأمثال، وكان لا يزال يغير على الكفار منفردا بنفسه، فيقتل ويسبي، حتى شاع خبره واشتهر أمره وهابه الكفار.

 وكان طويلا ضخما يأكل الشاة عن آخرها في أكلة. وأخبرت أنـه كان يشرب نحو رطل ونصف من السمن بعد غذائه على عادة الحبشة ببلادهم، وكان له ابن يدانيه في الشجاعة. فاتفق أنـه أغار مرة في جماعة من عبيده على قرية للكفار فوقع بـه الفرس في مطمورة، واجتمع عليه أهل القرية فضربه أحدهم بقتارة، والقتارة  بقاف معقود وتاء معلوة  حديدة شبه سكة الحرث، يدخل الرجل يده فيها فتكسو ذراعه ويفضل منـها مقدار ذراعين، وضربتها لا تبقي، فقتله بتلك الضربة ومات فيها. وقاتل عبيده أشد القتال، فتغلبوا على القرية وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وأخرجوا الفرس من المطمورة سالما، فأتوا بـه ولده. فكان من الاتفاق الغريب أنـه ركب الفرس وتوجه إلى دهلي، فخرج عليه الكفار، فقاتلهم حتى قتل، وعاد الفرس إلى أصحابه، فدفعوه إلى أهله، فركبه صهر له، فقتله الكفار عليه أيضا. ثم سافرنا إلى مدينة كاليور  وضبط اسمـها بفتح الكاف المعقود وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وواو وراء  ويقال فيه أيضا: كيالير، وهي مدينة كبيرة لها حصن منيع منقطع في رأس شاهق، على بابه صورة فيل وفيال من الحجارة، وقد مر ذكره في اسم السلطان قطب الدين. وأمير هذه المدينة أحمد بن سيرخان، فاضل كان يكرمني أيام إقامتي عنده قبل هذه السفرة، ودخلت عليه يوما وهو يريد توسيط رجل من الكفار، فقلت له: بالله لا تفعل ذلك، فإني ما رأيت أحدا قط يقتل بمحضري، فأمر بسجنـه. وكان ذلك سبب خلاصه. ورحلنا من مدينة كاليور إلى مدينة برون  وضبط اسمـها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخره نون  مدينة صغيرة للمسلمين بين بلاد الكفار، أميرها محمد بن بيرم التركي الأصل. والسباع بها كثيرة، وذكر لي بعض أهلها أن السبع كان يدخل إليها ليلا، وأبوابها مغلقة فيفترس الناس. حتى قتل من أهلها كثيرا، وكانوا يعجبون في شأن ه.

 وأخبرني محمد التوفيري من أهلها، وكان جارا لي بها أنـه دخل داره ليلا وافترس صبيا من فوق السرير. وأخبرني غيره أنـه كان مع جماعة في دار عرس فخرج أحدهم لحاجة فافترسه أسد فخرج أصحابه في طلبه، فوجدوه مطرحا بالسوق وقد شرب دمـه، ولم يأكل لحمـه. وذكروا أنـه كذلك فعله بالناس. ومن العجب أن بعض الناس أخبرني أن الذي يفعل ذلك ليس بسبع، وإنما هو آدمي من السحرة المعروفين بالجوكية، يتصور في صورة سبع. ولما أخبرت بذلك أنكرته، وأخبرني بـه جماعة. ولنذكر بعضا من أخبار هؤلاء السحرة.

  ذكر السحرة الجوكية

صفحة : 272

  وهؤلاء الطائفة تظهر منـهم العجائب، منـها أن أحدهم يقيم الأشـهر لا يأكل ولا يشرب، وكثير منـهم تحفر لهم تحت الأرض وتبنى عليه. فلا يترك له إلا موضع يدخل منـه الهواء، ويقيم بها الشـهور. وسمعت أن بعضهم يقيم كذلك سنة. ورأيت بمدينة منجرور رجلا من المسلمين ممن يتعلم منـهم، قد رفعت له طبلة، وأقام بأعلاها، لا يأكل ولا يشرب مدة خمسة وعشرين يوما، وتركته كذلك. فلا أدري كم أقام بعدي. والناس يذكرون أنـهم يركبون حبوبا، يأكلون الحبة منـها لأيام معلومة وأشـهر، فلا يحتاج في تلك المدة إلى طعام ولا . ويخبرون بأمور معيبة. والسلطان يعظمـهم ويجالسهم. ومنـهم من يقتصر في أكله على البقل، ومنـهم من لا يأكل اللحم وهم الأكثرون. والظاهر من حالهم أنـهم عودوا أنفسهم الرياضة. ولا حاجة لهم في الدنيا وزينتها. ومنـهم من ينظر إلى الإنسان فيقع ميتا من نظرته، وتقول العامة: إنـه إذا قتل بالنظر، وشق عن صدر الميت، وجد دون قلب. ويقولون: أكل قلبه. وأكثر ما يكون هذا في النساء. والمرأة التي تفعل ذلك تسمى كفتار.

 حكاية لما وقعت المجاعة العظمى ببلاد الهند بسبب القحط، والسلطان ببلاد التلنك، نفذ أمره أن يعطى لأهل دهلي ما يقوتهم بحساب رطل ونصف للواحد في اليوم. فجمعهم الوزير، ووزع المساكين منـهم على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامـهم. فكان عندي منـهم خمسمائة نفس، فعمرت لهم سقائف في واد ، وأسكنتهم بها. وكنت أعطيتهم نفقتهم خمسة أيام. فلما كان في بعض الأيام أتوني بامرأة منـهم وقالوا: إنـها كفتارة. وقد أكلت قلب صبي كان إلى جانبها، وأتوا بالصبي ميتا. فأمرتهم أن يذهبوا بها إلى نائب السلطان، فأمر باختبارها. وذلك بأن ملأوا أربع جرات بالماء وربطوها بيديها ورجليها وطرحوها في نـهر الجون، فلم تغرق. فعلم أنـها كفتار، ولو لم تطف على الماء لم تكن بكفتار. فأمر بإحراقها بالنار. وأتى أهل البلد رجالا ونساء فأخذوا رمادها. وزعموا أنـه من تبخر بـه أمن في تلك السنة من سحر كفتار.

 حكاية بعث إلي السلطان يوما وأنا عنده بالحضرة، فدخلت عليه وهو في خلوة، وعنده بعض خواصه ورجلان من هؤلاء الجوكية، وهم يلتحفون بالملاحف، ويغطون رؤوسهم لأنـهم ينتفونـها بالرماد، كما ينتف الناس آباطهم. فأمرني بالجلوس فجلست فقال لهما: إن هذا العزيز من بلاد بعيدة، فأرياه ما لم يره، فقالا: نعم. فتربع أحدهما، ثم ارتفع عن الأرض حتى صار في الهواء فوقنا متربعا، فعجبت منـه، وأدركني الوهم فوقعت على الأرض. فأمر السلطان أن أسقى دواء عنده، فأفقت وقعدت، وهو على حاله متربع. فأخذ صاحبه نعلا له من شكارة كانت معه فضرب بها الأرض كالمغتاظ فصعدت إلى أن علت فوق عنق المتربع وجعلت تضرب في عنقه، وهو ينزل قليلا قليلا حتى جلس معنا. فقال السلطان: إن المتربع هو تلميذ صاحب النعل. ثم قال: لولا أني أخاف على عقلك لأمرتهم أن يأتوا بأعظم مما رأيت. فانصرفت عنـه، وأصابني الخفقان، ومرضت، حتى أمر لي بشربة أذهبت ذلك عني.

 ولنعد لما كنا بسبيله فنقول: سافرنا من مدينة برون إلى منزل أمواري ثم منزل كجرا، وبه حوض عظيم طوله نحو ميل، وعليه الكنائس فيها الأصنام، قد مثل بها المسلمون. وفي وسطه ثلاث قباب من الحجارة الحمر على ثلاث طباق، وعلى أركانـه الأربع قباب. ويسكن هنالك جماعة من الجوكية، وقد لبدوا شعورهم، وطالت، حتى صارت في طولهم، وغلبت عليهم صفرة الألوان من الرياضة. وكثير من المسلمين يتبعونـهم ليتعلموا منـهم، ويذكرون أن من كانت بـه عاهة من برص أو جذام يأوي إليهم مدة طويلة فيبرأ بإذن الله تعالى. وأول ما رأيت هذه الطائفة بمحلة السلطان طرمشيرين ملك تركستان، وكانوا نحو الخمسين. فحفر لهم غارا تحت الأرض، وكانوا مقيمين بـه لا يخرجون إلا لقضاء حاجة. ولهم شبه القرن يضربونـه أول النـهار وآخره، وبعد العتمة. وشأنـهم كله عجب. ومنـهم الرجل الذي صنع السلطان غياث الدين الدامغاني سلطان بلاد المعبر حبوبا يأكلها تقويه على الجماع، وكان من أخلاطها برادة الحديد فأعجبه فعلها، فأكل منـها أزيد من مقدار الحاجة فمات. وولي ابن أخيه ناصر الدين فأكرم هذا الجوكي ورفع قدره.

صفحة : 273

  ثم سافرنا إلى مدينة جنديري  وضبط اسمـها بفتح الجيم المعقود وسكون النون وكسر الدال المـهمل وياء مد وراء  مدينة عظيمة لها أسواق حافلة يسكنـها أمير أمراء تلك البلاد عز الدين البنتاني وهو المدعو بأعظم ملك، وكان خيرا فاضلا يجالس أهل العلم. وممن كان يجالسه الفقيه عز الدين الزبيري، والفقيه العالم وجيه الدين البياني نسبة إلى مدينة بيانة، التي تقدم ذكرها، والفقيه القاضي المعروف بقاضي خاصة، وإمامـهم شمس الدين، وكان النائب عنـه على أمور المخزن يسمى قمر الدين، ونائبه على أمور العسكر سعادة التلنكي من كبار الشجعان، وبين يديه تعرض العساكر. وأعظم ملك لا يظهر إلا في يوم الجمعة أو في غيرها نادرا. ثم سرنا من جنديري إلى مدينة ظهار  وضبط اسمـها بكسر الظاء المعجم  ، وهي مدينة المالوة، أكبر عمار تلك البلاد، وزرعها كثير، خصوصا القمح. ومن هذه المدينة تحمل أوراق التنبول إلى دهلي وبينـهما أربعة وعشرون يوما، وعلى الطريق بينـهما أعمدة منقوش عليها عدد الأميال فيما بين عمودين. فإذا أراد المسافر أن يعلم عدد ما سار في يومـه، وما بقي له إلى المنزل وإلى المدينة التي يقصدها قرأ النقش الذي في الأعمدة فعرفه. ومدينة ظهار إقطاع للشيخ إبراهيم الذي من أهل ذيبة المـهل.

 حكاية كان الشيخ إبراهيم قدم على هذه المدينة ونزل بخارجها، فأحيا أرضا مواتا هنالك. وصار يزدرعها بطيخا، فتأتي في الغاية من الحلاوة. ليس بتلك الأرض مثلها. ويزرع الناس بطيخا فيما يجاوره فلا يكون مثله، وكان يطعم الفقراء والمساكين. فلما قصد السلطان إلى بلاد المعبر أهدى إليه هذا الشيخ بطيخا فقبله واستطابه، وأقطعه مدينة ظهار، وأمره أن يعمر زاوية بربوة يشرف عليها. فعمرها أحسن عمارة، وكان يطعم بها الوارد والصادر، وأقام على ذلك أعواما. ثم قدم على السلطان وحمل إليه ثلاثة عشر لكا، فقال: هذا فضل مما كنت أط الناس، وبيت المال أحق به. فقبضه منـه ولم يعجب السلطان فعله، لكونـه جمع المال ولم ينفق جميعه في إطعام الطعام. وبهذه المدينة أراد ابن أخت الوزير خواجه جهان أن يفتك ب، ويستولي أمواله، ويسير إلى القائم ببلاد المعبر. فنمى خبره إلى فقبض عليه، وعلى جماعة الأمراء، وبعثهم إلى السلطان، فقتل الأمراء، ورد ابن أخته إليه فقتله الوزير.

 حكاية

صفحة : 274

  ولما رد ابن أخت الوزير إليه أمر بـه أن يقتل كما قتل أصحابه، وكانت له جارية يحبها. فاستحضرها وأطا التنبول وأطعمته، وعانقها مودعا، ثم طرح للفيلة، وسلخ جلده وملء تبنا. فلما كان من الليل، خرجت الجارية من الدار، فرمت بنفسها في بئر هنالك تقرب من الموضع الذي قتل فيه، فوجدت ميتة من الغد. فأخرجت ودفن لحمـه معها في قبر واحد، وسمي قبور  كور  عاشقان. وتفسير ذلك بلسانـهم قبر العاشقين. ثم سافرنا من مدينة ظهار إلى مدينة أجين  وظبط اسمـها بضم الهمزة وفتح الجيم وياء ونون  مدينة حسنة كثيرة العمارة. وكا يسكنـها الملك ناصر الدين بن عين الملك، من الفضلاء الكرماء العلماء، استشـهد بجزيرة سندابور حين افتتحها. وقد زرت قبره هنالك، وسنذكره. وبهذه المدينة كان سكنى الفقيه الطبيب جمال الدين المغربي الغرناطي الأصل. ثم سافرنا من مدينة أجين إلى مدينة دولة آباد، وهي المدينة الضخمة العظيمة الشأن الموازية لحضرة دهلي، في رفعة قدرها واتساع خطتها. وهي منقسمة ثلاثة أقسام: أحدها دولة آباد وهو مختص بسكنى السلطان وعساكره، والقسم الثاني اسمـه الكتكة  بفتح الكافين والتاء المعلوة التي بينـهما  ، والقسم الثالث قلعتها التي لا مثل لها ولا نظير في الحصانة وتسمى الدويقير  بضم الدال المـهمل وفتح الواو وسكون الياء وقاف معقود مكسور وياء مد وراء  . وبهذه المدينة سكنى الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان وهو أميرها، والنائب عن السلطان بها، وببلاد صاغر وبلاد التلنك وما أضيف إلى ذلك، وعمالتها مسيرة ثلاثة أشـهر، عامرة كلها لحكمـه ونوابه فيها. وقلعة الدويقير التي ذكرناها في قطعة حجر في بسيط من الأرض، قد نحتت وبني بأعلاها قلعة يصعد إليها بسلم مصنوع من جلود ويرفع ليلا. ويسكن بها المفردون وهم الزماميون بأولادهم. وفيها سجن أهل الجرائم العظيمة في جيوب بها. وبها فيران ضخام أعظم من القطوط، والقطوط تهرب منـها، ولا تطيق معتها لأنـها تغلبها. ولا تصاد إلا بحبل تدار عليها. وقد رأيتها هناك، فعجبت منـها.

 حكاية أخبرني الملك خطاب الأفغاني أنـه سجن مرة في جب بهذه القلعة، يسمى جب الفيران. قال: فكانت تجتمع علي ليلا لتأكلني. فأقاتلها، وألقى من ذلك جهدا. ثم إني رأيت في النوم قائلا يقول لي: إقرأ سورة ألإخلاص مائة ألف مرة، ويفرج الله عنك. قال: فقرأتها. فلما أتممتها أخرجت. وكان سبب خروجي أن ملك مل كان مسجونا في جب يجاورني فمرض. وأكلت الفيران أصابعه وعينيه فمات. فبلغ ذلك السلطان فقال: أخرجوا خطابا لئلا يتفق له مثل ذلك. وإلى هذه القلعة لجأ ناصر الدين بن ملك مل المذكور، والقاضي جلال، حين هزمـهما السلطان. وأهل بلاد دولة آباد هم قبيل المرهتة الذين خص الله نساءهم بالحسن، وخصوصا في الأنوف والحواجب. ولهن من طيب الخلوة والمعرفة أكثر بحركات الجماع ماليس لغيرهن. وكفار هذه المدينة أصحاب تجارة. وأكثر تجارتهم في الجواهر، وأموالهم طائلة. وهم يسمون الساهة وأحدهم ساه بإهمال السين، وهم الأكارم بديار مصر. وبدولة آباد العنب والرمان. ويثمران مرتين في السنة وهي من أعظم البلاد مجبى، وأكبرها خراجا، لكثرة عمارتها واتساع عمالتها. وأخبرت أن بعض الهنود التزم مغارمـها وعمالتها جميعا. وهي كما ذكرناها مسيرة ثلاثة أشـهر، بسبعة عشر كرورا، والكرور مائة لك، واللك مائة ألف دينار. ولكنـه لم يف بذلك، فبقي عليه بقية، وأخذ ماله وسلخ جلده.

  ذكر سوق المغنين

صفحة : 275

  وبمدينة دولة آباد سوق للمغنين والمغنيات تسمى سوق طرب آباد، من أجمل الأسواق وأكبرها، فيه الدكاكين الكثيرة. كل دكان له باب يفضي إلى دار صاحبه. وللدار باب سوى ذلك. والحانوت مزين بالفرش، وفي وسطه شكل مـهد كبير، تجلس فيه المغنية أو ترقد، وهي متزينة بأنواع الحلي، وجواريها يحركن مـهدها. وفي وسط السوق قبة عظيمة مفروشة مزخرفة، يجلس فيها أمير المطربين بعد صلاة العصر من كل يوم خميس، وبين يديه خدامـه ومماليكه. وتأتي المغنيات طائفة بعد أخرى، فيغنين بين يديه وين إلى وقت المغرب، ثم ينصرف. وفي تلك السوق المساجد للصلاة. ويصلي ألئمة فيها التراويح في شـهر رمضان. وكان بعض سلاطين الكفار بالهند إذا مر بهذه السوق ينزل بقبتها، وتغني المغنيات بين يديه. وقد فعل ذلك بعض سلاطين المسلمين أيضا. ثم سافرنا إلى مدينة نذربار  وضبط اسمـها بنون وبذال معجم مفتوحين وراء مسكن وباء موحدة مفتوحة وألف وراء  مدينة صغيرة يسكنـها المرهتة، وهم أهل الإتقان في الصنائع والأطباء والمنجمون. وشرفاء المرهتة هم البراهمة، وهم الكتريون أيضا. وأكلهم الأرز والخضر ودهن السمسم. ولا يرون بتعذيب الحيوان ولا ذبحه. ويغتسلون للأكل كغسل الجنابة، ولا ينكحون في أقاربهم إلا فيمن كان بينـهم سبعة أجداد. لا يشربون الخمر، وهي عندهم أعظم المعائب. وكذلك هي ببلاد الهند عند المسلمين. ومن شربها من مسلم جلد ثمانين جلدة، وسجن في مطمورة ثلاثة أشـهر، لا تفتح عليه إلا حين طعامـه.

 ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة صاغر  وضبط اسمـها بفتح الصاد المـهمل وفتح الغين المعجم وآخره راء  وهي مدينة كبيرة على نـهر كبير يسمى أيضا صاغر كاسمـها. وعليه النواعير والبساتين. فيها العنب والموز وقصب السكر. وأهل هذه المدينة أهل صلاح ودين وأمانة. وأحوالهم كلها مرضية. ولهم بساتين فيها الزوايا للوارد والصادر. وكل من يبني زاوية يحبس البستان عليها، ويجعل النظر فيه لأولاده. فإن انقرضوا عاد النظر للقضاة. والعمارة بها كثيرة. والناس يقصدونـها للتبرك بأهلها، ولكونـها محررة من المغارم والوظائف.

 ثم سافرنا من صاغر المذكورة إلى مدينة كنباية  وضبط اسمـها بكسر الكاف وسكون النون وفتح الباء الموحدة وألف وياء آخر الحروف مفتوحة  وهي على خور من البحر، وهو شبه الوادي، تدخله المراكب وبه المد والجزر. وعاينت المراكب بـه مرساة في الوحل حين الجزر، فإذا كان المد عامت في الماء. وهذه المدينة من أحسن المدن في إتقان البناء وعمارة المساجد. وسبب ذلك أن أكثر سكانـها التجار الغرباء. فهم أبدا يبنون بها الديار الحسنة والمساجد العجيبة، ويتنافسون في ذلك. ومن الديار العظيمة بها دار الشريف السامري الذي اتفقت لي معه قضية الحلواء، وكذبه ملك الندماء. ولم أر قط أضخم من الخشب الذي رأيته بهذه الدار وبابها كأنـه باب مدينة. وإلى جانبها مسجد عظيم يعرف باسمـه. ومنـها دار ملك التجار الكازروني، وإلى جانبها مسجده، ومنـها دار التاجر شمس الدين كلاه وز ومعناه خياط الشواشي.

 حكاية

صفحة : 276

  ولما وقع ما قدمناه من مخالفة القاضي جلال الأفغاني أراد شمس الدين المذكور والناخوذة الياس، وكان من كفار أهل هذه المدينة وملك الحكماء الذي تقدم ذكره، على أن يمتنعوا منـه بهذه المدينة. وشرعوا في حفر خندق عليها إذ لا سور لها، فتغلب عليهم ودخلها. واختفى الثلاثة المذكورون في دار واحدة، وخافوا أن يتطلع عليهم. فاتفقوا على ان يقتلوا أنفسهم فضرب كل واحد منـهم صاحبه بقتارة، وقد ذكرنا صفتها، فمات اثنان منـهم، ولم يمت ملك الحكماء. وكان من كبار التجار أيضا بها نجم الدين الجيلاني، وكان حسن الصورة كثير المال، وبنى بها دارا عظيمة ومسجدا. ثم بعث السلطان عنـه وأمره عليها وأعطاه المراتب. فكان ذلك سبب تلف نفسه وماله. وكان أمير كنباية حين وصلنا إليها مقبل التلنكي، وهو كبير المنزلة عند السلطان. وكان في صحبته الشيخ زاده الأصبهاني نائبا عنـه في جميع أموره. وهذا الشيخ له أموال عظيمة، وعنده معرفة بأمور السلطنة. ولا يزال يبعث الأموال إلى بلاده، ويتحيل في الفرار. وبلغ خبره إلى السلطان، وذكر عنـه أنـه يروم الهروب. فكتب إلى مقبل أن يبعثه فبعثه على البريد، وأحضر بين يدي السلطان ووكل به. والعادة عنده أنـه متى وكل بأحد فقلما ينجو. فاتفق هذا الشيخ مع الموكل بـه على مال يعطيه إياه، وهربا جميعا. وذكر لي أحد الثقات أنـه رآه في ركن مسجد بمدينة قلهات، وأنـه وصل بعد ذلك إلى بلاده، فحصل على أمواله، وأمن مما كان يخافه.

 حكاية وأضافنا الملك مقبل يوما بداره، فكان من النادر أن جلس قاضي المدينة، وهو أعور العين اليمني، وفي مقابلته شريف بغدادي شديد الشبه بـه في صورته وعوره، إلا أنـه أعور اليسرى. فجعل الشريف ينظر إلى القاضي ويضحك. فزجره القاضي، فقال له: لا تزجرني، فإني أحسن منك. قال: كيف ذلك  قال: لأنك أعور اليمنى، وأنا أعور اليسرى. فضحك الأمير والحاضرون. وخجل القاضي، ولم يستطع أن يرد عليه. والشرفاء ببلاد الهند معظمون أشد التعظيم. وكان بهذه المدينة من الصالحين الحاج ناصر من أهل ديار بكر، وسكناه بقبة من قباب الجامع. دخلنا إليه، وأكلنا من طعامـه. واتفق له لما دخل القاضي جلال مدينة كنباية حين خلافه، أنـه أتاه، وذكر للسلطان أنـه دعا له. فهرب لئلا يقتل كما قتل الحيدري. وكان بها أيضا من الصالحين التاجر خواجه إسحاق، وله زاوية يطعم فيها الوارد والصادر، وينفق على الفقراء والمساكين. وماله على هذا ينمو ويزيد كثرة. وسافرنا من هذه المدينة إلى بلد كاوي، وهي على خور فيه المد والجزر وهي من بلاد الري جالنسي الكافر، وسنذكره. وسافرنا منـها إلى مدينة قندهار  وضبط اسمـها بفتح القاف وسكون النون وفتح الدال المـهمل وهاء والف وراء  ، وهي مدينة كبيرة للكفار على خور من البحر.

 ذكر سلطان قندهار

 سلطان قندهار كافر اسمـه جالنسي  بفتح الجيم واللام وسكون النون وكسر السين المـهمل  ، وهو تحت حكم الإسلام، ويعطي لملك الهند هدية كل عام. لما وصلنا إلى قندهار خرج إلى استقبالنا، وعظمنا أشد التعظيم، وخرج عن قصره فأنزلنا به. وجاء إلينا من عنده من كبار المسلمين كأولاد خواجه بهره. ومنـهم الناخوذة إبراهيم، له ستة من المراكب مختصة له. ومن هذه المدينة ركبنا البحر

 ذكر ركوبنا البحر

صفحة : 277

  وركبنا في مركب لإبراهيم المذكور تسمى الجاكر  بفتح الجيم والكاف المعقودة  . وجعلنا فيه من خيل الهدية سبعين فرسا، وجعلنا باقيها مع خيل أصحابنا في مركب لأخي إبراهيم المذكور يسمى منورت  بفتح الميم ونون وواو مد وراء مسكن وتاء معلوة  وأعطانا جالنسي مركبا جعلنا فيه ظهير الدين وسنبل وأصحابهما، وجهزه لنا بالماء والزاد والعلف. وبعث معنا ولدا في مركب يسمى العكيري  بضم العين المـهمل وفتح الكاف وسكون الياء وراء  ، وهو شبه الغراب، إلا أنـه أوسع منـه. وفيه ستون مجذافا. ويسقف حين القتال حتى لا ينال الجذافين شيء من السهم ولا الحجارة. وكان ركوبي أنا في الجاكر، وكان فيه خمسون راميا وخمسون من المقاتلة الحبشة، وهم زعماء هذا البحر. وإذا كان بالمركب أحد منـهم تحاماه لصوص الهنود وكفارهم. ووصلنا بعد يومين إلى جزيرة بيرم  وضبط اسمـها بفتح الباء الموحدة وسكون الياء وفتح الراء  ، وهي خالية. وبينـها وبين البر أربعة أميال. فنزلنا بها، واستقينا الماء من حوض بها. وسبب خرابها أن المسلمين دخلوها على الكفار فلم تعمر بعد. وكان ملك التجار الذي تقدم ذكره أراد عمارتها، وبنى سورها، وجعل بها المجانيق، وأسكن بها بعض المسلمين.

 ثم سافرنا منـها ووصلنا في اليوم الثاني إلى مدينة قوقة وهي  بضم القاف الأولى وفتح الثانية  ، وهي مدينة كبيرة عظيمة الأسواق، فرسينا على أربعة أميال منـها بسبب الجزر، ونزلت في عشاري مع بعض أصحابي حين الجزر لأدخل إليها، فوحل العشاري في الطين، وبقي بيننا وبين البلد نحو ميل. فكنت لما نزلنا في الوحل أتوكأ على رجلين من أصحابي وخوفني الناس من وصول المد قبل وصولي إليها،وأنا لا أحسن السباحة، ثم وصلت إليها، وطفت بأسواق، ورأيت بها مسجدها ينسب للخضر وإلياس عليهما السلام. صليت بـه المغرب ووجدت بـه جماعة من الفقراء الحيدرية مع شيخ لهم ثم عدت إلى المركب.

 ذكر سلطان قوقة

 وسلطانـها كافر يسمى دنكول  بضم الدال المـهمل وسكون النون وضم الكاف وواو ولام  . وكان يظهر الطاعة لملك الهند، وهو في الحقيقة عاص. ولما أقلعنا عن هذه المدينة ووصلنا بعد ثلاثة أيام إلى جزيرة سندابور  وضبط اسمـها بفتح السين المـهمل وسكون النون وفتح الدال المـهمل والف وباء موحدة وواو مد وراء  ، وهي جزيرة في وسطها ست وثلاثون قرية، ويدور بها خور، وإذا كان الجزر فماؤها عذب طيب، وإذا كان المد فهو ملح أجاج. وفي وسطها مدينتان: إحداهما قديمة من بناء الكفار، والثانية بناها المسلمون عند استفتاحهم لهذه الجزيرة الفتح الأول، وفيها مسجد جامع عظيم يشبه مساجد بغداد عمره الناخوذة حسن والد السلطان جمال الدين محمد الهنوري، وسيأتي ذكره. وذكر عند حضوري معه لفتح هذه الجزيرة الفتح الثاني إن شاء الله. وتجاوزنا هذه الجزيرة لما مررنا بها، وأرسينا على جزيرة صغيرة قريبة من البر، فيها كنيسة وبستان وحوض ماء، ووجد بها أحد الجوكية.

  حكاية هذا الجوكي

 ولما نزلنا بهذه الجزيرة الصغرى وجدنا بها جوكيا مستندا إلى حائط بدخانة، وهي بيت الأصنام، وهو فيما بين صنمين منـها، وعليه أثر المجاهدة. فكلمناه فلم يتكلم، ونظرنا هل معه طعام، فلم نر معه طعاما. وفي حين نظرنا، صاح صيحة عظيمة فسقطت عند صياحه جوزة من جوز النارجيل بين يديه، ودفعها لنا. فعجبنا من ذلك، ودفعنا له دنانير ودراهم فلم يقبلها. وأتيناه بزاد فرده. وكانت بين يديه عباءة من صوف الجمال مطروحة فقلبتها بيدي، فدفعها لي. وكانت بيدي سبحة زيلع فقلبها في يدي فأعطيته إياها، ففركها بيده وشمـها وقبلها، وأشار إلى السماء، ثم إلى سمت القبلة. فلم يفهم أصحابي إشارته، ففهمت أنا عنـه أنـه أشار أنـه مسلم يخفي إسلامـه من أهل تلك الجزيرة، ويتعيش من تلك الجوز. ولما ودعناه قبلت يده. فأنكر أصحابي ذلك. ففهم إنكارهم. فأخذ يدي وقبلها وتبسم، وأشار لنا بالانصراف فانصرفنا.

صفحة : 278

  وكنت آخر أصحابي خروجا، فجذب ثوبي فرددت رأسي إليه. فأعطاني عشرة دنانير. فلما خرجنا عنـه قال لي أصحابي: لم جذبك  فقلت لهم: أعطاني هذه الدنانير وأعطيت لظهير الدين ثلاثة منـها، ولسنبل ثلاثة، وقلت لهما: الرجل مسلم، ألا ترون كيف أشار إلى السماء  يشير إلى أنـه يعرف الله تعالى، وأشار إلى القبلة، يشير إلى معرفة الرسول عليه السلام، وأخذه السبحة يصدق ذلك. فرجعا لما قلت لهما ذلك إليه فلم يجداه. وسافرنا تلك الساعة. وبالغد وصلنا إلى مدينة هنور  وضبط اسمـها بكسر الهاء وفتح النون وسكون الواو وراء  ، وهي على خور كبير تدخله المراكب الكبار. والمدبنة على نصف ميل من البحر. وفي أيام البشكال، وهو المطر، يشتد هيجان هذا البحر وطغيانـه، فيبقى مدة أربعة أشـهر لا يستطيع أحد ركوبه إلا للتصيد فيه. وفي يوم وصولنا إليها جاءني أحد الجوكية من الهنود في خلوة، وأعطاني ستة دنانير، وقال لي: البرهمي بعثها إليك، يعني الجوكي الذي أعطيته السبحة. وأعطاني الدنانير فأخذتها منـه، وأعطيته دينارا منـها فلم يقبله، وانصرف. وأخبرت صاحبي بالقضية، وقلت لهما: إن شئتما فخذا نصيبكما منـها، فأبيا وجعلا يعجبان من شأنـه. وقالا لي: إن الدنانير الستة التي أعطيتنا إياها جعلنا معها مثلها، وتركناها بين الصنمين حيث وجدناها. فطال عجبي من أمره، واحتفظت بتلك الدنانير التي أعطانيها. وأهل مدينة هنور شافعية المذهب. لهم صلاح ودين وجهاد في الحرب وقوة، وبذلك عرفوا، حتى أذلهم الزمان بعد فتحهم لسندابور، وسنذكر ذلك. ولقيت من المتعبدين بهذه المدينة الشيخ محمد الناقوري، أضافني بزاويته. وكان يطبخ الطعام بيده استقذارا للجارية والغلام. ولقيت بها الفقيه إسماعيل معلم كتاب الله تعالى وهو ورع حسن الخلق كريم النفس، والقاضي بها نور الدين علي، والخطيب لا أذكر اسمـه. ونساء هذه المدينة وجميع هذه البلاد الساحلية لا يلبسن المخيط، وإنما يلبسن ثيابا غير مخيطة. تحتزم إحداهن بأحد طرفي الثوب وتجعل باقيه على رأسها وصدرها. ولهن جمال وعفاف. وتجعل إحداهن خرص ذهب في أنفها. ومن خصائصهن أنـهن جميعا يحفظن القرآن الكريم. ورأيت بالمدينة ثلاثة عشر مكتبا لتعليم البنات، وثلاثة وعشرين لتعليم الأولاد. ولم أر ذلك في سواها. ومعاش أهلها من التجارة في البحر. ولا زرع لهم. وأهل بلاد المليبار يعطون للسلطان جمال الدين في كل عام شيئا معلوما، خوفا منـه لقوته في البحر. وعسكره نحو ستة آلاف بين فرسان ورجالة.

 ذكر سلطان هنور

 وهو السلطان جمال الدين محمد بن حسن، من خيار السلاطين وكبارهم وهو تحت حكم سلطان كافر يسمى هريب، سنذكره. والسلطان جمال الدين مواظب للصلاة في الجماعة. وعادته أن يأتي إلى المسجد قبل الصبح، فيتلو في المصحف حتى يطلع الفجر، فيصلي أول وقت، ثم يركب إلى خارج المدينة. ويأتي عند الضحى فيبدأ بالمسجد، فيركع فيه ثم يدخل فيه، ثم يدخل إلى قصره. وهو يصوم الأيام البيض وكان أيام إقامتي عنده يدعوني للإفطار معه فأحضر لذلك، ويحضر الفقيه علي والفقيه إسماعيل. فتوضع أربع كراسي صغار على الأرض. فيقعد على إحداها، ويقعد كل واحد منا على كرسي.

  ذكر ترتيب طعامـه

صفحة : 279

  وترتيبه أن يؤتى بمائدة نحاس يسمونـها خونجة، ويجعل عليها طبق نحاس يسمونـه الطالم  بفتح الطاء المـهمل وفتح اللام  ، وتأتي جارية حسنة ملتحفة بثوب حرير، فتقدم قدور الطعام بين يديه، ومعها مغرفة نحاس كبيرة، فتغرف بها من الأرز مغرفة واحدة، وتجعلها في الطالم، وتصب فوقها السمن، وتجعل مع ذلك عناقيد الفلفل المملوح والزنجبيل الأخضر والليمون المملوح والعنبا ، فيأكل الإنسان لقمة، ويتبعها بشيء من تلك الموالح. فإذا تمت الغرفة التي جعلها في الطالم غرفت غرفة أخرى من الأرز، وأفرغت دجاجة مطبوخة في سكرجة، فيؤكل بها الأرز أيضا. فإذا تمت الغرفة الثانية، وغرفت وأفرغت لونا آخر من الدجاج تؤكل به. فإذا تمت ألوان من الدجاج، أتوا بألوان من السمك، فيأكلون بها الأرز أيضا. فإذا فرغت ألوان السمك أتوا بالخضر مطبوخة بالسمن، والألباب فيأكلون بها الأرز، فإذا فرغ ذلك كله أتوا بالكوشان، وهو اللبن الرائب، وبهذا يختمون طعامـهم. فإذا وضع علم أنـه لم يبق شيء يؤكل بعده. ثم يشربون على ذلك الماء السخن، لأن الماء البارد يضر بهم في فصل نزول المطر. ولقد أقمت عند هذا السلطان في كرة أخرى أحد عشر شـهرا لم آكل خبزا، إنما طعامـهم الأرز. وبقيت أيضا بجزائر المـهل وسيلان وبلاد المعبر والمليبار ثلاث سنين لا آكل فيها إلا الأرز، حتى كنت لا أستسيغه إلا بالماء. ولباس هذا السلطان ملاحف الحرير والكتان الرقاق، يشد في وسطه فوطة، ويلتحف ملحفتين: إحداهما فوق الأخرى. ويقص شعره، ويلف عليه عمامة صغيرة. وإذا ركب لبس قباء، والتحف بملحفتين فوقه. وتضرب بين يديه طبول وأبواق يحملها الرجال. وكانت إقامتنا عنده في هذه المرة ثلاثة أيام. وزودنا وسافرنا عنـه.

 وبعد ثلاثة أيام وصلنا إلى بلاد المليبار  بضم الميم وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة وألف وراء  ، وهي بلاد الفلفل. وطولها مسيرة شـهرين على ساحل البحر من سندابور إلى كولم، والطريق في جميعها بين ظلال الأشجار. وفي كل نصف ميل بيت من الخشب فيه دكاكين يقعد عليها كل وارد وصادر من مسلم وكافر. وعند كل بيت منـها بئر يشرب منـها ورجل كافر موكل بها. فمن كان كافرا سقاه في الأواني، ومن كان مسلما سقاه في يديه. ولا يزال يصب له حتى يشير له أن يكف. ومن عادة الكفار ببلاد المليبار أن لا يدخل المسلم دورهم، ولا يطعم في أوانيهم. فإن طعم فيها كسروها وأعطوها للمسلمين. وإذا دخل المسلم موضعا منـها لا يكون في دار للمسلمين، طبخوا له الطعام وصبوه على أوراق الموز وصبوا عليه الإدام، وما فضل عنـه تأكله الكلاب والطير، وفي جميع المنازل بهذا الطريق ديار المسلمين ينزل عندهم المسلمون فيبيعون منـهم جميع ما يحتاجون إليه، ويطبخون لهم الطعام. ولولاهم لما سافر فيه مسلم. وهذا الطريق الذي ذكرنا أنـه مسيرة شـهرين، ليس فيه موضع شبر فما فوقه دون عمارة. وكل إنسان بستانـه على حدة وداره في وسطه. وعلى الجميع حائط خشب. والطريق يمر في البساتين. فإذا انتهى إلى حائط بستان كان هنالك درج خشب يصعد عليها ودرج آخر ينزل عليها إلى البستان الآخر. هكذا مسيرة الشـهرين.

صفحة : 280

  ولا يسافر أحد في تلك البلاد بدابة، ولا تكون الخيل إلا عند السلطان. وأكثر ركوب أهلها في دولة على رقاب العبيد أو المستأجرين. ومن لم يستطع أن يركب في دولة ، مشى على قدميه كائنا من كان. ومن كان له رحل أو متاع من تجارة وسواها اكترى رجالا يحملونـه على ظهورهم. فنرى هنالك التاجر ومعه المائة فما دونـها أو فوقها، يحملون أمتعته، وبيد كل واحد منـهم عود غليظ له زج حديد، وفي أعلاه مخطاف حديد، فإذا أعيا ولم يجد دكانة يستريح عليها، ركز عوده بالأرض، وعلق حمله منـها، فإذا استراح أخذ حمله من غير معين، ومضى به. ولم أر طريقا آمن من هذا الطريق. وهم يقتلون السارق على الجوزة الواحدة. فإذا سقط شيء من الثمار لم يلتقطه أحد، حتى يأخذه صاحبه. وأخبرت أن بعض الهنود مروا على الطريق فالتقط أحدهم جوزة. وبلغ خبره إلى الحاكم، فأمر بعود، فركز في الأرض وبرى طرفه الأعلى وأدخل في لوح خشب حتى برز منـه. ومد الرجل على اللوح، وركز في العود وهو على بطنـه حتى خرج من ظهره، وترك عبرة للناظرين. ومن هذه العيدان على هذه الصورة بتلك الطرق كثير ليراها الناس فيتعظوا. ولقد كنا نلقى الكفار بالليل في هذه الطريق فإذا رأونا تنحوا عن الطريق حتى نجوز. والمسلمون أعز الناس بها، غير أنـهم كما ذكرنا لا يؤاكلونـهم ولا يدخلونـهم دورهم. وفي بلاد المليبار اثنا عشر سلطانا من الكفار. منـهم القوي الذي يبلغ عسكره خمسين ألفا، ومنـهم الضعيف الذي عسكره ثلاثة آلاف. ولا فتنة بينـهم ألبتة، ولا يطمع القوي منـهم في انتزاع ما بيد الضعيف. وبين بلاد أحدهم وصاحبه باب خشب منقوش فيه اسم الذي هو مبدأ عمالته، ويسمونـه باب أمان فلان. وإذا فر مسلم أو كافر بسبب جناية من بلاد أحدهم ووصل إلى باب أمان الآخر أمن على نفسه. ولم يستطع الذي هرب عنـه أخذه، وإن كان القوي صاحب العدد والجيوش. وسلاطين تلك البلاد يورثون ابن الأخت ملكهم دون أولادهم. ولم أر من يفعل ذلك إلا مسوفة أهل الثلم  اللثام  ، وسنذكرهم فيما بعد. وإذا أراد السلطان من أهل بلاد المليبار منع الناس من البيع أو الشراء أمر بعض غلمانـه، فعلق على الحوانيت بعض أغصان الأشجار بأوراقها، فلا يبيع أحد ولا يشتري ما دامت عليها تلك الأغصان.

  ذكر الفلفل

 وشجرات الفلفل شبيهة بدوالي العنب، وهم يغرسونـها إزاء النارجيل، فتصعد فيها كصعود الدوالي إلا أنـها ليس لها عسلوج، وهو الغزل كما للدوالي، وأوراق شجره تشبه آذان الخيل. وبعضها يشبه أوراق العليق، ويثمر عناقيد صغارا. حبها كحب أبي قنينة، إذا كانت خضراء. وإذا كان أوان الخريف قطفوه وفرشوه على الحصر في الشمس. كما يصنع بالعنب عند تزبيبه. ولا يزالون يقلبونـه حتى يستحكم يبسه، ثم يبيعونـه من التجار. والعامة ببلادنا يزعمون أنـهم يقلونـه بالنار. وبسبب ذلك يحدث فيه التكريش، وليس كذلك وإنما يحدث ذلك فيه بالشمس. ولقد رأيته بمدينة قالقوط، يصب للكيل، كالذرة ببلادنا. وأول مدينة دخلناها من بلاد المليبار مدينة أبي سرور  بفتح السين  ، وهي صغيرة على خور كبير، كثيرة أشجار النارجيل. وكبير المسلمين بها الشيخ جمعه المعروف بأبي ستة، أحد الكرماء. أنفق أمواله على الفقراء والمساكين حتى نفدت. وبعد يومين منـها وصلنا إلى مدينة فاكنور  وضبط اسمـها بفتح الفاء والكاف والنون وآخره راء  مدينة كبيرة على خور بها قصب السكر الكثير الطيب لذي لا مثيل له بتلك البلاد. وبها جماعة من المسلمين يسمى كبيرهم بحسين السلاط، وبها قاض وخطيب. وعمر بها حسين المذكور مسجدا لإقامة الجمعة.

 ذكر سلطان فاكنور

صفحة : 281

  وسلطان فاكنور كافر اسمـه باسدو  بفتح الباء الموحد والسين المـهمل والدال المـهمل وسكون الواو  ، وله نحو ثلاثين مركبا حربيا قائدها مسلم يسمى لولا، وكان من المفسدين يقطع بالبحر ويسلب التجار. ولما أرسينا على فاكنور، وبعث سلطانـها إلينا ولده، فأقام بالمركب كالرهينة، ونزلنا إليه. فأضافنا ثلاثا بأحسن ضيافة تعظيما لسلطان الهند، وقياما بحقه رغبة فيما يستفيده في التجارة مع أهل مراكبنا. ومن عادتهم هنالك أن كل مركب يمر ببلد فلا بد من إرسائه بها، وإعطائه هدية إلى صاحب البلد، يسمونـها حق البندر. ومن لم يفعل ذلك خرجوا في اتباعه بمراكبهم، وأدخلوه المرسى قهرا، وضاعفوا عليه المغرم، ومنعوه عن السفر ما شاءوا. وسافرنا منـها، فوصلنا بعد ثلاثة أيام إلى مدينة منجرور  وضبط اسمـها بفتح الميم وسكون النون وفتح الجيم وضم الراء وواو وراء ثاينة  مدينة كبيرة على خور، يسمى خور الدنب  بضم الدال المـهمل وسكون النون وباء موحدة  ، وهو أكبر خور ببلاد المليبار. وبهذه المدينة ينزل معظم تجار فارس واليمن. والفلفل والزنجبيل بها كثير جدا.

  ذكر سلطانـها

 وهو أكبر سلاطين تلك البلاد واسمـه رام دو  بفتح الراء والميم والدال المـهمل وسكون الواو  ، وبها نحو أربعة آلاف من المسلمين، يسكنون ربضا بناحية المدينة. ربما وقعت الحرب بينـهم وبين أهل المدينة، فيصلح بينـهم لحاجته إلى التجار. وبها قاض من الفضلاء الكرماء شافعي المذهب يسمى بدر الدين المعيري، وهو يقرئ العلم. صعد إلينا، إلى المركب، ورغب منا في النزول إلى بلده، فقلنا حتى يبعث ولده يقيم بالمركب. فقال: إنما يفعل ذلك سلطان فاكنور، لأنـه لا قوة للمسلمين في بلده. وأما نحن فالسلطان يخافنا. فأبينا عليه إلى أن بعث السلطان ولده، كما فعل الآخر، ونزلنا إليهم. فأكرمونا إكراما عظيما. وأقمنا عنده ثلاثة أيام. ثم سافرنا إلى مدينة هيلي، فوصلناها بعد يومين  وضبط اسمـها بهاء مكسورة وياء مد ولام مكسور  ، وهي كبيرة حسنة العمارة، على خور عظيم تدخله المراكب الكبار. وإلى هذه المدينة تنتهي مراكب الصين. لا تدخل إلا مرساها ومرسى كولم وقالقوط. ومدينة هيلي معظمة عند المسلمين والكفار بسبب مسجدها الجامع، فإنـه عظيم البركة مشرق النور. وركاب البحر ينذرون له النذور الكثيرة. وله خزانة مال عظيمة تحت نظر الخطيب حسين وحسن الوزان كبير المسلمين. وبهذا المسجد جماعة من الطلبة يتعلمون العلم، ولهم مرتبات من مال المسجد. وله مطبخة يصنع فيها الطعام للوارد والصادر، ولإطعام الفقراء من المسلمين بها. ولقيت بهذا المسجد فقيها صالحا من أهل مقدشو يسمى سعيدا، حسن اللقاء والخلق. يسرد الصوم. وذكر أنـه جاور بمكة أربع عشرة سنة، ومثلها بالمدينة. وأدرك الأمير بمكة أبا نمي، والأمير بالمدينة منصور بن جماز، وسافر في بلاد الهند والصين. ثم سافرنا من هيلي إلى مدينة جرفتن  وضبط اسمـها بضم الجيم وسكون الراء وفتح الفاء وفتح التاء المعلوة وتشديدها وآخره نون  ، وبينـه وبين هيلي ثلاثة فراسخ. ولقيت بها فقيها من أهل بغداد كبير القدر يعرف بالصرصري، نسبة إلى بلدة على مسافة عشرة أميال من بغداد في طريق الكوفة، واسمـها كاسم صرصر التي عندنا بالمغرب. وكان له أخ بهذه المدينة كثير المال، له أولاد صغار أوصى إليه بهم. وتركته آخذا في حملهم إلى بغداد. وعادة أهل الهند كعادة السودان لا يتعرضون لمال الميت، ولو ترك الآلاف إنما يبقى ماله بيد كبير المسلمين، حتى يأخذه مستحقه شرعا.

  ذكر سلطانـها

صفحة : 282

  وهو يسمى بكويل  بضم الكاف على لفظ التصغير  ، وهو من أكبر سلاطين المليبار. وله مراكب كثيرة تسافر إلى عمان وفارس واليمن. ومن بلاده فتن وبدفتن، وسنذكرهما. وسرنا من جرفتن إلى مدينة ده فن  بفتح الدال المـهمل وسكون الهاء  ، وقد ذكرنا ضبط فتن. وهي مدينة كبيرة على خور، كثيرة البساتين. وبها النارجيل والفلفل والفوفل والتنبول، وبها القلقاص الكثير، ويطبخون بـه اللحم. وأما الموز فلم أر في البلاد أكثر منـه بها ولا أرخص ثمنا. وفيها الباين الأعظم، طوله خمسمائة خطوة وعرضه ثلاثمائة خطوة. وهو مطوي بالحجارة الحمر المنحوتة، وعلى جوانبه ثمان وعشرون قبة من الحجر. في كل قبة أربعة مجالس من الحجر. وكل قبة يصعد إليها على درج حجارة. وفي وسطه قبة كبيرة من ثلاث طبقات، في كل طبقة أربعة مجالس. وذكر لي أن والد هذا السلطان كويل هو الذي عمر هذا الباين. وبإزائه مسجد جامع للمسلمين، وله أدراج ينزل منـها إليه فيتوضأ منـه الناس ويغتسلون. وحدثني الفقيه حسين أن الذي عمر المسجد والباين أيضا هو أحد أجداد كويل، وأنـه كان مسلما، ولإسلامـه خبر عجيب نذكره.

  ذكر الشجرة العجيبة الشأن التي بإزاء الجامع

 ورأيت أنا بإزاء الجامع شجرة خضراء تشبه أوراقها أوراق التين، إلا أنـها لينة. وعليها حائط يطيف بها، وعندها محراب صليت فيه ركعتين. واسم هذه الشجرة عندهم درخت الشـهادة ودرخت  بفتح الدال المـهمل والراء وسكون الخاء المعجم وتاء معلوة  وأخبرت هنالك أنـه إذا كان زمان الخريف من كل سنة، تسقط من هذه الشجرة ورقة واحدة بعد أن يستحيل لونـها إلى الصفرة، ثم إلى الحمرة، ويكون فيها مكتوبا بقلم القدرة: لا اله إلا الله محمد رسول الله. وأخبرني الفقيه حسين وجماعة من الثقات أنـهم عاينوا هذه الورقة، وقرأوا المكتوب الذي فيها. وأخبرني أنـه إذا كانت أيام سقوطها قعد تحتها الثقات من المسلمين والكفار، فإذا سقطت أخذ المسلمون نصفها، وجعل نصفها في خزانة السلطان الكافر، وهم يستشفون بها للمرضى. وهذه الشجرة كانت سبب إسلام جد كويل الذي عمر المسجد والباين. فإنـه كان يقرأ الخط العربي. فلما قرأها وفهم ما فيها أسلم وحسن إسلامـه. وحكايته عندهم متواترة. وحدثني الفقيه حسين أن أحد أولاده كفر بعد أبيه وطغى، وأمر باقتلاع الشجرة من أصلها فاقتلعت، ولم يترك لها أثر. ثم نبتت بعد ذلك، وعادت كأحسن مما كانت عليه، وهلك الكافر سريعا. ثم سافرنا إلى مدينة بدفتن. وهي مدينة كبيرة على خور كبير، وبخارجها مسجد بمقربة من البحر يأوي إليه غرباء المسلمين. لأنـه لا مسلم بهذه المدينة. ومرساها من أحسن المراسي، وماؤها عذب، والفوفل بها كثير. ومنـها يحمل للهند والصين. وأكثر أهلها براهمة. وهم معظمون عند الكفار، مبغضون في المسلمين. ولذلك ليس بينـهم مسلم.

 حكاية أخبرت أن سبب تركهم هذا المسجد غير مـهدوم، أن أحد البراهمة خرب سقفه ليصنع منـه سقفا لبيته، فاشتعلت النار في بيته. فأحرق هو وأولاده ومتاعه. فاحترموا هذا المسجد، ولم يتعرضوا له بسوء بعدها، وخدموه، وجعلوا بخارجه الماء، يشرب منـه الصادر والوارد وجعلوا على بابه شبكة لئلا يدخله الطير. ثم سافرنا من مدينة بدفتن إلى مدينة فندرينا  وضبط اسمـها بفاء مفتوح ونون ساكن ودال مـهمل وراء مفتوحة وياء آخر الحروف  ، مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأسواق. وبها للمسلمين ثلاث محلات، في كل محلة مسجد والجامع بها على الساحل، وهو عجيب، له مناظر ومجالس على البحر. وقاضيها وخطيبها رجل من أهل عمان، وله أخ فاضل. وبهذه البلدة تشتو مراكب الصين. ثم سافرنا منـها إلى مدينة قالقوط  وضبط اسمعا بقافين وكسر اللام وضم القاف الثاني وآخره طاء مـهمل  ، وهي إحدى البنادر العظام ببلاد المليبار. يقصدها أهل الصين والجاوة وسيلان والمـهل وأهل اليمن وفارس. ويجتمع بها تجار الآفاق. ومرساها من أعظم مراسي الدنيا.

 ذكر سلطان قالقوط

صفحة : 283

  وسلطانـها كافر يعرف بالسامري، شيخ مسن يحلق لحيته، كما تفعل طائفة الروم، رأيته بها، وسنذكره إن شاء الله. وأمير التجار بها إبراهيم شاه بندر من أهل البحرين فاضل ذو مكارم، يجتمع إليه التجار، ويأكلون في سماطه. وقاضيها فخر الدين عثمان فاضل كريم، وصاحب الزاوية بها الشيخ شـهاب الدين الكازروني، وله تعطى النذور التي ينذر بها أهل الهند والصين للشيخ أبي إسحاق الكازروني نفع الله به. وبهذه المدينة الناخوذة مثقال، الشـهير الإسم، صاحب الأموال الطائلة والمراكب الكثيرة لتجارته بالهند والصين واليمن وفارس. ولما وصلنا إلى هذه المدينة، خرج إلينا إبراهيم شاه بندر، والقاضي، والشيخ شـهاب الدين، وكبار التجار، ونائب السلطان الكافر والمسمى بقلاج،  بضم القاف وآخره جيم  ومعه الأطبال والأنفار والأبواق والأعلام في مراكبهم. ودخلنا المرسى في بروز عظيم ما رأيت مثله بتلك البلاد. فكانت فرحة تتبعها ترحة. وأقمنا بمرساها، وبه يومئذ ثلاثة عشر من مراكب الصين ونزلنا بالمدينة. وجعل كل واحد منا في دار. وأقمنا ننتظر زمان السفر إلى الصين ثلاثة أشـهر، ونحن في ضيافة الكافر، وبحر الصين لا يسافر فيه إلا بمراكب الصين. ولنذكر ترتيبها.

 ذكر مراكب الصين

 ومراكب الصين ثلاثة أصناف: الكبار منـها تسمى الجنوك، واحدها جنك  بجيم معقود مضموم ونون ساكن  ، والمتوسطة اسمـها الزو  بفتح الزاي وواو  ، والصغار اسم أحدها الككم  بكافين مفتوحتين  . ويكون في المركب الكبير منـها اثنا عشر قلعا فما دونـها إلى ثلاثة. وقلعها من قضبان الخيزران منسوجة كالحصر لا تحط أبدا، ويديرونـها بحسب دوران الريح. وإذا أرسوا تركوها واقفة في مـهب الريح، ويخدم في المركب منـها ألف رجل، منـهم البحرية ستمائة، ومنـهم أربعمائة من المقاتلة تكون فيهم الرماة وأصحاب الدرق والجرخية، وهم الذين يرمون بالنفط، ويتبع كل مركب كبير منا ثلاثة: النصفي والثلثي والربعي. ولا تصنع هذه المراكب إلا بمدينة الزيتون من الصين، أو بصين كلان، وهي صين الصين. وكيفية إنشائها أنـهم يصنعون حائطين من الخشب، يصلون ما بينـهما بخشب ضخام جدا، موصولة بالعرض والطول بمسامير ضخام، طول المسمار منـها ثلاثة أذرع. فإذا التأم الحائطان بهذه الخشب صنعوا على أعلاهما فرش الأسفل، ودفعوهما في البحر، وأتموا عمله، وتبقى تلك الخشب والحائطان موالية الماء ينزلون فيغتسلون ويقضون حاجتهم. وعلى جوانب تلك الخشب تكون مجاذيفهم، وهي كبار كالصواري، يجتمع على أحدها العشرة والخمسة عشر رجلا، ويجذفون وقوفا على أقدامـهم. ويجعلون للمركب أربعة ظهور، ويكون فيه البيوت والمصاري والغرف للتجار، والمصرية منـها يكون فيه البيوت والسنداس، وعليها المفتاح يسدها صاحبها، ويحمل معه الجواري والنساء، وربما كان الرجل في مصريته فلا يعرف بعه غيره ممن يكون بالمركب، حتى يتلاقيا إذا وصلا بعض البلاد. والبحرية يسكنون فيه أولادهم ويزدرعون الخضر والبقول والزنجبيل في أحواض خشب، ووكيل المركب كأنـه أمير كبير، وإذا نزل إلى البر مشت الرماة والحبشة بالحراب والسيوف والأطبال والأبواق والأنفار أمامـه. وإذا وصل إلى المنزل الذي يقيم بـه ركزوا رماحهم عن جانبي بابه، ولا يزالون كذلك مدة إقامته. ومن أهل الصين من تكون له المراكب الكثيرة، يبعث بها وكلاءه إلى البلاد. وليس في الدنيا أكثر أموالا من أهل الصين.

 ذكر أخذنا في السفر إلى الصين ومنتهى ذلك

صفحة : 284

  ولما حان وقت السفر إلى الصين، جهز لنا السلطان السامري جنكا من الجنوك الثلاثة عشر التي بمرسى قالقوط. وكان وكيل الجنك يسمى بسليمان الصفدي الشامي، وبيني وبينـه معرفة. فقلت له: أريد مصرية لا يشاركني فيها أحد، لأجل الجواري. ومن عادتي أن لا أسافر إلا بهن. فقال: إن تجار الصين قد اكتروا المصاري ذاهبين وراجعين. ولصهري مصرية أعطيكها، لكنـها لا سنداس فيها. وعسى أن تمكن معاوضتها. فأمرت أصحابي فأوسقوا ما عندي من المتاع، وصعد العبيد والجواري إلى الجنك، وذلك في يوم الخميس. وأقمت لأصلي الجمعة وألحق بهم. وصعد الملك سنبل وظهير الدين مع الهدية. ثم إن فتى لي يسمى بهلال أتاني غدوة الجمعة فقال: إن المصرية التي أخدناها بالجنك ضيقة لا تصلح، فذكرت ذلك للناخوذة، فقال: ليس في ذلك حيلة، فإن أحببت أن تكون في الككم ففيه المصاري على اختيارك. فقلت: نعم. وأمرت أصحابي، فنقلوا الجواري والمتاع إلى الككم. واستقروا بـه قبل صلاة الجمعة. وعادة هذا البحر أن يشتد هيجانـه كل يوم بعد العصر، فلا يستطيع أحد ركوبه. وكانت الجنوك قد سافرت، ولم يبق منـها إلا الذي فيه الهدية، وجنك عزم أصحابه على ان يشتوا بفندرينا، والككم المذكور، فبتنا ليلة السبت على الساحل، لا نستطيع الصعود إلى الككم، ولا يستطيع من فيه النزول إلينا. ولم يكن بقي معي إلا بساط أفترشـه. وأصبح الجنك والككم يوم السبت على بعد من المرسى. ورمى البحر بالجنك الذي كان أهله يريدون فندرينا، فتكسر. ومات بعض أهله، وسلم بعضهم، وكانت فيه جارية لبعض التجار عزيزة عليه، فرغب في إعطاء عشرة دنانير ذهبا لمن يخرجها. وكانت قد التزمت خشبة في مؤخر الجنك. فانتدب لذلك بعض البحرية الهرمزيين فأخرجها. وأبى أن يأخذ الدنانير، وقال: إنما فعلت ذلك لله تعالى. ولما كان الليل رمى البحر بالجنك الذي كانت فيه الهدية، فمات جميع من فيه. ونظرنا عند الصباح إلى مصارعهم، ورأيت ظهير الدين قد انشق رأسه، وتناثر دماغه، والملك سنبل قد ضرب مسمار في أحد صدغيه، ونفذ من الآخر. وصلينا عليهما ودفناهما. ورأيت الكافر سلطان قالقوط في وسطه شقة بيضاء كبيرة قد لفها من سرته إلى ركبته، وفي رأسه عمامة صغيرة، وهو حافي القدمين، والشطر بيد غلام فوق رأسه، والنار توقد بين يديه في الساحل، وزبانيته يضربون الناس لئلا ينتهبوا ما يرمي البحر. وعادة بلاد المليبار أن كل ما انكسر من مركب يرجع ما يخرج منـه للمخزن إلا في هذا البلد خاصة، فإن ذلك يأخذه أربابه. ولذلك عمرت، وكثر تردد الناس إليها. ولما رأى أهل الككم ما حدث عن الجنك، رفعوا قلعهم وذهبوا، ومعهم جميع متاعي وغلماني وجواري، وبقيت منفردا على الساحل، ليس معي إلا فتى كنت أعتقته. فلما رأى ما حل بي ذهب عني، ولم يبق عندي إلا العشرة الدنانير التي أعطانيها الجوكي، والبساط الذي كنت أفترشـه. وأخبرني الناس أن ذلك الككم لا بد له أن يدخل مرسى كولم، فعزمت على السفر إليها، وبينـهما مسيرة عشر في البر أو في النـهر أيضا لمن أراد ذلك. فسافرت في النـهر، واكتريت رجلا من المسلمين يحمل لي البساط. وعادتهم إذا سافروا في ذلك النـهر أن ينزلوا بالعشي فيبيتوا بالقري التي على حافتيه، ثم يعودوا إلى المركب بالغدو. فكنا نفعل ذلك. ولم يكن بالمركب مسلم إلا الذي اكتريته، وكان يشرب الخمر عند الكفار إذا نزلنا، ويعربد علي، فيزيد خاطري. ووصلنا في اليوم الخامس من سفرنا إلى كنجي كري  وضبط اسمـها بكاف مضموم ونون ساكن وجيم وياء مد وكاف مفتوح وراء مسكور وياء  ، وهي بأعلى جبل هنالك. يسكنـها اليهود، ولهم أمير منـهم، ويؤدون الجزية لسلطان كولم.

 ذكر القرفة والبقم

صفحة : 285

  وجميع الأشجار التي على هذا النـهر أشجار القرفة والبقم، وهي حطبهم هنالك. ومنـها كنا نقد النار لطبخ طعامنا في ذلك الطريق. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى مدينة كولم  وضبط اسمـها بفتح الكاف واللام وبينـهما واو  ، وهي أحسن بلاد المليبار، وأسواقها حسان، وتجارها يعرفون بالصوليين.  بضم الصاد  لهم أموال عريضة  ، يشتري أحدهم المركب بما فيه، ويوسقه من داره بالسلع. وبها من التجار المسلمين جماعة، كبيرهم علاء الدين الآوجي من أهل آوة، من بلاد العراق. وهو رافضي، ومعه أصحاب له على مذهبه، وهو يظهرون ذلك. وقاضيها فاضل من أهل قزوين. وكبير المسلمين بها محمد شاه بندر، وله أخ فاضل كريم اسمـه تقيي الدين. والمسجد الجامع بها عجيب، عمره التاجر خواجه مـهذب. وهذه المدينة أول ما يوالي الصين من بلاد المليبار، وإليها يسافر أكثرهم. والمسلمون بها أعزة محترمون.

 ذكر سلطان كولم

 وهو كافر يعرف بالتيروري  بكسر التاء المعلوة وياء مد وراء وواو مفتوحين وراء مكسورة وياء  وهو معظم للمسلمين. وله أحكام شديدة على السراق والدعار.

  حكاية

 ومما شاهدت بكولم أن بعض الرماة العراقيين قتل آخر منـهم، وفر إلى دار الآوجي، وكان له مال كثير، وأراد المسلمون دفن المقتول، فمنعهم نواب السلطان من ذلك، وقالوا: لا يدفن حتى تدفعوا لنا قاتله فيقتل به. وتركوه في تابوته على باب الآوجي، حتى أنتن وتغير. فمكنـهم الآوجي من القاتل، ورغب منـهم أن يعطيهم أمواله، ويتركوه حيا، فأبوا ذلك وقتلوه. وحينئذ دفن المقتول.

  حكاية

 أخبرت أن السلطان كولم ركب يوما إلى خارجها، وكان طريقه فيما بين البساتين، ومعه صهره زوج بنته، وهو من أبناء الملوك، فأخذ حبة واحدة من العنبة سقطت من بعض البساتين. وكان السلطان ينظر إليه فأمر بـه عند ذلك، فوسط، وقسم نصفين، وصلب نصفه عن يمين الطريق، ونصفه الآخر عن يساره، وقسمت حبة العنبة نصفين، فوضع على كل نصف منـه نصف منـها، وترك هنالك عبرة للناظرين.

  حكاية

 ومما اتفق نحو ذلك بقالقوط أن ابن أخي النائب عن سلطانـها غصب سيفا لبعض تجار المسلمين فشكا بذلك إلى ابن ، فوعده بالنظر في أمره، وقعد على باب داره. فإذا بابن أخيه متقلد ذلك السيف. فدعاه، فقال: هذا سيف المسلم  قال: نعم. قال: اشتريته منـه  قال: لا. فقال لأعوانـه: أمسكوه. ثم أمر به. فضربت عنقه بذلك السيف. وأقمت بكولم مدة بزاوية الشيخ فخر الدين ابن الشيخ شـهاب الدين الكازروني، شيخ زاوية قالقوط، فلم أتعرف للككم خبرا. وفي أثناء مقامي بها، دخل إليها أرسال ملك الصين الذين كانوا معنا، وكانوا مع أحد تلك الجنوك، فانكسر أيضا، فكساهم تجار الصين، وعادوا إلى بلادهم، ولقيتهم بها بعد. وأردت أن أعود من كولم إلى السلطان لأعلمـه بما اتفق على الهدية، ثم خفت أن يتعقب فعلي ويقول: لم فارقت الهدية  فعزمت على العودة إلى السلطان جمال الدين الهنوري، وأقيم عنده، حتى أتعرف خبر الككم، فعدت إلى قالقوط، ووجدت بها بعض مراكب السلطان. فبعث فيها أميرا من العرب يعرف بالسيد أبي الحسن، وهو من البردارية، وهم خواص البوابين، بعثه السلطان بأموال يستجلب بها من قدر عليه من العرب من أرض هرمز والقطيف لمحبته في العرب، فتوجهت إلى هذا الأمير، ورأيته عازما على أن يشتو بقالقوط، وحينئذ يسافر إلى بلاد العرب. فشاورته في العودة إلى السلطان فلم يوافق على ذلك. فسافرت بالبحر من قالقوط، وذلك آخر فصل السفر فيه. فكنا نسير نصف النـهار الأول ثم نرسو إلى الغد. ولقينا في طريقنا أربعة أجفان غزوية. فخفنا منـها، ثم لم يتعرضوا لنا بشر. ووصلنا إلى مدينة هنور، فنزلت إلى السلطان، وسلمت عليه. فأنزلني بدار، ولم يكن لي خديم. وطلب مني أن أصلي معه الصلوات. فكان أكثر جلوسي في مسجده. وكنت أختم القرآن كل يوم، ثم كنت أختم مرتين في اليوم. أبتدئ القراءة بعد صلاة الصبح فأختم عند الزوال، وأجدد الوضوء وأبتدء القراءة فأبتدئ امة الثانية عند الغروب. ولم أزل كذلك مدة ثلاثة أشـهر، واعتكفت فيها أربعين يوما.

 ذكر توجهنا إلى الغزو وفتح سندابور

صفحة : 286

  وكان السلطان جمال الدين قد جهز اثنين وخمسين مركبا وسفرته برسم غزو سندابور. وكان وقع بين سلطانـها وولده خلاف، فكتب ولده إلى السلطان جمال الدين أن يتوجه لفتح سندابور، ويسلم الولد المذكور، ويزوجه السلطان أخته. فلما تجهزت المراكب، ظهر لي أن أتوجه فيها إلى الجهاد. ففتحت المصحف أنظر فيه، فكان في أول الصفح يذكر فيه اسم الله كثيرا  ولينصرن الله من ينصره  فاستبشرت بذلك. وأتى السلطان إلى صلاة العصر، فقلت له: إني أريد السفر. فقال: فأنت إذا تكون أميرهم. فأخبرته بما خرج لي في أول الصفح، فأعجبه ذلك، وعزم على السفر بنفسه. ولم يكن ظهر له ذلك من قبل، فركب مركبا منـها، وأنا معه، وذلك في يوم السبت. فوصلنا عشي الاثنين إلى سندابور، ودخلنا خورها، فوجدنا أهلها مستعدين للحرب، وقد نصبوا المجانيق. فبتنا عليها تلك الليلة. فلما أصبح ضربت الطبول والأنفار والأبواق، وزحفت المراكب، ورموا عليها بالمجانيق. فلقد رأيت حجرا أصاب بعض الواقفين بمقربة من السلطان. ورمى أهل المراكب أنفسهم في الماء، وبأيديهم الترسة والسيوف. ونزل السلطان إلى العكيري، وهو شبه الشلير، ورميت بنفسي في الماء في جملة الناس. وكان عندنا طريدتان مفتوحتا المواخر، فيها الخيل. وهي بحيث يركب الفارس فرسه في جوفها ويتدرع ويخرج. ففعلوا ذلك. وأذن الله في فتحها، وأنزل النصر على المسلمين فدخلنا بالسيف، ودخل معظم الكفار في قصر سلطانـها. فرمينا النار فيه فخرجوا، وقبضنا عليهم. ثم إن السلطان أمنـهم، ورد لهم نساءهم وأولادهم، وكانوا نحو عشرة آلاف، وأسكنـهم بربض المدينة. وسكن السلطان القصر، وأعطى الديار بمقربة منـه لأهل دولته، وأعطاني جارية منـهن، تسمى بلكي، فسميتها مباركة. وأراد زوجها فداءها فأبيت، وكساني فرجية مصرية، وجدت في خزائن الكافر. وأقمت عنده بسندابور من يوم فتحها، وهو الثالث عشر لجمادى الأولى إلى منتصف شعبان. وطلبت منـه الاذن في السفر، فأخذ علي العهد في العودة إليه. وسافرت في البحر إلى هنور، ثم إلى فاكنور، ثم إلى منجرور، ثم إلى هيلي، ثم إلى جرفتن وده فتن وبدفتن وفندرينا وقالقوط، وقد تقدم ذكر جميعها، ثم إلى مدينة الشاليات،  وهي بالشين المعجم والف ولام وياء آخر الحروف وألف وتاء معلوة  ، مدينة من حسان المدن، تصنع بها الثياب المنسوبة لها. وأقمت بها، فطال مقامي، فعدت إلى قالقوط. ووصل إليها غلامان كانا لي بالككم، فأخبراني أن الجارية التي كانت حاملا، وبسببها كان تغير خاطري توفيت وأخذ صاحب الجاوة سائر الجواري، واستولت الأيدي على المتاع، وتفرق أصحابي إلى الصين والجاوة وبنجالة فعدت لما تعرفت هذا، إلى هنور ثم إلى سندابور، فوصلتها في آخر المحرم، وأقمت بها إلى الثاني من شـهر ربيع الآخر. وقدم سلطانـهم الكافر الذي دخلنا عليه برسم أخذها، وهرب إليه الكفار كلهم. وكانت عساكر السلطان متفرقة في القرى، فانقطعوا عنا، وحصرنا الكفار وضيقوا علينا. ولما اشتد الحال خرجت عنـها، وتركتها محصورة، وعدت إلى قالقوط، وعزمت على السفر إلى ذيبة المـهل، وكنت أسمع بأخبارها. فبعد عشرة أيام من ركوبنا البحر بقالقوط وصلنا جزائر ذيبة المـهل، وذيبة على لفظ مؤنث الذيب، والمـهل  بفتح الميم والهاء  . وهذه الجزائر إحدى عجائب الدنيا، وهي نحو ألفي جزيرة، ويكون منـها مائة فما دونـها مجتمعات مستديرة كالحلقة، لها مدخل كالباب، لا تدخل المراكب إلا منـه. وإذا وصل المركب إلى إحداها فلا بد له من دليل من أهلها يسير بـه إلى سائر الجزائر. وهي من التقارب بحيث تظهر رؤوس النخل التي بإحداها عند الخروج من الأخرى، فإن أخطأ المركب سمتها، لم يمكنـه ها، وحملته الريح إلى المعبر أو سيلان. وهذه الجزائر أهلها كلهم مسلمون ذوو ديانة وصلاح. وهي منقسمة إلى أقاليم، على كل إقليم وال يسمونـه الكردوبي. ومن أقاليمـها إقليم بالبور  وهو بباءين معقودتين وكسر اللام وآخره راء  ، ومنـها كنلوس  بفتح الكاف والنون مع تشديدها وضم اللام وواو وسين مـهمل  ، ومنـها إقليم المـهل، وبه تعرف الجزائر كلها. وبها يسكن سلاطينـها. ومنـها إقليم تلاديب  بفتح التاء المعلوة واللام والف ودال مـهمل وباء مد وباء موحدة  ، ومنـها إقليم كارايدو  بفتح الكاف وسكون الياء المسفولة وضم الدال المـهمل وواو  ، منـها إقليم التيم  بفتح التاء

صفحة : 287

  المعلوة وسكون الياء المسفولة  ، ومنـها إقليم تلدمتي  بفتح التاء المعلوة الاول واللام وضم الدال المـهمل وفتح الميم وتشديدها وكسر التاء الأخرى وياء  ، ومنـها إقليم هلدمتي، وهو مثل اللفظ الذي قبله إلا ان الهاء أوله، ومنـها إقليم برويدو  بفتح الباء الموحدة والراء وسكون الياء وضم الدال المـهمل وواو  ، ومنـها إقليم كندكل  بفتح الكافين والدال المـهمل ولام  ، ومنـها إقليم ملوك  بضم الميم، ومنـها إقليم السويد  بالسين المـهمل  ، وهو أقصاها. وهذه الجزائر كلها لا زرع بها، إلا أن في إقليم السويد منـها زرعا يشبة أتلي، ويجلب منـه إلى المـهل. وإنما أكل أهلها سمك يشبه الليرون، يسمونـه قلب الماس  بضم القاف  ، ولحمـه أحمر، ولا زفر له، إنما ريحه كريح لحم الأنعام، وإذا اصطادوه قطعوا السمكة منـه أربع قطع، وطبخوه يسيرا ثم جعلوه في مكائيل من سعف النخل، وعلقوه للدخان. فإذا استحكم يبسه أكلوه. ويحمل منـها إلى الهند والصين واليمن، ويسمونـه قلب الماس  بضم القاف  .لوة وسكون الياء المسفولة  ، ومنـها إقليم تلدمتي  بفتح التاء المعلوة الاول واللام وضم الدال المـهمل وفتح الميم وتشديدها وكسر التاء الأخرى وياء  ، ومنـها إقليم هلدمتي، وهو مثل اللفظ الذي قبله إلا ان الهاء أوله، ومنـها إقليم برويدو  بفتح الباء الموحدة والراء وسكون الياء وضم الدال المـهمل وواو  ، ومنـها إقليم كندكل  بفتح الكافين والدال المـهمل ولام  ، ومنـها إقليم ملوك  بضم الميم، ومنـها إقليم السويد  بالسين المـهمل  ، وهو أقصاها. وهذه الجزائر كلها لا زرع بها، إلا أن في إقليم السويد منـها زرعا يشبة أتلي، ويجلب منـه إلى المـهل. وإنما أكل أهلها سمك يشبه الليرون، يسمونـه قلب الماس  بضم القاف  ، ولحمـه أحمر، ولا زفر له، إنما ريحه كريح لحم الأنعام، وإذا اصطادوه قطعوا السمكة منـه أربع قطع، وطبخوه يسيرا ثم جعلوه في مكائيل من سعف النخل، وعلقوه للدخان. فإذا استحكم يبسه أكلوه. ويحمل منـها إلى الهند والصين واليمن، ويسمونـه قلب الماس  بضم القاف  .

  ذكر أشجارها

 ومعظم أشجار هذه الجزائر النارجيل، وهو من أقواتهم مع السمك، وقد تقدم ذكره. وأشجار النارجيل شأنـها عجيب. وتثمر النخل منـها اثنى عشر عذقا في السنة، يخرج في كل شـهر عذق، فيكون بعضها صغيرا وبعضها كبيرا وبعضها يابسا وبعضها أخضر، هكذا أبدا. ويصنعون منـها الحليب والزيت والعسل، حسب ما ذكرنا لك في السفر الأول. ويصنعون من عسله الحلواء، فيأكلونـها مع الجوز اليابس منـه. ولذلك كله، وللسمك الذي يغتذون بـه قوة عجيبة في الباءة، لا نظير لها. ولأهل هذه الجزائر عجب في ذلك. ولقد كان لي بها أربع نسوة وجوار سواهن، فكنت أطوف على جميعهن كل يوم، وأبيت عند من تكون ليلتها. وأقمت بها سنة ونصف أخرى على ذلك. ومن أشجارها الجموح والأترج والليمون والقلقاص، وهم يصنعون من أصوله دقيقا يعملون منـه شبه الأطرية، ويطبخونـها بحليب النارجيل، وهي من أطيب الطعام. كنت أستحسنـها كثيرا وآكلها.

  ذكر أهل هذه الجزائر وبعض عوائدهم

  وذكر مساكنـهم

صفحة : 288

  وأهل هذه الجزائر أهل صلاح وديانة وإيمان صحيح ونية صادقة، أكلهم حلال، دعاؤهم مجاب. وإذا رأى الإنسان أحدهم قال له: الله ربي ومحمد نبيي وأنا أمي مسكين. وأبدانـهم ضعيفة، ولا عهد لهم بالقتال والمحاربة، وسلاحهم الدعاء. ولقد أمرت مرة بقطع يد سارق بها، فغشي على جماعة منـهم كانوا بالمجلس. ولا تطرقهم لصوص الهند، ولا تذرعهم لأنـهم جربوا أن من أخذ لهم شيئا أصابته مصيبة عاجلة. وإذا أتت أجفان العدو إلى ناحيتهم أخذوا من وجدوا من غيرهم، ولم يتعرضوا لأحد منـهم بسوء. وإن أخذ أحد الكفار، ولو ليمونة، عاقبه أمير الكفار وضربه الضرب المبرح، خوفا من عاقبة ذلك. ولولا هذا لكانوا أهون الناس على قاصدهم بالقتال لضعف بنيتهم. وفي كل جزيرة من جزائرهم المساجد الحسنة، وأكثر عمارتهم بالخشب. وهم أهل نظافة وتنزه عن الأقذار. وأكثرهم يغتسلون مرتين في اليوم تنظفا لشدة الحر بها، وكثرة العرق. ويكثرون من الأدهان العطرية كالصندلية وغيرها، ويتلطخون بالغالية المجلوبة من مقدشو. ومن عادتهم أنـهم إذا صلوا الصبح أتت كل امرأة إلى زوجها أو ابنـها بالمكحلة وماء الورد ودهن الغالية، فيكحل عينيه، ويدهن بماء الورد ودهن الغالية، فتصقل بشرته، وتزيل الشحوب عن وجهه. ولباسهم فوط، يشدون الفوطة منـها على أوساطهم عوض السراويل، ويجعلون على ظهورهم ثياب الوليان  بكسر الواو وسكون اللام وياء  وهي شبه الأحاريم. وبعضهم يجعل عمامة، وبعضهم منديلا صغيرا عوضا منـها. وإذا لقي أحدهم القاضي أو الخطيب، وضع ثوبه على كتفيه، وكشف ظهره، ومضى معه كذلك، حتى يصل إلى منزله. ومن عوائدهم أنـه إذا تزوج الرجل منـهم، ومضى إلى دار زوجته، بسطت له ثياب القطن من باب دارها إلى باب البيت، وجعل عليها غرفات من الودع عن يمين طريقه إلى البيت وشماله، وتكون المرأة واقفة عند باب البيت تنتظره. فإذا وصل إليها رمت على رجليه ثوبا يأخذه خدامـه، وإن كانت المرأة هي التي تأتي إلى منزل الرجل بسطت داره، وجعل فيها الودع، ورمت المرأة عند الوصول إليه الثوب على رجليه. وكذلك عادتهم في السلام على السلطان عندهم، لا بد من ثوب يرمى عند ذلك، وسنذكره.

 وبنيانـهم بالخشب، ويجعلون سطوح البيوت مرتفعة عن الأرض توقيا من الرطوبات، لأن أرضهم ندية. وكيفية ذلك أن ينحتوا حجارة يكون طول الحجر منـها ذراعين أو ثلاثة، ويجعلونـها صفوفا، ويعرضون عليها خشب النارجيل، ثم يصنعون الحيطان من الخشب. ولهم صناعة عجيبة في ذلك، ويبنون في إسطوان الدار بيتا يسمونـه المالم  بفتح اللام  ، يجلس الرجل بـه مع أصحابه، ويكون له بابان: أحدهما إلى جهة الأسطوان يدخل منـه الناس، والآخر إلى جهة الدار يدخل منـه صاحبها. ويكون عند هذا البيت خابية مملوءة ماء، ولها مستقى، يسمونـه الوالنج  بفتح الواو واللام وسكون النون وجيم  ، هو من قشر جوز النارجيل، وله نصاب، طوله ذراعان. وبه يسقون الماء من الآبار لقربها. وجميعهم حفاة الأقدام من رفيع ووضيع، وأزقتهم مكنوسة نقية، تظللها الأشجار. فالماشي بها كأنـه في بستان. ومع ذلك لا بد لكل داخل إلى الدار أن يغسل رجليه بالماء الذي في الخابية بالمالم، ويمسحها بحصير غليظ من الليف، يكون هنالك، ثم يدخل بيته. وكذلك يفعل كل داخل إلى المسجد.

صفحة : 289

  ومن عوائدهم إذا قدم عليهم مركب، أن تخرج إليه الكنادر، وهي القوارب الصغار، واحدها كندرة  بضم الكاف والدال  . وفيها أهل الجزيرة معهم التنبول أو الكرنبة، وهو جوز النارجيل الأخضر، فيعطي الإنسان منـهم ذلك لمن شاء من أهل المركب، ويكون نزيله، ويحمل أمتعته إلى داره، كأنـه بعض أقربائه. ومن أراد التزوج من القادمين عليهم تزوج. فإذا حان سفره، طلق المرأة لأنـهن لا يخرجن عن بلادهن. ومن لم يتزوج، فالمرأة التي ينزل بدارها، تطبخ له وتخدمـه وتزوده إذا سافر، وترضى منـه في مقابلة ذلك بأيسر شيء من الإحسان. وفائدة المخزن، ويسمونـه البندر، أن يشتري من كل سلعة بالمركب حظا بسوم معلوم، سواء كانت السلعة تساوي ذلك أو أكثر منـه، ويسمونـه شرع البندر. ويكون للبندر بيت في كل جزيرة من الخشب، يسمونـه البجنصار  بفتح الباء الموحدة والجيم وسكون النون وفتح الصاد المـهمل وآخره راء  ، يجمع بـه الوالي وهو الكردوري جميع سلعه، ويبيع بها ويشتري. وهم يشترون الفخار إذا جلب إليهم بالدجاج. فتباع عندهم القدر بخمس دجاجات وست، وتحمل المراكب من هذه الجزائر السمك الذي ذكرناه وجوز النارجيل والفوط والوليان والعمائم، وهي من القطن، ويحملون منـها أواني النحاس. فإنـها عندهم كثيرة، ويحملون الودع، ويحملون القنبر  بفتح القاف وسكون النون وفتح الباء الموحدة والراء  ، وهو ليف جوز النارجيل. وهم يدبغونـه في حفر على الساحل، ثم يضربونـه بالمرازب، ثم تغزله النساء، وتصنع منـه الحبال لخياطة المراكب، وتحمل إلى الصين والهند واليمن، وهو خير من القنب. وبهذه الحبال تخاط مراكب الهند واليمن، لأن ذلك البحر كثير الحجارة، فإن كان المركب مسمرا بمسامير الحديد صدم الحجارة فانكسر، وإذا كان مخيطا بالحبال أعطى الرطوبة فلم ينكسر. وصرف أهل الجزائر الودع، وهو حيوان يلتقطونـه في البحر، ويضعونـه في حفر هنالك، فيذهب لحمـه، ويبقى عظمـه أبيض، ويسمون المائة منـه سياه  بسين مـهمل وياء آخر الحروف  ، ويسمون السبعمائة منـه الفال  بالفاء  ، ويسمون الثني عشر ألفا منـه الكتي  بضم الكاف وتشديد التاء المعلوة  ، ويسمون المائة ألف منـه بستو  بضم الباء الموحدة والتاء المعلوة وبينـهما سين مـهمل  ، ويباع بها بقيمة أربعة بساتي بدينار من الذهب، وربما رخص حتى يباع عشر بساتي منـه بدينار. ويبيعونـه من أهل بنجالة بالأرز، وهو أيضا صرف أهل بلاد بنجالة. ويبيعونـه من أهل اليمن، فيجعلونـه عوض الرمل في مراكبهم. وهذا الودع أيضا هو صرف السودان في بلادهم، رأيته يباع بمالي وجوجو بحساب ألف وخمسين للدينار الذهبي.

  ذكر نسائها

صفحة : 290

  ونساؤها لا يغطين رؤوسهن، ولا سلطانتهم تغطي رأسها. ويمشطن شعورهن، ويجمعنـها إلى جهة واحدة. ولا يلبسن أكثرهن إلا فوطة واحدة تسترها من السرة إلى أسفل، وسائر أجسادهن مكشوفة. وكذلك يمشين في الأسواق وغيرها. ولقد جهدت لما وليت القضاء بها أن أقطع تلك العادة وآمرهن باللباس، فلم أستطع ذلك. فكنت لا تدخل إلي منـهن امرأة في خصومة إلا مسترة الجسد، وما عدا ذلك لم تكن عليه قدرة. ولباس بعضهن قمص زائدة على الفوطة، وقمصهن قصار الأكمام عراضها. وكان لي جوار كسوتهن لباس أهل دهلي يغطين رؤوسهن، فعابهن ذلك أكثر ما زانـهن إذ لم يتعودنـه. وحليهن الأساور وتجعل المرأة منـها جملة في ذراعيها، بحيث تملأ ما بين الكوع والمرفق، وهي من الفضة. ولا تحمل أساور الذهب إلا نساء السلطان وأقاربه. ولهن الخلاخيل، ويسمونـها البايل  بباء موحدة والف وياء آخر الحروف مكسورة  ، وقلائد ذهب يجعلنـها على صدورهن، ويسمونـها البسدر  بالباء الموحدة وسكن السين المـهمل وفتح الدال المـهمل والراء  . ومن عجيب أفعالهن أنـهن يؤجرن أنفسهن للخدمة بالديار على عدد معلوم من خمسة دنانير فما دونـها. وعلى مستأجرهن نفقتهن، ولا يرين ذلك عيبا، ويفعله أكثر بناتهم. فتجد في دار الإنسان الغني منـهن العشرة والعشرين. وكل ما تكسره من الأواني يحسب عليها قيمته. وإذا أرادت الخروج من دار إلى دار أعطاها أهل الدار التي تخرج إليها العدد الذي هي مرتهنة فيه، فتدفعه لأهل الدار التي خرجت منـها، ويبقى عليها للآخرين. وأكثر شغل هؤلاء المسأجرات غزل القنبر. والتزوج بهذه الجزائر سهل، لنزارة الصداق وحسن معاشرة النساء. وأكثر الناس لا يسمي صداقا، إنما تقع الشـهادة، ويعطى صداق مثلها. وإذا قدمت المراكب تزوج أهلها النساء، فإذا أرادوا السفر طلقوهن، وذلك نوع من نكاح المتعة. وهن لا يخرجن عن بلادهن أبدا. ولم أر في الدنيا أحسن معاشرة منـهن. ولا تكل المرأة عندهم خدمة زوجها لسواها، بل هي تأتيه بالطعام، وترفعه بين يديه، وتغسل يده، وتأتيه بالماء للوضوء، وتغم رجليه عند النوم. ومن عوائدهن أن لا تأكل المرأة مع زوجها، ولا يعلم الرجل ما تأكله المرأة. ولقد تزوجت بها نسوة، فأكل معي بعضهن بعد محاولة، وبعضهن لم تأكل معي، ولا استطعت أن أراها تأكل، ولا نفعتني حيلة في ذلك.

  ذكر السبب في إسلام هذه الجزائر

  وذكر العفاريت من الجن التي تضربها في كل شـهر

صفحة : 291

  حدثني الثقات من أهلها كالفقيه عيسى اليمني، والفقيه المعلم علي، والقاضي عبد الله وجماعة سواهم، أن أهل هذه الجزائر كانوا كفارا، وكان يظهر لهم في كل شـهر عفريت من الجن، يأتي ناحية البحر، كأنـه مركب مملوء بالقناديل. وكانت عادتهم إذا رأوه، أخذوا جارية بكرأ فزينوها وأدخلوها إلى بدخانة. وهي بيت الأصنام، وكان مبنيا على ضفة البحر، وله طاق ينظر إليه، ويتركونـها هنالك ليلة، ثم يأتون عند الصباح فيجدونـها مفتضة ميتة. ولا يزالون في كل شـهر يقترعون بينـهم، فمن أصابته القرعة أعطى بنته. ثم إنـهم قدم عليهم مغربي يسمى بأبي البركات البربري، وكان حافظا للقرآن العظيم، فنزل بدار عجوز منـهم بجزيرة المـهل، فدخل عليها يوما، وقد جمعت أهلها، وهن يبكين كأنـهن في مأتم. فاستفهمـهن عن شأنـهن، فلم يفهمنـه. فأتى ترجمان فأخبره أن العجوز كانت القرعة عليها، وليس لها إلا بنت واحدة، يقتلها العفريت. فقال لها أبو البركات: أنا أتوجه عوضا من بنتك بالليل. وكان سناطا، لا لحية له، فاحتملوه تلك الليلة، وأدخلوه إلى بدخانة، وهو متوضئ. وأقام يتلو القرآن، ثم ظهر له العفريت من الطاق، فداوم التلاوة، فلما كان منـه بحيث يسمع القراءة غاص في البحر. وأصبح المغربي، وهو يتلو على حاله. فجاءت العجوز وأهلها وأهل الجزيرة، ليستخرجوا البنت على عادتهم فيحرقوها، فوجدوا المغربي يتلو، فمضوا بـه إلى ملكهم، وكان يسمى شنورازة  بفتح الشين المعجم وضم النون وواو وراء والف وزاي وهاء  ، وأعلموه بخبره، فعجب. وعرض المغربي عليه الإسلام، ورغبه فيه. فقال له أقم عندنا إلى الشـهر الآخر، فإن فعلت كفعلك، ونجوت من العفريت أسلمت. فأقام عندهم. وشرح الله صدر الملك للإسلام فأسلم قبل تمام الشـهر، وأسلم أهله وأولاده وأهل دولته. ثم حمل المغربي لما دخل الشـهر إلى بدخانة، ولم يأت العفريت، فجعل يتلو حتى الصباح. وجاء السلطان والناس معه فوجدوه على حاله من التلاوة، فكسروا الأصنام، وهدموا بدخانة، وأسلم أهل الجزيرة، وبعثوا إلى سائر الجزائر فأسلم أهلها. وأقام المغربي عندهم معظما، وتمذهبوا بمذهبه مذهب الإمام مالك رضي الله عنـه. وهم إلى هذا العهد يعظمون المغاربة بسببه، وبنى مسجدا هو معروف باسمـه، وقرأت على مقصورة الجامع منقوشا في الخشب أسلم السلطان أحمد شنورازة على يد أبي البركات البربري المغربي. وجعل ذلك السلطان ثلث مجابي الجزائر صدقة على أبناء السبيل، إذ كان إسلامـه بسببهم. فسمي على ذلك حتى الآن. وبسبب هذا العفريت خرب من هذه الجزائر كثير قبل الإسلام.

 ولما دخلناها لم يكن لي علم بشأنـه. فبينا أنا ذات ليلة في بعض شأني، إذ سمعت الناس يجهرون بالتهليل والتكبير، ورأيت الأولاد، وعلى رؤوسهم المصاحف، والنساء يضربن في الطسوت وأواني النحاس. فعجبت من فعلهم، وقلت ما شأنكم  فقالوا: ألا تنظر إلى البحر  فنظرت فإذا مثل المركب الكبير، وكأنـه مملوء سرجا ومشاعل. فقالوا: ذلك العفريت، وعادته أن يظهر مرة في الشـهر. فاذا فعلنا ما رأيت انصرف عنا ولم يضرنا.

  ذكر سلطانة هذه الجزائر

صفحة : 292

  ومن عجائبها أن سلطانتها امرأة، وهي خديجة بنت السلطان جلال الدين عمر ابن السلطان صلاح الدين صالح البنجالي. وكان الملك لجدها ثم لأبيها، فلما مات أبوها ولي أخوها شـهاب الدين، وهو صغير السن. فتزوج الوزير عبد الله ابن محمد الحضرمي أمـه، وغلب عليه، وهو الذي تزوج أيضا هذه السلطانة خديجة بعد وفاة زوجها الوزير جمال الدين، كما سنذكره. فلما بلغ شـهاب الدين مبلغ الرجال، أخرج ربيبه الوزير عبد الله، ونفاه إلى جزائر السويد. واستقل بالملك، واستوزر أحد مواليه، ويسمى علي كلكي، ثم عزله بعد ثلاثة أعوام، ونفاه إلى السويد. وكان يذكر عن السلطان شـهاب الدين المذكور أنـه يختلف إلى حرم أهل دولته وخواصه بالليل، فخلعوه لذلك ونفوه إلى إقليم هلدتني، وبعثوا من قتله بها. ولم يكن بقي من بيت الملك إلا أخواته خديجة الكبرى ومريم وفاطمة، فقدموا خديجة سلطانة، وكانت متزوجة لخطيبهم جمال الدين، فصار وزيرا وغالبا على الأمر، وقدم ولده محمدا للخطابة عوضا منـه. ولكن الأوامر إنما تنفذ باسم خديجة. وهم يكتبون الأوامر في سعف النخل بحديدة معوجة شبه السكين. ولا يكتبون في الكاغد إلا المصاحف وكتب العلم، ويذكرها الخطيب يوم الجمعة، وغيرها، فيقول: اللهم انصر أمتك التي اخترتها على علم على العالمين، وجعلتها رحمة لكافة المسلمين، ألا وهي السلطانة خديجة بنت السلطان جلال الدين ابن السلطان صلاح الدين. ومن عادتهم إذا قدم الغريب عليهم، ومضى إلى المشور، وهم يسمونـه الدار، فلا بد له أن يستصحب ثوبين، فيخدم لجهة هذه السلطانة، ويرمي بأحدهما، ثم يخدم لوزيرها، وهو زوجها جمال الدين، ويرمي بالثاني. وا نحو ألف نفر من الغرباء، وبعضهم بلديون. ويأتون كل يوم إلى الدار، فيخدمون وينصرفون. ومرتبهم الأرز يعطاهم من البندر في كل شـهر، فإذا تم الشـهر أتوا الدار، وخدموا، وقالوا للوزير: بلغ عنا الخدمة، واعلم بأنا أتينا بطلب مرتبنا. فيؤمر لهم بـه عند ذلك. ويأتي أيضا إلى الدار كل يوم القاضي وأرباب الخطط، وهم الوزراء عندهم، فيخدمون، ويبلغ خدمتهم الفتيان، وينصرفون.

  ذكر أرباب الخطط وسيرهم

 وهم يسمون الوزير الأكبر النائب عن السلطانة كلكي  بفتح الكاف الأولى واللام  ، ويسمون القاضي فندريارقالوا  وضبط ذلك بفاء مفتوح ونون مسكن ودال مـهمل مفتوح وياء آخر الحروف والف وراء وقاف والف ولام مضموم  ، وأحكامـهم كلها راجعة إلى القاضي، وهو أعظم عندهم من الناس أجمعين، وأمره كأمر السلطان وأشد، ويجلس على بساط في الدار. وله ثلاث جزائر، يأخذ مجباها لنفسه. عادة قديمة أجراها السلطان أحمد شنورازة. ويسمون الخطيب هنديجري  بفتح الهاء وسكون النون وكسر الدال وياء مد وجيم مفتوح وراء وياء  . ويسمون صاحب الديوان الفاملداري  بفتح الفاء والميم والدال المـهمل  ، واسم صاحب الأشغال مافاكلو  بفتح الميم والكاف وضم اللام  ، واسم الحاكم فتنايك  بكسر الفاء وسكون التاء المعلوة وفتح النون والف وياء آخر الحروف مفتوحة أيضا وكاف  ، واسم قائد البحر مانايك  بفتح الميم والنون والياء  . وكل من هؤلاء يسمى وزيرا. ولا سجن عندهم بتلك الجزائر، إنما يحبس أرباب الجرائم في بيوت خشب، هي معدة لأمتعة التجار، ويجعل أحدهم في خشبة، كما يفعل عندنا بأسارى الروم.

  ذكر وصولي إلى هذه الجزائر وتنقل حالي بها

 ولما وصلت إليها نزلت بجزيرة كنلوس، وهي جزيرة حسنة فيها المساجد الكثيرة. ونزلت بدار رجل من صلحائها، وأضافني بها الفقيه علي، وكان فاضلا، له أولاد من طلبة العلم. ولقيت بها رجلا اسمـه محمد من أهل ظفار الحموض، فأضافني وقال لي: إن دخلت جزيرة المـهل أمسكك الوزير بها. فإنـهم لا قاضي عندهم. وكان غرضي أن أسافر منـها إلى المعبر وسرنديب وبنجالة ثم إلى الصين. وكان قدومي عليها في مركب الناخوذة عمر الهنوري، وهو من الحجاج الفضلاء.

صفحة : 293

  ولما وصلنا كنلوس أقام بها عشرا، ثم اكترى كندرة يسافر فيها إلى المـهل، بهدية للسلطانة وزوجها، فأردت السفر معه، فقال: لا تسعك الكندرة أنت وأصحابك. فإن شئت السفر منفردا عنـهم فدونك، فأبيت ذلك، وسافر. فلعبت بـه الريح، وعاد إلينا بعد أربعة أيام، وقد لقي شدائد. فاعتذر لي، وعزم علي في السفر معه بأصحابي، فكنا نرحل غدوة، فننزل في وسط النـهار لبعض الجزائر، ونرحل فنبيت بأخرى.

 ووصلنا بعد أيام إلى إقليم التيم. وكان الكردوي يسمى بها هلالا، فسلم علي وأضافني. وجاء إلي ومعه أربعة رجال، وقد جعل اثنان منـهم، عودا على أكتافهما، وعلقا منـه أربع دجاجات، وجعل الآخران عودا مثله، وعلقا منـه نحو عشر من جوز النارجيل. فعجبت من تعظيمـهم لهذا الشيء الحقير. فأخبرت أنـهم صنعوه على جهة الكرامة والإجلال. ورحلنا عنـهم فنزلنا في اليوم السادس بجزيرة عثمان، وهو رجل فاضل من خيار الناس، فأكرمنا وأضافنا. وفي اليوم الثامن نزلنا بجزيرة الوزير، يقال له التلمذي. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى جزيرة المـهل، حيث السلطانة وزوجها. وأرسينا بمرساها. وعادتهم أن لا ينزل أحد من المرسى إلا بإذنـهم. فأذنوا لنا بالنزول، وأردت التوجه إلى بعض المساجد فمنعني الخدام الذين بالساحل، وقالوا: لا بد من ال إلى الوزير.

 وكنت أوصيت الناخوذة أن يقول إذا سئل عني: لا أعرفه، خوفا من إمساكهم إياي. ولم أعلم أن بعض أهل الفضول، قد كتب إليهم معرفا بخبري، وأني كنت قاضيا بدهلي، فلما وصلت إلى الدار، وهو المشور، ونزلنا في سقائف على الباب الثالث منـه، وجاء القاضي عيسى اليمني، فسلم علي، وسلمت على الوزير، وجاء الناخوذة إبراهيم بعشرة أثواب، فخدم لجهة السلطانة، ورمى بثوب منـها، ثم خدم للوزير، ورمى بثوب آخر، ورمى بجميعها، وسئل عني فقال: لا أعرفه. ثم أخرجوا التنبول وماء الورد، وذلك هو الكرامة عندهم، وأنزلنا بدار، وبعث إلينا الطعام، وهو قصعة كبيرة فيها الأرز، وتدور بها صحاف فيها اللحم الخليع والدجاج والسمن والسمك. ولما كان بالغد مضيت مع الناخوذة والقاضي عيسى اليمني لزيارة زاوية في طرف الجزيرة، عمرها الشيخ الصالح نجيب، وعدنا ليلا. وبعث الوزير إلي صبيحة تلك الليلة كسوة وضيافة، فيها الأرز والسمن والخليع وجوز النارجيل والعسل المصنوع منـها، وهم يسمونـه القرباني  بضم القاف وسكون الراء وفتح الباء الموحدة والف ونون وياء  ، ومعنى ذلك ماء السكر. وأتوا بمائة ودعة للنفقة. وبعد عشرة أيام قدم مركب من سيلان فيه فقراء من العرب والعجم يعرفونني. فعرفوا خدام الوزير بأمري، فزاد اغتباطي. وبعث عني عند استهلال رمضان، فوجدت الأمراء والوزراء. وأحضر الطعام في موائد، يجتمع على المائدة طائفة. فأجلسني الوزير إلى جانبه، ومعه القاضي عيسى، والوزير الفاملداري ؛ والوزير عمر دهرد، ومعناه مقدم العسكر. وطعامـهم الأرز والدجاج والسمن والسمك والخليع والموز المطبوخ، ويشربون بعده عسل النارجيل مخلوطا بالأفاويه، وهو يهضم الطعام. وفي التاسع من شـهر رمضان مات صهر الوزير زوج بنته، وكانت قبله عند السلطان شـهاب الدين، ولم يدخل بها أحد منـهما لصغرها، فردها أبوها لداره، وأعطاني دارها، وهي من أجمل الدور. واستأذنته في ضيافة الفقراء القادمين من زيارة القدم فأذن لي في ذلك، وبعث إلي خمسا من الغنم، وهي عزيزة عندهم، لأنـها مجلوبة من المعبر والمليبار ومقدشو، وبعث الأرز والدجاج والسمن والأبازير. فبعثت ذلك كله إلى دار الوزير سليمان مانايك، فطبخ لي بها، فأحسن في طبخه وزاد فيه، وبعث الفرش وأواني النحاس، وأفطرنا على العادة بدار السلطانة مع الوزير. واستأذنته في حضور بعض الوزراء بتلك الضيافة، فقال لي: وأنا أحضر أيضا، فشكرته وانصرفت إلى داري، فإذا بـه قد جاء، ومعه الوزراء وأرباب الدولة. فجلس في قبة خشب مرتفعة. وكان كل من يأتي من الأمراء والوزراء يسلم على الوزير، ويرمي بثوب غير مخيط، حتى اجتمع مائة ثوب أو نحوها، فأخذها الفقراء. وقدم الطعام فأكلوا، ثم قرأ القراء بالأصوات الحسان، ثم أخذوا في السماع وال. وأعدت النار، فكان الفقراء يدخلونـها ويطأونـها بالأقدام، ومنـهم من يأكلها، كما تؤكل الحلواء، إلى أن خمدت.

  ذكر بعض إحسان الوزير إلي

صفحة : 294

  ولما تمت الليلة انصرف الوزير، ومضيت معه، فمررنا ببستان للمخزن. فقال لي الوزير: هذا البستان لك، وسأعمر لك فيه دارا لسكناك. فشكرت فعله، ودعوت له. ثم بعث لي من الغد بجارية وقال لي خديمـه: يقول لك الوزير: إن أعجبتك هذه فهي لك، وإلا بعثت لك جارية مرهتية، وكانت الجواري المرهتيات تعجبني، فقلت له: إنما أريد المرهتية، فبعثها لي، وكان اسمـها قل استان، ومعناه زهر البستان، وكانت تعرف اللسان الفارسي فأعجبتني. وأهل تلك الجزائر لهم لسان لم أكن أعرفه، ثم بعث إلي في غد ذلك بجارية معبرية تسمى عنبري. ولما كانت اللية بعدها، جاء الوزير إلي بعد العشاء الأخيرة في نفر من أصحابه، فدخل الدار، ومعه غلامان صغيران، فسلمت عليه، وسألني عن حالي، فدعوت له وشكرته، فألقى أحد الغلامين بين يديه لقشة  بقشة  ، وهي شبه السبنية، وأخرج منـها ثياب حرير، وحقا فيه جوهر فأعطاني ذلك، وقال لي: لو بعثته لك مع الجارية، لقالت هو مالي جئت بـه من دار مولاي، والآن هو مالك، فأعطه إياه. فدعوت له وشكرته، وكان أهلا للشكر، رحمـه الله.

  ذكر تغيره وما أردته من الخروج ومقامي بعد ذلك

 وكان الوزير سليمان مانايك قد بعث إلي أن أتزوج بنته، فبعثت إلى الوزير جمال الدين مستأذنا في ذلك. فعاد إلي الرسول، وقال: لم يعجبه ذلك، وهو يحب أن يزوجك بنته، إذا انقضت عدتها. فأبيت أنا ذلك، وخفت من شؤمـها، لأنـه مات تحتها زوجان قبل ال، وأصابتني أثناء ذلك حمى مرضت بها. ولا بد لكل من يدخل، تلك الجزيرة أن يحم، فقوي عزمي علىالرحلة عنـها، فبعت بعض الحلي بالودع، واكتريت مركبا أسافر فيه لبنجالة. فلما ذهبت لوداع الوزير خرج إلي القاضي فقال: الوزير يقول لك: إن شئت السفر، فأعطنا ما أعطيناك وسافر. فقلت له: إن بعض الحلي اشتريت بـه الودع، فشأنكم وإياه. فعاد إلي فقال: يقول: إنما أعطيناك الذهب ولم نعطك الودع. فقلت له: أنا أبيعه، وآتيكم بالذهب. فبعثت إلى التجار ليشتروه مني، فأمرهم الوزير أن لا يفعلوا. وقصده بذلك كله أن لا أسافر عنـه. ثم بعث إلي أحد خواصه وقال: الوزير يقول لك: أقم عندنا، ولك كل ما أحببت. فقلت في نفسي: أنا تحت حكمـهم، وإن لم أقم مختارا أقمت مضطرا، فالإقامة باختياري أولى. وقلت لرسوله: نعم، أنا أقيم معه. فعاد إليه ففرح بذلك، واستدعاني. فلما دخلت إليه قام إلي وعانقني وقال: نحن نريد قربك، وأنت تريد البعد عنا. فاعتذرت له، فقبل عذري، وقلت له: إن أردتم مقامي فأنا اشترط عليكم شروطا. فقال: نقبلها فاشترط. فقلت له: أنا لا أستطيع المشي على قدمي، ومن عادتهم أن لا يركب أحد هناك إلا الوزير. ولقد كنت لما أعطوني الفرس فركبته، يتبعني الناس رجالا وصبيانا، يعجبون مني حتى شكوت له. فضربت الدنقرة، وبرح في الناس أن لا يتبعني أحد، والدنقرة  بضم الدال المـهمل وسكون النون وضم القاف وفتح الراء  شبه الطست من النحاس تضرب بحديدة، فيسمع لها صوت على البعد. فإذا ضربوها حينئذ يبرح في الناس بما يراد. فقال لي الوزير: إن أردت أن تركب الدولة وإلا فعندنا حصان ورمكة ، فاختر أيهما شئت. فاخترت الرمكة. فأتوني بها في تلك الساعة، وأتوني بكسوة. فقلت له: وكيف أصنع بالودع الذي اشتريته  فقال: ابعث أحد أصحابك ليبيعه لك ببنجالة، فقلت له: على أن تبعث أنت من يعينـه على ذلك. فقال: نعم. فبعث حينئذ رفيقي أبا محمد بن فرحان، وبعثوا معه رجلا يسمى الحاج عليا، فاتفق أن هال البحر، فرموا بكل ما عندهم، حتى الزاد والماء والصاري والقربة. وأقاموا ست عشرة ليلة لا قلع لهم ولا سكان ولا غيره. ثم خرجوا إلى جزيرة سيلان، بعد جوع وعطش وشدائد وقدم علي صاحبي أبو محمد بعد سنة، وقد زار القدم، وزارها مرة ثانية معي.

  ذكر العيد الذي شاهدته معهم

صفحة : 295

  ولما تم شـهر رمضان بعث الوزير إلي بكسوة، وخرجنا إلى المصلى، وقد زينت الطريق التي يمر الوزير عليها من داره إلى المصلى، وفرشت الثياب فيها، وجعلت كتاتي الودع يمنة ويسرة. وكل من له على طريقه دار من الأمراء والكبار، قد غرس عندها النخل الصغار من النارجيل وأشجار الفوفل والموز، ومد من شجرة إلى أخرى شرائط، وعلق منـها الجوز الأخضر. ويقف صاحب الدار عند بابها، فإذا مر الوزير رمى على رجليه ثوبا من الحرير أو القطن، فيأخذه عبيده مع الودع الذي يجعل على طريقه أيضا، والوزير ماش على قدميه، وعليه فرجية مصرية من المرعز، وعمامة كبيرة، وهو متقلد فوطة حرير، وفوق رأسه أربعة شطور، وفي رجليه النعل، وجميع الناس سواه حفاة. والأبواق والأنفار والأطبال بين يديه، والعساكر أمامـه وخلفه، وجميعهم يكبرون حتى أتوا المصلى، فخطب ولده بعد الصلاة. ثم أتي بمحفة فركب فيها الوزير وخدم الأمراء والوزراء، ورموا بالثياب على العادة. ولم يكن ركب في المحفة قبل ذلك، لأن ذلك لا يفعله إلا الملوك. ثم رفعه الرجال، وركبت فرسي ودخلنا القصر. فجلس بموضع مرتفع، وعنده الوزراء والأمراء، ووقف العبيد بالترسة والسيوف والعصي، ثم أتي بالطعام ثم الفوفل والتنبول، ثم أتي بصحفة صغيرة فيها الصندل المقاصري. فإذا أكلت جماعة من الناس تلطخوا بالصندل. ورأيت على بعض طعامـهم يومئذ حوتا من السردين مملوحا غير مطبوخ، أهدي لهم من كولم، وهو في بلاد المليبار كثير. فأخذ الوزير سردينة وجعل يأكلها. وقال لي: كل منـه، فإنـه ليس ببلادنا. فقلت: كيف آكله وهو غير مطبوخ فقال: إنـه مطبوخ. فقلت: أنا أعرف به، فإنـه ببلادي كثير.

  ذكر تزوجي وولايتي القضاء

 وفي الثاني من شوال اتفقت مع الوزير سليمان مانايك على تزوج بنته، فبعثت إلى الوزير جمال الدين أن يكون عقد النكاح بين يديه بالقصر، فأجاب إلى ذلك، وأحضر التنبول على العادة والصندل، وحضر الناس، وأبطأ الوزير سليمان، فاستدعي، فلم يأت، ثم استدعي ثانية، فاعتذر بمرض البنت. فقال لي الوزير سرا: إن بنته امتنعت، وهي مالكة أمر نفسها. والناس قد اجتمعوا فهل لك أن تتزوج بربيبة السلطان زوجة أبيها، وهي التي ولده متزوج بنتها  فقلت له: نعم. فاستدعى القاضي والشـهود، ووقعت الشـهادة، ودفع الوزير الصداق، ورفعت إلي بعد أام، فكانت من خيار النساء. وبلغ حسن معاشرتها أنـها كانت إذا تزوجت عليها تطيبني وتبخر أثوابي، وهي ضاحكة، لا يظهر عليها تغير. ولما تزوجتها أكرهني الوزير على القضاء. وسبب ذلك اعتراضي على القاضي، لكونـه كان يأخذ العشر من التركات، إذا قسمـها على أربابها فقلت له: إنما لك أجرة تتفق بها مع الورثة، ولم يكن يحسن شيئا، فلما وليت، اجتهدت جهدي في إقامة رسوم الشرع. وليست هنالك خصومات، كما هي ببلادنا. فأول ما غيرت من عوائد السوء مكث المطلقات في ديار المطلقين. وكانت إحداهن لا تزال في دار المطلق حتى تتزوج غيره. فحسمت علة ذلك. وأتي إلي بنحو خمسة وعشرين رجلا ممن فعل ذلك، فضربتهم وشـهرتهم بالأسواق، وأخرجت النساء عنـهم، ثم اشتددت في إقامة الصلوات، وأمرت الرجال بالمبادرة إلى الأئمة والأسواق إثر صلاة الجمعة، فمن وجدوه لم يصل ضربته وشـهرته. وألزمت الأئمة والمؤذنين أصحاب المرتبات المواظبة على ما هم بسبيله، وكتبت إلى جميع الجزائر بنحو ذلك وجهدت أن أكسو النساء، فلم أقدر على ذلك.

  ذكر قدوم الوزير عبد الله بن محمد الخضرمي

  الذي نفاه السلطان شـهاب الدين إلى السويد وما وقع بيني وبينـه

صفحة : 296

  كنت قد تزوجت ربيبته بنت زوجته، وأحببتها حبا شديدا. ولما بعث الوزير عنـه، ورده إلى جزيرة المـهل، بعثت له التحف، وتلقيته ومضيت معه إلى القصر فسلم على الوزير، وأنزله في دار جيدة. فكنت أزوره بها. واتفق أن اعتكفت في رمضان. فزارني جميع الناس إلا هو، وزارني الوزير جمال الدين، فدخل هو معه، بحكم الموافقة. فوقعت بيننا الوحشة. فلما خرجت من الاعتكاف شكا إلي أخوال زوجتي ربيبته أولاد الوزير جمال الدين السنجري، فإن أباهم أوصى عليهم الوزير عبد الله، وأن ما لهم باق بيده، وقد خرجوا عن حجره بحكم الشرع، وطلبوا إحضاره بمجلس الحكم، وكانت عادتي إذا بعثت عن خصم من الخصوم، أبعث له قطعة كاغد مكتوبة، فعندما يقف عليها يبادر إلى مجلس الحكم الشرعي، وإلا عاقبته، فبعثت إليه على العادة، فأغضبه ذلك، وحقدها لي، وأضمر عداوتي، ووكل من يتكلم عنـه، وبلغني عنـه كلام قبيح. وكانت عادة الناس من صغير وكبير أن يخدموا له كما يخدمون للوزير جمال الدين، وخدمتهم أن يوصلوا السبابة إلى الأرض، ثم يقبلونـها ويضعونـها على رؤوسهم. فأمرت المنادي فنادى بدار السلطان على رؤوس الأشـهاد أنـه من خدم للوزير عبد الله كما يخدم للوزير الكبير لزمـه العقاب الشديد. وأخذت عليه أن لا يترك الناس لذلك. فزادت عداوته. وتزوجت أيضا زوجة أخرى، بنت وزير معظم عندهم، كان جده السلطان داود حفيد السلطان أحمد شنورازة. ثم تزوجت زوجة كانت تحت السلطان شـهاب الدين، وعمرت ثلاث ديار بالبستان الذي أعطانيه الوزير. وكانت الرابعة هي ربيبة الوزير عبد الله، تسكن في دارها، وهي أحبهن إلي فلما صاهرت من ذكرته، هابني الوزير وأهل الجزيرة، وتخوفوا مني لأجل ضعفهم، وسعوا بيني وبين الوزير بالنمائم، وتولى الوزير عبد الله كبر ذلك حتى تمكنت الوحشة.

  ذكر انفصالي عنـهم وسبب ذلك

صفحة : 297

  واتفق في بعض الأيام أن عبدا من عبيد السلطان الذي شكته زوجته إلى الوزير، وأعلمته أنـه عند سرية من سراري السلطان يزني بها. فبعث الوزير الشـهود، ودخلوا دار السرية، فوجدوا الغلام نائما معها في فراش واحد، وحبسوهما. فلما أصبحت وعلمت بالخبر، توجهت إلى المشور، وجلست في موضع جلوسي، لم أتكلم في شي من أمرها. فخرج إلي بعض الخواص فقال: يقول لك الوزير: ألك حاجة  فقلت: لا. وكان قصده أن أتكلم في شأن السرية والغلام. إذ كانت عادتي أن لا تقطع قضية إلى حكمت فيها. فلما وقع التغير والوحشة قصرت في ذلك. فانصرفت إلى داري بعد ذلك، وجلست بموضع الأحكام. فإذا ببعض الوزراء، فقال الوزير: يقول لك: إنـه وقع البارحة كيت وكيت، لقضية السرية والغلام، فاحكم فيهما بالشرع فقلت له: هذه القضية لا ينبغي الحكم أن يكون فيها إلا بدار السلطان، فعدت إليها واجتمع الناس وأحضرت السرية والغلام، فأمرت بضربهما في الخلوة، وأطلقت سراح المرأة، وحبست الغلام. وانصرفت إلى داري، فبعث الوزير إلى جماعة من كبراء ناسه في شأن تسريح الغلام، فقلت لهم: أتشفعون في غلام زنجي يهتك حرمة مولاه  وأنتم بالأمس خلعتم السلطان شـهاب الدين وقتلتموه بسبب ه لدار غلام له  وأمرت بالغلام عند ذلك، فضرب بقضبان الخيزران، وهي أشد وقعا من السياط، وشـهرته بالجزيرة، وفي عنقه حبل. فذهبوا إلى الوزير فأعلموه. فقام وقعد، واستشاط غضبا، وجمع الوزراء ووجوه العسكر، وبعث عني فجئته. وكانت عادتي أن أخدم له، فلم أخدم. وقلت: سلام عليكم. ثم قلت للحاضرين: اشـهدوا علي أني قد عزلت نفسي عن القضاء لعجزي عنـه. فكلمني الوزير، فصعدت وقعدت بموضع أقابله فيه، وجاوبته أغلظ جواب. وأذن مؤذن المغرب، فدخل إلى داره وهو يقول: ويقولون إني سلطان. وها أنذا طلبته لأغضب عليه، فغضب علي. وإنما كان اعتزازي عليهم بسبب سلطان الهند، لأنـهم تحققوا مكانتي عنده، وإن كانوا على بعد منـه، فخوفه في قلوبهم متمكن. فلما دخلنا إلى داره بعث إلي القاضي المعزول، وكان جريء اللسان، فقال لي: إن مولانا يقول لك: كيف هتكت حرمته على رؤوس الأشـهاد ولم تخدم له  فقلت له: إنما كنت أخدم له حين كان قلبي له طيبا، فلما وقع التغير تركت ذلك، وتحية المسلمين إنما هي السلام، وقد سلمت. فبعثه إلي ثانية فقال: إنما غرضك الرحيل عنا، فأعط صداقات النساء وديون الناس، وانصرف إذا شئت. فخدمت له على هذا القول، وذهبت إلى داري، فخلصت مما علي من الدين. وقد أعطاني في تلك الأيام فرش دار وجهازها من أواني نحاس وسواها. وكان يعطيني كل ما أطلبه، ويحبني ويكرمني، ولكنـه غير خاطره، وتخوف مني. فلما عرف أني قد خلصت الدين وعزمت على الرحيل، ندم على ما قاله، وتلكأ في الإذن لي في الرحيل. فحلفت بالأيمان المغلظة أن لا بد من رحيلي. ونقلت ما عندي إلى مسجد على البحر، وطلقت إحدى الزوجات، وكانت إحداهن حاملا، فجعلت لها أجلا تسعة أشـهر، إن عدت فبها، وإلا فأمرها بيدها. وحملت معي زوجتي التي كانت امرأة السلطان شـهاب الدين لأسلمـها لأبيها بجزيرة ملوك، وزوجتي الأولى التي بنتها أخت السلطانة. وتوافقت مع الوزير عمر دهرد، والوزير حسن قائد البحر، على أن أمضي إلى بلاد المعبر. وكان ملكها سلفي فأبى مدها بالعساكر لترجع الجزائر إلى حكمـه، وأنوب أنا عنـه فيها. وجعلت بيني وبينـهم علامة: رفع أعلام بيض في المراكب. فإذا رأوها ثاروا في البحر. ولم أكن حدثت نفسي بهذا قط، حتى وقع ما وقع من التغير. وكان الوزير خائفا مني يقول الناس: لا بد لهذا أن يأخذ الوزارة، إما في حياتي وإما بعد مماتي. ويكثر السؤال عن حالي، ويقول: سمعت أن ملك الهند بعث إليه الأموال ليثور بها علي. وكان يخاف من سفري لئلا آتي بالجيوش من بلاد المعبر. فبعث إلي أن أقيم حتى يجهز لي مركبا فأبيت. وشكت أخت السلطانة إليها بسفر أمـها معي، فأرادت منعها فلم تقدر على ذلك. فلما رأت عزمـها على السفر قالت لها: إن جميع ما عندك من الحلي هو من مال البندر، فإن كان لك شـهود بأن جلال الدين وهبه لك، وإلا فرديه، وكان حليا له خطر فردته إليهم، وأتاني الوزراء والوجوه، وأنا بالمسجد، وطلبوا مني الرجوع فقلت لهم: لولا أني حلفت لعدت. فقالوا: تذهب لى بعض علماء الجزائر ليبر قسمك وتعود. فقلت لهم: نعم: إرضاء لهم. فلما كانت الليلة

صفحة : 298

  التي سافرت فيها، أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي، وبات تلك اللية يحرس الجزيرة بنفسه خوفا أن يثور عليه أصهاري وأصحابي. ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير علي. فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة، وأحبت الرجوع فطلقتها، وتركتها هنالك، وكتبت للوزير بذلك لأنـها أم زوجة ولده، وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل. وبعثت عن جارية كنت أحبها، وسرنا في تلك الجزائر من إقليم إلى إقليم. سافرت فيها، أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي، وبات تلك اللية يحرس الجزيرة بنفسه خوفا أن يثور عليه أصهاري وأصحابي. ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير علي. فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة، وأحبت الرجوع فطلقتها، وتركتها هنالك، وكتبت للوزير بذلك لأنـها أم زوجة ولده، وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل. وبعثت عن جارية كنت أحبها، وسرنا في تلك الجزائر من إقليم إلى إقليم.

  ذكر النساء ذوات الثدي الواحد

 وفي بعض تلك الجزائر، رأيت امرأة لها ثدي واحد في صدرها، ولها ابنتان إحداهما كمثلها ذات ثدي واحد، والأخرى ذات ثديين، إلا أن أحدهما كبير فيه اللبن، والآخر صغير لا لبن فيه. فعجبت من شأنـهن، ووصلنا إلى جزيرة من تلك الجزائر ليس بها إلا دار واحدة فيها رجل حائك له زوجة وأولاد، ونخيلات نارجيل، وقارب صغير يصطاد فيه السمك. ويسير إلى حيث أراد من الجزائر. وفي جزيرته أيضا شجيرات موز. ولم نر فيها من طيور البر غير غرابين خرجا إلينا لما وصلنا الجزيرة وطافا بمركبنا. فغبطت والله ذلك الرجل، وودت أن لو كانت تلك الجزيرة لي، فانقطعت فيها إلى أن يأتيني اليقين. ثم وصلت إلى جزيرة ملوك، حيث المركب الذي للناخوذة إبراهيم، وهو الذي عزمت على الرحيل فيه إلى المعبر. فجاء إلي ومعه أصحابه، وأضافوني ضيافة حسنة. وكان الوزير قد كتب لي أن أعطي بهذه الجزيرة مائة وعشرين بستوا من الكودة، وهي الودع، وعشرين قدحا من الأطوان، وهي عسل النارجيل، وعددا معلوما من التنبول والفوفل والسمك في كل يوم. وأقمت بهذه الجزيرة سبعين يوما، وتزوجت بها امرأتين. وهي من أحسن الجزائر، خضرة نضرة، رأيت من عجائبها أن الغصن ينقطع من شجرها ويركز على الأرض أو الحائط فيورق ويصير شجرة. ورأيت الرمان بها لا يقتطع له ثمر بطول أيام السنة. وخاف أهل هذه الجزيرة من الناخوذة إبراهيم أن ينـهبهم عند سفره، فأرادوا إمساك ما في مركبه من السلاح حتى يوم سفره، فوقعت المشاجرة بسبب ذلك، وعدنا إلى المـهل، ولم ندخلها. وكتبت إلى الوزير معلما بذلك، فكتب أن لا سبيل لأخذ السلاح. وعدنا إلى ملوك، وسافرنا منـها في نصف ربيع الثاني عام خمسة وأربعين. وفي شعبان من هذه السنة توفي الوزير جمال الدين رحمـه الله. وكانت السلطانة حاملا منـه، فولدت إثر وفاته، وتزوجها الوزير عبد الله. وسافرنا، ولم يكن معنا رئيس عارف. ومسافة ما بين الجزائر والمعبر ثلاثة أيام، فسرنا نحو تسعة أيام. وفي التاسع منـها خرجنا إلى جزيرة سيلان، ورأينا جبل سرنديب فيها ذاهبا في السماء كأنـه عمود دخان. ولما وصلناها قال البحرية: إن هذا المرسى ليس في بلاد السلطان الذي يدخل التجار إلى بلاده آمنين، إنما هذا مرسى في بلاد السلطان إيري شكروتي، وهو من العتاة المفسدين. وله مراكب تقطع البحر، فخفنا أن ننزل بمرساه. ثم اشتدت الريح فخفنا الغرق فقلت للناخوذة: نزلني على الساحل، وأنا آخذ لك الأمان من هذا السلطان، ففعل ذلك، وأنزلني بالساحل. فأتانا الكفار فقالوا: من أنتم  فأخبرتهم أني سلف سلطان المعبر وصاحبه، جئت لزيارته. وأن الذي في هذا المركب هدية له. فذهبوا إلى سلطانـهم فأعلموه بذلك، فاستدعاني فذهبت له إلى مدينة بطالة  وضبط اسمـها بفتح الباء الموحدة والطاء المـهمل وتشديدها  ، وهي حضرته، مدينة صغيرة حسنة، عليها سور خشب، وأبراج خشب. وجميع سواحلها مملوءة بأعواد القرفة. تأتي بها السيول فتجمع بالساحل، كأنـها الروابي، ويحملها أهل المعبر والمليبار دون ثمن. إلا أنـهم يهدون للسلطان في مقابلة ذلك الثوب ونحوه. وبين بلاد المعبر وهذه الجزيرة مسيرة يوم وليلة. وبها أيضا من خشب البقم كثير، ومن العود الهندي المعروف بالكلخي، إلا أنـه ليس كالقماري والقاقلي ، وسنذكره.

 ذكر سلطان سيلان




[قد الوان زاده]

نویسنده و منبع | تاریخ انتشار: Sat, 01 Sep 2018 01:06:00 +0000



قد الوان زاده

المنبر - استمتع بالخطب - تفصيل الخطبة

 

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، قد الوان زاده فتقوى الله أكرم ما أسررتم، وأجمل ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم، أعاننا الله على لزومـها، وأوجب لنا ثوابها.

أيها المسلمون، هذه أيام شـهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تتقضَّى، تتقلص تتقضى شاهدة بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة، ومستودعات محفوظة، تدعون يوم القيامة: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ [آل عمران:30] ينادي ربكم: قد الوان زاده ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).

هذا هو شـهركم، وهذه هي نـهاياته، كم من مستقبل له لم يستكمله... قد الوان زاده وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركه... قد الوان زاده هلا تأملتم الأجل ومسيره، وهلا تبينتم خداع الأمل وغروره.

أيها الإخوة، إن كان في النفوس زاجر، وإن كان في القلوب واعظ، فقد بقيت من أيامـه بقيةٌ. بقية وأي بقية، إنـها عشره الأخيرة. بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد أيما احتفاء. في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر. هجر فراشـه، أيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنـهما قائلاً: ((ألا تقومان فتصليان)) يطرق الباب وهو يتلو: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ [طه:132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمرا: ((أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة)).

((ألم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام لا يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامـه)).

أيها المسلمون، اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم لا تضيعوا فرصة في غير قربة.

إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان ضرب من الحمق الخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع ولكن الخوف بترك ما يخاف منـه العقوبة.

أيها الأحبة، قدموا لأنفسكم وجدوا وتضرعوا. تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنـها: يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها ؟ قال قولي: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى)).

نعم أيها الإخوة: الدعاء الدعاء. عُجُّوا في عشركم هذه بالدعاء. فقد قال ربكم عز شأنـه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. أتعلمون من هم هؤلاء العباد؟ الخلائق كلهم عباد الله. ولكن هؤلاء عباد مخصوصون إنـهم عباد الدعاء، عباد الإجابة، إنـهم السائلون المتضرعون سائلون مع عظم رجاء ومتضرعون في رغبة وإلحاح: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ [البقرة:18].

إن للدعاء ـ أيها الإخوة ـ شأنا عجيبا، وأثرا عظيما في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأرزاق.

أرأيتم هذا الموفق الذي أدركه حظه من الدعاء ونال نصيبه من التضرع والالتجاء يلجأ إلى الله في كل حالاته، ويفزع إليه في جميع حاجاته ،يدعو ويدعى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفان، وأبناؤه البررة والناس من حوله كلهم يحيطونـه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحسن منـه الخلق وزان منـه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسن تدعو له وتحوطه، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق.

أين هذا من محروم مخذول لم يذق حلاوة المناجاة يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه. محروم سد على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.

أيها الإخوة، إن نزع حلاوة المناجاة من القلب أشد ألوان العقوبات والحرمان. ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعاء لا يسمع؟؟؟.

إن أهل الدعاء الموفقين حين يعُجُّون إلى ربهم بالدعاء، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا بابا واحدا هو باب السماء. باب مفتوح لا يغلق أبدا، فتحه من لا يرد داعيا ولا يخيب راجيا. فهو غياث المستغيثين، وناصر المستنصرين، ومجيب الداعين.

أيها المجتهدون، يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة. العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دبر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود، وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه. فأين المتنافسون؟؟؟.

ألظوا بالدعاء رحمكم الله سلوا ولا تعجزوا ولا تستبطؤا الإجابة. فيعقوب عليه السلام فقد ولده الأول ثم فقد الثاني في مدد متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقا: عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ [يوسف:83] ونبي الله زكريا عليه السلام؛ كبر سنـه واشتعل بالشيب رأسه ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً [مريم:4].

لا تستبطئ الإجابة ـ يا عبد الله ـ فربك يحب تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقدراه، رضا بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال نبيك محمد : ((يستجاب لأحدكم مالم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي)).

أيها الإخوة، ويجمل الدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترن الاعتكاف، فقد اعتكف رسول الله هذه الأيام حتى توفاه الله.

عجيب هذا الاعتكاف في أسراره ودروسه؟؟؟.

المعتكف ذكر الله أنيسه، والقرآن جليسه، والصلاة راحته، ومناجات الحبيب متعته، والدعاء والتضرع لذته.

إذ أوى الناس إلى بيوتهم وأهليهم، ورجعوا إلى أموالهم وأولادهم لازم هذا المعتكف بيت ربه وحبس من أجله نفسه، ويقف عند أعتابه يرجوا رحمته ويخشى عذابه، لا يطلق لسانـه في لغو ولا يفتح عينـه لفحش ولا تتصنت أذنـه لبذاءٍ. سلم من الغيبة والنميمة جانب التنابز بالألقاب، والقدح في الأعراض، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، استغنى عن الناس وانقطع عن الأطماع، علم واستيقن أن رضا الناس غاية لا تدرك.

في درس الاعتكاف انصرف المتعبد إلى التفكير في زاد الرحيل وأسباب السلامة، السلامة من فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول المخالطة.

في مدرسة الاعتكاف يتبين للعابد أن الوقت أغلى من الذهب فلا يبذله في غير حق، ولا يشتري بـه ما ليس بحمد، يحفظه عن مجامع سيئة، بضاعتها أقوال لا خير في سماعها، ويتباعد بـه عن لقاء وجوه لا يسر لقاؤها.

أيها المسلمون، أوقاتكم فاضلة تشغل بالدعاء والاعتكاف، وتستغل فيها فرص الخير وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلة القدر: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ [القدر:2] من قامـها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.

ليلة خير من ألف شـهر، خفي تعينـها اختبارا وابتلاء، ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جد في طلبه، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه.

إنـها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] ولا يهلك على الله إلا هالك.

فاتقوا الله رحمكم الله واعملوا وجددوا وأبشروا وأملوا.أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ %سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ [سورة القدر].



  صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب تحريم الظلم، حديث (2577).

  إسناده ضعيف، أخرجه أحمد (6/68)، وفيه: شريك بن عبد الله القاضي، صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء. التقريب (2802). وجابر بن يزيد الجعفي، ضعيف رافضي، التقريب (886) ويزيد بن مرّه الجعفي، قال ابن حجر: فيه نظر. تعجيل المنفعة (1188). أما ليس، فلم يذكروا فيها جرحاً أو تعديلاً، انظر المصدر السابق (1655). أما النصف الثاني من الحديث فهو متفق عليه، كما سيأتي.

  صحيح، أخرجه البخاري: كتاب صلاة التراويح – باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، حديث (2024)، ومسلم: كتاب الاعتكاف – باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شـهر رمضان، حديث (1174).

  صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الجمعة – باب تحريض النبي ... حديث (1127)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب ما رُوي فيمن نام الليل... حديث (775).

  صحيح، أخرجه البخاري: كتاب العلم – باب العلم والعظة بالليل، حديث (115).

  ذكره الحافظ في الفتح (4/469)، وعزاه للترمذي ومحمد بن نصر المروزي، ولم أجده في سنن الترمذي، ولا في ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي. والحديث حسن عن ابن حجر حيث ذكره في الفتح.

  صحيح، أخرجه أحمد (6/171)، والترمذي: كتاب الدعوات – باب حدثنا قتيبة... حديث (3513)، وقال: حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه: كتاب الدعاء – باب الدعاء بالعفو والعافية، حديث (3850)، وصححه الحاكم (1/530)، والألباني. صحيح الترمذي (2789)، والسلسلة الصحيحة (4/182) ومشكاة المصابيح (2091).

  العجّ: رفع الصوت.

  ألظو: أي ألحّوا.

  صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الدعوات – باب يُستجاب للعبد ما لم يعجل، حديث (6340)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب بيان أنـه يستجاب للداعي، حديث (2735).




[قد الوان زاده]

نویسنده و منبع | تاریخ انتشار: Tue, 04 Sep 2018 13:55:00 +0000



قد الوان زاده

الكتاب : بستان الواعظين ورياض السامعين

بسم الله الرحمن الرحيم

مجلس في الاستعاذة تفسير الاستعاذة
قال الله تبارك وتعالى { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنـه هو السميع العليم } الأعراف 200 وقال تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } النحل 98 المعنى فاستعذ بالله إذا أردت أن تقرأ القرآن أعوذ بالله ملاذا وعياذا ويقال هذا عوذ لي مما أخاف منـه أي مجيري والع عني وتسمى المرأة عائذا لأنـها تعوذ بولدها
والتعوذ بالقرآن هو الشفاء من آفات الشيطان
وكان النبي {صلى الله عليه وسلم} يتعوذ من آفات كثيرة تواترت بها الأخبار
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتعوذ من البخل والجبن والهرم والكسل وعذاب القبر وفتنة الدجال فتعوذوا مما تعوذ منـه نبيكم {صلى الله عليه وسلم} واعتصموا بمولاكم العظيم من كيد الشيطان الرجيم
أعوذ بالله وأحتمي بالله وأستكفي بالله يا قارئ يا تالي بمن تعوذ بمن تلوذ بمن تستغيث بمن تستجير بمن تستنصر بمن تعتصم بمن تحتمي بمن تستكفي إلا بالله
نصائح
اعلم أن المستعيذ بالله من الشيطان الرجيم معتصم بحبل الله المتين
أعوذ بالله من الذنوب والعصيان أعوذ بالله من الضلال والخذلان أعوذ بالله من سخط الرحمن
اعلم يا أخي أن العبد إذا اعتصم بحبل السلطان المخلوق سلم من شر الظالمين فأحرى أن يسلم المستعيذ برب العالمين من الشيطان العدو اللعين
روى عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من استعاذ بالله في اليوم عشر مرات من الشيطان الرجيم وكل الله بـه ملكا يذود عنـه شر الشيطان كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض فكيف لا يسلم المستعيذ بالله من الشيطان والملك يذود عنـه بأمر الملك الديان
3 كيفية الاستعاذة
أعوذ بالله من أكل الحرام أعوذ بالله من ظلم الضعفاء والأيتام أعوذ بالله من ارتكاب الكبائر والآثام أعوذ بالله من سخط الملك العلام

أعوذ بالله من عدم التوفيق لحسن العمل أعوذ بالله من الركون إلى طول الأمل أعوذ بالله من تمزيق الأعمار في مخالفة هدي الأبرار ونستعينـه على تطهير القلوب من طوالع الارتياب وجنايات الاغتياب فإنـه داء قد أعيا دواؤه وتعذر شفاؤه وعم بلاؤه وكما نستعين بـه على تطهير ضمائرنا من حب الدنيا فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة وأصل كل بلية فلذلك نسأله علما نافعا وعملا متقابلا وإيمانا صريحا ويقينا صحيحا
أعوذ بالله من رأي يكون ضلالا أعوذ بالله من عمل يصير حسرة ووبالا أعوذ بالله من نية تعقب وزرا أعوذ بالله من عزيمة تجلب شرا أعوذ بالله من عدم التوفيق أعوذ بالله من ترك التحقيق أعوذ بالله من ترك السعة والرجوع إلى الضيق
تحذير من الشيطان
عباد الله تفكروا في إخراج أبيكم آدم من الجنة دار الأمان وهبوطه إلى دار الذل والهوان وكان سبب ذلك الملعون الشيطان
وقد نـهاكم مولاكم عن طاعته وأمركم بمعصيته فإن في طاعته سخط الرحمن ومعصيته توجب سكنى الجنان ونزول محل الرضوان
قال الله سبحانـه وتعالى { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء }
البقرة 268 فمن أطاعه خذله وصده عن الهدى وفتح في قلبه أبواب الضلالة والردى
قال الله تبارك وتعالى { وكان الشيطان للإنسان خذولا } الفرقان 29 أعوذ بالله من وسواس الصدر أعوذ بالله من المكر والغدر أعوذ بالله من شتات الأمر أعوذ بالله من قلة الشكر أعوذ بالله من عذاب القبر أعوذ بالله من ترك المتاب أعوذ بالله من شدة العذاب أعوذ بالله من مناقشة الحساب أعوذ بالله من غضب رب الأرباب
5 التعوذ عبادة
واعلموا عباد الله أن التعوذ بالله من الشيطان الرجيم هو من أفضل العبادات لأن الله تعالى قد أمر عبده المؤمن أن يتعوذ بـه من الشيطان الرجيم في محكم القرآن الكريم
الله الله لا تقروا عين عدوكم الشيطان فإنـه يؤديكم إلى عذاب النيران ويصدكم عن دار الخلد وسكنى الجنان

أعوذ بالله من مرديات الأعمال أعوذ بالله من الغي والمحال أعوذ بالله من سخط ذي الجلال
واعلموا وفقنا الله وإياكم أن من دخل الحصن سلم من شر الأعداء وصار في حرز ذي النعم والآلاء ومن استعاذ بالملك الرحمن سلم من شر العدو الشيطان
والاستعاذة أحصن حصن لدين المؤمن من كيد الشيطان الرجيم وأحرز حرز لقلبه من وسواس العدو اللئيم
أعوذ بالله من شـهادة الزور أعوذ بالله من ركوب الفجور أعوذ بالله من الغي والنفور أعوذ بالله من الشيطان المبعد المثبور أعوذ بالله من الركون إلى دار الغرور أعوذ بالله من سخط الملك الغفور
6 تعوذ النبي {صلى الله عليه وسلم}
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه كان يقول } اللهم إني أعوذ بك من صاحب غفلة وقرين سوء وروح أذى { أعوذ بالله من شماتة الأعداء أعوذ بالله من خيبة الرجاء أعوذ بالله من عضال الداء أعوذ بالله من مخالفة الهدى أعوذ بالله من أفعال الردى أعوذ بالله من سخط ذي النعيم والآلاء أعوذ بالله من عثرات اللسان
أعوذ بالله من النميمة والخذلان أعوذ بالله من الغيبة والبهتان أعوذ بالله من عقوبة الملك الديان 7
أحاديث في عذاب القبر
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه مر على البقيع فوقف على قبر ثم قال } الآن أقعدوه والآن سألوه والذي بعثني بالحق لقد ضربوه بأرزبة من نار لقد تطاير قلبه نارا { ثم وقف على قبر آخر فقال مثل مقالته على القبر الأول ثم قال {صلى الله عليه وسلم} لأصحابه } ولولا أني أخشى على قلوبكم لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر مثل الذي أسمع { فقالوا يا رسول الله ما كان فعل هذين الرجلين فقال عليه السلام } أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة بين الناس وكان الآخر لا يستنزه من البول
8 - أسباب عذاب القبر
وقد روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لا يعذب أحد في قبره إلا بإحدى ثلاث في الغيبة والنميمة والبول { فالله الله عباد الله تعوذوا بالله من الغيبة والنميمة والبهتان وأذى الجيران فإن ذلك كله يبعد عن الرحمن ويقرب من الشيطان ويصد عن الجبان ويؤدي إلى النيران

أعوذ بالله من علة الدين أعوذ بالله من ضعف اليقين أعوذ بالله من الشيطان اللعين أعوذ بالله من سخط رب العالمين أعوذ بالله من الشيطان المثبور أعوذ بالله من عذاب القبور أعوذ بالله من ترك النعيم والسرور أعوذ بالله من الصد من دار الحبور أعوذ بالله من عذاب الويل والثبور أعوذ بالله من عقوبة من يعلم ما في الصدور
9 القرآن يأمر بالاستعاذة
واعلموا عباد الله أن من استعاذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم فقد عمل بالقرآن الحكيم وذلك أن الله تبارك وتعالى أمره بالاستعاذة من اللعين إبليس في آي كثيرة من القرآن
فمن استعاذ بالملك الوهاب من شر الشيطان الكذاب فقد عمل بالسنة وأحكام الكتاب
والقرآن شافع لمن عمل بـه وخصم على من لم يعمل به
واعلموا عباد الله أن الشيطان يصدكم عن العمل بالتنزيل ويبعدكم عن الملك الجليل ويلقيكم في معصيته لتصيروا إلى العذاب الدائم الطويل في اليوم الهائل العبوس الثقيل
0 لكل أحد الشيطان
روي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنـها أنـها قالت قلت يا رسول الله ما من أحد إلا ومعه شيطان قال نعم قالت وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم أعوذ بالله من خشوع النفاق أعوذ بالله من البعد والفراق أعوذ بالله من مخالفة الملك الخلاق أعوذ بالله من عذاب يوم التلاق أعوذ بالله من الخلاف بعد الوفاق
وأنشدوا
ويحك عذ بالله ذي الجلال
والمجد والنعماء والإفضال
ثم اتل آيات من القرآن
ووحد الله ولا تبال
أعوذ بالله من عبد شارد أعوذ بالله من شيطان مارد أعوذ بالله من عدو حاسد أعوذ بالله من قلب فاسد أعوذ بالله من بدن عن الطاعة متقاعد
واعلموا عباد الله أن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبده خيرا أبعد عنـه شيطانـه وأعانـه عليه ونشطه للطاعة وأزال عن بدنـه الكسل فأقبل العبد عند ذلك على مولاه وأعرض عمن سواه وآثر رضاء سيده على هواه فعند ذلك يجعل الله الجنة العالية مأواه

وإذا أراد بعبده شرا مكن منـه شيطانـه وسلطه عليه فأبعده عن طاعة الجبار وكسله عن عمل الأبرار وحبب إليه أعمال أهل النار وبغض إليه أعمال أهل دار القرار
1 فرح الشيطان بالعاصي الجاهل
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يغلب خيره على شره قبله الشيطان بين عينيه وقال فديت وجها لا يفلح أبدا فإن من الله وتاب عليه واستنقذه من الضلالة واستخرجه من غمرات الجهالة يقول الشيطان لعنـه الله واويلاه قطع عمره في الضلالة فأقر بالمعصية عيني ثم أخرجه الله بالتوبة من الجهالة فأكثر بالتوبة حزني
فالله الله عباد الله لا تقبلوا وسواس العدو الشيطان وارجعوا بالتوبة إلى موالكم الرحمن فعساه أن يستر ذنوبكم وعيوبكم بستر الغفران إنـه كريم متفضل منان
أعوذ بالله من الشقاوة بعد السعادة أعوذ بالله من الغرة بعد الإرادة وأعوذ بالله من النقصان بعد الزيادة أعوذ بالله من الكفر بعد الإيمان أعوذ بالله بالله من القطيعة والحرمان أعوذ بالله من طاعة الشيطان أعوذ بالله من العقوبة والهوان أعوذ بالله من نقض العهود أعوذ بالله من مخالفة الملك المعبود أعوذ بالله من العذاب الدائم والخلود أعوذ بالله من سخط ذي الكرم والجود
عباد الله احذروا مكائد الشيطان فإنـه عارف بالعيوب بصير بإلقاء العبد في الذنوب له طرق كثيرة إلى الصدور فاستعيذوا من شره بمولاكم علام الغيوب
أعوذ بالله من قلب لا يخشع أعوذ بالله من عين لا تدمع أعوذ بالله دعاء لا يسمع أعوذ بالله من عمل لا يرفع أعوذ بالله من علم لا ينفع
أعوذ بالله من المصير إلى عذاب الله أعوذ بالله من النحيبة من رحمة الله ومن التزين بمعصيته
أعوذ بالله من زيغ القلوب أعوذ بالله من تتابع الذنوب أعوذ بالله من ترادف العيوب أعوذ بالله من سخط علام الغيوب
أعوذ بالله من مضلات الفتن أعوذ بالله من البلاء والمحن أعوذ بالله من سخط ذي الجود والمنن

أعوذ بالله من النقص بعد التمام أعوذ بالله من التخلف بعد الإقدام أعوذ بالله من سخط أحكم الأحكام
2 جنود إبليس
ذكر في بعض الأخبار أن إبليس لعنـه الله يبعث في كل يوم ثلاثمائة وستين عسكرا لإضلال المؤمنين والله تعالى ينظر في قلوبهم ثلاثمائة وستين نظرة ففي كل نظرة من نظراته تهلك عسكرا من عساكره فأنى تبقى عسكر للشيطان في جنب نظرة الرحمن
فالله الله عباد الله لا تقبلوا وسواس الشيطان المخدوع واستعملوا قلوبكم وصدوركم بالآيات والخشوع وأسيلوا على ما فرطتم غزير الدموع
أعوذ بالله من عواقب الخلاف أعوذ بالله من الجرأة والاستخفاف أعوذ بالله من العصيان وقلة الاعتراف
أعوذ بالله من الباطل وشره أعوذ بالله من الشيطان ومكره أعوذ بالله من العصيان وذكره
أعوذ بالله من فساد القلب أعوذ بالله من ترادف الذنب على الذنب أعوذ بالله من سخط الملك الرب
3 محاورة إبليس لموسى
روي أن الشيطان لعنة الله عليه قال لموسى بن عمران صلوات الله على نبينا وعليه لا تخلون بامرأة غير ذي محرم فأكون ثالثكما ولا تقضين فأنال منك وإذا هممت بصدقة فبادر إليها فإنك إن لم تبادر إليها فتحت لك في ذلك سبعين بابا من الفقر أمنعك بها من الصدقة
وقيل في قول الله عز وجل { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منـه وفضلا } البقرة 268 الآية
أي يردك الشيطان إلى نفسك ولينسيك اشتغالك بربك وقيل يعدكم الفقر في طلب فوق الكفاف فيكون عندك ما يكفيك وأنت تحرص على جمع الزيادة وهو الفقر اللازم فيردك عن غني الكفاية إلى طلب المزيد وهو الفقر الحاضر الذي يؤدي صاحبه إلى العذاب الدائم الشديد
وقيل يعدكم الفقر في البذل والعطاء في مرضاة الله عز وجل وهو الغني لأن الله تعالى يعدكم مغفرة وفضلا فينبغي للعبد أن يذكر منن الله تعالى عليه وإحسانـه إليه وإفضاله لديه
4 أصل البخل والكرم

واعلموا عباد الله أن الله تبارك وتعالى قال في محكم التنزيل على لسان محمد رسوله عليه السلام { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } الحشر 9 ومن هو بخيل شحيح فليس بواق ولا مفلح
واعلم أن البخل شجرة في النار وأغصانـها مدلاة على الدنيا وهي شجرة الشيطان فمن تعلق بغصن منـها قادته إلى النار
وكذلك الكرم شجرة في الجنة وأغصانـها مدلاة على الدنيا فمن تعلق بغصن منـها جذبه إلى النعيم والكرم من أخلاق الملك الكريم فمن تعلق بـه فقد أسخط الشيطان الرجيم
ودليل هذا أن الله تبارك وتعالى لم يبعث نبيا قط إلا وهو كريم ولا رأيتم عبدا صالحا إلا وهو كريم
قال فالكرم من أخلاق النبيين والصديقين وهو من أخلاق رب العالمين فاستعملوه بينكم يا معاشر المؤمنين والمؤمنات يا أمة محمد خاتم النبيين
أعوذ بالله من عين لا تبكي عليه أعوذ بالله من قلب لا يشتاق إليه أعوذ بالله من دعاء لا يصل إليه أعوذ بالله من الذل إلا إليه
5 نجاة المستعيذ من العذاب
واعلموا عباد الله أن المستعيذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم ناج من العذاب الأليم وذلك أن الله سبحانـه وتعالى قال } الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منـه وفضلا والله واسع عليم { البقرة 268 وإنما يأمركم الشيطان بالفحشاء ليحرق غيره كما أحرق نفسه
قال الله تعالى { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } النساء 89 أعوذ بالله من اللهو والغفلات أعوذ بالله من العذاب والحسرات أعوذ بالله من غضب إله الأرض والسموات
إخواني أطيعوا مولاكم الملك الجليل ودعوا كيد الشيطان المـهين الذليل واعملوا بالسنة والتنزيل
6 خصال الخير عن الإمام علي
روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنـه قال من جمع ست خصال لم يدع للجنة مطلبا ولا عن النار مـهربا أولها من عرف الله فأطاعه والثانية من

عرف الشيطان فعصاه والثالثة من عرف الحق فاتبعه والرابعة من عرف الباطل فاجتنبه والخامسة من عرف الدنيا فأعرض عنـها والسادسة من عرف الجنة فطلبها
فالله الله عباد الله اجتهدوا في طاعة الرحمن الرحيم
واجتنبوا كيد الشيطان الرجيم
7 من رأى إبليس من الصحابة والصالحين
روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنـه قال رأيت إبليس اللعين في المنام منكوسا فهممت أن أقرعه بالعصا فقال لي يا أبا سعيد أما علمت أني لا أخاف من العصا ولا من الأسلحة قال فقلت له يا ملعون فما الذي تخافه قال أخاف من شيئين أحدهما استعاذة المستعيذين والثاني شعاع معرفة الصادقين
أعوذ بالله ممن لا يشفق على نفسه أعوذ بالله ممن لا يبكي على رمسه أعوذ بالله ممن لا يقدم ليومـه من أمسه
حكي عن الجنيد رحمـه الله عليه أنـه قال رأيت إبليس في المنام عريانا يتلاعب بالناس فقلت أما تستحي من الناس فقال الملعون بالله عليك هؤلاء عندك ناس
لو كانوا من الناس ما تلاعبت بهم كما يتلاعب الصبيان بالكرة فقلت له يا ملعون ومن الناس قال ثلاثة نفر بمسجد الشيرازي كذا سمي المسجد أمرضوا كبدي وأنحلوا جسمي كلما هممت بهم أشاروا إلى الله تعالى فأكاد أن أحترق قال الجنيد فانتبهت وقد بقي من الليل بقية فخرجت إلى المسجد الذي ذكر الملعون فدخلته فإذا بثلاثة نفر قعود رؤوسهم في مرقعاتهم فقال لي أحدهم يا أبا القاسم أنت كلما قيل لك شيئا تقبله يا أخي اعلم أن من تعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقد ثبت على الدين القويم وذلك أن الله سبحانـه أخبر عن إبليس اللعين { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } الأعراف 16 وذلك أنـه بعثه الله تعالى قاطعا طريق الدين كما أن اللصوص قطاع لطريق الدنيا على المسلمين فإبليس لعنـه الله قاطع طريق العقبى ليصدكم عن الحق والهدى فإذا استعذت منـه هرب منك ولم يقدر على قطع طريق الدين
8 وقاية الله من إبليس
قال الله سبحانـه { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله }

الأعراف 200 وقال تعالى { إنـه ليس له سلطان على الذين آمنوا } النحل 99 الآية وقد أمر الله تعالى عباده أن يقولوا في الصلاة سبع عشرة مرة في سبع عشرة ركعة وهي عدد ركعات الفرض { اهدنا الصراط المستقيم } الفاتحة 6 فأنى يضرك كيد الشيطان الرجيم
اعلم يا أخي أن البيت المعمور كان في الأرض إلى وقت طوفان نوح عليه الصلاة والسلام فحفظ من الغرق وسلم من الطوفان ورفع إلى السماء
وقلب المؤمن أفضل من البيت المعمور أكثر من ألف ألف مرة فهو بالحفظ أولى لأن البيت المعمور معمور بعبادة الملائكة وقلب المؤمن معمور بنظر الخالق إليه فشتان ما بينـهما
ذكر عن أبي سعيد أنـه قال في قول الله عز وجل { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } الحجر 42 كأنـه يقول إن كان لك عليهم أن تلقيهم في معصية الله فليس لك عليهم أن تمنعهم من مغفرة الله
وقول آخر إن كان للشيطان سلطان في إلقاء العبد في المعصية فأولى أن يكون لمغفرة الله سلطان في تطهير العبد من الخطية وليست قوة الشيطان بأكثر قوة من مغفرة الرحمن في قلوب أهل الإيمان
أعوذ بالله من كثرة الفساد أعوذ بالله من ظلم العباد أعوذ بالله من غضب رب جواد أعوذ بالله من عذاب يوم التناد أعوذ بالله من القطع والبعاد
وأنشدوا
أعوذ بالرحمن من موقف
يشـهده المؤمن والكافر
} إن كنت بئس العبد يا سيدي
فأنت رب سيد غافر
9 ضعف الإنسان والشيطان
واعلموا عباد الله أن الله تبارك وتعالى سمى الإنسان ضعيفا وقال في آية أخرى { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } النساء 76 والضعيفان إذا اقتتلا ولم يكن لواحد منـهما معين لم يظفر بصاحبه فأمر الله الإنسان الضعيف أن يستعين بالرب اللطيف من كيد الشيطان الضعيف ليعصمـه منـه ويعينـه عليه
من كان في معونته الإله العظيم لم يضره كيد الشيطان الرجيم من كان في معونته الملك الوهاب لم يضره كيد الشيطان الكذاب من كان في معونته الملك القهار لم

يضره كيد الشيطان الفرار من كان في معونته الملك الرحمن لم يضره كيد الشيطان وأنشدوا
العبد في كنف الإله وحفظه
من كل شيطان غوى ساه
إن عاذ بالرحمن عند صباحه
وكذاك إن أمسى بذكر الله
0 دعاء يعصم من الشيطان
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من قال حين يصبح وحين يمسي أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانـه القديم من الشيطان الرجيم قال قرينـه عوفي هذا العبد مني اليوم شعر
يا رجائي في بلائي
لا تزل عني خيرك
أنت ربي أنت حسبي
أنا لا أعبد غيرك
أعوذ بالله من عدم الإخلاص أعوذ بالله من هول يوم القصاص أعوذ بالله من ترك الاستقامة أعوذ بالله من العذاب والملامة أعوذ بالله من هول يوم القيامة أعوذ بالله من الحسرة والندامة أعوذ بالله من حرمان الكرامة
1 لماذا حجب الله إبليس
يا أخي إن الله تعالى لما قبح صورة إبليس ولعنـه وشوه خلقته وأوحش هيأته وقامته لطف بعباده حيث ستره عنـهم حتى لا تستوحش قلوبهم إذا أبصرته أعينـهم ولذلك جعل المولى جل جلاله السماء موضع نظرهم وزينـها بعلامات الرسوم وحفظها من الشيطان الرجيم برواصد النجوم فكأنـه قال سبحانـه يا عبادي لا يصلح لأبصاركم ما كان مشوها قبيحا بل يصلح لها ما كان مزينا مليحا هذه معاملته سبحانـه وتعالى مع جميع الناس في الدنيا فأولى أن يلطف بالمؤمنين في العقبى يصون أبصارهم عن النظر إلى النار الكبرى وهي الجحيم ويكرمـها بالنظر إلى الدار المزينة وهي جنة النعيم أعوذ بالله من مخالفة الأحكام
أعوذ بالله من التمادي في الآثام أعوذ بالله من معصية السلام أعوذ بالله من عذاب الغرام
2 زينة السماء

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لما خلق الله تبارك وتعالى الجنة قال لها تزيني فازينت ثم قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فجعل الله تعالى السماء في الدنيا موضع نظرك وجعل الجنة المزينة في العقبى موضع ترغبك فإذا ستر الله تعالى إبليس الملعون في الدنيا وغيبه عن بصرك لئلا يستوحش قلبك بقبح صورته فأولى أن يستر أعمالك القبيحة من الفساد والآثام من الفضيحة يوم التناد على رؤوس الأشـهاد
لطف الله بعباده فستر إبليس عنـهم فقال { إنـه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونـهم } الأعراف 27 فكأنـه سبحانـه وتعالى قال لعبده المؤمن أنا حبيبك الأعظم وإن إبليس عدوك الأعظم فلو رأيته وهو أعظم أعدائك عليك لشق ذلك عليك فسترته عنك ليكون حزن الدنيا ونصبها وترادف همومـها وغمومـها أهون عليك
وكان أيضا يجتمع عليك مغيب حبيبك الأعظم ورؤيتك عدوك الأعظم فغيب إبليس عنك حتى لا تراه كما لا ترى حبيبك الأعظم فيكون الأمر أهون عليك
أعوذ بالله من التضليل والتسويف أعوذ بالله من الزيغ والتحريف أعوذ بالله من سخط الرب اللطيف
حكي عن سهل بن عبد الله التستري رحمة الله عليه قال رأيت إبليس اللعين في المنام فقلت له أي شيء أشد عليك فقال استعاذة المستعيذ برب العالمين الذي هو أرحم الراحمين
3 طهارة العاصي ونجاسة المعصية
واعلم يا أخي أن العبد المؤمن وإن أطاع الشيطان بنفسه فهو غير راض بقلبه وإنما مثله كمثل الواقع في نجاسة وبين يديه غدير ماء طاهر فيكون قلبه مع
الماء وإن كانت نفسه في النجاسة فيكون سببا لطهارته كذلك نفس المؤمن وإن كانت في نجاسة المعصية فإن قلبه مع الله ومع محبته فيكون ذلك سببا لطهارته من المعصية

والأصل في هذا أن الله تعالى يعامل العباد على عقائد قلوبهم كما قال النبي {صلى الله عليه وسلم} } إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم { وفي هذا الحديث نكتة حسنة وهو أن المنافق يذكر كلمة التوحيد باللسان وهو لا يرضاها بالقلب فهو لا يثاب يوم القيامة على إقراره باللسان هكذا المؤمن يعمل المعاصي بالإدمان لكنـه لا يرضاها فنرجو أن لا يعاقب شعر
} إني تعوذت بالعظيم
الأول الآخر القديم {
} ذي الطول والفضل والمعالي الماجد الواحد الكريم {
} من شر نفسي ومن هواها وشر شيطانـها الرجيم {
أعوذ بالله من شر لا يزول أعوذ بالله من عذاب لا يحول أعوذ بالله من مخالفة الرسول
4 التمسك بالسنة وعدم مخالفتها
عباد الله عليكم بطاعة سيد المرسلين والتمسك بسنة خاتم النبيين وبمخالفة الشيطان اللعين ينجيكم مولاكم من العذاب المـهين
ويدخلكم الجنة مع أوليائه المتقين وتنظروا إلى وجه رب العالمين
وأنشدوا
} أعوذ بالله الذي لم يتخذ ولدا
وقدر الرزق قبل الخلق تقديرا {
} أعوذ بالله العلي مكانـه ذي العرش لم نعلم سواه مجيرا {
} من حر نار لا تفتر من لهب من حرها للظالمين سعيرا {
} وكذا السلاسل والعذاب لمن طغى
يدعون فيها حسرة وثبورا {
أعوذ بالله من الملوك العاتية أعوذ بالله من القلوب القاسية أعوذ بالله من الهوام العادية أعوذ بالله من اللصوص الضارية أعوذ بالله من جور السلاطين أعوذ بالله من كيد الشياطين أعوذ بالله من أذى المساكين
إخواننا إياكم ومخالفة السنة فإن ذلك يبعدكم من الجنة
روي عن مجاهد رضي الله عنـه أنـه قال من ذرية إبليس اللعين ولد يسمى زكبتور وهو صاحب الأسواق يضع فيها رايته كل يوم
فالله الله عباد الله لا تبذلوا
مـهجتكم للنيران
ولا ترضوا بالزيادة والنقصان في المكيال والميزان فإن ذلك يؤدي إلى عذاب النيران
5 كيف أهلك النبي عفريتا

روي عن ابن مسعود رضي الله عنـه أنـه قال كنت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وجبريل عليه السلام معه فجعل النبي {صلى الله عليه وسلم} يقرأ فإذا بعفريت قد أقبل من مردة الجن وفي يده شعلة نار وهو يقرب من النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال جبريل عليه السلام يا محمد ألا أعلمك كلمات تقولها فينكب العفريت لوجهه وتطفأ شعلته قال له قل أعوذ بنور وجه الله الكريم وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منـها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر فتن الليل والنـهار ومن شر طوارق النـهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن
فقالها النبي {صلى الله عليه وسلم} فكب العفريت على وجهه وطفئت شعلته
6 سليمان وإبليس
وذكر أن إبليس لعنـه الله لقي سليمان {صلى الله عليه وسلم} فقال له سليمان يا ملعون ما أنت صانع بأمة محمد {صلى الله عليه وسلم} فقال له الملعون يا سليمان لأدعونـهم حتى تكون الدنيا والدرهم أشـهى عندهم من شـهادة أن لا إله إلا الله
فتحفظوا رحمكم الله من هذا كله فإنـها حبائل الشيطان
27
نصائح من خطبة الوداع
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال في خطبة الوداع } أيها الناس إني لكم ناصح أمين ألا وإن إبليس قد يئس منكم لا تعبدون صنما أبدا ولكن والذي بعثني بالحق ليجعلنكم إبليس لعنـه الله أن تعبدوا ألف إله يعبد الرجل إبله والآخر امرأته والآخر غنمـه والآخر حرثه والآخر تجارته والآخر صنعته والآخر مركبه والآخر صديقه يقول الرجل للرجل كيف حالك فيقول له لولا تجارتي ما كان لي حال والآخر يقول لولا حرثي والآخر يقول لولا امرأتي والآخر يقول
لولا مركبي والآخر يقول لولا صديقي فينسيه ذكر مولاه ويتبعه في دنياه ويقطعه عن أخراه
يا ابن آدم ما اغترارك بمن إليه اضطرارك وما احتقارك بمن إليه افتقارك يا ابن آدم إن كنت بالنـهار هائما وبالليل نائما متى ترضى من كان بأمرك قائما يا ابن آدم توكل على الملك الخلاق الذي يتكفل بقسمة الأرزاق توكل يا أخي عليه وأسند أمورك إليه فإنـه لا يملكها غيره
8 أعوان الشيطان من بني آدم

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال إن للشيطان أعوانا من بني آدم يبعثهم الملعون إلى المؤمنين يشغلونـهم عن الصلاة وعن الصدقة وعن ذكر الله ويحبب إليهم كسب السحت والحرام والذي بعثني بالحق ليعبدون الدنيا والدرهم أشد من عبادة الأوثان أعوذ بالله من الركون إلى الهوى أعوذ بالله من الضلالة والردى
أعوذ بالله من معصية إله السما
9 آدم وخروجه من الجنة
ذكر أن عبد الله بن سهل التستري رحمـه الله قال لما أخرج آدم من الجنة دار الكرامة والأمان وأنزله إلى دار الذل والهوان والبلاء والامتحان قال الله تعالى يا ابن آدم أسكنتك في جواري فعصيتني وأطعت الشيطان وتركتني وعزتي وجلالي لأسكننك في جواره لتطيعني وتعصيه وتحبني وتبغضه فإذا كان يوم القيامة أقول لك طاعة بطاعة ومعصية بمحبة ثم أدخلك الجنة
جاء في بعض الأخبار أن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم وولده أودع قلبه أربعة أشياء وهي المعرفة والعقل والإيمان واليقين
فصار خزانة لهذه الأشياء وسلط على قلبه أربعة أعداء وهم إبليس والهوى والنفس والدنيا وضمن إبليس لأصحابه الوصول إليها كما قال تعالى في كتابه { ثم لآتينـهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانـهم وعن شمائلهم } الأعراف 17 فلما علم المولى جل جلاله من ضعف ابن آدم وقلة مقدرته على معته علمـه أربعة أسماء من أسمائه يتحصن بها من إبليس وجنوده وهي يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن فكأنـه قال تعالى يا ابن آدم أنا الأول احفظ معرفتك لي من بين يديك وأنا الآخر احفظ
عقلك وأنا الظاهر احفظ إيمانك عن يمينك وأنا الباطن احفظ يقينك عن شمالك
30 اختصاص إبليس ببعض الجهات

سئل بعض الحكماء ما الحكمة في أن لم يعط إبليس اثنان من ابن آدم وأعطى أربعة أعطي من بين يديه ومن خلفه وعن يمنيه وعن شماله من الجهات الأربع لم يعط إبليس أن يأتيه من فوق ولا من تحت قال لأن الأربع جهات تدخلها المشاركة في الأعمال وفوق موضع نظر الرب جل جلاله إلى قلوب عباده المؤمنين وتحت موضع سجود الساجدين بين يدي رب العالمين عصمنا الله وإياكم من فتنته عصمة يدخلنا بها في رحمته وتاب علينا وعلى جميع المذنبين إنـه تواب رحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

مجلس في ذكر القيامة وأهوالها أجارنا الله منـها 31 سورة الزلزلة وما تشير إليه
قال الله عز وجل { إذا زلزلت الأرض زلزالها } الزلزلة 1 هذه السورة مكية محكمة بالوعد والوعيد يخوف الله تبارك وتعالى بها عباده ويذكرهم فيها تزلزل الأرض وقيام الساعة لينتهوا عما نـهاهم عنـه من العصيان ويمتثلوا ما أمرهم بـه من الطاعة والإيمان وخوفهم الله تبارك وتعالى من يوم القيامة ليستعدوا لها ولعظيم أهوالها
قال الله سبحانـه وتعالى { إذا زلزلت الأرض زلزالها } يقول إذا تحركت الأرض بأهلها فزلزلت من نواحيها وارتجت من مشرقها ومغربها فلا تزال كذلك حتى يكسر ما على ظهرها من جبل وبناء فلا تسكن حتى يدخل في بطنـها جميع ما خرج منـها
وزلزلتها من شدة صوت إسرافيل عليه السلام وذلك إذا فرغت أحيان الدنيا وساعاتها وشـهورها وأوقاتها وأعوامـها وأيامـها وحلالها وحرامـها

وذلك إذا خمد الحق وظهر الباطل وترك الناس الأمر بالمعروف والنـهي عن المنكر وركبوا المآثم واستحلوا المحارم وكثر بينـهم التظالم وترك الجهاد وظهر الفساد وفشا الربا وكثر اللواط والزنا وركبوا الفواحش والفجور واستعانوا على ذلك كله بشرب الخمور وأمر قوم بالمعروف وتركوه ونـهوا عن المنكر وفعلوه وكرهوا الحق واتبعوا أهواءهم وقرئ القرآن فلم يعمل بـه واسودت القلوب وكثرت الفواحش والعيوب وتزين الفساق بالمعاصي والذنوب فإذا كانوا كذلك اشتد غضب الجبار جل جلاله عليهم فعند ذلك يقول الله يا إسرافيل انفخ الصعق فينفخ إسرافيل عند ذلك كما أمره الجبار حل جلاله فتزلزل الأرض من مشرقها إلى مغربها وذلك من غضبة يغضبها الجبار على المنافقين والفجار
32 صفة إسرافيل
وإسرافيل عليه السلام ملك عظيم جناح له بالمشرق وجناح له بالمغرب ورجلاه تحت تخوم الأرض السابعة السفلى بخمسمائة عام والسموات السبع إلى ركبتيه وعنقه ملوي تحت العرش والعرش على كاهله
وقد مد الرجل اليمنى وأخر اليسرى واللوح المحفوظ بين عينيه وقد التقم الصور وشخص ببصره نحو العرش وأنصت بأذنيه ينتظر متى يؤمر بالنفخ في الصور والصور قرن من نور
قال النبي {صلى الله عليه وسلم} } الصور قرن من نور والذي نفسي بيده إن أعظم ثارة فيه كما بين السماء والأرض {

وروي عنـه {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم الصور وحنى جبهته وشخص ببصره نحو العرش وأنصت بأذنيه ينتظر متى يؤمر أن ينفخ في الصور فإذا نفخ فيه مات أهل السموات والأرض إلا أربعة أملاك فإنـهم لا يموتون إلا بعد موت الخلائق وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت فمن شدة صوت إسرافيل تتحرك الأرض من مشرقها إلى مغربها فلا يبقى بناء إلا انـهدم إلا المساجد فإن أساسها يبقى لا ينـهدم لفضلها عند الله تبارك وتعالى لما عبد فيها ووحد وقرئ كلامـه فيها وذلك قوله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } القصص 88 جاء في التفسير أن الأشياء كلها تهلك إلا عملا يراد بـه وجه الله تعالى والمساجد لا تهلك لأنـها إنما بنيت لوجه الله تعالى
33 خشية النبي من هبوب الريح
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه كان إذا هبت الريح تغير لونـه وكان يخرج ويدخل مرة بعد أخرى من شدة خوف قيام الساعة وزلزلة الأرض فإذا كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يخاف هذا الخوف كله وهو أكرم الخلق على الله فكيف بمن أفنى عمره في السهو
والغفلات وقطع أيامـه باللهو والبطلات وضيع أوقاته في العصيان حتى مات وأنشدوا
نـهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم
وشغلك فيما سوف تكره غبه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
وفعلك فعل الجاهلين بربهم
وعمرك في النقصان بل أنت ظالم
فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم
ولا أنت في النوام ناج وسالم
تسر بما يقنى وتفرح بالمنى
كما سر باللذات في النوم حالم
فلا تحمد الدنيا لكن قذمـها
ولا تكثر العصيان إنك ظالم
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } انتهيت ليلة أسري بي إلى السماء السابعة فرأيت إسرافيل قد حنى جبهته وقدم رجلا وأخر أخرى والعرش على منكبه والصور في فيه بين شدقيه وقد تهيأ للنفخ في الصور فما ظننت أن أبلغ الأرض حتى تبلغني النفخة كما رأيت من تهيئته للنفخ

سئل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن إسرافيل فقال } له جناح بالمشرق وجناح له بالمغرب ورجلاه تحت الأرض السابعة السفلى والعرش على كاهله وإنـه ليفكر في كل يوم ثلاث ساعات في عظمة الله تعالى فيبكي من خوف الجبار حتى تجري دموعه كالبحار فلو أن بحرا من دموعه أذن له أن يسكب لطبق بين السموات والأرض وإنـه ليتواضع ويصغر حتى يصير كالوضع والوضع طير صغير يشبه العندليب والعندليب أصغر ما يكون من الطير فالله الله يا معشر من آمن بالله واليوم الآخر استعدوا لقيام الساعة وزلزالها
قال الله تعالى { إذا زلزلت الأرض زلزالها } الزلزلة 1 تتحرك الأرض وتتمخض وتتطاير الجبال وتنقلع الشجر وتنـهدم المباني فلا يبقى على ظهرها من جبالها وشجرها ونباتها شيء إلا دخل في جوفها
قال عكرمة إنما تقوم الساعة على شر الخلق
34 متى ينفخ في الصور
قال حذيفة كان الناس يسألون النبي {صلى الله عليه وسلم} عن الخير وكنت أنا أسأله عن الشر مخافة أن يصيبني فكان النبي {صلى الله عليه وسلم} يقول } في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم
فإذا غضب الله تعالى على أهل الأرض أمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة الصعق فينفخ على غفلة من الناس فمن الناس من هو في وطنـه ومنـهم من هو في سوقه ومنـهم من هو في حرثه ومنـهم من هو في سفره ومنـهم من يأكل فلا يرفع اللقمة إلى فيه حتى يخمد ويصعق
ومنـهم من يحدث صاحبه فلا يتم الكلمة حتى يموت فتموت الخلائق كلهم عن آخرهم

وإسرافيل لا يقطع الصيحة حتى تغور عيون الأرض وأنـهارها ونباتها وأشجارها وجبالها وبحارها ويدخل الكل بعضه في بعض في بطن الأرض والناس خمود صرعى فمنـهم من هو صريع على وجهه ومنـهم من هو صريع على ظهره وعلى جنبه وعلى خده ومنـهم من يكون اللقمة في فيه فيموت وما أدرك أن يبتلعها وتنقطع السلاسل التي فيها قناديل النجوم فتستوي بالأرض من شدة الزلزلة وتموت ملائكة السبع سموات والحجب والسرادقات والصادقون والمسبحون وحملة العرش والكرسي وأهل سرادقات المجد والكروبيون ويبقى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليه السلام
35 كيف يموت جبريل
يقول الجبار جل جلاله يا ملك الموت من بقي وهو أعلم فيقول ملك الموت سيدي ومولاي أنت أعلم بقي إسرافيل وبقي جبريل وبقي ميكائيل وبقي عبدك الضعيف ملك الموت خاضع ذليل قد ذهلت نفسه لعظيم ما عاين من الأهوال
فيقول له الجبار تبارك وتعالى انطلق إلى جبريل فاقبض روحه فينطلق ملك الموت إلى جبريل عليه السلام فيجده ساجدا راكعا فيقول له ما أغفلك عما يراد بك يا مسكين قد مات بنو آدم وأهل الدنيا والأرض والطير والسباع والهوام وسكان السموات وحملة العرش والكرسي والسرادقات وسكان سدرة المنتهى وقد أمرني المولى بقبض روحك فعند ذلك يبكي جبريل عليه السلام ويقول متضرعا إلى الله تعالى يا الله هون علي سكرات الموت
فيضمـه ملك الموت ضمة يقبض فيها روحه فيخر جبريل منـها صريعا فيقول الجبار جل جلاله من بقي يا ملك الموت وهو أعلم فيقول مولاي وسيدي بقي ميكائيل وإسرافيل وعبدك الضعيف ملك الموت
36 كيف يموت ميكائيل

فيقول الجبار جل جلاله انطلق إلى ميكائيل فاقبض روحه فينطلق ملك الموت إلى ميكائيل كما أمره الله تعالى فيجده ينتظر الماء ليكيله على السحاب فيقول له ما أغفلك يا مسكين عما يراد بك ما بقي لبني آدم رزق ولا للأنعام ولا للوحوش ولا للهوام قد مات أهل السموات وأهل الأرضين وأهل الحجب والسرادقات وحملة العرش والكرسي وسرادقات المجد والكروبيون والصادقون والمسبحون وقد أمرني ربي بقبض روحك فعند ذلك يبكي ميكائيل ويتضرع إلى الله ويسأله أن يهون عليه سكرات الموت فيحضنـه ملك الموت ويضمـه ضمة يقبض فيها روحه فيخر صريعا ميتا لا روح فيه فيقول الجبار جل جلاله من بقي وهو أعلم يا ملك الموت فيقول مولاي وسيدي أنت أعلم بقي إسرافيل وعبدك الضعيف ملك الموت
37 كيف يموت إسرافيل
فيقول الجبار تبارك وتعالى انطلق إلى إسرافيل فاقبض روحه فينطلق كما أمره الجبار إلى إسرافيل فيقول له ما أغفلك يا مسكين عما يراد بك قد ماتت الخلائق كلها وما بقي أحد وقد أمرني ربي ومولاي أن أقبض روحك فيقول إسرافيل سبحان من قهر العباد بالموت سبحان من تفرد بالبقاء ثم يقول مولاي هون علي مرارة الموت فيضمـه ملك الموت ضمة يقبض فيها روحه فيخر ميتا صريعا فلو كان أهل السموات في السماوات وأهل الأرض في الأرض لماتوا كلهم من شدة رجة وقعته
38 كيف يموت ملك الموت
فيقول الجبار تبارك وتعالى من بقي يا ملك الموت وهو تعالى أعلم فيقول مولاي وسيدي أنت أعلم بمن بقي بقي عبدك الضعيف ملك الموت فيقول الجبار تعالى وعزتي وجلالي لأذيقنك ما أذقت عبادي انطلق بين الجنة والنار ومت فينطلق بين الجنة والنار فيصيح صيحة لولا أن الله تبارك وتعالى أمات الخلائق لماتوا من عند آخ هم من شدة صيحته فيموت فتبقى السموات خالية من أملاكها ساكنة أفلاكها وتبقى الأرض خاوية من إنسها وجنـها وطيرها وهوامـها

وسباعها وأنعامـها ويبقى الملك لله الواحد القهار الذي خلق الليل والنـهار فلا ترى أنيسا ولا تحس حسيسا قد سكنت الحركات وخمدت الأصوات وخلت من سكانـها الأرضون والسماوات
39 لمن الملك اليوم
ثم يطلع الله تبارك وتعالى إلى الدنيا فيقول يا دنيا أين أنـهارك وأين أشجارك وأين سكانك وأين عمارك أين الملوك وأبناء الملوك وأين الجبابرة وأبناء الجبابرة أين الذين أكلوا رزقي وتقلبوا في نعمتي وعبدوا غيري لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول تعالى الملك لله الواحد القهار فينظر الجبار جل جلاله إلى عباده موتى من بين صريع على خده ومن بين بال في قبره ثم يقول يا دنيا أين أنـهارك وأين أشجارك وأين سكانك وأين عمارك وأين الملوك وأين الجبابرة لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول الله تعالى لله الواحد القهار فتبقى الأرضون والسموات ليس فيهن من ينطق ولا من يتنفس ما شاء الله من ذلك وقد قيل تبقى أربعين يوما وهو مقدار ما بين النفختين ثم بعد ذلك ينزل الله تبارك وتعالى من السماء السابعة من بحر يقال له بحر الحيوان ماؤه يشبه مني الرجال ينزله ربنا أربعين عاما فيشق ذلك الماء الأرض شقا فيدخل تحت الأرض إلى العظام البالية فتنبت بذلك الماء كما ينبت الزرع بالمطر
40 كيفية بعث الموتى
قال الله تعالى { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } الأعراف 57 إلى قوله { كذلك نخرج الموتى } الأعراف 57 الآية كما أخرج النبات بالمطر كذلك يخرج الموتى بماء الحياة فتجتمع العظام والعروق واللحوم والأشعار فيرجع كل عضو إلى مكانـه الذي كان فيه في دار الدنيا فتلتئم الأجساد بقدرة الجبار جل جلاله وتبقى بلا أرواح ثم يقول الجبار جل جلاله ليبعثن إسرافيل فيقوم إسرافيل عليه السلام حيا بقدرة الله تعالى فيقول له الجبار يا إسرافيل التقم الصور وازجر عبادي لفصل القضاء فأول ما يحيي الله تبارك وتعالى إسرافيل ويأمره أن يلتقم الصور
41 صفة الصور

والصور قرن من نور فيه أثقاب على عدد أرواح العباد فتجتمع الأرواح كلها فتجعل في الصور
42 أين يقف إسرافيل
ويأمر الجبار إسرافيل أن يقوم على صخرة بيت المقدس وينادي في الصور وهو في فيه قد التقمـه والصخرة أقرب ما في الأرض إلى السماء وهو قوله تعالى { واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب } ق 41 ويقول إسرافيل في ندائه أيتها العظام البالية واللحوم المتقطعة والأشعار المتبددة والعروق المتمزقة لتقمن إلى العرض على الملك الديان ليجازيكن بأعمالكن فإذا نادى إسرافيل عليه السلام في الصور خرجت الأرواح من أثقاب الصور فتنتشر بين السماء والأرض كأنـها النحل يخرج من كل ثقب روح ولا يخرج من ذلك الثقب غيره فأرواح المؤمنين تخرج من أثقابها نائرة بنور الإيمان وبنور أعمالها الصالحة وأرواح الكفار تخرج مظلمة بظلمات الكفر وإسرافيل يديم الصوت والأرواح قد انتشرت بين السماء والأرض ثم تدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد فيدخل كل روح جسده الذي فارقه في دار الدنيا فتدب الأرواح في الأجساد كما يدب السم في الملسوع حتى ترجع إلى أجسادها كما كانت في دار الدنيا ثم تنشق الأرض من قبل رؤوسهم فإذا هم قيام على أقدامـهم ينظرون إلى أهوال يوم القيامة وإسرافيل عليه السلام ينادي بهذا النداء لا يقطع الصوت ويمده مدا والخلائق يتبعون صوته والنيران تسوق الخلائق إلى أرض القيامة
43 ملازمة الأعمال للأجساد
فإذا خرجوا من قبورهم خرج مع كل إنسان عمله الذي عمله في الدنيا لأن عمل كل إنسان يصحبه في قبره فإن كان العبد مطيعا لربه وعمل عملا صالحا كان أنيسه في الدنيا ويكون أنيسه إذا خرج من قبره يوم حشره يؤنسه من الأهوال ومن هموم القيامة وكروبها كلما نظر العبد المؤمن إلى نار أو إلى هول من أهوال القيامة جزع فيقول له عمله يا حبيبي ما عليك من هذا شيء ليس يراد بـه من أطاع الله وإنما يراد بـه من عصى الله تعالى مولاه ثم كذب بآياته واتبع هواه وأنت كنت عبدا

مطيعا لمولاك متبعا لنبيك تاركا لهواك فما عليك اليوم من هم ولا حزن حتى تدخل الجنة
44 العمل السوء وهيأته
وإذا كان العبد خاطئا وعاصيا لذي الجلال ومات على غير توبة وانتقال فإذا خرج المغرور المسكين من قبره خرج معه عمله السوء الذي عمل في دار الدنيا وكان قد صحبه في قبره فإذا نظر إليه العبد المغتر بربه رآه أسودا فظيعا فلا يمر على هول ولا نار ولا شيء من هموم القيامة إلا قال له عمله يا عدو الله هذا كله لك وأنت المراد بـه وأنشدوا
أي يوم يكون يوم النشور
يوم فيه يفوز أهل القبور
يوم فيه الجزاء جنة عدن
لمطيع ومن عصى في سعير
خاب من قد عصى وفاز مطيع
راقب الله في جميع الأمور
قام في الليل للإله ذليلا
ليس يخلو من خوفه للقدير
خاف من عظم يوم هول شديد
شدة الهول من عذاب الزفير
فالله الله عباد الله معشر المريدين انتبهوا من هذا المنام واهجروا الفواحش والآثام وارجعوا إلى طاعة الملك العلام من قبل أن يأتي يوم تشقق السماء فيه بالغمام
45 إخراج الأرض ما فيها
قال الله تعالى { وأخرجت الأرض أثقالها } الزلزلة 2 يعني ما فيها من الموتى والكنوز وما أودعها من أعمال العباد ومن مخبآت أسرارهم من أعمال الطاعة وأعمال العصيان
فيأمر الله تعالى أن تخرج أعمال العباد وذلك أن العبد إذا خرج من قبره يجد عمله على شفير قبره فإن كان عمله صالحا وجده نورا يستره ويحجبه يستر عورته من أعين الناس ويحجبه عن النيران التي تسوق الناس إلى أرض القيامة وإن كان عملا سيئا وجده ظلمة سوداء تكون عليه أشد من كل هول يلقاه من أهوال يوم القيامة
هذا كله في النفخة الثانية وبين النفخة الأولى والثانية أربعون سنة فهو قوله { وأخرجت الأرض أثقالها }
فمثل لنفسك يا مغرور وقد ترادفت عليك الهموم والكروب وأحاطت بك الأهوال والخطوب وأظهرت لك القبائح والعيوب وأثقلت ظهرك الأوزار والذنوب وأنشدوا
قد سودت وجهي المعاصي
وأثقلت ظهري الذنوب
أورثني ذكرها سقاما

فليس لي في الورى طبيب
يا شؤم نفسي غداة حشري
إذا أحاطت بي الكروب
وصوت داع دعا باسمي
أين مفري وما أجيب
هذا كتاب الذنوب فأقرأ
فعندها تظهر العيوب
ذكر أن العبد إذا خرج من قبره وجد عمله السوء حزمة وملك من ملائكة العذاب واقف عليها فإذا نظر إلى ما قدم في أيامـه قال له الملك يا عدو الله خذ عملك فاحمله على ظهرك كما كنت تلتذ بـه في الدنيا ولم تراقب مولاك وقد علمت أنـه مطلع عليك ويراك فيأخذ العبد المسكين تلك الحزمة فيجدها على ظهره أثقل من جبال الدنيا والنار تسوقه إلى الموقف وملك يسوقه سوقا حثيثا بالعنف والانتهار والإغلاظ عليه وآخر يشـهد عليه مع علم الله تعالى فيه
وأنشدوا
كيف احتيالي إذا جاء الحساب غدا
وقد حشرت بأثقالي وأوزاري
وقد نظرت إلى صحفي مسودة
من شؤم ذنب قديم العهد أوطاري
وقد تجلى لهتك الستر خالقنا
يوم المعاد ويوم الذل والعار
يفوز كل مطيع للعزيز غدا
بدار عدن وأشجار وأنـهار
لهم نعيم خلود لا نفاذ له
يخلدون بدار الواحد الباري
ومن عصى في قرار النار مسكنـه
لا يستريح من التعذيب في النار
فابكوا كثيرا فقد حق البكاء لكم
لا يستريح من التعذيب بدمع واكف جاري
فالله الله يا أولي الألباب تفكروا في هول يوم الحساب ولا تنسوا المطالبة برد الجواب وأشفقوا على أنفسكم من أليم العذاب وأرجعوا إلى طاعة رب الأرباب وابكوا على ما سلف من ذنوبكم بانتحاب 46
مدة النفخ في الصور
ذكر أن إسرافيل عليه السلام لا يقطع النداء في الصور حتى تخرج الأرض
جميع ما فيها من الموتى ومما أودعها الله تعالى من شيء فإذا كمل العباد في الموقف وكل إنس الأرض وجنـها ووحوشـها ودوابها وطيرها وأنعامـها وهوامـها حتى الذباب قطع إسرافيل النداء بأمر الله تعالى وذلك بعد تبديل الأرض غير الأرض والسموات ففي تبديلها قولان
47 هيأة أرض الحساب

أحدهما أن الأرض التي يحاسب العباد عليها هي أرض من فضة بيضاء لا جبل فيها ولا بناء ولا بحار ولا أنـهار ولا أشجار ما سفك عليها دم ولا عصى الله تعالى عليها يأتي بها من غامض علمـه ويقول لها كوني فتكون وقد أضرم تحتها النيران وتكون هذه الأرض في عظم تلك الأرض مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود
وقد قيل إن تبديل الأرض هدم مبانيها وغور مياهها وانقطاع أشجارها وتسجير بحارها وتسيير جبالها وتبديل السماء وتكوير شمسها وقمرها وانكدار نجومـها وتعطيل أفلاكها وتشققها
فهذه تبديل الأرض والسماوات والله أعلم بحقيقة ذلك
48 كيف يقف الناس في المحشر
فإذا قطع إسرافيل عليه السلام النداء وقف الخلائق كل واحد منـهم ينظر إلى السماء ولا يرتد إليه طرفه ولا يدري أحد من يقف بجواره لا رجل ولا امرأة ولا يدري الأخ بأخيه ولا الوالد بولده ولا الأم بابنـها
كل إنسان منـهم مشغول بما هو فيه من عظيم الأهوال وكل واحد منـهم يفكر فيما قد جاء بـه من العصيان وفرط فيه من الطاعة والنسيان فالكل ينظر إلى ما ينزل بـه الأمر من السماء من شقاوة أو سعادة
49 مقدار زمن الحشر
ويقال والله أعلم إن الوقوف يكون مقدار ثلاثمائة سنة من سنين الدنيا لا خبر يتنزل ولا خبر يصعد
قد كثر الزحام فلا تسمع إلا همس الأقدام حيارى نادمون فيما فرطوا فيه من استزلال القدم يومئذ لا ينفع البكاء ولا الندم
ليس في الدنيا لمن آمن
بالبعث سرور
إنما يفرح بالدنيا
جهول أو كفور
إنما يفرح بالدنيا
جهول أو كفور {
} فتذكر هول يوم السما فيه تمور
50 بكاء النبي من أهوال القيامة

روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } خوفني جبريل عليه السلام من أهوال يوم القيامة حتى أبكاني فقلت له حبيبي جبريل أليس قد غفر الله لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر فقال يا محمد لتشاهدن من الأهوال يوم القيامة ما ينسيك المغفرة فبكى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى بلت دموعه لحيته فإذا كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يبكي من هول يوم الحساب وقد أمنـه الجبار من أليم العذاب ووعده بالجنة وحسن المآب فكيف بأمثالنا المساكين وكيف بمن ترك الحق والصواب وخالف السنة والكتاب وأطاع الشيطان وأفنى عمره في معصية الملك الوهاب وقد قيل في قوله تعالى { كلا إذا دكت الأرض دكا دكا } الفجر 21 هو تحريكها وقيل دكا دكا إذهابا
51 معنى دك الأرض وانشقاقها
سئل بعض العلماء عن معنى تكرار هاتين الكلمتين دكا دكا وصفا صفا فقال تدكدك الأرض دكا بعد دك أي تحرك مرة بعد أخرى حتى لا يبقى عليها أثر من بناء أو جبل أو شجر
وقوله صفا صفا تأتي الملائكة صفا بعد صف كل ملك قد شغل بنفسه لعظم ما يرى من ظهور الأهوال
فإذا كثر زلزال الأرض { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة } الحاقة 41 حتى تنقطع الجبال من أصولها وتنشق الأرض وتغور فيها أنـهارها وعيونـها ويدخل فيها كل قصر شديد من بين قديم وجديد فيا له من يوم ما أهوله ومن بلاء ما أطوله ومن جبار ما أعدله
قد أفنى العباد بال فلا يرى أحد من الأنام
فإذا استوى الأولون والآخرون في أرض القيامة أمر الله تبارك وتعالى السموات أن تنشق فتنشق كل سماء وتنقطع مثل قطع السحاب وقيل كما يتطاير القطن بين يدي القطانين إذا ندفوه

فمثل لنفسك صوت انشقاقها في سمعك وكيف يثبت له فؤادك ويستقر لفظاعة هوله قدمك فقدم في أيام حياتك ما يقيك تلك الأهوال لأن الخلق في أهوال يوم القيامة على قدر أعمالهم في الدنيا من خير وشر فمن عمل صالحا وخاف من ربه وخاف من هول ذلك اليوم آمنـه مولاه من جميع أهواله وكروبه ومن لم يقدم في دنياه عملا صالحا لأخراه لقيته صعاب الخطوب وترادفت عليه الهموم والكروب فيندم حين لا تنفعه الندامة إذا حل في أهوال القيامة
52 الأمن والخوف
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } يقول الله تبارك وتعالى إذا خافني عبدي في الدنيا آمنته يوم القيامة وإذا آمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة { فإذا انشقت السموات بلغت القلوب الحناجر وأيقن كل عبد وأمة أنـه قادم على ما عمل في الظواهر والسرائر إذا انشقت السماوات عظمت المصائب وكثرت النوائب وندم العبد على ما فرط في الدنيا وضيع من الثواب والرغائب
فإذا انشقت السماوات عظمت الرزيات وكثرت الآفات وظهر العذاب وحلت العقوبات وأظهر الله مخبآت السريرات وندم العبد المغرور على ما أذنب في الأيام والأوقات وما جنى في الشـهور والساعات
فإذا انشقت السماوات كثرت الأحزان وبرزت النيران وأزلفت الجنان وندم العاصي على ما عمل من العصيان وعلى ما فرط فيه من طاعة الرحمن فانتبهوا لهذه الأهوال يا معشر الأخوان يا أهل الإسلام والإيمان فإن الهول والله عظيم والخطب كبير جسيم
53 ملائكة سماء الدنيا
فإذا انشقت السماوات وتقطعت ونزلت الملائكة بأجمعها فإذا نزلت ملائكة سماء الدنيا فزع منـهم أهل الأرض وظنوا أنـهم قد أمر فيهم بأمر فتقول لهم ملائكة سماء الدنيا لا تجزعوا منا فإنا نخاف من الذي تخافون وتكون ملائكة سماء الدنيا أكثر من أهل الأرض إنسها وجنـها وأنعامـها وطيرها ووحشـها وجميع ما خلق برها وبحرها سبعين ضعفا فتبقى العباد يموج بعضهم في بعض
54 ملائكة السماء الثانية

ثم تنزل ملائكة السماء الثانية وهم أكثر عددا وأعظم خلقا ممن اجتمع في الأرض سبعين ضعفا فتجزع منـهم ملائكة سماء الدنيا وجميع من في الأرض فيقولون لهم لا تجزعوا نحن مشغولون بأنفسنا ونخاف مما تخافون منـه
فلا تزال ملائكة كل سماء تنزل ويجزع منـهم جميع من سبقهم ويكون أهل كل سماء أكثر وأعظم ممن سبقهم سبعين ضعفا
وكأن أهل كل سماء في صف واحد على حدة كل واحد منـهم قد شغل بنفسه من عظيم ما يرى وما يبدو له
وأنشدوا
يا غافلين أفيقوا قبل بعثكم
وقبل يؤخذ بالأقدام واللم
والناس أجمع طرا شاخصون غدا
لا ينطقون بلابكم ولا صمم
والخلق قد شغلوا والحشر جامعهم
والله طالبهم بالحل والحرم
وقد تبدى لأهل الجمع كلهم
وعد الآله من التعذيب والنقم
وكل نفس لدي الجبار شاخصة
لا ينطقون بلا روح من الزحم
55 الجبابرة في الحشر كالذر
روي أن الجبابرة يحشرون يوم القيامة على صورة الذر أصغر الناس خلقة لتجبرهم على العباد في الدنيا قد صارت العزة للغني الحميد ولزمت الذلة كل جبار عنيد وشيطان مريد قد ترادفت عليهم الهموم والأهوال وظهرت لهم العقوبات والأنكال وندم كل مذنب بطال فحينئذ لا حيلة لمحتال في يوم لا بيع فيه ولا خلال شعر
} مقام المذنبين غدا عسير إذا ما النار قربها القدير
وقد نصب الصراط لكي تجوزوا فلا ينجو الكبير ولا الصغير
وقد نسفت جبال الأرض نسفا ويبست البحور فلا بحور
وبرزت الجحيم لكل عبد على أهل المعاد لها زفير
عباد الله تفكروا واعتبروا وابكوا وتباكوا
واستعدوا لليوم الثقيل والهول الكبير والخطب الجليل والعذاب الشديد الطويل
56 حديث في أهوال يوم القيامة
ذكر في بعض الأخبار عن النبي المصطفى المختار {صلى الله عليه وسلم} وعلى آله الأخيار

دوام اختلاف الليل والنـهار أنـه قال } ليوم القيامة مائة ألف هول كل هول أعظم من الموت مائة ألف مرة { فاندم يا مسكين على ما صنعت وفات وأصلح بالتوبة النصوح ما هو آت من قبل أن تأتي يوم لا مرد له من الله ليس للظالمين من نصير ولا للعاصين من مجير ولا لأحد من ملجأ ولا نكير
57 شدة الحر والظل
فإذا تكامل أهل السموات وأهل الحجب والسرادقات وحملة العرش والكرسي وجميع أهل الأرض في عرصة يوم القيامة وازدحمت الخلائق واختلفت الأقدام وشخصت الأحداق وتطاولت الأعناق وانثنت من شدة العطش واجتمع زحام الخلائق وأنفاسهم وشدة حر الشمس وضيق البأس ارتفع العرق على وجه الأرض حتى يعلو على الأبدان ويعم العباد على قدر منازلهم ورتبتهم التي أنزلتهم عليها أعمالهم التي عملوها في دار الدنيا وقد زيد في حر الشمس ما يتضاعف قيل حر عشر سنين ولا ظل يومئذ إلا ظل العرش فلا يصيب منـه عبد ولا أمة إلا على قدر عمله فكم بين مستظل ناعم بظل العرش وبين صاح باد بحر الشمس
58 مطر الرحمة
وقد قيل إن الله تبارك وتعالى يمطر يوم القيامة الغيث على طائفة من عباده وترمي جهنم شررها على طائفة أخرى فكم من مستريح ببرد ماء الأمطار وبين ملتهب بحر شرر النار فمن قطع عمره في الدنيا بطاعة الرحمن وعمل بالسنة والقرآن خلصه مولاه من جميع الهموم والأحزان
59 ترهيب من أهوال الحشر
فمثل لنفسك وقد نظرت للجبال قد تقلعت من أصولها وصارت مثل السراب وتقطعت السماوات وتطايرت مثل قطع السحاب وقد أيقن كل فاجر وكافر بالحلول في أليم العذاب وقد صارت العزة لذي البطش الشديد ولزمت الذلة كل جبار عنيد ثم رجعت السماء كالمـهل وهو دردي الزيت الذي يجلس في قعر الإناء قيل ترجع السماء كالدهن الرقيق وترجع الجبال كالعهن المنفوش وهو أضعف ما يكون من الصوف وتصير الخلائق كالفراش وهو البعوض وقيل كالجراد

المنتشر إذا خرجت عليه الشمس لا يأخذ بجهة واحدة كذلك الخلق يموج بعضهم في بعض لكل امريء منـهم يومئذ شأن يغنيه
قد اجتمعت القيامة بأهوالها ووضعت الحوامل أحمالها وزلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وشـهد على الأمم بأعمالها وشاب الوليد وحضر الوعد وحق الوعيد وعظم الهول الشديد وذل كل متكبر وجبار عنيد
قد خضعت الرقاب لرب الأرباب وخاب كل كفار كذاب واشتد الهول وعظم العذاب فتفكروا فيما تسمعون يا معشر الأحباب وانظروا لأنفسكم يا جماعة الإخوان والأصحاب واستعدوا لأهوال القيامة يا أولي العقول والألباب
وأنشدوا
مثل لقلبك أيها المغرور
يوم القيامة والسماء تمور
قد كورت شمس النـهار وأضعفت
حرا على روس العباد تقور
وإذا الجبال تعلقت بأصولها
فرايتها مثل السحاب تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت
وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا العشار تعطلت عن أهلها
خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت
وتقول للأملاك أين نسير
فيقال سيروا تشـهدون فضائحا
وعجائبا قد أحضرت وأمور
وإذا الجنين بأمـه متعلق
خوف الحساب وقلبه مذعور
} هذا بلا ذنب يخاف لهوله
كيف المقيم على الذنوب دهور
60 جهنم في المحشر
فإذا اشتد الفرق وسال العرق أمر الجبار جل جلاله أن يؤتى بجهنم أعاذنا الله وإياكم منـها وزحزحنا وإياكم عنـها برحمته فيؤتى بها وأهوالها وأنكالها وسلاسلها وأغلالها وقد اشتد جحيمـها وغلا حميمـها وكثر زقومـها وغضب زبانيتها وعظم سم حياتها وعقاربها واسودت جبالها وهاجت بحارها ونتن غسلينـها وغلى سمومـها وقد اجتمعت مما خلق الله فيما من عظيم بلائها فأبرزت للخلائق وهم ينظرون إليها من مسيرة خمسمائة عام
61 وصف جهنم
قال الله تعالى { وبرزت الجحيم لمن يرى } النازعات 36 فيراها

الخلائق كلها وهي تغتاظ على العباد وتغضب لغضب الجبار جل جلاله وتتغيظ وتتسعر عليها سبعون ألف زمام من حديد قد تعلق بكل زمام سبعون ألف ملك من ملائكة النار يحبسونـها عن الخلائق وهي تريد أن تنفلت من أيديهم وتأتي على أهل الموقف والملائكة التي يحبسونـها وجوههم مثل الجمر وأعينـهم مثل البرق الخاطف فإذا تكلم أحدهم تناثرت النار من فيه بيد كل واحد منـهم أرزبة من حديد من نار فيها إثنان وسبعون ألف رأس من نار كأمثال الجبال الراسيات العظام ورؤوسها كرؤوس الأفاعي وهي أخف في يدي الملك من الريشة وأعينـهم زرق ووجوههم كلحة قد خلقوا من نار السموم فتريد جهنم أن تنفلت من أيدي الملائكة من غضب الجبار جل جلاله
هذا كله قاله الضحاك عن الأئمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنـهم
62 بطش جهنم
فإذا جاءت جهنم بأمر الله تبارك وتعالى جاءت بالهول الأكبر والفزع الأعظم فيخرج من نفسها وهج شديد ويسمع من جوفها دوي سلاسل الحديد
فإذا قربت من الخلائق سمعوا لها شـهيقا ورأوا لها حريقا فإذا نظرت في أهل المعاصي ثارت وفارت وأرادت أن تثب عليهم فاغتاظت وتمحمحت إليهم وأرادت أن تأتي على جميع الخلائق وتريد أن تنفلت من أيدي الخزان فتهرب الخلائق فلا يجدون منفذا ولا مكانا يستغيثون إليه ومنادي ينادي { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } الرحمن 33 أي بحجة ثم ترجع جهنم بسلطانـها على خزانـها لشدة غضب الجبار على من عصى الله وخالف رسوله فإذا انفلتت من أيدي الزبانية أرادت أن تقبض على كل من في الموقف فيعرض لها صلوات الله وسلامـه عليه محمد الرسول وكل نبي يومئذ بنفسه مشغول
63 رد الرسول جهنم عن الخلائق
فيأخذ محمد {صلى الله عليه وسلم} بزمامـها ويقبض على خطامـها فيردها على عقبها وهو {صلى الله عليه وسلم} يقول لها كفي عن أمتي فتخمد من نوره {صلى الله عليه وسلم} وتناديه أيها النبي المكرم والرسول المشرف المعظم خل سبيلي من يديك فما جعل الله لي ولا لغيري من سلطان

عليك فيناديها الملك الجليل الجبار هذا محمد حبيبي سيد الأبرار ووزير الأخيار فالطاعة لمن له الوسيلة والشفاعة فعند ذلك تضع جهنم رأسها خاضعة كالحة كليلة تحت سكون وخمود بإذن الملك المعبود لمحمد {صلى الله عليه وسلم} صاحب الحوض المورود والمقام المحمود واللواء المعقود والكرم والجود وإقامة الحقائق والحدود
ولو تركها خاتم النبيين وسيد المرسلين لأهلكت الخلائق أجمعين غضبا لغضب رب العالمين
أعاذنا الله وإياكم برحمته منـها إنـه أرحم الراحمين
64 جهنم وزفيرها
وقيل إن جهنم أعاذنا الله منـها وزحزحنا وإياكم برحمته عنـها إذا نظرت إلى الكفار والمنافقين والفجار وأصحاب الخطايا والأوزار زفرت زفرة فترمي شررا على رؤوس الخلائق مثل عدد نجوم السماء وزبد البحر ورمل البر فتقع 8 على رؤوس الكافرين والعاصين لرب الأولين والآخرين
فلو كانت الدنيا باقية لأنـهارت جبالها وجفت أزهارها ويبست عيونـها وأنـهارها من شدة حر جهنم ولو كان ثم موت لمات الخلق كلهم
65 الزفرة الثانية
ثم تزفر أخرى أعظم من الأولى فلا تبقى دمعة في عين إلا قطرت ويغلب بياض العين على سوادها وتبلغ القلوب الحناجر ولا يسأل أحد إلا نفسه البر والفاجر
66 الزفرة الثالثة
ثم تزفر الثالثة وهي أعظم من الأولى والثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي ولا صديق إلا جثا على ركبتيه حتى إبراهيم وجميع المرسلين إلا ما خلا من حبيب رب العالمين محمد {صلى الله عليه وسلم} خاتم النبيين فإنـه لا يسأل عن هول النار قد خلصه الله من أهوالها
67 الزفرة الرابعة
ثم تزفر الرابعة وهي أعظم من الأولى والثانية والثالثة فتلقى الزبانية على
وجوههم أجمعين وتفر الخلائق كلهم هاربين ويتعلق جبريل وميكائيل عليهما السلام بساق العرش وكل ملك ينادي نفسي نفسي لا أسألك اليوم غيرها

ويقول أيضا كل واحد منـهم بحرمة محمد وبقدر محمد {صلى الله عليه وسلم} نجني من عذابك لما يرون من حرمته وجلالة قدره وعظيم منزلته عند ربه فإذا هرب الخلائق وجهنم تريد أن تأتي عليهم وقد غلا بعضها في بعض ويقلب بعضها على بعض ولا يبقى غل ولا سربال ولا سلسلة ولا قيد ولا حية ولا عقرب إلا ألقت الكل على متنـها
68 بماذا تخمد النار
فعند ذلك يقبل إليها محمد {صلى الله عليه وسلم} ويلقى يده في زمامـها ويلوح إليها بحلة خضراء فتخمد من نور وجهه المبارك وهو {صلى الله عليه وسلم} يضرع إلى العلي المجيد وهو يقول يا سلام سلم أمتي من العذاب الشديد
وأنشدوا
الدمع في خد من عصى حسن
حسب الفتى من دموعه الحزن
يا من شكى حافظاه حلوته
لما خلا والعباد ما فطن
قد كان ربي عليك مطلعا
وأنت لاهي الفؤاد مفتتن
لم تهتك السر إذ خلوت به
ولا انقضت من عطائه المنن
النار تسعى إلى العصاة غدا
لم يعلم المذنبون وما وسن
يا قوم العجب من القلوب التي بليت بالعباد وغفلت عن أهوال يوم المعاد وتمادت على معصية الرب الكريم الجواد
يا أخي كأن المراد بهذا كله غيرنا
ليبعثن الجبار الذليل والحقير ويسألهم عن الفتيل والنقير وعن الذرة والقطمير وعن القليل والكثير في اليوم المـهول العبوس العسير الذي يشيب من فظاعة هوله الطفل الصغير رفق الله بنا وبكم في ذلك اليوم إنـه على ما يشاء قدير
ثم يبعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى جهنم فيقول لها الله تعالى يقول لك الطاعة فتقول وعزة الله وعظيم جلاله لأنتقمن اليوم ممن لا يعمل بطاعة الله واستعان بنعمته على معصيته
ثم تقول يا جبريل هل خلق الله خلقا يعذبني بـه فيقول جبريل لا ما خلقك الله إلي إلا نقمة لمن عصاه
فتقول جهنم عند ذلك الحمد لله الذي جعلني نقمة لمن عصاه ولم يجعل من خلقه من ينتقم مني عند
ذاك والله تعظم الخطوب وتظهر القبائح والعيوب ويندم أهل المعاصي والذنوب
وأنشدوا
ليس في الدنيا لمن
آمن بالبعث سرور

فإن لله وإنا إليه راجعون على من باع نفسه في سوق الخسران وترك العز ورضي بالهوان وبذل مـهجته لعذاب النيران وبارز بالخطايا الملك الديان
69 من أسباب غفران الذنوب
حكي عن بعض العارفين رحمـه الله أنـه قال حضرت سنة من السنين الوقوف بعرفات فإذا بضجة الناس فتذكرت يوم القيامة وذكرت رحمة الله فأردت أن أحلف أن الله قد غفر لكل من في الجمع فذكرت أني فيهم فأمسكت
وأنشدوا
يا كثير الذنوب أقصر قليلا
قد بلغت المدى من الإسراف
فإذا اشتد بالخلائق الهلع وكثر منـهم الخوف والجزع وبلغت القلوب الحناجر من خوف من يعلم الظواهر والسرائر نادى الملك الرحمن يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون
فإذا سمعت الخلائق هذا النداء طمع كل منـهم فيه
فيقول سبحانـه { الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين } الزخرف 69 فعند ذلك ييأس من الرحمن جميع الكفار والمنافقين والفجار ويطمع فيها من آمن بالواحد القهار واتبع سنة محمد المختار
عند ذلك تنشر الدواوين وتوضع الموازين وتتطاير الصحف في الألف فكل امرئ بما اكتسب معترف فندم الظالم وخسر الآثم وظهرت في الصحائف الفضائح وكثر الخجل واشتد الوجل وبدت الفضائح وشـهدت على كل امرئ حفظته والجوارح
وأنشدوا
طال والله بالذنوب اشتغالي
وتماديت في قبيح فعالي
ليت شعري إذا أتيت فريدا
والموازين قد نصبن حيالي
والدواوين قد نشرن وجئنا
والنبيون يشـهدون سؤالي
ما اعتذراي وما أقول لربي
في سؤالي وما يكون مقالي
أورثتني الذنوب دار هموم
لست أبقى لها ولا تبقى لي
يا عظيم الجلال مالي عذر
بل حقيق أنا بنار السفالي
0 غير أن الرجاء فيك مكين
فارحم العبد يا جميل الفعال {
وتفضل على عبد مسيء
ليس يرجو سواك يا ذا الجلال
70 هذا يوم الدين

روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إذا جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين نادى مناد هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم بـه تكذبون فانظر لنفسك يا مسكين يا ضعيف الإيمان واليقين يا من يقول إنـه من المؤمنين المصدقين
وهو يعمل أعمال المكذبين المخالفين التاركين لسنن سيد المرسلين وخاتم النبيين
ما أجراك أن تكون عند الله من الكاذبين لو خفت من عذاب يوم الدين لعملت بالقرآن المبين ولو كنت من المؤمنين المصدقين لأطعت رب الأولين والآخرين
فسل مولاك أن يفرج عنك ما قد نزل بك من داء الذنوب وهتك سترك من القبائح والعيوب
وأنشدوا
} يا طبيب الذنوب والآثام هل دواء أبرأ بـه من سقامي
إن داء الذنوب أضعف جسمي ومشيبي موكل بي
وشفائي أعيا الأطباء إني قد تغذيت مدتي بالحرام
وركبت الذنوب سرا وجهرا وتباعدت من محل الكرام
كيف بالطب أن يعالج سقمي وكلامي يزيد قرح كلامي
أيها الناس قد علمتم ذنوبي واغتراري وشقوتي واجترامي
وأنا أرغب الدعاء فجدوا في فكاكي من الذنوب العظام
واشتياقي إلى الطواف شديد وإلى الركن والصفا والمقام
وإلى يثرب يحن فؤادي كي أزور النبي خير الأنام
فسلوا الله في الوصول فإني ذو اشتياق لحج بيت حرام
فلعل الإله يغفر جرمي وينجي من هول يوم القيام
} ويفك المنان عبدا ضعيفا مات خوفا من العذاب الغرام
71 موعظة كعب الأحبار
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنـه قال لكعب يا كعب خوفنا
فأطرق برأسه ثم رفع رأسه وعيناه تذرفان دموعا فقال يا أمير المؤمنين والذي نفس كعب بيده أن جهنم لتزفر زفرة فتقطع السلاسل التي بأيدي الزبانية الذين يمسكونـها بها
حتى تفيض على أهل الجمع وتلقي الزبانية على وجوههم وينـهزم مالك خازنـها من بين يديها فلو كان لكل آدمي عمل مائة ألف نبي ومائة ألف صديق ومائة ألف شـهيد لحقر عمله ولظن أنـه لا ينجو منـها

فعند ذلك يعرض لها النبي {صلى الله عليه وسلم} وقد أشرقت القيامة من نور وجهه فيأخذ بزمامـها ويقول لها كفي عن أمتي كفي عن أمتي ثلاثا
فتقول له يا أيها النبي الكريم والرسول الرؤوف الرحيم ما جعل الله لي عليك ولا على أمتك من سبيل
فعند ذلك يتعلق العبد المذنب إذا رأى الأهوال العظام بالنبي عليه الصلاة والسلام فيقول يا رسول الله أنقذني من عذاب الله فيقول له ألم أبلغك رسالة ربي فلم عصيت فيقول له العبد المذنب يا رسول الله غلبت علي شقوتي
فيقول {صلى الله عليه وسلم} لا شقوة على أحد نم أمتي ولا على من قال في الدنيا مخلصا لا إله إلا الله محمد رسول الله
فيشفع له إلى الله تعالى فيشفع فيه
وأنشدوا
ألا أكرم بأحمد ذي الأيادي
شفيع الناس في يوم التنادي
إذا نشر الخلائق من قبور
عراة يبتغون ندا المنادي
وقربت الجحيم لمن يراها
فيا لله من خوف العباد
وقد زفرت جهنم فاستكانوا
سقوطا كالفراش وكالجراد
وقد بلغت حناجرهم قلوب
وقد شخصوا بأبصار حداد
فيا جبار عفوا منك فالطف
ويا رحمن رفقا بالعباد
ونودوا للصراط ألا هلموا
فهذا ويحكم يوم المعاد
تسوقكم إليه سوق عنف
مقامع من زبانية شداد
ألا يا معشر الإسلام هبوا
من الإغفال في غمر الرقاد
72 حديث في الترهيب
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } كل عين باكية يوم القيامة إلا عين بكت من خشية الله وعين غضت عن محارم الله وعين باتت تحرس في سبيل الله
فقدموا عباد الله في اليسير من الأيام ما يقيكم الأهوال العظام والخطوب الجسام والزلازل والطوام والعذاب الغرام فإن العمر يسير والأجل قصير والزاد قليل والهول جليل والعذاب طويل واليوم مـهول ثقيل
فإنا لله وإنا إليه راجعون على من قطع أيامـه في العصيان واستبدل الجنة بالنيران والربح بالخسران وترك العز ورضي بالهوان وعوض عن الزيادة والنقصان ففكر فيما تسمع أيها الإنسان وأنا وأنت وكلنا ذلك الإنسان وأنشدوا
مقام المذنبين غدا ذليل
وقدر الطائعين غدا جليل
إذا مد الصراط على جحيم
تصول على العصاة وتستطيل

ونادى مالكا خذ من عصاني
فإني اليوم لست لهم أقيل
73 سجود جهنم
ذكر في بعض الأخبار أن جهنم أعاذنا الله منـها وزحزحنا برحمته عنـها تستأذن يوم القيامة في السجود فيأذن لها فتسجد ما شاء الله من ذلك ثم يقال لها ارفعي فترفع رأسها وهي تقول الحمد لله الذي خلقني لينتقم بي ممن عصاه ولم يجعل شيئا من خلقه ينتقم بـه مني
إلهي قد اشتد بلائي وأخمدت ناري وغلا حميمي وزقومي وكثر نتني وغسليني وأكل بعضي بعضا
إلهي عجل بأهلي فوعزتك لأنتقمن لك ممن عصاك واتبع هواه وجحد آياتك وكذب رسلك وجعل معك إلها غيرك لا إله إلا أنت
فتنادى نداء يسمعه أهل الموقف جميعا ثم تغتاظ على أهل المعاصي فترمي بشرر كعد النجوم في السماء وزبد البحر ورمل البر ونبات الأرض على رؤوس الخلائق فيقع على رؤوس العصاة فمن كان له عمل صالح صار حجابا بينـه وبين شرر جهنم ومن لم يكن له عمر صالح صار رأسه غرضا لشرر جهنم أعاذنا الله منـها وزحزحنا عنـها برحمته يا رب العالمين آمين

3 مجلس في ذكر الميزان والصراط 74
قال الله سبحانـه وتعالى {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا} الأنبياء 47 الآية عباد الله ما لقلوبكم لا تخشع وما لآذانكم لا تسمع وما لدعائكم لا يسمع وما لعيونكم لا تدمع وما لبطونكم من السحت والحرام لا تشبع وما لعملكم المحمود لا يرفع إخواني من شغل نفسه بخدمة المعبود المحمود من خاف من ورود الناس وبئس الورد والمورود
75 افتخار الوحوش على بني آدم
ذكر في بعض الأخبار أن الوحوش تجتمع يوم القيامة فتخر ساجدة فيقال لها ما هذا يوم السجود فتقول إنما سجدنا شكرا لله الذي لم يجعلنا من ولد آدم وجعلنا ممن يشـهد فضائح بني آدم
فالله الله يا إخواني اقبلوا النصيحة قبل يوم الخجل والفضيحة

فإذا كان يوم القيامة وجاءت جهنم بأهوالها يضرب الصراط على متنـها طوله خمسمائة عام وقد قيل طوله ستة وثلاثون ألف سنة من سنين الدنيا أرق من الشعر وأحد من الموسى وقيل أحد من السيف وأحر من الجمر وقد قيل إنـه شعرة من جفن مالك خازن جهنم يمدها على متن جهنم عليه حسك وكلاليب قد تعلق بكل كلوب منـها عدد نجوم السماء من الزبانية لو أن واحدا منـهم أذن الله له أن يتنفس في الدنيا لأحرقها بإنسها وجنـها وجميع ما ذرأ فيها ولأذاب جبالها وجفف بحارها
76 صفة الصراط
والصراط أسود مظلم من شدة سواد جهنم فلا يجوز يومئذ إلا من كان له
نور ولا يكون النور يومئذ إلا من الأعمال الصالحة فمن عمل عملا صالحا نجاه من النار وجاز إلى دار الراحة والقرار
ومن لم يقدم في الدنيا عملا صالحا حجب عن النظر إلى وجه الجبار وهوى في دار الندامة والبوار
في دار عذابها سموم وها حميم وظلها لا بارد ولا كريم وطعامـها الزقوم يتردى والله في دار عذابها أليم ومسكنـها جحيم وساكنـها أبدا في العذاب مقيم يتردى والله في نار قعرها بعيد وعذابها شديد وها صديد ومقامعها حديد وما هي من الظالمين ببعيد
وأنشدوا
أما آن يا أخ أن تستفيقا
وأن تتناسى الحمى والعقيقا
وقد ضحك الشيب في عارضيك
وبانت مساويك فيه بروقا
وركب أتاهم وقد عرضوا
على أتباع المنايا طروقا
أدارت عليهم كؤوس ال
صبوحا } تلازمـهم
أو غبوقا )
وما زال فيهم غراب ال
فيسمعهم للمنايا نعيقا
ويحجل في عرصات القصور
وحتى أعاد الفسيحات ضيقا
ألا فازجر النفس عن غيها
عساك تجوز الصراط الدقيقا
مقام بـه تذهل المرضعات
وتلقى الحوامل وعدا صدوقا
وتبرز للناس نار الجحيم
لها عنق تترامى حريقا
هم المـهل في قعرها
تقطع أمعاءهم والعروقا
إذا طبقت فوقهم لم يكن
لتسمع إلا البكا والشـهيقا
أذلك خير أم القاصرات
تخال مباسمـهن البروقا
قصرن على حب أزواجهن
فمشتاقة تتلقى مشوقا
} لقد فاز من كان للمصطفى
بدار المقامة يوما رفيقا

77 حسن العمل والصراط
فمثل لنفسك يا مسكين وقد جئت إلى الصراط وقد رأيت العاملين وقد جازوا وأنوارهم تسعى بين أيديهم وبأيمانـهم ورأيت الباطلين في ظلمات البطالات وغمرات الجهالات
فالله الله يا جماعة الضعفاء يا من قطع عمره في الخلاف والجفاء خذوا لانفسكم بالاحتياط واحذروا الأهوال الصعبة عند جواز الصراط
لأن الصراط لا يجوزه آثم ولا ينجو منـه ظالم
والصراط حق رقيق لا
ينجو منـه من خالف التحقيق وترك السنة ومنـهاج الطريق الصراط طويل بعيد لا يجوز إلا من أخذ نفسه بالحزم الشديد واستقام على طاعة الولي الحميد
الصراط مـهول مخوف ولا يجوزه إلا من أغاث الملهوف وأطاع الرحيم الرؤوف الصراط صعب مـهول ولا يجوزه إلا من اتبع سنة محمد الرسول وأطاع ربا لا يحول ولا يزول الصراط كثير الزبانية لا يجوزه إلا من أطاع مولاه في الفانية وراقب الله في السر والعلانية
وذكر في بعض الأخبار أنـه لا يجوز الصراط العبد والأمة إلا من بعد نشر الدواوين ووضع الموازين
78 الموازين يوم القيامة
ذكر أن لكل إنسان ميزانا يوزن بـه عمله فمن عمل عملا سيئا خفت موازينـه وهوى في النار وقد قيل إن الميزان هو منصوب بين يدي عرش الرحمن يوزن بـه أعمال العباد
وكان الحسن رضي الله عنـه يقول لكل إنسان ميزان يوزن بـه عمله من خير وشر واستدل على ذلك بقوله تعالى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } الأنبياء 47 الآية
وأما قوله تعالى { فأما من ثقلت موازينـه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينـه } القارعة 8 فهو ميزان الحسنات وميزان السيئات وقوله { ثقلت } و { خفت } فقوله { ثقلت } بقول لا إله إلا الله بالإخلاص و { خفت } من الحسنات بالشرك والنفاق والرياء والسمعة

لأن العبد قد يقول لا إله إلا الله على معصية ويقول لا إله إلا الله والله أكبر على أخذ مال مسلم فإنما ذلك نفاق لأن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال } من قال لا إله إلا الله مخلصا رجح ميزانـه ونجا من النار ودخل الجنة { فقيل يا رسول الله وما إخلاصها فقال أن تزحزحكم عما حرم الله عليكم
79 وزن الأعمال
ذكر في بعض الأخبار أنـه يقدم عبد يوم القيامة للحساب فيخرج له تسعة
وتسعون سجلا مملوءة بالسيئات فتوضع في كفة الميزان فيشتد هم العبد وكربه فيقول الجبار جل جلاله لعبدي عندي ذخيرة ادخرتها له فيأمر الله تبارك وتعالى أن يخرج له رقعة صغيرة فيها مكتوب مات فلان وهو يشـهد ويقول لا إله إلا الله مخلصا
80 كلمة التوحيد
فيقول الله تعالى ضعوها في ميزان عبدي فتوضع في ميزانـه فتميل الميزان بها وترجح على جميع سيئاته فعند ذلك يفرح العبد فيأمر الله تبارك وتعالى بـه إلى الجنة وأنشدوا
أعددت لله حين ألقاه
أشـهد أن لا إله إلا الله
أقولها للإله خالصة
يرحمني في القيامة الله
لعل يوم الحساب أنج بها
يوم العقوبة يوم زاد بلواه
يوم يفوز على الأشـهاد قائلها
ويخسر الجاحدون نعماه
فهي لدار الخلود قائدة
ومن عصى فالجحيم مأواه
من قالها للإله مخلصة
فهو الذي قد أتاه تقواه
وهو الذي في الخلد مسكنـه
الله قد خصه فيها وأرضاه
قد فاز عبد يكون ذاكرها
بدار عدن جوار مولاه
يحظى بدار الخلود قائلها
طوبى لمن قالها وطوباه
من كان عند الممات قائلها
فاز بدنياه وأخراه
فالله لله عباد الله ارغبوا إلى مولاكم أن يثبتكم على الكلمة المباركة الخفيفة في اللسان الثقيلة في الميزان المزينة للديوان بها يرضى الملك الرحمن وبها يسخط اللعين الشيطان وبها ينجو العبد المذنب من النيران وبها يصل العبد إلى نعيم الخلد والآمان
81 فضل الصدقة
ذكر أن العبد إذا قدم إلى ميزانـه وأخرجت سجلات سيئاته أعظم من جبال

الدنيا فإذا وجدت له صدقة طيبة تصدق بها لم يرد بها إلا وجه الله تعالى ولم يطلب بها جزاء من مخلوق ولا رياء ولا سمعة ولا محمدة ولا شكر فإن تلك الصدقة توضع في الميزان بأمر الملك الخلاق فترجح على جميع سيئاته ولو كانت سيئاته مثل وزن الجبال وأنشدوا
يا جامع المال يرجو أن يدوم له
كل ما استطعت وقدم للموازين
ولا تكن كالذي قد قال إذ حضرت
وفاته ثلث مالي للمساكين
واعملوا عباد الله أن الميزان إذا نصب للعبد فهو من أعظم الأهوال يوم القيامة لأن العبد إذا نظر إلى الميزان انخلع فؤاده وكثرت خطوبه وعظمت كروبه فلا تهدأ روعة العبد حتى يرى أيثقل ميزانـه أم يخف فإن ثقل ميزانـه فقد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا وإن خف ميزانـه فقد خسر خسرانا مبينا ولقى من العذاب أمرا عظيما
82 شفاعة الرسول
ذكر في الأخبار أن أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} إذا قدموا إلى الميزان عظمت كروبهم حين أظهرت لهم قبائحهم وعيوبهم ووزنت أوزارهم وذنوبهم وضاقت حيلهم وتغيرت أحوالهم فعند ذلك يأتيهم النبي الشفيع محمد {صلى الله عليه وسلم} فإذا نظر إلى أمته قد تحيروا عند الميزان دعا الله أن يثقل موازينـهم فيأمره الله تعالى أن ينظر إلى موازين أمته فينظر {صلى الله عليه وسلم} إليها فترجح موازينـهم من نظره ونور وجهه {صلى الله عليه وسلم}
ذكر أن الميزان بيد جبريل عليه السلام وله كفتان أحدهما بالمشرق والأخرى بالمغرب وأن الذرة والخردلة والحبة من أعمال العباد من الخير والشر لتوضع في الكفة فتميل بها بقدرة الله تعالى فالله أعلم بحقيقة ذلك
فلا يحقرن أحدكم حسنة يعملها وإن صغرت في عينـه فربما ثقلت الميزان ولا يحقرن أحدكم سيئة يعملها وإن صغرت فربما خففت الميزان
لأن الذنب الصغير في عين محتقره يأتي يوم القيامة وهو في الميزان أعظم من الجبال الرواسي
83 ما يثقل الميزان
قال الله تعالى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا }
الأنبياء 47 الآية

روى أبو هريرة رضي الله عنـه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم { وقيل جاء رجل إلى رسول الله تعالى فقال يا رسول الله جئتك تعلمني علما يدخلني الجنة وينجيني من النار
فقال له النبي {صلى الله عليه وسلم} } ألا أدلك على كلمتين ثقيلتين في الميزان خفيفتين على اللسان ترضيان الرحمن وتسخطان الشيطان تقول سبحان الله والحمد لله فإنـهما المقربتان يقربان من الجنة ويبعدان من النار { فكل من زعم أن الميزان ليس هو حق فقد رد على الله في كتابه وعلى رسوله {صلى الله عليه وسلم} في سنته
84 الرأس في الخير والرأس في الشر
روي عن الحسن رضي الله عنـه أنـه قال يؤتى يوم القيامة بالميزان فتوضع بين يدي الله تبارك وتعالى ثم يدعى العباد للحساب فإذا كان العبد أو الأمة رأسا في الخير يدعو إليه ويأمر بـه دعي باسمـه ثم يقرب من الميزان فتوزن حسناته وسيئاته ولو كانت حسنة واحدة ولو كانت سيئاته أكثر من حسناته وأثقل من جبال الدنيا لأن الله تبارك وتعالى إذا تقبل من العبد أو الأمة حسنة واحدة غفر له جميع ذنوبه وإن كثرت ذنوبه
وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لعائشة يا عائشة لو قبل الله تعالى من العبد سجدة واحدة لأدخله بها الجنة فقالت يا رسول الله فماذا يصنع بأعمال العباد فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأكلها الرياء والسمعة كما تأكل النار الحطب وإذا كان العبد أو الأمة رأسا في الشر يأمر بـه ويدعو إليه دعي باسمـه فقدم إلى الميزان فتوضع حسناته وسيئاته فترجح سيئاته على حسناته ولو كانت سيئاته واحدة ولو كانت حسناته أكثر وأثقل من جبال الدنيا لأن الله تعالى أحبطها ولم يتقبل منـها حسنة واحدة ويأمر بهم ذات الشمال إلى النار
فقال أصحابه رضي الله عنـهم يا رسول الله أما كانوا مسلمين فقال {صلى الله عليه وسلم} كانوا يصلون كما تصلون ويصومون كما تصومون ويزكون كما تزكون ويقومون من الليل برهة ولكن كانوا إذا عرض لهم درهم حرام وثبوا

عليه كالذئاب فأحبط الله أعمالهم بذلك ولم يتقبل منـهم حسنة واحدة وإذا لم يتقبل الله من العباد حسنة واحدة فأحرى أن لا يؤثر في الميزان لأن الحسنات لا تنفع ولا تثقل الميزان إذا لم يتقبلها الله تعالى لأنـه تعالى لا يقبل إلا ما كان لوجهه خالصا
فالله الله عباد الله إذا عملتم عملا فأخلصوا لله فإن الله لا ينفعكم ولا يتقبل منكم إلا ما كان لوجهه خالصا
وأنشدوا
من كان يعلم أن الله باعثه
يوم الحساب لدى نشر الدواوين
فلا يزد بفعال البر أجمعها
إلا الحساب وتثقيل الموازين
فقدموا عباد الله للميزان بلزوم طاعة الرحمن
قدموا للموازين بطاعتكم لسلطان السلاطين
إخواني وأعظم مصيبة وحسرة من خفت موازينـه من الحسنات وأمر بـه إلى العذاب والعقوبات
والويل ثم الويل لمن خفت موازينـه من صالح الأعمال وغضب عليه ذو الجود والإفضال وأمر بـه إلى العذاب والنكال وإلى السلاسل والأغلال
85 وزن أعمال العباد
يا إخواني فإذا وزنت أعمال العباد وخف من خف وثقل من ثقل أمروا أن يمضوا إلى الصراط فيجيء كل إنسان إلى الصراط فيقحم الصراط فمن الناس من يضع عليه قدمـه فيزل من أول قدم يضعه فيهوي في النار ومن الناس من يمشي القليل منـه ويزل في النار ومنـهم من يجوزه كالبرق الخاطف ومنـهم من يجوزه كالريح الهبوب ومنـهم من يجوزه كالطير السريع في طيرانـه ومنـهم من يهرول ومنـهم من يكون كالضعيف إذا مشى ومنـهم من يكون كالمبطون الذي يمشي على يديه ورجليه ومن الناس من يأتي إلى الصراط فتخرج النار فتأخذه فتهوي بـه كل هذا على قدر أعمال العباد وأنوارهم ورتبتهم على قدر القبول من الله تبارك وتعالى بها وعلى قدر تثقيل الموازين وتخفيفها
فإذا أتى العبد من أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} إلى الصراط فمن كان من أهل الذنوب ولم يكن له عمل يجوز بـه على الصراط بقي متحيرا لا يقدر على الجواز
فبينما هم في شدة الفزع من هول الصراط إذ أقبل محمد {صلى الله عليه وسلم}
86 نور الرسول على الصراط

فإذا نظر صلوات الله وسلامـه عليه إليهم كساهم نور وجهه {صلى الله عليه وسلم} ما يجوزهم الصراط فيأخذ كل واحد من نور وجه المصطفى {صلى الله عليه وسلم} على قدر صلاته عليه في الدنيا فيستبق العباد في الجواز على قدر ما أخذوا من النور الذي أخذوه من نور وجه المصطفى وكلما أخذ الخلق من نور وجهه {صلى الله عليه وسلم} زاد الله تبارك وتعالى في النور في وجه الحبيب محمد {صلى الله عليه وسلم} فأكثروا من الصلاة على نبيكم {صلى الله عليه وسلم} فإن صلاتكم عليه مبلغة إليه
87 فضل الصلاة على النبي
قال النبي {صلى الله عليه وسلم} } أنجاكم من أهوال يوم القيامة ومواطنـها أكثركم علي صلاة وأولاكم بشفاعتي أكثركم علي صلاة { فأكثروا من الصلاة عليه يا معشر المذنبين فهو شفيعكم يوم الجزاء والدين {صلى الله عليه وسلم} وعلى آله وصحبه أجمعين وجعلنا بالصلاة عليه من الآمنين من عقابه والفائزين برحمته من عذابه إنـه منعم كريم
وأنشدوا
} ألا أكرم بأحمد ذي المعالي
شفيع الناس في يوم السؤال {
} إذا مد الصراط على جحيم تصول على العباد باستطال {
} إذا كان النبي لنا شفيعا سننجوا من سلاسلها الطوال {
} ولو كانت خطايانا جساما
تشبه بالثقال من الجبال {
} لجزنا في الصراط بغير حزن إلى دار الخلود مع الجلال {
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } يمر الناس على الصراط فالزالون والزالات كثير وأكثر ما تزل النساء ذكر أن الصراط عليه زبانية ينظرون إلى وجوه العباد فمن رأوا في وجهه نورا تركوه أن يتحول ويجوز ومن لم يروا في وجهه نورا كبكبوه في النار ولا يكون النور يومئذ إلا من العمل الصالح
88 جسور جهنم
روى بعض العلماء عن التابعين وعن بعض الصحابة أنـهم قالوا إن جهنم أعاذنا الله منـها عليها سبعة جسور وهي القناطر ثلاثة دون الرب سبحانـه وتعالى الرابعة الوسطى عليها الرب جل جلاله لأحد ولا كيف تسليما وإيمانا وتصديقا
89 القنطرة الأولى

والصراط أحد من السيف فيقول الله تبارك وتعالى حين يبلغون القنطرة الأولى وقفوهم إنـهم مسؤولون ما لكم لا تناصرون فيحبسون فيحاسبون على الصلاة فمن وجدت صلاته تامة نجا من تلك القنطرة ومن لم توجد له صلاة تامة هوى في النار فينجو من نجا ويهلك من هلك
90 القنطرة الثانية
ثم يحبسون على القنطرة الثانية فيحاسبون على الأمانة وهي أمانة الخالق وأمانة الخلق وإذا أراد بعبده خيرا جعل الغنى في قلبه وجعله أمينا لله وأعانـه على أداء الأمانات التي افترض عليه جل جلاله من الوضوء والاغتسال والصلاة والصيام والزكاة وإعطاء كل ذي حق حقه والأمر بالمعروف والنـهي عن المنكر والحفظ لحدود الله فذلك العبد الذي ألهمـه الله تعالى رشده وبصره عيوب نفسه وجعل غناه في قلبه
تأدية الأمانة وتضييعها وإذا أراد بعبده شرا جعل فقره بين عينيه وفي قلبه وكسله عن إداء الأمانات من المفترض الذي افترض عليه وعلى جميع عباده وغيب عنـه رشده وسلط عليه الشيطان فزين له سوء عمله وحبب إليه عيوبه
فإذا كان العبد كذلك فلا يبالي عما قال ولا عما قيل فيه ولا يكون همـه إلا في دنياه وإصلاحها ولا يبالي بتلاف دينـه فذلك العبد الذي قد سخط عليه مولاه وأبعده عن أبواب الخير كلها وقربه من أبواب الشر كلها
قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون } الأنفال 27 91
تضييع الأمانة
ذكر في بعض الأخبار أنـه يؤتى بمضيع الأمانة فيقال له أد ما ضيعت فيقول يا رب ذهبت عني الدنيا فمن أين أؤديها فيخلق له مثلها في قعر جهنم أعاذنا الله منـها فيقال إنزل إليها وأخرجها إلى صاحبها فينزل العبد المسكين إليها فيرفعها على كتفه فهي أثقل من جبال الدنيا كلها فإذا صار الشقي المسكين إلى أعلا جهنم وقعت من كتفه إلى قعر جهنم فيقال له انزل إليها فينزل مرة أخرى ويرفعها فإذا صار إلى أعلا جهنم وقعت منـه فلا يزال هذا عذابه إلى ما شاء الله تعالى من ذلك

هذا كله عند جواز الصراط والله أعلم
وهذا العبد والله أعلم الذي ضيع أمانات الناس
وأنشدوا
خرجت من الدنيا وقد خنت أهلها
وصرت إلى النيران بالوزر والإثم
وطالبني الجبار بالصدق والوفا
وبان لأهل الجمع ما كان من جرمي
وقيل لكل الخلق هذا مضيع
أمانة رب العرش والذكر والحكم
92 القنطرة الثالثة
ثم يحاسبون على القنطرة الثالثة وهي أدنى من الرب جل جلاله بلا تكييف ولا تحديد فيحاسبون على صلة الرحم كيف وصلوها
93 صلة الرحم
ولم قطعوها والرحم يومئذ تنادي اللهم من وصلني فصله ومن قطعني فاقطعه
فينجو من نجا ويهلك من هلك
94 القنطرة الرابعة
ثم يمرون على القنطرة الرابعة فيحاسبون على بر الوالدين فينجو من نجا ويهلك من هلك وهو السؤال العظيم لأن الله تعالى قد قرن شكره بشكر الوالدين فقال جل اسمـه وعز وجهه { أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } لقمان 14 فالله تعالى يقول في بعض كتبه المنزلة
95 شكر الوالدين
أرض والديك فإن رضائي في رضا الوالدين وسخطي في سخط الوالدين فلو أن عبدا جاء يوم القيامة بعمل ألف صديق وكان عاقا لوالديه ما نظر الله تبارك وتعالى في شيء من عمله وكان مصيره إلى النار وما من عبد مسلم أو أمة مسلمة ضحك في وجه والديه أو أحدهما إلا غفر الله له ما كان منـه من الذنوب والخطايا وكان مصيره إلى الجنة
وأنشدوا
} الوالدان إلى شكر الإله وصول والوالدان إلى دار السلام سبيل
} صل والديك ولا تقطع حبالهما ليجزينك في دار البقاء جليل
96 القنطرة الخامسة
ثم يحبسون على القنطرة الخامسة فيحاسبون على حفظ اللسان من الغيبة والنميمة وشـهادة الزور فينجو من حفظ لسانـه ويهلك من سرح لسانـه بما لا يعنيه
لأنـه ليس من جوارح العبد أشد ذنبا من اللسان لأن كلمة يتكلم بها العبد أو الأمة تكون سببا ل النار
97 ترك الغيبة والنميمة

وقد كان بعض الخائفين إذا أصبح أخذ لوحا ودواة وجعلهما بجواره فإذا تكلم كلمة كتبها في اللوح ويقول لنفسه هكذا أثبتها عليك الملك بأمر الملك فإذا غربت الشمس وصلى صلاة المغرب وضع اللوح بين يديه وجعل يقرأ ويبكي ويقول في بكائه ونحيبه وتقريره لنفسه يا نفس كأني بك وقد سئلت عن هذا عند جواز الصراط يا نفس تراك بأي كلمة من هذه تدخليني النار فلا يزال يبكي حتى لا يجد بكاء وتفرغ دموعه فيغشى عليه فإذا أفاق مما هو فيه أخرج اللوح وكتب ما فيه بقرطاس وهو يقول متضرعا يا الله عفوا ورفقا ولطفا بعبدك
فلم يزل هذا دأبه حتى مات فرآه بعض الصالحين في المنام في حالة حسنة فسأله عما لقي من الله تعالى فقال ما يلقى من الكريم إلا الكرم جعل محاسبتي لنفسي في الدنيا بدلا عن الحساب في الآخرة وجعل دموعي التي بكيت في الدنيا أنـهارا ترويني يوم العطش الأكبر وتفضل الكريم علي ب الجنة وبجواز الصراط ومن علي بالفضيلة العظيمة والزيارة الكبرى إلى وجهه الكريم
98 كلمة الشر وعذابها
وقد روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن الرجل ليتكلم بالكلمة فينزل بها في النار بعد ما بين المشرق والمغرب فإذا أراد الله تبارك وتعالى بعبده خيرا أعانـه على حفظ لسانـه وشغله بعيوب نفسه عن عيوب غيره
قيل مر رجل على رجل فسلم عليه فقال له الرجل الذي سلم عليه يا أخي لو كشفت لك عن حالي ما سلمت علي فقال له الرجل الذي سلم عليه يا أخي لو كشفت لي عيوبك لكان في عيوبي ما يشغلني عن جميع عيوبك
فجلس كل منـهما يبكي في ناحية حتى بل كل واحد منـهما الأرض بدموعه ثم تفرقا
99 شـهادة الزور
وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال
من شـهد شـهادة زور على ذمي أو مسلم أو من كان من الناس علق بلسانـه في الدرك الأسفل من جهنم
وفي بعض الأخبار أن شـهادة الزور من أعظم الكبائر عند الله تعالى وشاهد الزور يعلق بلسانـه بكل كلمة في شـهادة الزور وبكل حرف كتب فيها شـهادته ألف عام على الصراط عند القنطرة الخامسة

ولو أن شاهد الزور جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبيا ما نظر الله إليه
وكذلك صاحب الغيبة والنميمة لا يجوز من هذا الصنف الصراط إلا أن يعفو الله أو تدركه الشفاعة
وأنشدوا
} إذا ازدحم العباد لكي يجوزوا تساقط كل جبار أثيم
بقعر النار ليس لهم مغيث
ولا للعاصي يوما من حميم
ومن يطع الإله فسوف ينجو
من التعذيب في قعر الجحيم
إذا نصب الصراط على جحيم
فيالله من هول عظيم
ألا يا معشر الإسلام توبوا
من العصيان للرب الرحيم
إخواني أطيعوا الله في السر والإعلان واعملوا بالسنة والقرآن واتركوا الأوزار والعصيان واحذروا من هول الصراط المنصوب على سموم النيران
00 القنطرة السادسة
ثم يحبسون على القنطرة السادسة فيحاسبون على حفظ الجار فينجو من حفظ جاره وأكرم ضيفه ويهلك من خان جاره ولم يكرم ضيفه
01 إكرام الضيف
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه {
وكرامته أن يكرمـه لوجه الله وتكون ضيافته من حلال وأما من أنفق على ضيفه من حرام فإنـه لا ثواب له
فما أنفق على الضيف في الخمر أو مما لا يرضى الله تعالى بـه فإن ذلك الضيف يأتي يوم القيامة يتعلق هذا بهذا ويلعن هذا بهذا ثم يأتيان إلى الصراط وكل واحد منـهما يلوم صاحبه ويقول له لعنك الله الذي ساعدتني على الإنفاق في غير الله ثم يقال لهما جوزوا الصراط ففي أول قدم يضعان على الصراط يهويان في النار
02 البركة مع الضيف
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } الضيف إذا دخل بيت المؤمن دخلت معه ألف بركة وألف رحمة ويكتب الله تعالى لصاحب المنزل بكل لقمة يأكلها الضيف حجة وعمرة {
وعن ابن عباس رضي الله عنـهما أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال درهم ينفقه الرجل على ضيفه أفضل من ألف دينار ينفقها في سبيل الله ومن أكرم الضيف لوجه الله أكرمـه الله تعالى يوم القيامة بألف كرامة وخلصه من النار وأدخله الجنة

وقد جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنـها أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان يقول لها يا عائشة لا تتكلفي للضيف فتمليه وإنما أراد {صلى الله عليه وسلم} مداومتها على إكرام الضيف
وفي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنـه قال قال لي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا علي إذا جاءك الضيف فاعلم أن الله تعالى قد من عليك إذ بعثه إليك ليغفر لك ذنبك بذلك
03 ينزل الضيف برزقه
وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنـه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } أيها الناس لا تكرهوا الضيف فإنـه إذا نزل نزل برزقه وإذا رحل رحل بذنوب أهل المنزل {
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنـه ما من منزل ينزل فيه ضيف إلا بعث الله تبارك وتعالى إلى ذلك المنزل قبل نزول الضيف بـه بأربعين يوما ملكا على صورة طائر ينادي يا أهل المنزل فلان بن فلان ضيفكم في يوم كذا وكذا والخلف من الله من باب كذا وكذا فتقول الملائكة الذين وكلوا بأهل الدار وبعد الخلف ما يكون فيخرج لهم ذلك الملك كتابا فيه مكتوب قد غفر الله لأهل المنزل ولو كانوا في ألف
وفي حديث آخر أنـه قال ما من عبد من عباد الله المؤمنين أكرم ضيفا لوجه الله الكريم إلا نظر الله إليهم إن كانوا جماعة فإن كان الضيف من أهل الجنة وكان رب المنزل من أهل النار جعله الله تعالى من أهل الجنة بإكرامـه ضيفه
وفي حديث آخر أن الضيف ورب المنزل وأرباب المنزل إن كانوا جماعة يأتون الصراط فيأخذ كل واحد منـهم بيد صاحبه فيجوز الصراط أسرع من البرق اللامع فإن لم يكن فيهم من له عمل يجوز الصراط أمر الله الملك الموكل بنفقة الضيف أن يأخذ بيدهم ويجوز الصراط ولو كانوا مئة ألف
04 إطعام الطعام
وإطعام الطعام ينقسم على ثلاثة أوجه مخلوف ومسلوف ومتلوف فالمخلوف الذي يطعم لوجه الله لا يريد بـه غير الله تعالى ولا يطلب بـه جزاء من مخلوف والمسلوف الذي تضيفه مرة ويضيفك أخرى
والمتلوف كل ما كان إطعامـه على المعاصي

والمخلوف والمسلوف فيهما الأجر إلا أن المخلوف أعظم أجرا والمتلوف هو حسرة وندامة يوم القيامة
وأنشدوا
يا مكرم الضيف للرحمن خالقنا
عند الصراط ستلقى الخير موفورا
} أكرم ضيوفك كي ترجو الجواز غدا
على الصراط وترجو الخلد مجبورا
05 حفظ الجار
وأما حفظ الجار فإن العبد أو الأمة يسأل عن حفظه فمن حفظ جاره جاز
الصراط ونجا من العذاب الأليم وصار إلى جنة الخلد ودار النعيم
وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان وجاره جوعان أو بات ريان وجاره عطشان { ومن كرامة حفظ الجار أن توقظه من الغفلات تلهمـه إلى الطاعات وتأمره بإقامة الصلوات
06 تعلق الجار بالجار
ذكر في بعض الأخبار أن الجار يتعلق بجاره يوم القيامة فيقول يا رب جاري هذا خانني في الدنيا
فيقول الله تبارك وتعالى لم خنت جارك فيقول وعزتك وجلالك ما خنته لا في مال ولا في أهل وأنت أعلم بذلك
فيقول له جاره ما فعلت ذلك ولكن رأيتني على المعاصي فلم تزجرني عنـها فيؤمر بـه وبصاحبه إلى النار ولا يغفر الله لهما
وما من عبد مسلم أو أمة مسلمة حفظ جاره وأمره بالمعروف ونـهاه عن المنكر إلا جوزه الله تبارك وتعالى على الصراط قبل العباد بخمسمائة عام
07 الوصية بحفظ الجار
وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لقد أوصاني ربي ليلة أسري بي بحفظ الجار حتى ظننت أنـه سيورثه { وبعض العلماء يرى شفاعة الجار
فكل من حفظ الجيران فقد أطاع الرحمن وأسخط الشيطان وعمل بالسنة والقرآن
روي أن الرجل الصالح والمرأة الصالحة يشفعان يوم القيامة في سبعين من جيرانـهما ويجوزانـهم على الصراط
عباد الله من حفظ الجار نجا من النار وجاز الصراط إلى دار القرار ومن حفظ الجار فقد عمل بالسنة والكتاب وأطاع الملك الوهاب وأسخط الشيطان اللعين الكذاب وما من جار يلقى جاره المسلم فيسلم عليه إلا غفر الله لجاره ولو كان له ألف جار
حفظ الجار قربة ووسيلة ودرجة عند الله وفضيلة
وأنشدوا

يا حافظ الجار ترجو أن تنال به
عفو الإله وعفو الله مذخور
الجار يشفع للجيران كلهم
يوم الحساب وذنب الجار مغفور
08 القنطرة السابعة
ثم يحبسون على القنطرة السابعة فيسألون عن الصدق فمن حفظ لسانـه عن الكذب نجا من الصراط ونجا من النار وصار إلى الجنة مع الأبرار
09 الصدق والكذب
ومن كذب فقد خالف الكتاب والسنة وقد حرم نعيم الجنة
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إذا كذب المؤمن كذبة من غير عذر تباعد منـه الملكان مسيرة سنة من نتن ما جاء بـه وكتب الله تبارك وتعالى عليه بكذبة ثمانين خطيئة أقلها كمن يزني بأمـه 110
كذبة المؤمن بثمانين خطيئة
وإذا كذب المؤمن من غير عذر يخرج من فيه شيء منتن حتى يبلغ العرش فتلعنـه حملة العرش ويلعنـه ثمانون ألف ملك ويكتب عليه ثمانون خطيئة أقلها مثل جبل أحد
الكذب نفاق والكذب من الكبائر وإذا استحل العبد الكذب فقد استحل المحارم كلها وإذا لم يستحل العبد الكذب لم يقدر أن يباشر شيئا من محارم الله وأن الصادق إذا جاء الصراط سبقه نور وجهه مسيرة مئة عام يعني على الصراط ومن صدق عمل بكتاب الله واتبع سنة رسول الله والصادق أسرع جوازا على الصراط وأسرع الناس ا الجنة
والكاذب في أول قدم يضعها على الصراط يهوي في النار فلا ينجو من الجسر السابع وهو أصعبها إلا من صدق ويهلك من كذب جعلنا الله وإياكم برحمته ممن صدق فنجا
وأنشدوا
أصدق يريك إله العرش جنته
يوم المعاد ولا تولع بتكذيب
إن الصدوق لدى الرحمن منزله
دار الخلود بلا موت وتعذيب
يوم الجزاء على متن الصراط إلى
دار النعيم بلا حزن وتكئيب
ذكر في بعض الأخبار أن الصادق يجوز على الصراط وهو لا يشعر بـه ولا يهوله فالله الله عباد الله كونوا من الصادقين ولا تكونوا من الكاذبين وتأسوا بخاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
11 نجاة الصادقين

ذكر في بعض الأخبار أن الناس الذين ينجون من الصراط وهوله يحبسون بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينـهم في الدنيا حتى إذا نقوا وهذبوا أذن لهم ب الجنة
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } فوالذي نفسي بيده إن أحدهم مسكنـه في الجنة أدل منـه لمسكنـه الذي كان في الدنيا { يا لها من كرامة ويا لها من نعمة ويا لها من منة ويا لها من فرحة
فقدموا عباد الله في اليسير من الأوقات والقليل من الساعات ما يجوزكم الصراط ويقيكم الآفات
الصراط على متن جهنم ممدود لا يجوزه إلا من خاف من أهوال اليوم الموعود وأطاع الملك المعبود الغفور الودود
12 الصلاة تجوز على الصراط
ذكر في بعض الأخبار أن من صام ثلاثة أيام من كل شـهر وقام في ليلة من لياليها يصلي عشر ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد ثلاث مرات فإذا فرغ من صلاته صلى على محمد {صلى الله عليه وسلم} عشر مرات ثم يقول سبحان من كان ولا مكان سبحان الموجود بكل حين وأوان سبحان المعبود في كل أوان سبحان المسبح بكل لسان سبحان المنجي من الهلكات سبحان خالق الأرضين والسموات جوزه الله تبارك وتعالى على الصراط أسرع من البرق الخاطف ولا يؤذيه حر النار ويمضي إلى الجنة مع أول زمرة من الصحابة والتابعين ويشفعه الله تعالى في سبعين من أهله وجيرانـه
وهي أفضل ما يصام من الشـهر وهي يوم ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } يمر الناس على الصراط فالزالون والزالات كثير وأكثر ما يزل النساء وجبريل عليه السلام آخذ بحجزتي إذا عصفت الريح بأمتي فصاحوا يا محمداه فلولا أن جبريل عليه السلام آخذ بحجزتي لأغثت أمتي
فيبادرون جوازا فلا يجوزه ظالم فيبقون متحيرين ثم يتداركهم الله برحمته وبفضل دعائي لهم فيقول جوزوا على الصراط بعفوي فيجوزوا اللهم اغفر لنا جميعا برحمتك
وأنشدوا
لو علم الخلق ما يراد بهم
وأيما مورد غدا يردوا
ما استعذبوا لذة الحياة ولا
طاب لهم عيش إذا رقدوا
خوفا من العرض والصراط على

نار تلظى وحرها يقد
والناس في هول موقف عسر
قد عاينوا هوله الذي وعدوا
يا لك من موقف يفوز به
قوم هم للجنان قد وفدوا
مع النبي قد اصطفاه خالقنا
صلى عليه المـهيمن الصمد
عباد الله اشتروا أنفسكم من مولالكم باليسير من الأعمال وبالقليل من الأفعال وبالطيب من الأقوال من قبل حبسكم على الصراط لشدة الأهوال يوم لا بيع فيه ولا خلال بين يدي الكبير المتعال
13 كيفية الجواز على الصراط
ذكر في بعض الأخبار أن الناس ينقسمون في جواز الصراط سبعة أقسام فيجوز أول قسم من الرجال والنساء كطرفة عين والقسم الثاني كالبرق الخاطف والقسم الثالث كالريح العاصف والقسم الرابع كالطير المجد والقسم الخامس كالخيل في جريها والقسم السادس كالماشي والقسم السابع كالمـهرول
14 أقسام الناجين على الصراط
فأما القسم الأول فهم أصحاب الصدقات وقوام الليل والعلماء يقدمونـهم
والقسم الثاني هم الذين استقاموا على أداء الفرائض ولم يفرطوا فيها وأدوها في أوقاتها
والقسم الثالث هم الذين أدوا الزكاة ولزموا صحبة العلماء وأحبوهم
والقسم الرابع هم الذين وصلوا أرحامـهم وطلبوا بصلتها رضاء مولاهم
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه أوصى عند موته بصلة الرحم وما من عبد وصل رحمـه بنفسه أو ماله إلا جعله الله تعالى يوم القيامة على الصراط كالذي يمشي في
رياض الجنة ولا يرى من أهوال الصراط شيئا ويدخل الجنة مع أول زمرة تجوز الصراط وأنوارهم تسعى بين أيديهم وبأيمانـهم
والقسم الخامس هم الذين غضوا أبصارهم عن محارم الله وصانوا فروجهم عن الفواحش وحفظوا أزواجهم عما لا يحل لهن وحجبوهن ولاطفوهن ورفقوا بهن كما قال {صلى الله عليه وسلم}
15 حديث في العناية بالنساء
النساء ودائع الأحرار ولا يعزهن إلا عزيز ولا يذلهن إلا ذليل والذليل عند الله في النار وكذلك المرأة إذا عزت زوجها وأطاعته فيما يرضي الله تعالى
والقسم السادس هم الذين تجنبوا الربا والحرام وتجنبوا الخيانة في المكيال والميزان
وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}

كل مال خالطه الربا فهو زاد صاحبه إلى النار
16 آكل الربا
وقد ذكر أن آكل الربا يأتي الصراط فيجعل الله تبارك وتعالى كل درهم وكل حبة وكل ثوب وكل لقمة وكل شيء أكل أو اكتسبت يداه من الربا ثعبانا من نار يخطفه من على الصراط يهوي بـه في قعر جهنم مع اليهود ومن تاب تاب الله عليه وغفر له ما جنى
والقسم السابع هم الذين بروا الوالدين وبروا الأزواج وبروا الجيران وبروا الإخوان ولزموا المساجد وأمروا بالمعروف ونـهوا عن المنكر وحفظوا حدود الله ولم تأخذهم في الله لومة لائم وعملوا بكتاب الله وسنة رسوله {صلى الله عليه وسلم}
وأنشدوا
} أتطمع بالنجاة وكيف تنجو ولست على نجاتك بالحريص
ولو في نيلها أعملت حرصا
لنلت الفوز بالثمن الرخيص
ولكني أراك تريد عزا
وحالك حال ممتهن نقيص
} وليس لمن تعرض للمعاصي
هديت عن الضلالة من محيض
17 المتصدقين سرا وعلانية
يا أحبابي إذا جاز الناس الصراط وجدوا خلقا كثيرا نساء ورجالا قد سبقوهم إلى الجنة فيقولون من هؤلاء الذين سبقونا فتقول لهم الملائكة هؤلاء الرجال
الذين تصدقوا في السر ابتغاء وجه الله وتصدقوا في العلانية ليحببوا الصدقة إلى عباد الله هؤلاء الذين فرجوا عن المكروبين
وهؤلاء النسوة اللواتي أطعن أزواجهن وحفظن فروجهن وحفظن ألسنتهن عن أذى الزوج وعن أذى الجيران وتصدقن في السر والإعلان تسبق هذه الزمرة جميع الناس إلى الصراط وجوازه بخمسمائة عام
ومن كان من إخوانـهم من أهل الذنوب جازوا في شفاعتهم فإذا جازت أول زمرة من الأولين السابقين وزمرة المتأخرين يبقى رجل واحد فيضع قدمـه الواحدة فتنزل فيبقى بالقدم الأخرى فيركب الصراط على بطنـه والنار تصيبه على قدر ذنوبه
18 آخر من يبقى على الصراط
فلا يزال يحبو ويتدرج ويبكي ويتضرع إلى الله تعالى حتى يجوز فإذا جاز ونجا رد رأسه ونظر إلى الصراط وأهواله وأهوال أهل النار وعواء أهل النار في النار فيقول سبحان الذي خلصني منك ونجاني من أهوال النار

فبينما هو ينظر إلى الصراط ويقول هذا القول يبعث الله تعالى إليه بلطفه ملكا من ملائكته فيأتيه فيأخذه بيده ويقول له قم يا عبد الله فينطلق إلى غدير من ماء على باب الجنة فيقول له الملك اغتسل من هذه الماء واشرب منـه فيغتسل العبد ويشرب كما أمره الملك فيعود كالقمر الطالع ليلة التمام وتعود رائحته كرائحة أهل الجنة ولونـه كألوان أهل الجنة ثم ينطلق بـه إلى قرب جهنم فيقول له قف ها هنا حتى يأتيك إذن من ربك فينظر إلى أهل النار ويسمع عواءهم كعواء الكلب يستغيثون من شدة العذاب فإذا سمع العبد أهل النار وما هم فيه بكى وقال يا رب اصرف وجهي عن أهل النار حتى لا أنظر إليهم ولا أسمع صوتهم ولا أسألك غير هذا فيأتيه ذلك الملك من عند رب العالمين فيحول وجهه عن أهل النار إلى أهل الجنة فينظر إلى ناحية أهل الجنة فيرى بينـه وبين باب الجنة روضة خضراء ما رأى أحد قط مثلها ثم ينظر إلى باب الجنة وجماله وعرضه مسيرة أربعين يوما للطير المسرع والله أعلم من أي الأعوام يقول يا رب قد أحسنت إلي الإحسان كله جوزتني الصراط وأنجيتني من النار وأدنيتني من باب الجنة هذه الروضة أسألك أن تبلغني إليها ولا أسألك غير ذلك فيأتيه ذلك الملك فيقول له يا ابن آدم ما أكذبك ألست قد عزمت أنك لا تسأل غير هذا المقام فيأخذ بيده وينطلق بـه للروضة فيدخله فيها
19 باب الجنة

فينظر إلى باب الجنة وإلى بهجة تلك القصور وأطرافها من الجندل الأخضر وحصباؤها من الياقوت الأحمر فيستنشق نسيم طيب الكافور والمسك ويسمع حسن تغريد الأطيار وخرير تلك الأنـهار وما لا تصفه ألسنة الواصفين ولا يخطر ببال المتفكرين فإذ 1 ا سمع العبد ذلك كله استخفه الطرب فيقول يا مولاي لقد أنعمت علي نعمنا أكمل النعم جوزتني الصراط وأنجيتني من النار وصرفت وجهي عن أهل النار حتى لا أراهم ولكن أسألك يا سيدي ومولاي أن تدخلني الجنة فاجعل هذا الباب بيني وبين أهل النار حتى لا أسمع حسيسهم ولا أرى عذابهم فيأتيه ذلك الملك فيقول له ابن آدم ما أكذبك ألست قد زعمت أنك لا تسأل غير ما قد سألت فيقول وعزتك يا رب لا سألتك غيره
فيأخذ الملك بيده فيدخله الباب فينظر العبد عن يمينـه وعن شماله مسيرة سنة فلا يرى إلا الشجر المثمر ما رأى قط مثلها ولا خطر على قلب آدمي ولا جني فينظر إلى أدنى شجرة فيرى عندها روضة فيها شجرة أصلها ذهب وأغصانـها فضة وورقها حلو ما رأى مثلها قط آدمي ولا جني ولا خطر على قلب بشر وثمرها ألين من الزبد وأحلا من العسل فيقول العبد يا رب لقد أنعمت علي عبدك وتفضلت نجيتني من النار وأدخلتني الجنة وأعطيتني وأرضيتني وإنما بيني وبين هذه الروضة قليل فبلغني إليها فوعزتك لا سألتك غيرها
فيأتيه ذلك الملك فيقول له يا ابن آدم ما أكذبك ألست قد زعمتا أنك لا تسأل غير ما سألت يا ابن آدم أين أقسمت بـه أما تستحي من الله
20 منازل الجنة
فيأخذ بيده فينطلق بـه إلى أدنى منزل من منازلها فإذا هو بقصر من لؤلؤة بيضاء بين يديه فلا يملك نفسه حين ينظر إليه فيقول يا رب أسألك هذا المنزل ولا أسألك غيره

فيأتيه الملك من عند الله سبحانـه فيقول له لله يا ابن آدم ما أكذبك ألست أنك قد زعمت أنك لا تسأل غير ما أنت فيه فينظر بين يديه فإذا بمنزل كأنما المنزل الأول والثاني وجميع ما خلق ورآه حلما فيسأله فيعطى فلا يزال كذلك حتى يعطى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فلو نزل في أدنى قصر من قصور الجن والإنس لكان عنده من الكراسي ما يجلسون ويتكئون عليها ولكان عنده من الموائد ما يفضل عنـهم ولكان عندهم من الطعام وال
ما يأكلون وإذا أكلوا وشربوا لم ينقص من الطعام وال إلا بقدر ما أصاب رجل واحد { وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } الشورى 36 وأنشدوا
مقام المتقين غدا جليل
يطيب لهم مع الحور المقيل
} وأنوار عليهم مشرقات
إذا ناداهم الملك الجليل
21 فائدة للجواز على الصراط
ذكر في بعض الأخبار أن العبد أو الأمة إذا ذكر الصراط وهوله وصعوبته ورقته وطوله وبعد مسافته ثم بكى ثم قام فصلى عشر ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد ثلاث مرات ويسلم عن كل ركعتين فإذا فرغ من العشر ركعات صلى على لنبي {صلى الله عليه وسلم} وشرف وكرم مائة مرة ثم قال سبحان الله من خلق ما شاء وقضى بما شاء والحمد لله على كل شيء ثلاث مرات ثم يقول اللهم جوزني الصراط ونجني من هوله الله لا إله إلا أنت لا شريك لك وصلى الله على سيدنا محمد وآله
فمن صلى هذه الصلاة وقال هذا القول جوزه الله تبارك وتعالى الصراط وهو لا يشعر بـه ولا يهوله مع أول زمرة تمر إلى الجنة
فاغتنموا رحمكم الله هذا الثواب وتحصنوا بـه من أليم العذاب يا أولي العقول والألباب لأن الصراط حاد رقيق وطريقه أبعد الطريق يا له من طريق ما يعين على جوازه أخ ولا صديق إلا عمل صالح ورب رفيق
واعلموا وفقنا الله وإياكم أن العمر يذهب والدنيا تفنى وتخرب والنفس تموت والمرد إلى الحي الذي لا يموت

فاستعدوا بكثرة الأنوار وبالصلاة وفعل الخير في الليل والنـهار وبالطاعة للنبي السيف المختار وبالعمل بكتاب الملك الواحد القهار وابكوا على هول الصراط المنصوب على متن النار يسره الله لنا وهونـه علينا آمين رب العالمين إنـه قريب مجيب
22 شفاعة الناس بعضهم لبعض
ذكر أن العبد إذا جاوز الصراط وخلص ذكر في ذلك الموقف أباه وأبناءه وإخوانـه وجيرانـه فعند ذلك يسأل الصديق في صديقه والوالد في ولده والجار في جاره والرجل في زوجته والمرأة في زوجها والإمام في جماعته التي كان
يصلي بها فيشفع كل واحد منـهم على قدر عمله ومنزلته عند ربه
روى قتادة عن الحسن البصري رضي الله عنـه أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال له بعض أهله يا رسول الله هل يفكر الرجل يوم القيامة في حميمـه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد أحدا عند الميزان حتى ينظر أيثقل ميزانـه أم يخف وعند الصراط حتى ينظر أيجوز أم لا وعند الصحف حتى ينظر أبيمينـه يأخذ الصحيفة أم بشماله فهذه ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد حميمـه ولا صديقه ولا حبيبه ولا قريبه ولا بنيه ولا والديه وذلك قول الله تبارك وتعالى { لكل امرئ منـهم يومئذ شأن يغنيه } عبس 37 هو مشغول بنفسه عن غيره من شدة الأهوال العظام أسأل الله أن يسهلها لنا برحمته ويهونـها علينا بمنـه ولطفه وأنشدوا
بكيت على هول الصراط وذكره
وهو زفير النار من أعظم الذكر
وكيف يطيق الصبر من كان عاصيا
لخالق كل الخلق في السر والجهر
ومن يك ذا خوف شديد لهوله
فإن له أمنا من الهول في الحشر
فليس لمن يبكي لهول صراطه
جزاء سوى دار النعيم مع الفخر
فيا له من هول فظيع يجوزه
رجال أطاعوا الله في سالف العمر
عباد الله تفكروا في هول الصراط الرقيق البعيد وأشفقوا من الهول العظيم الشديد وأطيعوا الجبار الولي الحميد
23 لا تقبل صلاة الخمر

ذكر أن الخمر إذا أتوا على الصراط تخطفهم الزبانية فتهوي بهم إلى عين الخبال وهي قيح أهل النار فيسقون بكل كأس شربوا من الخمر في الدنيا شربة من الخبال لو أن تلك الشربة تصب من السماء السابعة لأحرقت السماوات والأرضين بمن فيهن ومن عليهن والأصل في شارب الخمر أنـه يخطف من على الصراط لأنـه ليس في وجهه نور لأن النور لا يكون من العمل الصالح وشارب الخمر ليس له عمل صالح والأصل فيه أن الأعمال كلها لا تقبل إلا ممن صلى لأن الصلاة هي رأس الأعمال وشارب الخمر لا تقبل منـه صلاة ما دام مصرا على شرب الخمر فإذا لم تقبل منـه صلاة فلم لا يقبل منـه سائر عمله فيأتي إلى الصراط ووجهه أسود وقد عهد إلى الزبانية الذين على الصراط أن لا يتركوا أن يجوز إلا
من له ومن ليس له نور أن يكبوه في النار إلا من تاب وترك الخمر ورجع إلى الله تعالى
24 التوبة من الخمر وثوابها
يا إخواني اعلموا أن شارب الخمر إذا تاب وترك الخمر لوجه الله تعالى كان يوم القيامة أفضل وأكثر نورا على الصراط وأسرع جوازا ممن لم يشربها فالله الله يا معشر المذنبين توبوا إلى مولاكم أسرع الحاسبين يغفر لكم ذنوبكم أجمعين
25 فضل المؤذنين
ذكر في بعض الأخبار أن المؤذنين إذا أتوا إلى الصراط يجدون نجائب من نور مسرجة بسرج الياقوت والزبرجد فيركبونـها فتطير بهم على الصراط ويشفع كل واحد منـهم عند جواز الصراط في أربعين ألفا كلهم قد استوجبوا النار ويجوز في نور المؤذن ألف رجل وألف امرأة وفي حديث آخر أن المؤذن إذا جاء إلى الصراط سبقه نور الآذان ونور لا إله إلا الله ونور محمد رسول الله ونور الدعاء الذي يدعو الناس إلى توحيد الله تبارك وتعالى فيجوز الصراط في نور المؤذن أربعون ألفا ممن ليس لهم نور وهم أهل الذنوب والخطايا

روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ما من عبد مسلم حان عليه وقت الصلاة في أرض قفراء أو موضع ليس فيه جماعة فقام فأذن ثم أقام فصلى إلا وأم من جنود الأرض ما لا يحصي عددهم إلا الله تبارك وتعالى ويكتب الله له بعددهم حسنات ويمحو بعددهم سيئات ويرفع له بعددهم في الجنة درجات لو دخل في أدنى درجة من درجاته الجن والإنس لوسعتهم ولكان فيها من الفرش والأسرة والموائد والطعام وال والخدم ما يفضل عنـهم وإن لم يؤذن واقتصر على الإقامة وحدها لم يصل خلفه إلا ملكاه اللذان يكتبان {
وفي حديث آخر إذا أذن العبد المسلم في فلاة من الأرض ثم أقام فصلى جعل الله تبارك وتعالى خلفه سبع صفوف من الملائكة المقربين أحد طرفي الصف بالمشرق والآخر بالمغرب فإذا فرغ من صلاته ودعا أمنوا على دعائه ويكتب الله تبارك وتعالى له بعددهم حسنات ويمحو عنـه جل وعلا بعددهم سيئات ويرفع له تعالى بعددهم درجات كل درجة أعظم من الدنيا سبعون ألف مرة فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر
فإذا جاء يوم القيامة إلى الصراط جاء معه أصحابه من الملائكة الذين صلوا خلفه كل ملك منـهم معه نور من نور الجنة فيأخذون بيده وبأيدي أهله وبأيدي إخوانـه الذين صحبوه وأحبوه في الله فيفرقون عليهم من تلك الأنوار ويجوزونـهم الصراط في شفاعته ويمضون معه إلى الجنة ولا يرون من هول الصراط ولا من حره ولا صعوبته شيئا
26 فضل العلماء
ذكر في بعض الأخبار أن العلماء إذا أتوا إلى الصراط تكون وجوههم كالشمس الضاحية وأنوارهم بين أيديهم وبيد كل عالم منـهم لواء من نور الجنة يضيء له مسيرة خمسمائة عام وتحت لواء العالم كل من اقتدى بعلمـه وكل من أحبه في الله ومناد ينادي هؤلاء أحباء الله هؤلاء أولياء الله هؤلاء الذين خلفوا الأنبياء هؤلاء الذين علموا عباد الله هؤلاء الذين دعوا إلى الله هؤلاء الذين حفظوا حدود الله هؤلاء مصابيح الدجى هؤلاء أئمة الهدى

فإذا دنوا من الصراط يوضع على رأس كل واحد منـهم تاج من نور الجنة لو وضع ذلك التاج في السماء السابعة العليا لخرق نوره إلى الأرض السابعة السفلى ويكسى كل واحد منـهم حلة من حلل الجنة لو نشرت تلك الحلة بين السماء والأرض لغطى نورها نور الشمس ولمات الخلائق كلهم عشقا إلى رؤيتها ولملأت الأرض والبحار من رائحة المسك وينزل على رأس كل واحد منـهم غمامة من نور تقيه من حر شرر جهنم ومن حر الشمس
وأنشدوا
يا طالب العلم ترجو أن تنال به
عفو الإله وعفو الله موجود
اطلب بعلمك وجه الله خالقنا
إن الصراط على النيران ممدود
عفو الإله لأهل العلم نائلهم
وعفوه عند أهل الجهل مفقود
فاحرص هديت على التعليم مجتهدا
وأنت عند إله العرش محمود
فاعمل بعلم رسول الله سيدنا
وأنت بين عباد الله مسعود
واعلموا أن الله تبارك وتعالى لا يقبل عملا بلا علم
قال الله تبارك وتعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } فاطر 28 فالعلماء قد أثبت لهم الجبار الخشية والتقى
قال الله تعالى { إنما يتقبل الله من المتقين } المائدة 27 ومن لا يعلم لا يتقي وكيف يتقي من لا يدري ما يتقي
وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
} تعلموا العلم فإن تعلمـه لله خشية وطلبه عباده ومدارسته تسبيح والبحث عنـه جهاد وتعليمـه لمن لا يعلمـه صدقة بـه يعرف الله ويعبد وبه يحمد الله ويوحد { هو إمام العمل والعمل تابعه يرفع الله بالعلم أقواما فيجعلهم للخير قادة وأئمة يقتدى بهم وينتهي إلى رأيهم
فقد بين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن العبادة لا تكون إلا بالعلم لقوله {صلى الله عليه وسلم} } بـه يعرف الله ويعبد { ويستوفي ذكر فضل العلم في قول الله تبارك وتعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } والمقصود في هذا الموضع ذكر الصراط والجواز عليه
27 فضل حملة القرآن

ذكر في بعض الأخبار أن حملة القرآن يحشرون يوم القيامة على كثبان من مسك أسود وأنوار وجوههم تغشى بالأبصار فإذا أتوا إلى الصراط تلقتهم الملائكة الذين وكلوا بحملة القرآن فتأخذ بأيديهم وتضع التيجان على رؤوسهم والحلل على أجسامـهم وتقرب إليهم خيلا من نور ا لجنة عليه سرج من المسك الأذفر والعنبر الأشـهب ألجمـها من اللؤلؤ والياقوت يركبونـها فتطير بهم على الصراط ويجوز في شفاعة كل واحد مائة ألف ممن قد استوجب النار ومناد ينادي هؤلاء أحباب الله هؤلاء أولياء الله الذين قرءوا كتاب الله وعملوا بـه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وهم أهل الله وهم أحباب الله من أحبهم في الدنيا أحبه الله فجاوزا الصراط وخلفوه بلا هول ولا هم ولا حزن ولا غم
وهذا إذا عملوا بالقرآن ووقفوا عند أوامره ونواهيه وأحلوا حلاله وحرموا حرامـه وآمنوا بمحكمـه ووقفوا عند متشابهه وسارعوا إليه { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } المجادلة 22 { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } الأنعام 90 أولئك أولياء الله الصالحون أولئك الذين رضي الله عنـهم ووفقهم وهداهم وآتاهم تقواهم
28 من لم يعمل بالقرآن
وأما حامل القرآن إذا لم يعمل بـه فإنـه يأتي إلى الصراط فتستقبله الزبانية بمقامع الحديد وأرازب النار وتسود وجوههم على قدر ما ضيعوا من العلم فمن تعلم علما للتجبر والمباهاة أو الرياء أو السمعة ولم يرد بـه وجه الله تعالى وطلب
عليه الرشا والبراطيل وكتمـه ولم ينصح بـه عباد الله وطلب بـه الرياسة وصحبة الملوك ومشى بـه إلى أبواب أبناء الدنيا وإلى دور الظلمة وأهل الجور وحكم بـه بغير العدل ألجم بلجام من نار جهنم وكان عمله عليه حجة وغمة ومحنة وحسرة وندامة وظلمة على الصراط

ثم يكون العلم للعامل نورا وفرحة وسرورا وجنة وحبورا ينظر المغرور المسكين إلى وفود العلماء وزمر الأولياء وألويتهم على رؤوسهم منشورة وقلوبهم مما بشروا بـه من الفوز بالجنان مسرورة وأنوارهم تسعى بين أيديهم وبأيمانـهم والملائكة تنادي أدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون وأنت في ظلمك حيران أيقنت بالحلول في سموم النيران إلا أن يتداركك بعفوه الملك الديان
وقد أخذ الملك بيدك وهو ينادي عليك ولجام النار في فمك لو كان ذلك اللجام في الدنيا لأحرقها من مشرقها إلى مغربها وينادي عليك هذا الذي ضيع حدود الله هذا الذي خالف أوامر الله هذا الذي بدل عهد الله وخالف كتاب الله وسنة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وآثر حب الدنيا على ما عند هؤلاء
يا مسكين أخذت على العلم أجرة وبرطيلا واشتريت بـه ثمنا قليلا ولم تراقب مولى كريما جليلا وتركت وراءك يوما هائلا ثقيلا وخسرت يا مغرور ملكا كبيرا دائما جزيلا
29 فسقة حملة القرآن
ذكر في بعض الأخبار عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منـهم إلى عبدة الأوثان والنيران فيقولون ويبدأ بنا قبل عبدة الأوثان والنيران فتقول لهم الملائكة ليس من يعلم كمن لا يعلم وفي حديث آخر إن الملائكة الذين جعلهم الله على الصراط إذا نظروا إلى حملة القرآن الفساق أخذوهم
وزجوا في أقفيتهم وألقوهم في جهنم أو يعف الله تعالى عنـهم
اللهم اعف عنا وعن جميع إخواننا المسلمين واجعل القرآن حجة لنا لا تجعله حجة علينا يا أرحم الراحمين
وأنشدوا
عظمت مصيبة حامل القرآن
إن كان ملجأه إلى النيران
فهو الجزاء لمن عصى رب العلا
دار العذاب وموقف الخسران
عظمت خسارته وجل مصابه
عند الصراط بظلمة وهوان
يا رب عفوا عن قبيح فعالنا
أنت الدليل لجنة الرضوان

فاتقوا الله معشر أهل القرآن في كتابه وأشفقوا من أليم عذابه واعملوا بالقرآن وارغبوا في جزيل ثوابه لأن القرآن هو لكم وهو عليكم إن تعملوا بـه ويل وثبور { فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } لقمان 33
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } عرضت علي الذنوب كلها فلم أر فيها ذنبا أعظم من ذنب حامل القرآن وتاركه {
ومعنى تاركه تارك العمل بـه العمل مع قلة العلم أفضل من كثرة العلم وقلة العمل
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } يسأل حامل القرآن عما يسأل عنـه الأنبياء { وإذا غضب حامل القرآن يقول له القرآن أما تستحي أنا معك وأنت تغضب اقتد بي تنجو وأكرمني بالطاعة أنجيك من الأهوال وأجوزك الصراط وأدخلك الجنة
ويروى عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ما من شفيع أفضل منزلة عند الله من القرآن نبي ولا ملك ولا غيره { فإنا لله وإنا إليه راجعون على من لا يعمل بالسنة والقرآن كيف اختار النار على الجنان وعصى مولاه وأطاع الشيطان لقد ضل ضلالا بعيدا وتبوأ عذابا شديدا وبقي من الخير فريدا وحيدا
فيا لها من مصيبة ما أعظمـها ومن حسرة ما أدومـها
30 ما خلف الصراط
روي الحسن عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } خلف الصراط جسر عليه الأمانة وجسر عليه الرب جل جلاله وجسر عليه الرحمة فيا أيها السامع لما جاء من أحاديث الصفات والآثار المشكلات سلم الأمور لباريها واترك تأويلها إن كنت تاليها وقاريها وعليك بخويصة نفسك واعمل ليوم رمسك وذلك الجسر عليه
السؤال ذلك الوقت يقول الله جل جلاله وتقدست أسماؤه عبدي عملت كذا وفي يوم كذا فيقول العبد نعم يا رب فلا يزال الرب جل جلاله يعرف العبد والعبد يعترف ويقول نعم حتى يقول العبد لإرسالك بي إلى النار أهون علي من هذا التوبيخ فيقول له جل وتعالى يا عبدي بعيني إذا كنت عملت ذلك وكنت عليك شـهيدا وملائكتي وأرضي ولكن سترت عليك بحلمي وجودي يا عبدي أنا سترتها في الدنيا عليك وأنا أغفرها اليوم لك

غفر الله لنا أجمعين وأماتنا برحمته مسلمين تائبين على السنة والجماعة على أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم}

4 مجلس في قوله سبحانـه وتعالى وتقدست أسماؤه { وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم } 131 هؤلاء الذين ذكرهم المولى جل جلاله بقوله { وعلى الأعراف رجال } الأعراف 46 هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فحبسوا على الأعراف والأعراف هي مواضع مرتفعة على الصراط لأن الصراط سبع قناطر وهي الجسور بعضها أصعب من بعض وبعضها أشد سؤالا من بعض وبعضها أكثر ارتفاعا من بعض وعند كل جسر يسأل العبد فيها عن عبادته التي افترضها الله عليه في الدنيا
فنسأل الله التوفيق في الدنيا والتسهيل في الآخرة في تلك المقامات
32 سؤال العباد يوم القيامة
فأول ما يسأل عنـه العبد الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الأمانة ثم بر الوالدين ثم حفظ اللسان ثم حفظ الجار ثم صلة الرحم وكذلك جميع ما أمر الله عزو وجل بـه وجميع ما نـهى عنـه فكل من جاء إلى جسر من جسور الصراط سئل عن عبادته فإن أجابها جاز وصار إلى الجنة ونور الإيمان يسعى بين يديه وعن يمينـه وعن شماله وإن لم يأت بها نقص نوره وهو نور الإيمان لأن الإيمان يزيد وينقص يزيد بطاعة الله وينقص بمعصية الله فكل من نقص ثوابه بالمعصية نقص نوره على الصراط
فمن أراد مولاه أن يعذبه أتم له النور في بعض جسور الصراط وطفأ النور عنـه في بعضه والصراط أسود مظلم من شدة سواد جهنم لو أن قطرة من ظلمة الصراط وضعت في الدنيا لأظلم مشرق الدنيا ومغربها ولمات الخلق من شدة الظلمة وإنما حبس الله تعالى هؤلاء القوم على أعراف الصراط ليبين لأهل الجنة والملائكة والجن والإنس ولجميع ما خلق الله تبارك وتعالى فضل نبينا محمد {صلى الله عليه وسلم} وليظهر فخره وجاهه وقدره وحرمته عند ربنا جل جلاله وذلك أن الله تبارك وتعالى يأمر العباد يمضون على الصراط

منصوب على متن جهنم وتأتي الخلائق إلى الصراط المؤمنون والكافرون فأما المؤمنون فيمضون وأنوارهم تسعى بين أيديهم وبأيمانـهم أي عن أيمانـهم
33 ظلمات الكفر والمعصية
وأما الكافرون فإنـهم يمضون في ظلمات الكفر وظلمات أعمالهم التي عملوا في حال الكفر في دار الدنيا فإذا أتوا إلى الصراط فأول قدم يضعونـها على الصراط يهوون في النار فتخطفهم الملائكة بالكلاليب فتلقيهم في قعر جهنم فإذا مضى المؤمنون بنورهم مضى المنافقون في آثارهم يتبعونـهم وينادونـهم انظرونا نقتبس من نوركم فنمشي في ضوئكم فيقال ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا
وهو قوله تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } النساء 142 وذلك أنـهم كانوا في الدنيا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وأظهروا لهم الإيمان بألسنتهم واعتقدوا الكفر بقلوبهم والله تعالى يعامل العباد على عقائد قلوبهم والمنافقون كانوا يتربصون بالمؤمنين الدوائر فإذا كانوا على الصراط على آثار المؤمنين ليمشوا في نورهم قالوا للمؤمنين انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فيظنون أن وراءهم نورا يلتمسونـه فيرجعون وراءهم فيرفع لهم سرداب فيظنون أن في السرداب نورا يجوزهم على الصراط فيقتحم بهم إلى أبواب جهنم فإذا رأى المؤمنون المنافقين قد تساقطوا وتهافتوا في النار فزعوا مما حل بالمنافقين فعند ذلك يقال لهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنـهار وهذا العذاب الذي فزعتم منـه هو للمنافقين الذين عصوا الله ورسوله وجحدوا بآيات الله وخالفوا كتابه فعند ذلك يضرب بينـهم بسور له باب
34 السور الحاجز بين الجنة والنار

والسور هو الحائط له باب إلى الجنة وهو حائط بين الجنة والنار باطن ذلك الحائط في الرحمة وظاهره من قبله العذاب يعني جهنم والباطن فيه الرحمة يعني الجنة فإذا رأى المنافقون المؤمنين لم يعرجوا عليهم ولم يلتفتوا إليهم ورأوهم في حال السلامة والفوز فيقول لهم المنافقون ألم نكن معكم في الدنيا على التوحيد وكنا نصلي معكم فيقول لهم المؤمنون بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم أي عذبتم وأحرقتم أنفسكم بالنار بخلافكم لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقولكم
بألسنتكم ما ليس في قلوبكم وتكذيبكم بلقاء الله تبارك وتعالى وكذبتم بهذا اليوم وتربصتم برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبالمؤمنين الدوائر وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فيما فعلتم برسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبالمؤمنين فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا يعني لا يؤخذ من كافر ولا منافق فداء
35 صفة المنافق
فالكافر هو الذي كفر في السر والإعلان والمنافق الذي كفر في السر وآمن في الإعلان وآمن بلسانـه وكفر بقلبه وقوله مأواكم النار أي مرجعكم إليها ومستقركم فيها هذا كله غرور الشيطان بكم حتى جاءكم الموت ومتم على النفاق فإذا رجعوا وراءهم ليلتمسوا النور رأوا سردابا فيدخلون ذلك السرداب ويظنون أن النور فيه فيهجم بهم على أبواب جهنم فتخطفهم الملائكة بالكلاليب فتقذفهم في جهنم حتى يجاوزن الباب الأول من جهنم ثم يلقون في الباب الثاني حتى يجاوزونـه فلا يزالون من باب إلى باب حتى يجاوزن الباب الأول من جهنم ثم يلقون في الباب الثاني حتى يجاوزنـه فلا يزالون من باب إلى باب حتى ينتهوا إلى الدرك الأسفل من النار فينتهي بهم إلى جب يقال له جب الحزن في ذلك الجب بئر يقال لها الهبهب فيها توابيت من نار وعليها أقفال من نار
36 بئر الهبهب

على تلك البئر صخرة من كبريت في تلك البئر باب إذا رفعت تلك الصخرة استغاثت نيران جهنم من تلك النار التي تخرج منـها فتأكل تلك النار التي تخرج من تلك البئر نيران جهنم وما فيها أسرع من طرفة العين فيؤتى بالمنافقين فيلقون في تلك البئر وتوضع عليهم تلك الصخرة فلا يخرجون منـها أبدا كلما أكلت تلك النار لحومـهم جدد الله لهم لحوما غيرها فلا يخرجون من تلك البئر أبدا فذلك قوله عز وجل { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا } النساء 145 وقوله { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } النساء 142 يعني بقوله ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا
وأما المؤمنون الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم فإنـهم يمشون على الصراط وأنوارهم تسعى بين أيديهم وبأيمانـهم حتى إذا كانوا على جسر الصراط وهو أعلا الجسور من الصراط وهي الأعراف وهي
المواضع المرتفعة واحدها عرف وتسمى النشز من الأرض وهو الموضع المرتفع عرفا ومنـها عرف الديك
37 أهل الأعراف
فإذا صار على تلك المواضع من الصراط نقص نورهم وبقوا على أطراف أنامل أرجلهم ورأوا أن ذلك ظلمة وذلك أن الخلق على الصراط على قدر أعمالهم في الدنيا فمن الناس من يكون له من النور ما يضيء على الصراط مسيرة مائة عام ومنـهم من يعطي من النور ما يضيء له مسيرة سنة وما يضير مسيرة شـهر ومسيرة جمعة ومسيرة يوم ومسيرة ساعة ومن الناس من يعطي من النور ما يضيء له موضع قدميه
على قدر منازلهم عند الله تبارك وتعالى وعلى قدر أعمالهم في الدنيا فيستبقون في الجواز على قدر أنوارهم التي معهم فمن كان له نور كثير جاز في السعة ومن كان له نور قليل جاز في الضيق على قدر ما أعطى الله لكل عبد فإذا ثبت أصحاب الأعراف على أنامل أرجلهم في ذلك ولا ينظرون إلى موضع أقدامـهم من شدة الظلمة والظلمة هي شدة سواد جهنم أعاذنا الله وإياكم منـها وسهل لجميعنا شدائدها وظلمتها وثبت على الصراط أقدامنا بمنـه وفضله

والصراط أحد من السيف وأرق من الشعرة وأحر من الجمر عليه من الحسك والكلاليب أكثر من عدد الإنس والجن قد تعلق بكل كلوب من الزبانية عدد نجوم السماء إذا تكلم واحد منـهم تناثر النار من فيه لو أن واحدا منـهم بصق في البحار الزاخرة لجففها وإذا تكلم واحد منـهم فزع صاحبه منـه ولو سمع أهل الدنيا صوت واحد يتكلم بالكلام لمات كل من فيها من إنسها وجنـها وجميع ما خلق الله تبارك وتعالى فيها من برها وبحرها من فظاعة كلامـه ومن شدة صوته وإذا صاح مالك خازن جهنم على خزنة جهنم يغشى عليهم من شدة صوته
والصراط مع دقته ورقته يضطرب كما تضطرب السفينة بأهلها إذا كانت الريح عاصفة فإذا ثبت القوم على أناملهم من أرجلهم ولا يستطيعون الجواز وهم ينظرون إلى أهل النار كيف يعذبون في النار قال الله تعالى { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } الأعراف 47 وهم يستغيثون ويتضرعون إلى مولاهم جل جلاله ويسألونـه النجاة من النار ومن هول ما هم فيه من صعوبة الصراط فيمكثون كذلك ما شاء الله تبارك
وتعالى مغمومين مكروبين محزونين لا يدرون أينجون أم يهلكون مع كل إنسان منـهم حافظاه اللذان كانا يكتبان عليه عمله في الدنيا فبينما هم كذلك إذ يلقى الله تبارك وتعالى ذكرهم في قلوب إخوانـهم من أهل الجنة وعلى ألسنتهم فيقول بعضهم لبعض يا ليت شعرنا ما فعل إخواننا من أهل الأعراف فيقولون ما لنا علم بما صنعوا ولكنا نسأل الحفظة ومن معهم حتى يخبرونا ما فعلوا فينادون من قصورهم يا معشر الملائكة الذين مع أصحاب الأعراف ما فعل أخواننا من أصحاب الأعراف
38 شفاعة أهل الجنة في أصحاب الأعراف

فيقول الملائكة يا معشر أهل الجنة أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون بها قد قل نورهم وطفئ سراجهم وبقوا على أطراف أناملهم وأرجلهم وهم وقوف ينتظرون رحمة ربهم فذلك قوله تعالى { ونادوا أصحاب الجنة } الأعراف 46 يعني نادت الملائكة أصحاب الجنة { أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون } الأعراف 46
39 حياء آدم
فعند ذلك يلبس أهل الجنة الحلي والحلل ويضعون التيجان على رؤوسهم ثم يمصون بأجمعهم حتى يأتوا آدم عليه الصلاة والسلام وهو في قصره فينادون بأجمعهم يا أبانا أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك كرام ملائكته وأسكنك جنته إن ناسا من ولدك محبوسون على الصراط قل نورهم وطفئ سراجهم فاشفع لهم عند ديان يوم الدين فيقول آدم عليه السلام لست هنالك أنا الذي عصيت ربي وأكلت من الشجر فغفر لي وأنا أستحي أن أساله بعد المغفرة شيئا ولكن عليكم يا بني بنوح الذي حمله الله في الفلك
40 حياء نوح
فيأتون نوحا عليه السلام فينادون بأجمعهم يا نوح فيشرف عليهم من قصره فينظر إلى جماعتهم فيقول لهم نوح يا أهل الجنة ما الذي أزعجكم من منازلكم وما الذي جاء بكم فيقولون له يا نوح أنت الذي حملك الله في الفلك إن ناسا محبوسون على الصراط قل نورهم وطفئ سراجهم فاشفع لهم عند ديان يوم
الدين فيقول لهم نوح لست هنالك أنا الذي خاطبت ربي فيما ليس لي بـه علم فغفر لي وأنا أستحي أن أسأله بعد المغفرة شيئا ولكن عليكم بإبراهيم الذي اتخذه الله خليلا وجعل النار عليه بردا وسلاما فيأتون إبراهيم عليه السلام وهو في قصره فينادون بأجمعهم يا إبراهيم أنت الذي اتخذك الله خليلا إن ناسا محبوسون على الصراط قل نورهم وطفئ سراجهم فاشفع لهم عند ديان يوم الدين فيقول لهم لست هنالك أنا الذي كذبت كذبتين وقيل ثلاث فغفر لي وأنا أستحي أن أسأله بعد المغفرة شيئا ولكن عليكم بموسى بن عمران كليم الله ونجيه
41 حياء موسى

فيأتون موسى عليه السلام فينادونـه فيشرف عليهم فيقول له يا موسى أنت الذي كلمك الله بغير ترجمان وأنزل عليه التوراة وضرب لك طريقا يبسا في الأرض وأراك العجائب من قدرته إن ناسا من إخواننا محبوسون على الصراط قل نورهم وطفئ سراجهم فاشفع لهم عند ديان يوم الدين فيقول لهم موسى لست هنالك أنا الذي وكزت الرجل فقتلته فغفر لي وأنا أستحي أن أسأله بعد المغفرة شيئا ولكن عليكم بعيسى بن مريم العذراء البتول البكر
42 حياء عيسى
فيأتون عيسى وهو {صلى الله عليه وسلم} في قصره فينادون بأجمعهم يا عيسى فيشرف عليهم من قصره فيقول لهم يا أهل الجنة ما الذي أزعجكم من منازلكم وما الذي جاء بكم فيقولون له يا عيسى أنت الذي خلقك الله من غير بشر وأنت الذي جعلك الله آية للناس وأنت ابن الطاهرة البكر العذراء البتول إن ناسا محبوسون على الصراط قل نورهم وطفئ سراجهم فاشفع لهم عند ديان يوم الدين فيقول لست هنالك أنا الذي زعمت النصارى أني قلت لهم اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فاستحي منـه أن أسأله شيئا ولكن عليكم بالذي كان آخر المرسلين وهو اليوم أولهم عليكم بـه فهو إمام المتقين وسيد العالمين وخاتم النبيين محمد {صلى الله عليه وسلم}
43 شفاعة محمد
فيأتون النبي {صلى الله عليه وسلم} وهو في قصره خير قصور الجنة فيقفون حول القصر
والقصر قد أشرق نوره وبهجته على جميع قصور أهل الجنة فينادون بأجمـهم يا محمد يا أبا القاسم يا أحمد يا سيد العالمين يا إمام المتقين يا خاتم النبيين فيشرف عليهم {صلى الله عليه وسلم} من قصره والنور من وجهه قد أشرق على قصور الجنة كلها فيقول لهم صلوات الله وسلامـه عليه ما الذي أزعجكم من منازلكم وما الذي جاء بكم فيقولون له أنت الذي جعلك الله خاتم النبيين وسيد العالمين وإمام المتقين إن ناسا من أمتك على الصراط محبوسون قل نورهم وطفئ سراجهم فاشفع لهم عند ديان يوم الدين
44 ه جنة عدن

فيقول النبي {صلى الله عليه وسلم} أنا لها فيلبس صلوات الله وسلامـه عليه الحلي والحلل ويضع على رأسه التاج صلوات الله وسلامـه عليه ويتبعه أهل الجنة حتى ينتهي إلى باب جنة عدن فيستفتح فيقال من هذا قال {صلى الله عليه وسلم} فأقول أنا أحمد فيفتح لي فإذا خلف السرداق ملك يتلألأ نور فيهولني ما أرى منـه فيؤنسني ويمسحني فيقول يا أحمد أنت عبد وأنا عبد مثلك ثم أمضي فأنتهي إلى سرداق ثاني فأستفتح فيقال من هذا فأقول أنا أحمد فيفتح لي فإذا خلف سرداق ملك عظيم أعظم خلقا وأشد نورا من الذي رأيت فيهولني ما رأيت من عظمـه فيؤنسني ويمسحني ويقول يا أحمد أنت عبد وأنا عبد مثلك فلا أزال أمشي في عظم الملائكة وبعضهم أشد نورا من بعض حتى أنتهي إلى السرداق السابع فأستفتح فيقال من هذا فأقول أنا أحمد فيفتح لي فإذا خلف السرداق جبريل عليه الصلاة والسلام فيقول مرحبا بهذا الصوت لقد كنت إليه مشتاقا فأمضي حتى أنتهي إلى الحجب فترتفع الحجب فيتجلى لي رب العالمين جل جلاله وعظمت قدرته فإذا نظرت إليه خررت له ساجدا فأحمده بتحميد ما حمده بمثله ملك من حملة العرش ولا من حملة الكرسي ولا نبي مرسل حينئذ في ذلك المكان حتى يقول الكروبيون والروحانيون وأصحاب السرادقات إن هذا لأهل أن يشفعه الله فيمن يشفع
45 سجوده بين يدي الله تعالى
فيقول الجبار جل جلاله وعظمت قدرته يا أحمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأرفع رأسي من السجود فإذا نظرت إلى ربي جل جلاله خررت ساجدا وأحمده وأثني عليه بمثل ما حمدته بـه في المرة الأولى

فأفعل ذلك ثلاث مرات وربي جل جلاله يقول لي في كل مرة ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب ناسا من أمتي محبوسون على الصراط قل نورهم وطفئ سراجهم فأتمم لهم نورهم وأضيء سراجهم وهم الذين يقولون عند ذلك { ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير } التحريم 8 متى تمضي كما مضى اخواننا إلى الجنة فيبعث الله تبارك وتعالى الملائكة فيأتون بالنور من جنة عدن ثم يغمسون غمسا فيحي الله نورهم ويضيء سراجهم ثم تقبل الملائكة على أهل جهنم فيقولون لهم { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } الأعراف 49 وذلك أن أهل جهنم لما نظروا إلى أصحاب الأعراف محبوسين على الصراط قال بعضهم لبعض والله ما حبسوا هؤلاء إلا ليدخلوا معنا في جهنم فمن أجل ذلك قالت لهم الملائكة { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } الأعراف 49 ثم تقبل الملائمة على أصحاب الأعراف 146
جاه المصطفى العظيم
فيقولون لهم { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } الأعراف 49 أي لا تحزنون ولا تموتون في الجنة أبدا فيمضون والنور الذي جاءتهم بـه الملائكة في جنة عدن يسعى بين أيديهم وبأيمانـهم حتى يجوزوا الصراط ويدخلوا الجنة ويلحقوا بمنازلهم وإخوانـهم ونبيهم محمد {صلى الله عليه وسلم} وإنما حبسهم الجبار جل جلاله وعظمت قدرته ليظهر جاه محمد {صلى الله عليه وسلم} وفضله وحرمته ودرجته ومنزلته ومكانـه عند الله تبارك وتعالى من الشفاعة {صلى الله عليه وسلم} صلاة تشرف بها عقباه وتبلغه بها من الشفاعة العظمى رضاه آمين يا رب العالمين صلاة دائمة منتهى الآباد طيبة باقية بلا انقطاع ولا نفاد صلاة تنجينا بها من حر جهنم وبئس المصير وتدخلنا الجنة مع صحابته الأبرار الطيبين آمين يا رب العالمين
5 مجلس في قوله تعالى
{ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها
47 في حساب الملائكة والرسل واللوح المحفوظ

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } تقف للعرض الأكبر بين يدي رب العالمين فيغرقون على قدر أعمالهم {
وروي عن ابن عباس رضي الله عنـهما أنـه قال يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة يا بني آدم انصتوا فطالما نصت لكم وفي رواية أخرى فقد نصت لكم من يوم خلقتكم إلى يوم هذا أسمع قولكم وأنظر أعمالكم فانظروا اليوم أعمالكم تعرض عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه احشروا علي عبادي فوعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم
فكيف بك يا مسكين يا مغرور يا تارك الحق والصواب يا مخالف السنة والكتاب يا ظالما لنفسه يا غافلا عن الحساب يا من بذل نفسه لأليم العذاب يا من تمادى في معصية رب الأرباب ونسي الجنة وحسن المآب
وأنشدوا
} إلى كم لا تفيق من التصابي
وهذا العمر يؤذن بالذهاب {
} ويرضى بالقليل المرء حظا ويزهد في الكثير من الثواب {
} فقدما غرت الدنيا أناسا كما غر المحين بال {
} تمنيهم غرورا باطلات
وتخدعهم بآمال كذاب {
كأنك لا ترى في كل يوم
جنائز تستحث إلى الخراب
خلقت من التراب وعن قريب
ستلحق غير شك بالتراب
وتحيا بعد موتك كي تجازي
بما قدمت في يوم الحساب
فإنك تك بالمسيء بقبح فعل
فحسبك بالعقاب مع العذاب
} وإن كنت الذي قدمت خيرا
جزيت بـه غدا حسن المآب
48 تبكيت الله تعالى للجبابرة
ذكر في بعض الأخبار أن الجبار جل جلاله إذا اجتمع الأولون والآخرون في عرصة القيامة نادى سبحانـه وتعالى أين الجبابرة وأبناء الجبابرة أين الملوك وأبناء الملوك قصمت الجبابرة بسلطاني وأفنيت الملوك بعظمتي
ذكر في الخبر أن الجبابرة يحشرون يوم القيامة على صور الذر أصغر الخلائق خلقة لتجبرهم على العباد والجبابرة هم الذين تجبروا على الخلق وعن اتباع سنة رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقيل الجبابرة هم الذين جبروا المساكين والضعفاء على ما لم يطيقوا وهذا الاسم قد اشترك فيه الخالق والمخلوق فالخالق جل جلاله هو جبار على الحقيقة
49 تفسير الجبار

وتفسير الجبار في حق الله تعالى الذي جبر عباده على ما أراد وقيل الذي يجبر عن ظلم العباد إن الله تعالى جل اسمـه لا ينسب إليه الظلم لأن حد الظلم وضع الشيء في غير موضعه لأن الدنيا والآخرة ملك الله تعالى والجبار من العباد هو الظالم الذي يضع الشيء في غير موضعه يأخذ ما ليس له بحق ويرده إلى ما قد ملكه الله تبارك وتعالى وإذا قضى الله تعالى على عبده بقضاء فهو له خيرا
لقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } لا يكمل للمؤمن إيمانـه حتى يرى أن الذي قضاه الله عليه أو له خير له من الذي أراد لنفسه { وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } في قضاء الله تعالى خيرا إلا قضاء النار { وإذا قضى الله تبارك وتعالى على عبده بالنار فهو عبده وهو خلقه لم يعنـه أحد على خلقه ولا على رزقه وهو يفعل ما يريد لا شريك له في ملكه
ثم ينادي الجليل جل جلاله { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } الزخرف 69 فإذا سمع الخلق هذا النداء رفعوا رؤوسهم وطمعوا كلهم في هذا النداء وقالوا كلهم نحن عباد الله ثم ينادي ثانية { الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين } الزخرف فعند ذلك ينكس رأسه كل من لم يكن مسلما فتبقى أهل الأديان متحيرين ويفرح المسلمون ثم ينادي ثالثة { الذين آمنوا وكانوا يتقون } يونس 63 أي كانوا يتقون الكبائر فينكس أهل الكبائر من أهل التوحيد رؤوسهم ويرفع رؤوسهم سائر أهل التوحيد الذين اجتنبوا الكبائر وتابوا عنـها توبة نصوحا
فكيف بك يا مغرور يا مسكين قد ارتكبت الكبائر والصغائر وعصيت مولاك في الخفيات والظواهر وأيقنت أنك مسئول يوم تبلى السرائر ولاق من العقوبة على ذلك الحظ الجزيل الوافر
وأنشدوا
} عصيت الله ألوان المعاصي
كأني لست أوقن بالقصاص {
} فمالي لا أنوح على ذنوبي وأبكي يوم يؤخذ بالنواصي
50 نصيحة
فانظر لنفسك يا مسكين يا ضعيف الإيمان واليقين قبل حلول الندم وزوال النعم ونزول النقم حيث لا ينفع الندم

فاستعد للسؤال وتهيأ للجدال قال الله الكبير المتعال { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } النحل 111
51 السائق والشـهيد
فإذا سمع العباد النداء وعلم كل عبد وأمة منزلته من جميع أهل الأديان نشرت الدواوين ووضعت الموازين وجيء بالنبيين ونصبت المنابر بالأنبياء والرسل فيجلس كل نبي على منبره وأمته قد أحدقت بـه ونصبت الكراسي
للصديقين والشـهداء
{ وجاءت كل نفس معها سائق وشـهيد } ق 21 سائق يسوقها وشاهد يشـهد عليها فالناس ينقسمون في السياقة على قسمين قسم تسوقه الملائكة ببر وإكرام ورق وإجلال وتؤمنـهم وتهديء روعاتهم كلما نظر العبد إلى من يعذب أو ينكل يقول له سائقه من الملائكة يا عبد الله ما أنت مثل هذا هذا عصى الله وأنت أطعته
والقسم الثاني يساقون بالانتهار والسطوة والإغلاظ يسوقه سائقه وهو يروعه ويقول له يا عدو الله هذا الحساب سوف تدري كلما نظر المسكين إلى من يعذب أو ينكل قال له سائقه الساعة تكون أنت مثل هذا هذا عصى الله وأنت عصيته أما علمت يا عدو الله أن الحساب والحشر أمامك
وأنشدوا
كأني بنفسي قد بلغت مدى عمري
وأنكرت ما قد كنت أعرف من دهري
وطالبني من لا أقوم بدفعه
وحولت من داري إلى ظلمة القبر
وفاز بميراثي أناس فشتتوا
بإفسادهم ما كنت أجمع من أمري
وأغفلني من كان يبدي محبتي
فأخلصه ودي ويغمره بري
فلم يسخ لي منـهم صديق بدعوة
إذا ما جرى يوما بحضرته ذكرى
وأضحى لبيتي ساكن مبهج به
وفي اللحد بيتي لا أقوم إلى الحشر
فيا شقوتي إن لم يجد بنجاته
إلهي ولم يجبر برحمته فقري
فقد أثقلت ظهري ذنوب لو أنـها
على ظهر طور أثقلته في الوزر
فما أعظم مصيبتكم وما أطول حسرتكم إن لم يعف عنكم مولاكم وجعل النار مأواكم فاغتنموا التجارة في دار الفناء والذهاب يجازيكم بها مولاكم عند مناقشة الحساب فالحساب عظيم عسير والهول والله جليل كبير والناقد مميز بصير واليوم عبوس قمطرير
52 اللوح المحفوظ

ذكر عن ابن عباس رضي الله عنـهما أنـه قال إذا جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد ونشرت الدواوين ونصبت الموازين وأحضرت الأنبياء بأا وحضر الصديقيون والشـهداء وحشر وحوش الأرض وهوامـها وطيورها وأنعامـها وسكان جبالها وبحارها
ينادي مناد من قبل العرش أين اللوح المحفوظ فيؤتى باللوح المحفوظ فيوقف بين يدي الجبار جل جلاله خاضعا ذليلا فيقول له تبارك وتعالى ما صنعت بالوحي الذي أنزلت فيك واللوح من درة بيضاء صفحتاه من ياقوتة حمراء عرضه كما بين السماء والأرض ينظر الله تبارك وتعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة فيخلق في كل نظرة ويحيي ويميت ويعز ويذل ويرفع أقواما ويفعل بهم الخير ويوقفهم بفضله ويخفض أقواما ويصدهم عن منـهاج الهدى بعدله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون يوم القيامة لأنـهم ما قدروا الله حق قدره ولا عبدوه حق عبادته لأنـه جل جلاله أجل وأعظم من أن يوفى في العبادة والطاعة والمعرفة حقه ما قدر على هذا نبي مرسل ولا ملك مقرب فسبحان من لا سبيل إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته
قال فيقف اللوح بين يدي الجبار جل جلاله وعظمة قدرته فيقول له أيها اللوح المحفوظ ما صنعت بالذي أنزلته فيك فيقول اللوح المحفوظ سيدي ومولاي بلغته عبدك ميكائيل
53 رسالة ميكائيل
فينادي أين ميكائيل فيؤتى بـه {صلى الله عليه وسلم} وهو ملك عظيم له ستة عشر ألف جناح لو نشر منـها جناحا واحدا في الدنيا لما وسعته فيقف بين يدي الله تبارك وتعالى خاضعا ذليلا قد بلغت نفسه إلى حنجرته فلا هي تدخل ولا هي تخرج خوفا وجزعا وهيبة من الجبار جل جلاله فيقول الله له ما صنعت بالوحي الذي بلغ إليك اللوح المحفوظ وهل تشـهد له بالتبليغ وأنا أعلم بذلك منك ولكن سبق في علمي أني أسألك اليوم عبادي وجميع خلقي واستشـهد بعضهم على بعض فيقول ميكائيل يا رب بلغني اللوح المحفوظ وبلغته عبدك إسرافيل وأنت أعلم
54 رسالة إسرافيل

فيبرأ اللوح المحفوظ بشـهادة ميكائيل له ثم ينادي أين إسرافيل فيؤتى بـه {صلى الله عليه وسلم} وهو ملك عظيم له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ورجلاه تحت تخوم الأرض السابعة السفلى والعرش على رأسه فيقف بين يدي الله تبارك وتعالى وجل مع عظم خلقه خاضعا ذليلا قد ذهلت نفسه وتغير لونـه وارتعدت فرائصه واضطربت أوصاله واصطكت ركبتاه وقد بلغت نفسه إلى حلقه فلا هي تدخل ولا
هي تخرج خوفا وجزعا وهيبة من الله تبارك وتعالى
فيقول له الجبار جل جلاله ما صنعت بالوحي الذي بلغك ميكائيل وهل بلغك وهل تشـهد له بالتبليغ وأنا علام الغيوب
فيقول إسرافيل عليه السلام نعم يا سيدي ومولاي قد بلغني وأنت أعلم وقد بلغته عبدك جبريل عليه السلام فيبرأ ميكائيل بشـهادة إسرافيل عليهما السلام
55 رسالة جبريل
ثم ينادي أين جبريل فيؤتى بجبريل عليه السلام وقد تغير لونـه وتبلبل لبه وارتعدت فرائصه واضطربت أوصاله واصطكت ركبتاه وقد بلغت نفسه إلى حلقه فلا هي تدخل ولا هي تخرج جزعا وخوفا من الجبار جل جلاله فيقول الله تبارك وتعالى يا جبريل ما صنعت بالوحي الذي بلغك عبدي إسرافيل وهل تشـهد له بالتبليغ فيقول جبريل عليه السلام نعم يا سيدي ومولاي بلغني وبلغته نبيك نوحا عليه السلام وأنت أعلم
فيبرأ إسرافيل بشـهادة جبريل 156
شـهادة نوح
فيؤتى بنوح عليه السلام حتى يوقف بين يدي الجبار جل جلاله وقد ذهبت نفسه وتغير لونـه وقد مات فزعا وخوفا من الجبار جل جلاله فيقول الجبار جل جلاله يا نوح ما صنعت بالوحي الذي بلغك عبدي جبريل عليه السلام وهل تشـهد له بالتبليغ فيقول عليه الصلاة والسلام نعم يا سيدي ومولاي قد بلغني عبدك جبريل عليه السلام وقد بلغته قومي وأنت أعلم من جميع عبادك بذلك
فيقول الله تبارك وتعالى صدقت أنا أعلم من جميع خلقي ولكن قد سبق في علمي أن أسأل جميع خلقي وأستشـهد بعضهم على بعض وأنا الحاكم الجبار الذي لا أجور في حكمي

ثم يدعي بقوم نوح عليه السلام فيقول لهم ما صنعتم بالوحي الذي بلغكم نوح عليه السلام وهل بلغكم وهل تشـهدون له بالتبليغ فيقول قوم نوح ربنا ما جاءنا من نذير ولا رأيناه يوما قط ولا سمعنا بـه ولا بلغ إلينا رسالة فإذا سمع نوح عليه السلام كلام قومـه ذهبت نفسه وود لو ابتلعته الأرض ولو قضى الله تبارك وتعالى بالموت لمات نوح حين جحده قومـه حياء من الله تبارك وتعالى فيقول الله تبارك وتعالى يا نوح هل تجد من يشـهد لك أنك قد بلغت قومك
الرسالة فينظر نوح عليه السلام في الموقف يمينا وشمالا ومشرقا ومغربا يتضح ويتبصر من بين سائر الأنبياء والمرسلين وبين كراسي الشـهداء والصديقين فلا يرى في المنابر أعلا ولا أنور ولا أحسن ولا أزهى من منبر محمد {صلى الله عليه وسلم}
57 جاه الرسول الأعظم
ولا يرى في الأنبياء أحسن وجها من وجه محمد {صلى الله عليه وسلم} ولا يرى نوح في الكراسي أنور ولا أحسن من كراسي أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} ولا يرى أبهى ولا أنور ولا أحسن من كرسي أبي بكر الصديق رضي الله عنـه
ولا يرى في الوجوه أحسن وجها من وجوه أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} ولا يرى في الصديقين والشـهداء أحسن ولا أبهى ولا أنور من وجه أبي بكر الصديق رضي الله عنـه
58 فضل أبي بكر الصديق
فيقول له نوح قد أصبت من يشـهد لي يا مولاي وسيدي فيقول الله تبارك وتعالى وهو أعلم من يشـهد لك يا نوح فيقول نوح عليه السلام يشـهد لي محمد {صلى الله عليه وسلم} وأمته بأني قد بلغت قومي الرسالة فينادي مناد أين النبي الأمي العربي التهامي أين أحمد أين سيد العالمين أين خاتم النبيين والمرسلين أين إمام المتقين فعند ذلك يقوم محمد {صلى الله عليه وسلم} وعند ذلك يرفع أهل الجمع رؤوسهم إذا رأوا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيمضي صلوات الله عليه حتى ينتهي إلى ربه عز وجل فيقول له ربه يا أحمد ونوح قائم ينظر ما تقول هل بلغ نوح الرسالة إلى قومـه فيقول محمد {صلى الله عليه وسلم} نعم يا سيدي ومولاي قد بلغ وأقام يدعوهم إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عاما
فيقول الجبار جل جلاله صدقت يا أحمد

فعند ذلك يفرح نوح عليه السلام ويتهلل وجهه
ثم يقول الله تعالى يا محمد هلم أمتك إلى الحساب والشـهادة فبينما الخلائق في الموقف إذ يموج بعضهم في بعض ويفزعون فزعة عظيمة فتجتمع كل أمة حول نبيها وتنظر أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} يمينا وشمالا فلا يرون النبي محمد {صلى الله عليه وسلم} والأمم قد أحدقت بأنبيائها وينظر الأنبياء والأمم إلى منبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خاليا
59 منبر الرسول والمحشر
فيقول بعضهم لبعض لمن هذا المنبر الذي لا يرى في الموقف مثله لحسنـه
وجماله ولا يرى أنور منـه ولا أعلا ولا أبهى منـه ونراه خاليا ولا نرى له صاحبا فبينما هم ينظرون إلى منبر النبي {صلى الله عليه وسلم} إذ ينادي المنادي ألا إن هذا المنبر منبر محمد {صلى الله عليه وسلم} وأن محمدا {صلى الله عليه وسلم} يناجي ربه في المذنبين من أمته يشفع لهم إلى الله تعالى فبينما هذه الأمة وقوف مغمومون محزونون بما يأتي النبي {صلى الله عليه وسلم} من عند ربه عز وجل إذ يخرج إليهم صلوات الله وسلامـه عليه من عند ربه جل جلاله حتى ينتهي إليهم فيقوم بينـهم فيرفعون رؤوسهم وينظرون إليه فإذا رآهم صلوات الله وسلامـه عليه أرسل عينيه بالبكاء فإذا نظروا { تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30 الآية ذلك يوم مـهول عبوس يوم تشيب فيه الرؤوس وتذهل فيه النفوس وتبلو كل نفس ما أسلفت وتقدم كل أمة على ما قدمت وتذهل كل مرضعة عما أرضعت يجد والله كل عبد وأمة ما عمل وقدم من خير ثوابا ونعيما وسرورا مقيما وربا كريما رؤوفا بعباده رحيما ويجد كل عبد وأمة ما عمل من شر خزيا جسيما ونارا وجحيما وعذابا مقيما ونكالا أليما وربا غضبانا عظيما { يوم تجد كل نفس ما عملت } آل عمران 30
60 الثواب والعقاب

يجد الطائع الثواب ويجد الفاسق العذاب يجد المؤمن لذة الوصال بالنظر إلى الكبير المتعال في دار الخلد والجلال ويجد الكافر العذاب والنكال والسلاسل والأغلال والجحيم والخبال وفظاعة الأهوال { يوم تجد كل نفس ما عملت } آل عمران 30 يجد المؤمن النعيم والكرامة والأمن في القيامة والعافية والسلامة والحلول في دار المقامة ويجد الكافر الخزي والندامة والعذاب والملامة { يوم تجد كل نفس ما عملت } آل عمران 30 يجد المؤمن الدرجات ويجد الكافر العقوبات يجد المؤمن السرور ويجد الفاجر الثبور يجد المؤمن النعيم والخلود ويجد الفاجر عذابا غير مردود ويجد المؤمن ما قدم من الإحسان في درجات الجنان في جوار الرحمن مع الخيرات الحسان ويجد الفاجر ما عمل من العصيان في سموم النيران في جوار الشيطان مع الذل والهوان
يوم تجد كل نفس ما عملت في يوم هائل عظيم يوم تكثر فيه الغموم وتعظم فيه الهموم ويفصل الرب بين عباده وهو الحي القيوم { يوم تجد كل نفس } آل عمران 30 يوم تندم على القبائح وتتأسف عند معاينة الفضائح وتوجد الأعمال في الصحائف
الصحائح
{ يوم تجد كل نفس } آل عمران 30 يوم يندم الظالم ويخسر الآثم ويكون الجبار جل جلاله في ذلك اليوم العدل الحاكم ذلك يوم الندامة والحسرة والأهوال والعبرة
وأنشدوا
يا واحدا صمدا بغير قرين
ارحم ضراعة عبدك المسكين
واعطف علي إذا وقفت مروعا
حيران بين يديك يوم الدين
يا حسرتي بين العباد إذا همو
خافوا الحساب فخف عنـهم دوني
ما حيليتي في يوم نشر صحيفتي
إذ قيل لي خذها بغير يمين
ما حيلتي عند الحساب وهوله
إذ قصرت بي قوتي ويقيني
لا حيلة عندي ولا لي موثل
إن خانني طمعي وحسن ظنوني
يا رب لا تترك عبيدك هالكا
وارحم بفضلك عبرتي وشئوني
{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30 أي تجده حاضرا عتيدا وتسأل عن أعمالك سؤالا شديدا { وما عملت من سوء تود لو أن بينـها وبينـه أمدا بعيدا } آل عمران

قيل الأمد البعيد الذي يود من عمل سوءا وعصى مولاه أن يكون بينـه وبين عمله السوء كما بين المشرق والمغرب
وقيل الأمد البعيد الغاية في البعد الذي يتمنى أنـه تاب في الدنيا وتبدل الشر بالخير حتى يمحي عنـه السوء بالتوبة فلا يراه ولا يسمعه ولا يعاقب عليه إذا رأى التائبين غفر لهم بالتوبة وبدلت سيئاتهم بالحسنات والأوبة كما قال تعالى { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } الفرقان 68 الآية
61 فائدة التوبة
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون { فإذا رأى المسكين الذي عمل السوء وقد أحاطت بـه الكروب وترادفت عليه الهموم
والخطوب وأسود وجهه من ظلمات الذنوب وقد غضب عليه علام الغيوب ورأى الذين تابوا من أخوانـه وأهله وأصحابه وجيرانـه قد فازوا بالملك الكبير والحساب اليسير ولباس السندس والحرير والنظر إلى وجه السميع البصير ورأى نفسه قد خسر وخاب وحرم الثواب ونوقش الحساب وحجب عن رب الأرباب وصار إلى أليم العذاب يود لو كان تائبا ولم يكن من الرحمة خائبا يود لو كان السوء عنـه بعيدا ولم يكن حاضرا عتيدا ولم يكن العذاب عليه شديدا
يود لو كان من التائبين ولم يكن من المحرومين يود لو كان من الآمنين ولم يكن من المخالفين يود لو كان من الطائعين ولم يكن من العاصين يود لو كان من المحسنين ولم يكن من الظالمين يود لو كان من أهل الجنان ولم يكن من أهل النيران يود لو كان من أهل الثواب ولم يكن من أهل العقاب يود لو كان من أهل النعيم ولم يكن من أهل الجحيم يود لو كان من الأولياء ولم يكن من الأشقياء
يود لو كان من أهل الوفاق ولم يكن من أهل النفاق
يود لو كان من أهل الفوز بالجنة ولم يكن من أهل العذاب والمحنة
يود لو كان سعيدا رشيدا ولم يكن عن الله بعيدا
لا أبعدنا الله وإياكم من رحمته وقربنا وإياكم بالفوز لجنته
62 عمل العبد يلازمـه

ذكر في بعض الأخبار أن العبد إذا مات أحضر عمله كله عند رأسه حين يغسل خيرا كان أو شرا فإذا صلى عليه ومضى إلى قبره وانصرف الناس عنـه بقي عمله معه في قبره ولا يزال معه في قبره إلى يوم يخرج من قبره فإذا خرج خرج معه فإذا قدم إلى الحساب اجتمع عمله كله خيره وشره حتى حركاته وأنفاسه ووفاقه وخلافه يجد الكل مجموعا لم ينس منـه شيء من الكبائر ولا من الصغائر ولا من الظواهر ولا من السرائر
63 الحض على التوبة
فالله الله معشر المذنبين مثلي أبعدوا عن عمل السوء بالتوبة إلى الرحمن ولا تغرنكم الحياة الدنيا فإنـها غرور الشيطان واعلموا أن الله تبارك وتعالى يمحو عنكم سيئاتكم بترك الذنوب والعزم على التوبة ويرحمكم يوم الحساب بحسن
الأوبة
يا أخي يا أخي وما عسى أن أقول لك من كرم مولاك الجليل جل جلاله لو أن الذنوب التي عملت في أيام طغيانك وعصيانك كانت مثل جبال الدنيا برمالها وبحارها وأنـهارها وتبت توبة واحدة بصدق وحرقة وندامة ليغفرها لك مولاك الكريم بكرمـه وفضله ولا تسأل عنـها يوم القيامة وأنشدوا
نـهاك الطبيب محيلا على
مطاعم لو نلتها لم تمت
وخاطبك الله جل اسمـه
بترك الذنوب التي حرمت
فأعرضت عن أمره لاهيا
وأمنت نفسك ما خوفت
فأطمعتها أن تنال الرضا
بجهلك في فضل من قد عصت
فماذا تقول إذا أزعجت
لتخرج بالكره فاستسلمت
فلا ندم حط أوزارها
ولا توبة غسلت ما جنت
} وأفردت وحدك في ملحد
بكت فيه نفسك ما أسلفت
64 ما تحويه الآية
يا أهل الذنوب تدبروا هذه الآية فإن فيها بلاغة لمن تذكر وزجرا لمن اعتبر وتخويفا لمن تدبر ونـهيا لمن تفكر

فالفكرة عبادة وخير وزيادة لأن مولاكم الكريم قد خوفكم وهددكم وزجركم بها زجرا شديدا فقال { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينـها وبينـه أمدا بعيدا } آل عمران 30 ثم قال { ويحذركم الله نفسه } آل عمران 30 أي يحذركم عقابه وعذابه إذا عصيتموه ويجزل لكم ثوابه إذا أطعتموه فلا يحقرن أحدكم من الذنوب شيئا وإن صغر فربما كان فيه شدة العذاب والعقاب ولا يحقرن أحدكم حسنة يعملها وإن قلت فربما كان فيه الرضا من الملك الوهاب
واعلموا أن الذنب الذي يحقره صاحبه يكون يوم القيامة في ميزان فاعله أثقل من جبال الأرض فازجر نفسك عن غيها وقدم في حياتك
ليوم فقرك
والأصل في الذنب الصغير أن يكون سببا ل صاحبه في النار
إن العبد المغرور يعمل الذنب ويحقره ولا يفكر في من قد عصاه وهو الجبار جل جلاله فعند ذلك
يغضب عليه مولاه ويقول له عبدي حقر ذنبه واستخف بحقي وعزتي وجلالي لأعذبنـه عليه بالنار ومن تاب تاب الله عليه وغفر له بالتوبة
وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } إياكم ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا { قال الله سبحانـه { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت } آل عمران 30 الآية
وأنشدوا
} قد ذهب الحي إلى عرسه
وعذب الميت في رمسه {
} مرتهن النفس بأعمالها لا يأمن الإطلاق من حبسه {
} لنفسه صالح أعمالها وما سوى هذا على نفسه { 165
حكاية عن أحد الصالحين
حكي أن المنصور بن عمار رحمـه الله دخل على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك يا منصور مسألة
وقد أمـهلتك سنة كاملة من أعقل الناس ومن أجهل الناس قال فخرج منصور إلى بعض الفضاء من القصر ليخرج فإذا الجواب قد حضره فرجع إلى عبد الملك فقال له عبد الملك يا منصور ما الذي ردك إلينا قال يا أمير المؤمنين أعقل الناس محسن خائف وأجهل الناس مسيء آمن

فبكي أمير المؤمنين حتى بل ثيابه بدموعه ثم قال أحسنت والله يا منصور ثم قال له إقرأ علي شيئا من كتاب الله فهو الشفاء لما في الصدور وهو الدواء والنور
فقرأ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30 الآية
فقال عبد الملك قتلتني يا منصور ثم غشي عليه فلما أفاق قال له يا منصور ما معنى { ويحذركم الله نفسه } آل عمران 30 قال منصور عقوبته يا أمير المؤمنين فبكى عبدالملك ثم أفاق فبكى مرة أخرى ثم قال يا منصور وما معنى { رؤوف بالعباد } آل عمران 30 قال رحيم غفار لمن تاب وأناب قال وما ومعنى { ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30 قال كل صغيرة وكبيرة يجدها العبد يوم القيامة لم يغفر الله منـها شيئا
فبكى عبد الملك حتى غشي عليه فلما أفاق قال
66 رقة عبد الملك بن مروان
إن والله من فكر في هذه الآية وعصى مولاه بعد ذلك لقد ضل ضلالا بعيدا وأنشدوا
بكيت على عظم الذنوب وغزرها
وما قل من يبكي لعظم سؤاله
تفكر في عظم السؤال وهوله
وتندب دهرا زاد قبح فعالة
لعل إله العرش يرحم عبده
ويمنحه في الحشر طول وصاله
ويغفر ما قد كان في طول جهله
ويسكنـه بالعفو دار جلاله
وإن نظر الرب العظيم جلاله
فذاك جسيم من جزيل نواله
{ تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30 تجد والله كل نفس ما قدمت في الأيام من الطاعات والإجرام
ذلك يوم المصائب ويوم النوائب ويوم العجائب
يوم هتك الأستار يوم تسعر فيه النار يوم يفوز فيه الأبرار ويندم فيه الفجار وتعرض العباد على الواحد القهار
فالعجب كل العجب ممن قطع عمره في الأغفال وضيع أيامـه في المحال وأفنى شبابه في الضلال ولم يعمل بما في كتاب ذي المجد والجلال قال الله الكبير المتعال { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30 يقول الله تعالى يا ابن آدم تطلب موعظة ساعة وتقيم على الذنب سنة وأنشدوا
ما بال قلبك باللذات قد شغفا
وعن فوات صواب الفعل ما أسفا

} وقد توعده الجبار خالقنا
وبالذنوب وبالعصيان قد كلفا
67 توبيخ الله تعالى للعباد
ذكر في بعض الأخبار أن الله تبارك وتعالى يقول في بعض كتبه المنزلة على أنبيائه يا عبدي ما الذي زهدك في ورغبك في غيري عبدي أنا أتقرب إليك وتهرب عني وأطلبك وتفر مني عبدي بسطت لك غرور الدنيا فاشتغلت بها عني وآثرتها علي وزهدت في سعة رحمتي أهكذا يفعل المطيعون بأربابهم المحسنين إليهم عبدي من الذي سترك وكلاءك وحفظك ووقاك هل كانت لك شركة في نفسك معي أم هل كانت لك قوة بنفسك علي عبدي ما الذي قصرك عن عبادتي ما الذي زهدك في طاعتي أين أنت من هادم اللذات أين أنت من نواح الآباء والأمـهات أين أنت من المفرق بين البنين والبنات أين أنت ممن لا يستأذن على أصحاب القصور ولا يستأمر أرباب الدور أين أنت من قاصم الجبارين الموكل بأرواح المخلوقين عبادي أليس قد اضمحلت آثار الماضين ودرست
معالم السالفين واتبع اثارهم الباقون
ومن ذا الذي يقوم بخلود الدهر غيري ومن ذا الذي ينفع دوام الأبد غيري عجزت عن الخلود الجبال الراسيات والأطواد العاليات والبحار الطاميات
أنا الذي تفردت بالبقاء وحكمت على عبادي بالفناء أنا الله لا إله إلا أنا لا شريك معي في ملكي ولا نظير لي في حكمي ولا ضد لي في سلطاني
وأنشدوا
أما والذي لا خلد إلا لوجهه
ومن ليس في العز المنيع له كفو
لئن كان هذا العيش مرا مذاقه
لقد يجتني من غثه الثمر الحلو
168
السؤال لا يدع ذرة
واعلموا أن الله تبارك وتعالى مسائلكم عن الكبيرة والصغيرة والخفية والسريرة وعن كل ما قل وما دق وما جل لا يغفل عن شيء يجد العبد ما عمل حاضرا ويجزي بـه وافرا ويسأل عما عمل سرا وظاهرا { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30 تجد والله القليل والكثير والنقير والذرة والقطمير
وأنشدوا
والله لو بكينا طول الأيام
بدمع هامل سجام
وفررنا من الأهل والأوطان
إلى الجبال والآكام

خوفا من ذلك المقام لكن ذلك لنا قليلا خوفا من سؤال الملك العلام
فكيف ونحن لا نفيق من الغفلات ولا ننتبه من السكرات ولا نخاف يوما نجد فيه الحسنات والسيئات ونسأل عن المظالم والتبعات كما قال الذي فطر الأرض والسموات { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30
69 سؤال الله تعالى للعباد
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن الله تعالى يخلو بعبده يوم القيامة ليس بينـه وبينـه حجاب ويقول له عبدي عملت كذا وكذا في يوم كذا أما علمت أني مطلع عليك يا عبدي أفجعلتني أهون الناظرين إليك أما استحييت مني أما استحيت من ملائكتي أما خفت من عقابي عبدي أرويتك من الماء البارد وقويت جسمك ووسعت عليك من سعة رفدي فعصيتني حتى إن العبد ليذوب حياء من الله ويغمره العرق حتى يكاد يموت من الفزع ثم يقول العبد يا رب النار أهون علي من حيائي
منك ومن العباد
فيأمر الله تعالى بـه إلى النار فيمضي العبد وهو يرد رأسه ويقول يا رب وعزتك وجلالك ما عصيت بهذا كله استخفافا بحقك وما ظننت بك إلا أن تغفر لي كما سترت علي في الدنيا وقد أيقنت أن عصياني ذلك لا يضرك وأن رحمتك ي لا تنقصك
فيقول الله تبارك وتعالى عبدي صدقت لم تقطع رجاءك من رحمتي
فوعزتي وجلالي لأغفرن لك اليوم يا ملائكتي مروا بعبدي إلى الجنة
ومن العباد من يقول يا رب العذاب علي أهون من توبيخك لي أرسل بي إلى النار كما يفعل بالعبد الآبق عن مولاه
فيقول الله تبارك وتعالى عبدي ما وبختك إلا لأعرفك أن ذنوبك بعيني إذ عصيني بها وجعلت توبيخي لك كفارة لذنوبك وقد غفرتها لك وقد رحمتك وأنا أرحم الراحمين مروا بعبدي إلى الجنة
جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة أجمعين وتوفانا برحمته مسلمين وختم لنا عند فراق الدنيا بحسن الخاتمة وكلمة التقوى قول لا إله إلا الله محمد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعلى آله وشرف وكرم وحشرنا معه في المقام الأعظم مع أصحابه وأزواجه الكرام أمـهات المؤمنين آمين يا رب العالمين

6 مجلس ثاني في قوله سبحانـه وتعالى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } 170 قال الله سبحانـه وتعالى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30 يجد المؤمن الحسنات في قرار الجنات والقصور العاليات والحور والدرجات والنظر إلى رب الأرضين والسموات يجد الطائع البشرى ويجد الفاجر النار الكبرى يجد المؤمن الأمان مع السرور والرضوان ويجد الفاجر الهوان مع الذل والخسران يجد المؤمن من الملك الجزيل مع الثواب والتفضيل وأنـهار السلسبيل والنظر إلى وجه الملك الجليل ويجد الفاجر النوح والعويل والحزن الدائم الطويل والعذاب الشديد الثقيل بجد المؤمن الخلاص والتبجيل والاختصاص ويجد الفاجر العذاب وشدة القصاص
المؤمن يوم القيامة مرحوم والفاجر باللعنة مرجوم المؤمن عند الحساب مستور والفاجر عند السؤال مشـهور
المؤمن عند الحساب يلاطف والفاجر عند السؤال يكاشف
المؤمن حسابه عتاب والفاجر سؤاله عذاب
المؤمن يجد من مولاه الرحمة والفاجر يجد من الله النقمة
المؤمن حسابه يسير والفاجر حسابه عسير
المؤمن يجد لباسه حرير الجنان والفاجر لباسه سرابيل القطران
المؤمن يجد عمله سرورا والفاجر يجد عمله ويلا وثبورا
المؤمن يجد الاتصال والفاجر يجد الانفصال
المؤمن يجد الخلاص والفكاك والفاجر يجد الهوان والهلاك
المؤمن مع محمد النبي والفاجر مع الشيطان الغوي
المؤمن في وجهه نضرة النعيم والفاجر في وجهه ظلمة الجحيم المؤمن في الحساب ريان والفاجر في الموقف عطشان
وأنشدوا
أنت المخاطب أيها الإنسان
فأصخ إلي يلح لك البرهان
أودعت ما لو قلته لك قلت لي
هذا لعمرك كله هذيان
فانظر لعقلك من بيانك واعتبر
إتقان صنعته فثم الشان
وجزا محاسن فعلهم في حشرهم
عند الإله وعنده الرضوان
هذا لعمري ظاهر لا يختفي
نطق الرسول وبين الفرقان
71 حكم قدسية

ذكر في بعض الحكم التي أنزلت على الأنبياء عليهم الصلاة السلام عجبا لمن لا يرحم نفسه كيف يرحم وعجبا لمن يدوم على المعصية كيف يرجو حسن المآب وعجبا لمن يعمل أعمال النيران وهو يطلب نعيم الجنان كأنك يا أخي قد قربت من العرض والحساب ووقفت بين يدي الملك الوهاب فيأمر بك إلى الجنة وحسن المآب أو إلى النار وأليم العذاب تفكر في هذا كله يا مغرور لعل القسوة تنجلي من قلبك والوقر أن يزول عن سمعك والغطاء أن يرتفع عن بصر قلبك فإنـها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور
فانظر يا أخي بنور فكرتك وأطلق الموعظة على بحر عبرتك فلعل العين إن تدمع ولعل القلب أن يرق ويخشع فإذا جرت الدموع وخشعت القلوب محيت الذنوب وبلغت المنى والمرغوب ويسر حسابك علام الغيوب
وأنشدوا
} تذكري المكث في التراب حتى أنادي إلى الحساب
هون كل البلاء عندي وهكذا الفقد للشباب
فليت شعري وكم مقامي تحت الثرى أو متى أيابي
لو كان لي عقل ما هناني نومي ولا ساغ لي ي
} ولا ضحكت ولست أدري مالي لدى الله من حساب
72 النداء بأسماء الخلائق
ذكر في بعض الأخبار أن الخلائق إذا وقفوا في أرض القيامة فيقف كل عبد وأمة إذ نادى المنادي باسمك يا مغرور على رؤوس الأولين والآخرين أين فلان بن فلان أو أين فلانة بنت فلان هلم إلى الحساب بين يدي رب العالمين فاستقر في سمعك يا مسكين إنك أنت المنادي من جميع الخلق فقمت على قدميك قد تغير من الفزع لونك وانخلع من الجزع قلبك واضطربت من الهلع مفاصلك وقد سمع من كان حولك حسيس قلبك بالخفقان وأوصالك قد اشتدت في
الطيران فكادت نفسك أن تزهق من خوف الرحمن فإذا نظر الملك الموكل بسوقك وقد تغير لونك وتحير لبك علم أنك أنت المنادى باسمـه فإذا كنت من أهل النفاق والعصيان للملك الخلاق نظر على وجهك ظلمة الذنوب فعلم أنك عدو لعلام الغيوب فجمع بين ناصيتك وقدميك غضبا لغضب الله عليك
73 أهل الرشاد وال توفيق

قال الله تبارك وتعالى { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام } الرحمن 41 وإن كنت من أهل الرشاد والتوفيق والسداد الذين وفوا الله بالميعاد وخافوا مولاهم رب العباد أخذ بيدك الملك وقادك يجوز بك بالرفق ورفع الخلائق أبصارهم إليك وتمنوا مثل ما من الله عليك وأنت سائر إلى ربك ليجازيك بسعيك ويعدل عليك بكسبك فلما انتهى بك الملك إلى سلطان العظمة فإن كنت من أهل السير الصالح في الدنيا سترك جل جلاله بالنور وأبدى لك البشرى والسرور وقربك وأدناك وفضلك وحاباك فلم يطلع على حسابك ملك ولا نبي ولا رسول إلا الملك الجبار الذي لا يحول ولا يزول فيقول لك عبدي أنت الذي كنت تسهر والعباد نائمون وتصوم والعباد يشبعون وتبكي والعباد يضحكون وتحزن والعباد يفرحون وتخافني والعباد آمنون أنت الذي كنت تجتهد في عبادتي والعباد بطالون وتتصدق والعباد يبخلون وتبذل المعروف بين عبادي والناس يمنعون
يقول المولى جل جلاله فوعزتي وجلالي وملكي ومجدي وكبريائي وعظيم سلطاني وقدرتي على جميع العباد لأومنن روعك ولأبيحنك جنتي ولأوسعنك مغفرتي ورحمتي ولأعطينك من جزيل ثوابي وحسن مآبي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
ولأبيحنك النظر إلى وجهي ولأرفعن قدرك وجاهك ولأشفعنك في إخوانك وأهلك وأحبابك وجيرانك من أهل الذنوب والخطايا
74 شفاعة العبد المؤمن
يقول المولى جل جلاله يا عبدي أخرج إلى موقف الحشر فانظر إلى من لقيني من أهل الذنوب على التوحيد قد شفعتك فيه خذ بيده وانطلق بـه إلى الجنة
بلا خوف ولا حزن والله تعالى أعلم
وأنشدوا
عني إليك فما اللذات من شغلي
ولا سبيل الصبا واللهو من سبلي
حال التقى دون ما قد كنت تعرفه
فلست منـه على زيغ ولا زلل
في الحشر لي شغل عن كل مشتغل
بلذة وعن الألحاظ والمقل
هذا إطار الكرى عن مقلتي وزوى
عني المنى وطوى المبسوط من أملي
كم ليلة بت فيها ساهرا أرقا
أخشى العقاب وأخشى سرعة الأجل

قال الله تعالى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينـها وبينـه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد } آل عمران 30 رؤوف والله بالمؤمنين ذو نقمة على الظالمين رؤوف بأهل الإحسان وذو انتقام من أهل العصيان رؤوف بأهل السداد وذو انتقام من أهل العناد يا مغرور تفكر في هذه الآية فلك فيها من التخويف غاية ومن الزجر والتقريع نـهاية فازجر نفسك عن هواها عساك تبلغها يوم العرض مناها
75 حكاية عن ذي النون المصري
حكي عن ذي النون المصري بن إبراهيم الأخميمي رحمـه الله تعالى عليه أنـه قال خرجت مرة من المرات إلى ناحية الأردن من أرض الشام فلما علوت الوادي فإذا أنا بسواد قد اقبل وهو يقول { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } الزمر 47 فلما قرب مني السواد إذا هو شخص فتأملته فإذا هو امرأة عليها جبة صوف وخمار من صوف وبيدها ركوة وبيدها الأخرى عكاز فقالت لي غير فازعة مني من أنت فقلت لها رجل غريب فقالت يا هذا وهل يوجد مع الله غربة وهو مؤنس الغرباء ومعين الضعفاء فاجعله أنيسك إذا استوحشت وهاديك إذا ضللت وصاحبك إذا احتجت
قال ذو النون فبكيت من كلامـها فقالت مم بكاؤك قلت لها وقع دواؤك على دائي وأنا أرجو أن يكون سببا لشفائي قالت فإن كنت صادقا في مقالتك فلم بكيت قلت لها رحمك الله والصادق لا يبكي قالت لا قلت لها لم لا يبكي الصادق قلت لأن البكاء راحة القلب وملجأ يلجأ إليه وما كتم القلب أحر من الزفير والشـهيق وذلك ضعيف عند أوليائه قال ذو النون فبقيت والله متعجبا من قولها فقالت لي مالك قلت أنا والله متعجب من قولك قالت وهل نسيت القرحة التي ذكرتها قال
قلت لها رحمك الله إن رأيت أن تمني علي الزيادة

فقالت وما أفادك الحكيم في مقامك بين يديه من الفوائد ما يستغني بـه عن طلب الزوائد قال قلت لها رحمك الله ما أنا بمستغن عن طلب الزوائد قالت صدقت يا مسكين حب مولاك واشتق إليه فإن له يوما يذيق فيه أولياءه كأسا لا يظمئون بعده أبدا
ثم علا شـهيق ثم قالت يا حبيب قلبي إلى كم تخلفني في دار لا أجد فيها صادقا بريئا من الدعاوى الكاذبة يسعدني البكاء عن أيام حياتي
ثم تركتني وانحدرت في الوادي وهي تقول اللهم إليك لا إلى النار حتى غاب شخصها عن بصري وانقطع صوتها عن سمعي
قال ذو النون فوالله ما ذكرت كلامـها قط إلا كدر علي أحشائي وعيشي
قال ذو النون فلقد أدبتني واستقام حالي مذ رأيتها
وأنشدوا
أريد وأنت تعلم ما مرادي
وتعلم ما تلجلج في فؤادي
} فهب لي ذلتي واغفر ذنوبي
وسامحني بها يوم التنادي
76 رجع إلى الموعظة
يا أخي مالك لا تفكر في قول مولاك الذي لم يزل عليك شـهيدا وهو يسمعك ويراك قوله تعالى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينـها وبينـه أمدا بعيدا } آل عمران 30 الآية
أقرع يا مسكين بهذا الكلام باب قلبك فعساك تزيل عنـه الأقفال وترده عن الغي والمحال وتوقظه عن السهو والإغفال قال الله الكبير المتعال { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } محمد 24 { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30 يوم يظهر الخفي من أعمالك يوم تبكي على قبيح أفعالك يوم يجزن المسيء من أقوالك يوم تنوح على خطاياك وضلالك
77 جهنم وشدتها
ذكر أن الخلق إذا اجتمعوا في الموقف وضاق المتسع وعظم الفزع واشتد الجزع واختلفت الأقدام وكثر الازدحام وجاءت جهنم بالهول الأعظم والعذاب المقيم الألزم ووقفت بين يدي الجبار خاضعة للملك القهار أمر الجبار جل جلاله أن تفتح أبوابها وترفع كل جلال عليها وهي سبعة أبواب على كل باب سبعمائة ألف جلال وهي الحجب
ولولا تلك الاجلال لاحترقت السموات

ومن فيها والارضون ومن عليها غلظ كل جلال خمسمائة عام فإذا فتح منـها الأبواب رفعت تلك الحجب من عليها ورمت النفط والقطران وحجارة الكبريت ويخرج منـها عنق من نار أسود فيلتقط من الموقف كل ذهب وفضة وياقوتة وزبرجدة ولؤلؤة استعدت لزينة الدنيا
78 زينة الدنيا الزائلة
فيأخذ الكل ويجمعه والجبار جل جلاله يقول لها اتركي ما لم يكن لنا فكل ما كان من زينة لم يرد بـه وجه الله تعالى أخذته النار ومناد ينادي أصحابها هذه زينتكم التي اشتغلتم بها عن طاعة الله عز وجل وآثرتموها على ما عند الله ولم تتبعوا سنن النبيين ولا سير الصالحين
ثم ينادي المنادي اتبعوا زينتكم فتخرج عنق من النار مرة أخرى فتلتقط أصحابها إلا من رحم الله
79 صاعقة جهنم
فعند ذلك يقول كل عبد وأمة يا ليت هذا كله جعلته في جنب الله يا ليته لم يكن معي يا ليته بعد عني ثم يأمر الله تعالى أن ترتفع صاعقة من جهنم سوداء فتسود وجوه أقوام من الرجال والنساء وتعمى أبصار قوم من الرجال والنساء وتختم على أفواه قوم من الرجال والنساء فذلك قول الله عز وجل { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } آل عمران 106 يا أخي يا مسكين يا ضعيف اليقين مثلي أتراك من أي الفريقين تكون أمن الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الملك الرحيم أو من الذي اسودت وجوههم في العذاب الأليم أفهل تكون من الذين ابيضت وجوههم بالرحمة أم من الذين اسودت وجوههم بالنقمة فكل من اسود وجهه قد أيقن بالنار وكل من ابيض وجهه قد أيقن أنـه من أهل دار القرار فيا لها من فرحة ما أعظمـها ويا لها من مصيبة ما أدومـها فإذا نزل السواد في وجه من شاء الله تبارك وتعالى صار ذلك السواد حجابا بينـه وبين النظر إلى وجه مولاه وإذا نزل البياض في وجه من أراد الله تبارك وتعالى يبيض وجهه رفع ذلك النور حجاب الذنوب الذي يحجب العبد عن النظر إلى وجه علام الغيوب
80 من ابيض وجهه
وذلك أن البياض نور المغفرة وهو نور الرحمة وهو نور القرب وهو نور

الوصال والسواد أيضا هو سواد البعد وهو سواد الانفصال وهو سواد النكال وهو سواد النقمة وهو سواد الحجبة قال الله تعالى { كلا إنـهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } المطففين 15 فالحجاب يا مسكين يا مغرور في الدنيا وقع على قلبك باكتساب السيئات ودوامك على الخطيئات واشتغالك عن رب الأرضين والسموات قال الله تبارك وتعالى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران 30 فيا معشر المذنبين أبعدوا السوء وأبدلوه بالإحسان وارغبوا في نعيم الجنان وارجعوا عن الأوزار والعصيان فإنـها تزيدكم من عذاب النيران
يا أخي أبعد السوء وأبغضه بغضا شديدا وكن على إبعاده بالتوبة جلدا جليدا من قبل أن يأتي يوم تود أن لو كان السوء عنك بعيدا ولم تتبع شيطانا غويا مريدا
وأنشدوا
يا من إليه جميع الخلق يبتهلوا
وكل حي على رحماه يتكل
يا من نأى فرأى ما في الغيوب وما
تحت الثرى وحجاب الليل منسدل
يا من دنا فنأى عن أن تحيط به
الافكار طرا أو الأوهام والعلل
أنت الملاذ إذا ما أزمة شملت
وأنت ملجأ من ضاقت بـه الحيل
أنت المنادى بـه في كل حادثة
أنت الإله وأنت الذخر والأمل
أنت الغياث لمن سدت مذاهبه
أنت الدليل لمن ضلت بـه السبل
إنا قصدناك والآمال واقعة
عليك والكل ملهوف ومبتهل
} فإن غفرت فعن طول وعن كرم
وإن سطوت فأنت الحاكم العدل
81 حكاية ذي النون عن الراهب الصامت
قال ذو النون رحمـه الله ذكر لي عن راهب بالشام أنـه لم يكلم أحدا مدة أربعين سنة فنـهضت إليه فلم أزل أنادي تحت صومعته وأقسم أن يشرف علي حتى أشرف من أعلا صومعته فراودته على الكلام فأبى علي فقلت له بالذي سكت من أجله ومن خوفه إلا أجبتني عما أسألك عنـه فقال لي قل ولا تطيل الكلام علي قلت له منذ كم أنت في هذا الموضع فقال منذ يوم واحد فقلت له وكيف ذلك قال سمعت الناس يقولون أمس واليوم وغدا فأما أمس فقد فات وأما اليوم فلي وأما الغد فلا أدري أبلغه أم لا ثم أدخل رأسه فما كلمني وهو

يبكي ويقول لا صبر لي على النار
وأنشدوا
أيا نفس لا صبرا على النار فاعلمي
وكوني على خوف من النار ما عشت
ودومي على الأحزان ما دمت حية
عسى تذهب الأحزان عنك إذا مت
يقولون في طول الكلام بلاغة
وقد علموا أن البلاغة في الصمت
إذا العبد لم يلعب هواه بعقله
عصى ربه وازداد مقتا على مقت
82 تقسيم العمر على الأعمال
معشر المذنبين اجعلوا أعماركم ثلاثة أيام يوم مضى يوم أنتم فيه يوم تنتظرونـه لا تدرون بما يأتيكم من صلاح أو فساد ولعلكم لا تبلغونـه فأصلحوا اليوم الذي مضى بالندم على ما فاتكم فيه من الطاعة والإحسان وما اقترفتم فيه من الذنوب والعصيان واليوم الذي مضى إنما تصلحونـه في اليوم الذي أنتم فيه بالبكاء والندامة وذم النفس مع الملامة
وأنشدوا
} حتى متى نحن والأيام نحسبها وإنما نحن فيها بين يومين
يوم تولى ويوم أنت تأمله لعله أجلب الأيام للحين
آنس الله روعتي وروعتكم يوم النشور وآنس وحشني ووحشتكم في القبور إنـه على ذلك قدير وهو عليه يسير وأماتنا وإياكم على هذه الكلمة شـهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مبدلين ولا مغيرين ولا مبتدعين آمين رب العالمين

7 مجلس في قوله تعالى { فأما من أوتي كتابه بيمينـه } الآية 183 يا أخي يا مسكين يا حيران من الذنوب والعصيان يا من تعرض لسخط الملك الديان يا من أقر عين عدوه الشيطان بتماديه على الخذلان والضلال والبهتان والأوزار والطغيان يا مغرور إنك آخذ كتابا ووارد حسابا ونازل ثوابا أو عذابا
فقدم يا غافل في دار الغرور ما تجده في الكتاب المنشور من الثواب والحبور والفرح والسرور والضياء والنور من رحمة العزيز الغفور
84 أين الكتب يوم القيامة

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة بعث الله تبارك وتعالى ريحا تطيرها بالإيمان وبالشمائل أول حرف في الكتاب { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } الإسراء 14 ما أعدل الملك الوهاب إذ جعل الإنسان حسيب نفسه في قراءة الكتاب
يا مسكين يا مغرور إن أخذت الكتاب بالشمال فحسبك العذاب والنكال والمحن والأهوال والسلاسل والأغلال والحميم والخبال واللعنة والانفصال من ذي الجود والجلال
وإن أخذت الكتاب باليمين فحسبك المقام الأمين في أعلا عليين مع الولدان والحور العين والاتصال برب العالمين وبمحمد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين
وإن أصررت في الدنيا على جرمك ولم تتب إلى مولاك عن قبيح ذنبك فسوف تأخذ كتابك من وراء ظهرك فتجد فيه ما يحزن قلبك ويعظم حزنك ويكثر كربك فيا معشر المذنبين اعلموا أنما جعل الله الدنيا ابتلاء واختبارا وأوجب عليكم فيها حقوقا كبارا فمتى ضيعتموها فقد أودعتم كتبكم آثاما وأوزارا ومتى وفيتم بها فقد ملأتم كتبكم سرورا وأنوارا
وما من عبد ولا
أمة إلا وله كتاب يقرؤه يوم العرض والحساب وإنما مثل الناس عند قراءتهم الكتاب كمثل الزارع إن زرع طيبا رفع طيبا وإن زرع خبيثا رفع خبيثا
يا أخي فكأنك أنت كتبته بأقوالك وملأته بأفعالك وسودته بالقبائح من أعمالك
وأنشدوا
كأني بنفسي في القيامة واقف
وقد فاض دمعي حين أعطي كتابيا
لعلمي بأفعالي وسوء مناقبي
وأن كتابي سوف يبدي المساويا
فيا أهل الذنوب مثلي اعلموا أن الأعمال قد أثبتت عليكم في الديوان من الإحسان والعصيان والزيادة والنقصان والنفاق والإيمان وأنت غافل في سكرة الغرور وكتابك مملوء بالويل والثبور فبادروا إلى الصحائف وأمحوا ما فيها من القبائح ومحصوا ما قد ثبت عليكم من الفضائح وذلك باكتساب الحسنات كما قال رب الأرضين والسموات { إن الحسنات يذهبن السيئات } هود 114
85 أول الناس حسابا

ذكر في بعض الأخبار أن أول ما يحاسب الله من الأمم أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} فإذا اجتمع الأولون والأخرون في أرض القيامة وقفت أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} فأول من يدعي منـهم إلى الحساب رجل من قريش من بني مخزوم يقال له عبد الله بن عبد الأسد وله أخ يقال له الأسود بن عبد الأسد وفيهما نزلت هاتان الآيتان { فأما من أوتي كتابه بيمينـه } الحاقة 15 إلى قوله { في الأيام الخالية } الحاقة 24 نزلت هذه الآية في عبدالله بن عبد الأسد { وأما من أوتي كتابه بشماله } الحاقة 25 وهو الأسود بن عبد الأسد فأما عبد الله وهو المؤمن فيدخل من وراء الحجب فيوقف بين يدي الله عز وجل فترعد فرائصه وتنفك أوصاله وتذهل نفسه من شدة الخوف من الله تعالى فبينما هو على أشد الأحوال من الخوف بين يدي الجبار جل جلاله إذ يأتيه ملك من عند الله تعالى وبيده صحيفة بيضاء مختومة بخاتم الخلد فيقول له الملك
86 كتاب الحسنات
هذا كتابك فيتناول الكتاب بيمينـه وكل من كان من أهل الشقاوة إذا أوتي كتابه يروم أن يمد اليمين لأخذه فلا يقدر لأنـه يجد يمينـه كأنما علقت فيها جبال
الدنيا فلا يطيق أن يرفعها من الثقل وقيل إنـها تغل يده وقيل إنـها تلصق بجسده وقيل إن الملك يقول له يا عدو الله خذ كتابك بشمالك فإنك من أصحاب الشمال جعلنا الله وإياكم من أصحاب اليمين
فيتناول عبد الله أخو الأسود كتابه بيمينـه ويقال له إقرأ ما عملت من خير وشر ولا تلومن إلا نفسك فيفض خاتم الكتاب فينشر كتابه فإذا هو مكتوب بخط أبيض في باطن الكتاب السيئات وفي ظاهره الحسنات فيقال له إقرأ سيئاتك فأول حرف يجد في الكتاب أصغر ذنب عمله في الدنيا فإذا رأى ذلك الذنب ميل رأسه ونكسه حياء من الله تعالى وسال منـه من العرق ما لو أن مائتين من الإبل أكلت حمضا والتهبت عطشا ووردت على عرقه لشربت كلها ورجعت وقد رويت وما نقص من عرقه شيء
87 كيفية السؤال

هذا كله حياء من الله عز وجل فيقول الجبار جل جلاله عبدي فيقول لبيك ربي وسعديك فيقول ارفع رأسك أتعرف ذنبك هذا فيقول مولاي وسيدي وعزتك وجلالك إني لأعرفه فيقول عبدي أتذكر يوم كذا وكذا في موضع كذا وكذا وأنت على هذا الذنب فيقول نعم وعزتك وجلالك
فيقول له الجبار جلب جلاله عبدي إنك إذا أخفيت ذلك من الخلائق لقد علمت أني كنت مطلعا عليك فيقول بلى يا سيدي ومولاي وعزتك وجلالك لقد علمت ذلك فيقول له جل جلاله أما استحيت مني أما راقبتني أما علمت أن مرجعك إلي
والعبد في هذا التوبيخ قد علاه العرق وذاب من شدة الغرق فيقول مولاي وسيدي لأن ترسل بي إلى النار أهون علي من هذا التوبيخ فيقول الله تبارك وتعالى عبدي أليس قد سترتها عليك في الدنيا فيقول العبد مولاي لقد فعلت ذلك بي فيقول جل جلاله عبدي وعزتي وجلالي ومجدي وجودي وكرمي لقد محوتها من قلوب الملائكة وقلوب الآدميين وابقيتها بيني وبينك حتى تعلم نعمتي عليك وأفضالي لديك في الدنيا والآخرة
88 غفران الذنوب
فلا يزال جل جلاله يفعل بـه ذلك في كل ذنب حتى يقرأ جميع ما في كتابه من الذنوب فإذا أتي على آخر الكتاب وجد فيه عبدي هذه سيئاتك قد غفرتها لك
فعند ذلك يبيض وجهه وتحسن بشرته ويذهب عنـه الحزن والهم والجزع
ثم يقول الله جل جلاله قلب كتابك فاقرأ حسناتك فيقلب العبد كتابه فيقرأ حسناته كلما
مر على حسنة ازداد قلبه فرحا وسرورا وازداد بياضا وحسنا ونورا ثم يؤتى بتاج من نور فيوضع على رأسه لو أخرج ذلك التاج إلى الدنيا لكسف نوره ضوء الشمس والقمر
89 لباس المكرمين

ويؤتى بحلتين من حلل الجنة شبر منـها خير من الدنيا وما فيها مائة ألف مرة فيلبسها ويحلى كل مفصل منـه بحلى الجنة ويقال له أخرج على الناس وأخبرهم وبشرهم أن لكل عبد وأمة من المؤمنين مثل ذلك فعند ذلك يخرج عبد الله بن عبد الأسد وكتابه بيمينـه وقد أشرق وجهه نورا وقلبه قد امتلأ سرورا قد جرت على وجهه نضرة نعيم الجنان وتلك علامة لأهل الإيمان والملك آخذ بيمينـه وهو ينادي عليه نداء البشرى ألا إن فلانا لأهل الإيمان والملك آخذ بيمينـه وهو ينادي عليه نداء البشرى ألا إن فلانا قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا والخلائق قد رفعوا أبصارهم إليه وتمنوا مثل ما من الله بـه عليه وهو يقرأ { هاؤم اقرؤوا كتابيه } ليس فيه سيئة واحدة قد غفر الله تبارك وتعالى جميع ذنوبي ومحاها عني { إني ظننت أني ملاق حسابيه } إني أيقنت في الدنيا أني ألقى هذا اليوم وكنت خائفا من هوله ومن قراءتي كتابي ومن حساب ربي جل جلاله فلا يزال كذلك حتى ينتهي إلى أصحابه فيقولون من هذا العبد الذي أكرمـه الله ورضي عنـه اللهم اجعله من أحبابنا وقربه منا حتى ننظر إلى ما قد فضله مولانا بـه فإذا قرب منـهم سلم عليهم فيقولون له من أنت يا عبد الله فيقول أو ما تعرفوني فيقولون له يا عبد الله لقد زينتك كرامة المولى جل جلاله حتى لا نعرفك فمن أنت فيقول لهم أنا عبد الله بن عبد الأسد ألا وإن لكل واحد منكم مثل هذا وهكذا يفعل الله تبارك وتعالى بكل مؤمن يكون رأسا في الخير يدعو إليه ويأمر بـه ثم يشفعه الله تبارك وتعالى في كل من شاء من أهل الذنوب فعند ذلك يفرح أصحابه بما قد بشرهم بـه من المغفرة والفوز بالجنة والنجاة من النار { فهو في عيشة راضية } قد رضى ورضيت نفسه ورضي مولاه عنـه وهو راض بتلك العيشة والعيشة الجنة { في جنة عالية } في غرفة ارتفاعها مسيرة مائة عام من لؤلؤة بيضاء أو من ياقوتة حمراء ملاطها المسك الأذفر والعنبر الأشـهب والكافور الأبيض { قطوفها دانية } يعني

ثمارها دانية منـهم إذا
اشتهوها نزلت عليهم حتى تدخل عليهم في منازلهم فتدنو منـهم فيأكلون من ثمارها ما يشتهون وهم نيام أو قعود أو قيام على أي حال أرادوا ثم ترجع إلى أماكنـها وذلك قوله تعالى { كلوا واشربوا هنيئا } الحاقة 24 لا موت فيها ولا حزن { بما أسلفتم في الأيام الخالية } الحاقة 24 يعني الأيام االماضية وهي أيام الدنيا التي أطاعوا الله تبارك وتعالى فيها واستقاموا ولم يزوغوا عن طاعته
وأنشدوا
ببابك عبد من عبيدك مذنب
كثير الخطايا جاء يسألك العفوا
فأنزل عليه العفو يا من بمنـه
على قوم موسى أنزل المن والسلوى
أنا عبدك المسكين فارحم تضرعي
ولا تجعل النيران يا رب لي مثوى
وخفف من العصيان ظهري إنني
بلغت من الأوزار غايتها القصوى
فهذا عبد الله بن عبد الأسد الذي أنزل الله تعالى في هذه الآية وعلى سيرته في الحساب تجري سير المؤمنين من أمة {صلى الله عليه وسلم} على قدر أحوالهم واجتهادهم في الدنيا في الخير والاستقامة على طاعة الله
90 أشد الناس عذابا
وأما قوله تعالى { وأما من أوتي كتابه بشماله } الحاقة 25 فهو الأسود بن عبد الأسد المخزومي وهو أخو عبد الله بن عبد الأسد وذلك أن الله تعالى يدعو بـه على أثر أخيه عبد الله فيدخل الأسود حتى يوقف وبينـه وبين الله عز وجل حجاب السخط فيكون من وراء الحجاب لأن الله تبارك وتعالى لا يراه إلا المؤمنون وأما الكفار فلا يرونـه قال الله تعالى { كلا إنـهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } المطففين 15 فيوقف الأسود بين يدي الملائكة يرتعد من خوف العذاب والملائكة الذين معه هم ملائكة العذاب فبينما هو كذلك إذ يأتيه ملك من ملائكة السخط فيأخذ بيده اليمنى ثم يهزها فيخلعها من موضعها فيعلقها من صلبه بجلده ثم يأخذ برأسه فيلوي عنقه فيحول وجهه في قفاه
91 كتاب السيئات
ثم يأتيه ملك من وراء ظهره في يده صحيفة سوداء فيها كتاب بخط أسود في باطن الكتاب حسناته وفي ظاهره سيئاته والكتاب مختوم فيقال له هذا كتابك خذه

فلا يقدر أن يتناوله بيمينـه لأن يمينـه مخلوعة من منكبه فيتناول كتابه بشماله فيقال له فض خاتم الكتاب فيفضه ويقال له انشر كتابك اقرأ فينشر الصحيفة وهي سوداء فيبدأ بباطن الكتاب فتستقبله حسناته فيقرؤها ويفرح ويظن أنـه سينجو من عذاب الله تبارك وتعالى حتى إذا بلغ آخر الصحيفة وجد فيها هذه حسناتك قد ردت عليك لأنك لم ترد بها وجه الله تعالى والدار الآخرة وذلك قوله تعالى { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون } هود 15 أي لا ينقصون تعجل لهم في الدنيا أجور أعمالهم ولا يثابون في الآخرة بشيء من أعمالهم ولا تجاوز عنـهم في شيء من أعمالهم السيئة حتى يعذبهم الله تعالى عليها وأعمالهم الحسنة أحبطها الله عز وجل بالكفر والأعمال الصالحة التي يراد بها وجه الله تبارك وتعالى يجازي الله تعالى عز وجل أصحابها بالثواب الباقي وهو نعيم الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم فوجه الله باق ونعيم الجنة باق لأن الله تعالى خلق الجنة ثوابا لأهل الأعمال الصالحة التي يراد بها وجه الله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } القصص 88 وكل عمل يراد بـه وجه الله لا يهلك يبقى ثوابه لصاحبه وثوابه الجنة فإن الله تبارك وتعالى يثيب على العمل الباقي بالنعيم الدائم الباقي ويثيب على العمل الفاني وهو ما يعمل للدنيا وزينتها بالعرض الفاني وهو حطام الدنيا والمؤمن لا يرضى الله عز وجل أن يثيبه على عمله الصالح بعرض الدنيا وإن وسع عليه في الدنيا فإنما يعطيه ذلك زيادة معونة يستعين بها على طاعته وأجر عمله أدخره له ليوم فقره إذا احتاج إليه ثم يقال للأسود بن عبدالأسد إقلب كتابك فاقرأ فيقلب ظاهره فتستقبله سيئاته مثل الجبال الرواسي وهي سود بخط أسود لأنـها محبوطة بالكفر غير مقبولة فأول سيئة يقرؤها يسود وجهه ويسمج لونـه كلما قرأ سيئة ازداد سماجة وقبحا فإذا بلغ آخر الصحيفة وجد فيها هذه سيئاتك قد أضعفت إني قد أضعف عليك العذاب

بعملك السيئات
92 صفة العذاب للكافر
فيرجع وجهه أشد سوادا من القار وهو الزفت ويعظم جسده للنار حتى يكون ما بين منكبيه مسيرة شـهر وغلظ كل فخذ من فخديه مسيرة ثلاثة أيام وما بين شفتيه العليا والسفلى أربعون ذراعا وقد خرجت أنيابه وأضراسه من بين شفتيه
بادية وعيناه زرق وحدقتاه قد وقعتا على وجهه من شدة ما هو فيه من العذاب وكل ضرس من أضراسه أعظم من جبل أحد شعره كآجام القصب وله سبعة جلود غلظ كل جلد منـها أربعون ذراعا ما بين الجلد إلى الجلد مسيرة ثلاثة أيام فيها ديدان لها جلبة كجلبة الوحوش في البرية في جسده من الشعر ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى في أصل كل شعرة من الآلام والوجع والعذاب ما لو قسم على أهل الدنيا من يوم خلقهم الله تعالى إلى يوم يبعثهم لماتوا كلهم في أسرع من طرفة عين
ثم يؤتى بسلسلة ذرعها سبعون ذراعا فتغل بها يداه وعنقه ويدخل طرفها في فيه وتخرج من دبره ثم يلف ما بقي منـها على عنقه يتوقد ويشتعل نارا ثم يؤتى بصخرة من كبريت أعظم من الجبل العظيم لو وضعت على جبال الدنيا لذابت من حرها فتعلق في عنقه وهي تشتعل نارا ثم يؤتى بتاج من نار فيوضع على رأسه فيصعد حر الصخرة إلى وجهه وينزل حر التاج إلى وجهه ويجتمع مع حر الصخرة ولا يقدر أن يرفع عن وجهه بيديه لأنـهما مغلولتان إلى عنقه قال الله تعالى { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة } الزمر 24 وقال عز وجل { وتغشى وجوههم النار } إبراهيم 50 تغشى وجوه الكفار
ثم يؤتى بسربال من قطران وهو نحاس جهنم قد انتهى في شدة الحر فيلبسه لو أن ذلك السربال ألقي في الدنيا لصارت الدنيا من مشرقها إلى مغربها جمرة واحدة أسرع من لمح البصر ثم يقرن مع شيطان يكون ذلك الشيطان عليه أشد من كل عذاب يعذب بـه ثم يقال له أخرج على الناس وأخبر أصحابك أن لكل واحد منـهم مثل هذا العذاب

فيخرج الأسود على أقبح الأحوال وكتابه بشماله ليس فيه حسنة واحدة وسيئاته ظاهرة للخلق والملك ينادي على الأسد بن عبد الأسود يا أهل الموقف قد شقي الأسود شقاوة لا يسعد بعدها أبدا
إلعنوه فإن الله تعالى قد لعنـه وسخط عليه فينادي بأعلا صوته نداء يسمعه أهل الجمع { يا ليتني لم أوت كتابيه } الحاقة 25 أي يا ليتني لم أعط كتابي بشمالي ولا يحل بي هذا البلاء الذي أنا فيه { ولم أدر ما حسابيه } الحاقة 26 أي يا ليتني تبت وآمنت ولم أحاسب بهذا الحساب ولا نزل بي هذا العذاب { يا ليتها كانت القاضية } الحاقة 27 أي يا ليت الموت عاد إلي حتى يريحني من هذا العذاب { ما أغنى عني ماليه } الحاقة 28 يعني المال الذي كان معه في الدنيا وكان ينفقه في غير الله ويبخل بـه في ذات الله تبارك وتعالى { هلك عني سلطانيه } الحاقة 29 أي انقطعت عني حجتي واضمحلت
ثم يأمر الله تبارك
وتعالى أن يخرج له منبر من جهنم من نار فينصب له ويصعد عليه وتبدو كل قبيحة عملها في الدنيا ويلعنـه كل من في الموقف ويعبره حتى يود لو أمر بـه إلى النار ثم يقول الله تبارك وتعالى للملائكة { خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } الحاقة 30 31 32 فيبتدره سبعون ألف ملك خلقوا من نار السموم مع كل ملك منـهم من العذاب خلاف ما مع الآخر فيأخذونـه بينـهم فيلقونـه في الهاوية من النار الحامية ويدخلون بسلسلة في فيه ويخرجون طرفها من دبره كما تصنع الخرزة في السلك ثم يطعم الغسلين وهو شيء أسود نتن لو أن قطرة من الغسلين أخرجت إلى الدنيا لمات جميع أهلها من النتن
93 طعام أهل النار

وإنما يطعم أهل النار الغسلين لأنـهم كانوا في الدنيا لا يرون أن يغتسلوا من الجنابة ولا يتوضؤوا للصلاة فيحرق الغسلين مواضع الوضوء والاغتسال وما سقط منـه أطعموه إياه جزاء بما ضيعوا في الدنيا من حقوق الله تعالى وهذا العذاب كله للأسود بن عبد الأسد وكذلك لكل من كان في الشر رأسا يأمر بـه ويدعو إليه يفعل بـه كما فعل بالأسود بن عبد الأسد وكل من كان في الدنيا في الخير رأسا يأمر بـه إليه يفعل بـه كما بالأسود بن عبد الأسد وكل من كان في الدنيا في الخير رأسا يأمر ويدعوا إليه يفعل بـه كما فعل بعبد الله ابن عبد الأسد يجزي الله تعالى الناس كلهم على هذا المنـهاج في الخير والشر والله يفعل ما يشاء لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل فنعوذ بالله من أعمال أصحاب الشمال

8 مجلس في قوله تبارك وتعالى { ووضع الكتاب } الآية 194 يا أهل الذنوب مثلي يا أهل العيوب مثلي يا من يعصي ولا يتوب يا من ألغي والمحال له صحوب يا من ضيع غاية المنى والمرغوب يا من سود كتابه بمعصية علام الغيوب اعلموا عصمنا الله وإياكم أن للعباد غدا صحائف يقرؤون فيها الحسنات والقبائح فمن كتب له حافظاه خيرا في الدار الفانية فهو خير له في الدار الباقية ومن كان خائفا في الدنيا من العذاب متحفظا مما يثبت عليه في الكتاب متجنبا لمعصية رب الأرباب وفقه الله مولاه للحق والصواب ويسر عليه برحمته الحساب ومحيت أوزاره من الكتاب ورضي عنـه الملك الوهاب وأمر بـه إلى الجنة وحسن المآب ومن علم أن عمله يثبت عليه في الديوان وهو يقرؤه لا محالة بين يدي الرحمن فكيف يألف العصيان وكيف يتحرك منـه اللسان بالزور والبهتان ومخالفة كتاب الملك الديان
95 الفرق بين الحسنة والسيئة

ذكر في بعض الحكم أن رجلا كان يسوق دابته فعثرت فقال الرجل تعست الدابة يعني عثرت فقال ملك اليمين لملك الشمال ليست بحسنة فاكتبها فأوحي الله تعالي لملك الشمال ما ترك صاحب اليمين فاكتبه أنت فكتب صاحب الشمال قول الرجل تعست الدابة واعظم من هذا انـه ما من عبد ولا أمة يتنفس نفسا إلا اثبت عليه في الكتاب فان خرج النفس في طاعة الله تعالى أثبته صاحب اليمين وان خرج النفس في غير طاعة الله أثبته صاحب الشمال حتى يحكم الله تبارك وتعالي يوم الحساب فيه بحكمـه فمن علم هذا يقينا فلا يحتاج أن تمر عليه ساعة من ساعاته ولا وقت من أوقاته ولا لحظة من لحظاته إلا في ذكر الله وفي الفكرة في عظمة الله
96 النجاة في ذكر الله
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال
ليس شيء أنجى للمؤمن من عذاب الله من ذكر الله وأكثر ما يجد المؤمن في صحيفته يوم القيامة الاستغفار في الليل والنـهار فكل من كان في الدنيا من قراءة كتابه خائفا مشفقا كان الله تبارك وتعالى بـه عند قراءته إياه رحيما مرفقا ومن كان في الدنيا من الغافلين كان عند قراءته من النادمين فلو رأيتم يا أهل الذنوب ما قد أثبت عليكم في الديون من الخطايا والعصيان والزور والبهتان والزيادة والنقصان والغفلة والنسيان لعظمت منكم المصائب وكثرت منكم النوائب ولسارعتم إلى الثواب والرغائب ولثبتم إلى رب المشارق والمغارب وأنشدوا
} ما بال عينك لا تبكي لما سلفا ذكر الذنوب وخوف النار والتلفا
يا أيها المذنب المحصى جرائمـه
لا تنس ذنبك واذكر منـه ما سلفا
من الذنوب التي لم تبل جدتها
كيف تبلى وقد أودعتها صحفا
أما تخاف أما تخشى فضائحها
إذا الغطاء انجلى عنـهن وانكشفا
اعلموا معاشر المذنبين لو أن الله تعالى اطلع بعضنا على صحائف بعض وكشف له ما فيها من الذنوب لكان الناس يشتغلون عن معايشـهم بتعيير بعضهم لبعض ولعنة بعضهم لبعض فإنا لله وإنا إليه راجعون
97 حكاية عن رقة بن واسع

حكي عن محمد بن واسع رحمـه الله أنـه ما رآه أحد قط ضاحكا وإن كان ليبكي حتى ترحمـه الناس فذكر له ذلك فقال يا أحبائي وكيف يضحك من لا يدري ما أثبت عليه في كتابه ولا يدري بما يختم له
اللهم اختم لنا بخير وكان رجل يكلم محمد بن واسع في حاجة فقال له محمد بن واسع ادن مني فلو كانت للذنوب رائحة لما قدرت أن تدنو مني فيا معشر المذنبين مثلي ونفسي أعني وكلنا مذنب لا تغتروا بستر الله تعالى عليكم فإن له يوما يهتك فيه الأستار ويحاسب عباده على ما عملوا في الليل والنـهار فقوم إلى الجنة وقوم إلى النار فالخير والشر قد حصل عليكم الكتاب الذي يوضع لكم يوم العرض والحساب بين يدي رب الأرباب قال الملك الوهاب { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه }
{ الكهف 49 وضع الكتاب للمؤمنين ووضع الكتاب للمجرمين وضع الكتاب لأهل الإيمان ووضع الكتاب لأهل الضلال والطغيان ووضع الكتاب لأهل الجنان ووضع الكتاب لأهل النيران ووضع الكتاب لأهل الثواب ووضع الكتاب لأهل العقاب ووضع الكتاب للطائعين ووضع الكتاب للعاصين ووضع الكتاب لأهل الإخلاص والوفاق ووضع الكتاب لأهل الرياء والنفاق ووضع الكتاب لأهل الوفاء ووضع الكتاب لأهل الجفاء ووضع الكتاب للعاملين ووضع الكتاب للباطلين ووضع الكتاب للقائمين وضع الكتاب للنائمين ووضع الكتاب للمستغفرين ووضع الكتاب للغافلين وضع الكتاب للسعداء وضع الكتاب للأشقياء وضع الكتاب لأهل الجنة وضع الكتاب لأهل المحنة ووضع الكتاب للأبرار وضع الكتاب للفجار وضع الكتاب لأهل التوبة ووضع الكتاب لأهل الحوبة وضع الكتاب لأهل الكرامة وضع الكتاب لأهل الندامة ووضع الكتاب لأهل الرشاد ووضع الكتاب لأهل الفساد وضع الكتاب لأهل الحسنات وضع الكتاب لأهل السيئات وضع الكتاب لأهل النعيم والسرور وضع الكتاب لأهل الويل والثبور فكتب تبشر بالجنة وكتب آخرها باللعنة والمحنة جعلنا الله وإياكم ممن يبشره كتابه بالجنة برحمته

98 إحاطة الكتاب بكل شيء
واعلموا يا معشر المذنبين أن الله تعالى لم يدع شيئا من القول إلا وقد فسره لعباده وأنزل بذلك كتابه العزيز فقال فيه تبارك وتعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } الإسراء 38 وقد أعلمنا إلهنا ومولانا أن { وكل إنسان ألزمناه طائره } الإسراء 13 وأن كل إنسان لا بد له من السؤال ولا بد له من حساب ولا بد من ثواب أو عذاب ومولانا عز وجل قد أمرنا بالعمل الصالح ووعدنا عليه بالجنة ونـهانا عن المعاصي وتوعدنا عليها بالنار وما قدمتم من خير وشر قد أثبت عليكم في كتاب مكتوب بالحسنات والذنوب
99 حكاية في كتابة الكتب
روي عن الحسن رحمـه الله أنـه قال ما من عبد ولا أمة يدفن إلا دخل عليه ملك في قبره معه دواة وقرطاس فيأخذ الملك برأس الميت ويقعده ويرفع إليه
ذلك القرطاس ويناوله قلما ويقول له اكتب جميع ما عملت في عمرك الذي وجبت عليك فيه الحدود من خير وشر فيأخذ الميت القلم فيكتب وإن لم يكن في الدنيا كاتبا فإن كان العبد من أهل السعادة فأول ما يجري القلم بيده بإذن الله تبارك وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم لأن بسم الله الرحمن الرحيم لا تكون في كتاب الشقاوة وإنما تكون في كتاب أهل الإيمان والسنة والأمان والغفران لأن بسم الله الرحمن الرحيم هي آية الإيمان وهي إخبار عن رحمة الله ولطفه جل جلاله يا أهل السنة من هذه الأمة فإذا ثبت العبد في كتابه بسم الله الرحمن الرحيم فقد أمن في قبره من العذاب والضيقة
00 البسملة وبركتها
وإذا لم يثبت في كتابه بسم الله الرحمن الرحيم فقد حل بـه العذاب في قبره فإذا كتب العبد ما عمل من خير وشر شقيا كان أو سعيدا يطوي الملك الكتاب ويعلقه في عنقه فإذا خرج العبد من قبره يوم القيامة جاءه ذلك الملك فأخذ الكتاب وناوله إياه وقال يا ولي الله أو يا عدو الله أتعرف هذا فيقول نعم أنا كتبته وأنا عملته فيقول له فاقرأه فيستقبله منـه ما سبق له من سعادة أو شقاوة

فالله الله معشر المذنبين مثلي المؤمنين لا تضيعوا أيامكم بالقبائح ولا تهملوا أعماركم في الذنوب والفضائح فإن جميع أعمالكم قد حصيت عليكم في الصحائف والصحائح وستقرؤوها بين يدي مولاكم وتشـهد عليكم الجوارح بالقبيح والحسن من أعمالكم
وأنشدوا
سوف يأتي عليك ساعة خوف
حين تعطى صحائف الأعمال
وكأني أرى فضائح قوم
قد تجلى لكشفها ذو الجلال
ليت شعري إذا قرأت كتابي
بيميني أعطاه أم بشمالي
حكاية عن عيسى عليه السلام
روي عن محمد بن اللباد رحمـه الله أنـه قال دخل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وعلى نبينا محمد {صلى الله عليه وسلم} مدينة خربة فدخل قصرا من قصورها فنادى يا خراب الآخر بين أين أهلك وعمارك فأجابه شيء من آخر القصر يا ابن مريم بادوا وسيعودوا فاجتهد يا أخي لا تفرط فإن العظام قد بليت وبقيت أعمالهم في رقابهم وأنشدوا
لا تحقرن من الذنوب صغيرها
إن الصغير غدا يعود كبيرا
كل الذنوب وإن تقادم عهدها
عند الإله مسطرا مسطورا
} أيها الرجل المقنع بالمشيب الملبس حلة المعاصي المريب قد خسرت أيام الشباب وبذلت مـهجتك للعذاب بغفلتك عما في الكتاب وإتباعك اللعين الكذاب وتهاونك بالحساب وصدودك عن الصواب ومعصيتك لرب الأرباب ما حبلتك يا مكروب مثلي سودت كتابك بالذنوب وعصيت مولاك علام الغيوب وبعت الحظ الجزيل بالكذب المشوب وضيعت الجنة التي ليس فيها نصب ولا لغوب واعلموا يا معشر المذنبين أن العبد إذا وفقه مولاه وأعطاه الفكرة في قراءة كتابه كان عند مولاه مستجاب الدعاء
02 حكاية في الاعتماد على الله
حكي عن مطرف بن الشخير رحمـه الله أنـه أرسل رسولا عن عوز ماء وكان في زمان الحر فأبطأ عليه الرسول وكان عنده جماعة قد عطشوا وكان معه قليل ماء فقام فتوضأ بذلك الماء ثم صلى ركعتين دعا فيهما مولاه سبحانـه فأرسل الله تبارك وتعالى سحابة حتى شرب هو وأصحابه فقيل له بم بلغت هذه المنزلة فقال جعلت كتابي نصب عيني في ليلي ونـهاري حتى كأني أقرؤه بين يدي ربي جل جلاله

03 حكاية عن مالك بن دينار
قال عبد الواحد بن زيد رحمـه الله كنا عند محمد بن واسع ومعه مالك بن دينار فجاء رجل فكلم مالكا وأغلظ عليه في الكلام في قسمة قسمـها وقال وضعتها في غير حقها وفضلت بها أهل مجلسك ليكثروا جمعك ولتصرف وجوه الناس إليك قال فبكى مالك بن دينار وقال ما أردت بهذا هذا الذي تقول قال بلى والله لقد أردته فلما أكثر على مالك الكلام رفع جيب يديه وقال اللهم إن هذا قد شغلنا عن ذكرك فأرحنا منـه كيف شئت فسقط الرجل ميتا بإذن الله
04 دعاء ابن واسع
وكان محمد بن واسع إذا جن عليه الليل يبكي ويقول في بكائه ويلي من ذنوب قد أحصيت ومن صحيفة قد ملئت وربي قد علم ذلك ولم يخف عليه من
ذلك شيء فأورثه الله تعالى ببكائه على كتابه وعلى حيائه من ربه الاستجابة في الدعاء وتنور القلب وأنشدوا
أرى المشيب بالعذار قد ألم
كأن موتي عن قريب قد هجم
خط المشيب أسطرا في مفرقي
فراعني ما خطه وما رقم
هل الفتى إذا انقضى شبابه
إلا كزرع هاج سوف ينحطم
شاب الفؤاد قبل شيب لمتي
واعتادني ضعف القوي قبل الهرم
ويحي من التوبيخ من ربي غدا
من ذلك الأمر الشديد المستهم
ويحي إذا نادى المنادي بي ألا
قم عبد سوء مسرع للعرض قم
ويحي إذا ما قال لي مقررا
وخص شيئا بعد شيء ثم عم
ما قد صنعت في فروضي والذي
قضيت منـها هل صفا لي هل سلم
فجئت ربي خاسرا قد أثقلت
ظهري ذنوب كالسحاب المرتكم

قال الله تبارك وتعالى { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه } الكهف 49 وضع الكتاب لفصل القضاء ووضع الكتاب للحزن والبكاء وضع الكتاب لتبدو الفضائح وضع الكتاب لتظهر القبائح ووضع الكتاب لتصح الصحائح الله الله يا معشر المذنبين حاسبوا أنفسكم قبل يوم الحساب وارحموا أنفسكم قبل نزول العذاب وبادروا بالتوبة قبل غلق الباب واجتهدوا في بقية أعماركم قبل وضع الكتاب وسارعوا إلى المغفرة من ربكم قبل الخجل بين يدي رب الأرباب وقبل أن تطلبوا برد الجواب وتحبس الألسنة عن النطق والخطاب وتشـهد الجوارح بما عملت من عصيان أو ثواب وأنشدوا
أبكي لذنبك طول الدهر مجتهدا
إن البكاء معول الأحزان
لا تنس ذنبك في الكتاب وعظمـه
إن الذنوب تحيط بالإنسان
مساكين أهل الذنوب أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن مساكين أهل الذنوب جلت كروبهم وعظمت خطوبهم وكبرت عيوبهم وأحصيت عليهم في الكتاب ذنوبهم
مساكين أهل الذنوب عصوا الجبار في الليل والنـهار وبذلوا مـهجتهم لعذاب النار وسودوا صحفهم بالخطايا والأوزار مساكين أهل الذنوب غفلوا عن الطاعة وخالفوا السنة والجماعة وخسروا أنفسهم قبل قيام الساعة
وأنشدوا
من كان يخشى الله جل جلاله
فليكثر العبرات في الخلوات
فلعله بعد التذكر والبكا
بدلت له العبرات بالحسنات
وتخفف الأوزار عن منشوره
يوم الحساب وموقف الحسرات
05 عجائب الكتب
قال الله تعالى { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه } الكهف 49 عباد الله عند وضع الكتاب عجائب وأحزان ومصائب وكروب ونوائب
فواحد يوضع له الكتاب فيبكي وآخر يوضع له الكتاب فيفرح ويبكي
وآخر يوضع له الكتاب فتجري على وجهه نضرة النعيم وآخر يوضع له الكتاب فتعلو وجهه ظلمة الجحيم
وآخر يوضع له الكتاب مختوما بسخط الرب الجواد
وآخر يوضع له الكتاب مختوما بالتوفيق والسداد
اللهم وفقنا للطاعة وأمتنا على السنة والجماعة ونجنا من أهوال يوم الساعة وأدخلنا في جملة أهل الشفاعة

واعلموا معشر المذنبين أن الماء يمحو الكتاب من ألواح الصبيان والدمع يمحو من كتبكم الأوزار والعصيان والهموم والغموم والأحزان
فاجتهدوا في البكاء معشر الإخوان وأكثروا الندامة فإنـها توجب الغفران
وأنشدوا
} دعوني على نفسي أنوح وأندب بدمع غزير وأكف يتصبب
دعوني على نفسي أنوح فإنني أخاف على نفسي الضعيفة تعطب
وإني حقيق بالتضرع والبكا إذا ما هدا النوام والليل غيهب
وجالت دواعي الحزن من كل جانب وغارت نجوم الليل وانقض كوكب
كفى أن عيني بالدموع بخيلة وإني بآفات الذنوب معذب
فمن لي إذا نادى المنادي بمن عصى إلى أين إلجائي إلى أين أهرب
وقد ظهرت تلك الفضائح كلها وقد قرب الميزان والنار تلهب
فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي لئن كنت في قاع الجحيم أعذب
فقد فاز بالملك العظيم عصابة تبيت قياما في دجى الليل ترهب
إذا أشرف الجبار من فوق عرشـه وقد زينت حور الجنان الكواعب
فناداهم سهلا وأهلا ومرحبا أبحت لكم داري وما شئتم أطلبوا
فبادروا رحمكم الله في هذه الأيام الشريفة إلى محو السيئات من الصحيفة
06 ضرب مثل في رقة القلب
يا أخي الخشبة اليابسة إذا دخل طرفها الواحد في النار عرق طرفها الآخر وكذلك القلب إذا كانت فيه حرقة ندامة الذنوب التي حصلت في الكتاب المكتوب الموضوع جادت العينان بواكف الدموع ولانت الجوارح بالخضوع والقلب بالإنابة والخشوع
وأنشدوا
كتبت بأدمعي في صحن خدي
كتابا بالتذلل والخضوع
} فقالوا قد عفونا عنك لما
محوت قبيح فعلك بالدموع
07 حكاية عن التوبة

ذكر عن بعض الخائفين أنـه قال رأيت رجلا وافقا على صبي من الصبيان في المكتب وهو يمحو لوحا وكان اللوح قد كتبه بالحبر وكانت الكتابة قد ثبتت ولا تزول بالماء فجعل الصبي يحك اللوح بالحبل والتراب فقال الرجل الواقف عليه يا بني مالك تحك اللوح بالحبل فقال ليزول الحبر الذي ثبت فيه فقال له الرجل والحبل يا بني يزيل الحبر قال نعم ألا ترى أن الحبل إذا حك في تنور البئر يؤثر فيه وهو حجر فيصير فيه من أثر الحبل شبه الخنادق فقال الرجل ذلك بطول المدة فقال الصبي لا يا نعم الرجل إلا بالحزم والاجتهاد وإياك يا نعم الرجل بعيد الذهن قال الرجل كيف ذلك يا بني قال لأني قد قلت لك إشارة لو ألقيتها على قلبك لأفاق وامتحى الحبر الذي عليه فقال الرجل يا بني كان على قلبي حبرا قال يا عم وأي لون هو الحبر قال هو أسود
قال الصبي يا عم ألم أقل لك إنك بعيد الذهن وأي سواد أشد من سواد الذنوب على القلوب فصاح الرجل صيحة وخر مغشيا على وجهه ثم أخذ في البكاء
فقال له الصبي أما الآن فقد وجدت الدواء لذنوبك ومحوها من كتابك وقلبك
فقال الرجل يا بني وما الدواء فقال له البكاء
فقال يا بني والبكاء يمحو الذنوب من الكتاب والقلب قال له نعم والدليل على ذلك قول النبي {صلى الله عليه وسلم} إن الدموع تطفيء بحار النار يوم القيامة عن الباكي
08 الدموع تمحو الذنوب
فإذا محت الدموع بحار النار فأحرى أن تمحو من الكتاب القبائح والأوزار وإذا زالت من الكتاب الفضائح والأوزار رضي عنك الملك الغفار وأمر بك إلى دار الراحة والقرار وخلصت من عذاب البوار
فأبكوا يا جماعة المسلمين على ما أذنبتم في الشـهور والأعوام وفي الساعات والأيام من الخطايا والأجرام واكتساب الربا والحرام وظلم الضعفاء والأرامل والأيتام وما فرطتم فيه من أداء حقوق الملك العلام
وأنشدوا
وددت أن دموعي بحر فاسفحها
من مقلتي على ما فات من زمني
واها على أسف مني على وهل
يجني التأسف إلا غلة الشجن
والله لو صح تحقيق التأسف ما

ألفيت إلا مع النوام في الحزن
} يا ليت لي عينا في كل جارحة
تبكي علي بدمع مانع الوسن
09 فضل البكاء
فالواجب والله يا أهل الإسلام على كل مسلم علم من نفسه ذنبا أن يكثر البكاء عليه عساه يمحوه من كتابه مولاه ويتفضل عليه ويغفر له ما قد جناه فهو المنان الكريم المتفضل العظيم
اللهم يا أكرم الأكرمين ويا آخر الغافرين تفضل علينا بتوبة وعلى جميع المذنبين تنقلنا بها من ذل المعصية إلى عز الطاعة وثبتنا عليها حتى تخرجنا من الدنيا بلا ذنب ولا تباعة على منـهاج أهل السنة والجماعة الذين أوجبت لهم الرحمة والشفاعة
اللهم إن الطاعة والمعاصي بقدرك وفي يدك القلوب والنواصي فطهر قلوبنا بماء التوبة واغسلها من دنس الحوبة ومتعنا بالسلامة في ديننا ودنيانا وفي أسماعنا وأبصارنا وجميع جوارحنا ما أبقيتنا ولا تردنا على أعقابنا بعد إذ هديتنا فإنك على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
9 مجلس في ذكر الجنة وأوصافها
وما أعد الله لأوليائه من النعيم فيها
210 أيها المريد إنـه ينبغي لك أن تشغل قلبك وتعمل فكرك بالتطلع إلى ما أعد الله عز وجل لأوليائه في جنته والاشتياق إلى ما وصف الله لنا من نعيمـها فمن اشتغل بذكرها واشتاق إلى نعيمـها لهى عن الرغبة في الدنيا والحرص عليها والترجح بأمانيها وترك طلب العلو فيها
11 آيات في الجنة
وقد قال الله عز وجل { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين } القصص 83 وقال عز وجل من قائل { مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنـهار أكلها دائم وظلها } الرعد 13 وقال عز من قائل { جنات عدن يدخلونـها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير } فاطر 33 وقال { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور } فاطر 34 الآية إلى { لغوب }
قال عز من قائل { في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين } الصافات 45 الآية

إلى { مكنون } وقال عز وجل { يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب } 71 الآية إلى { خالدين }
12 أحاديث في الجنة
روي عن أبي هريرة رضي الله عنـه أنـه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } ما رأيت مثل الجنة نام طالبها ولا مثل النار نام هاربها
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنـه أنـه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن أشفق من النار لهى عن الشـهوات ومن ترقب الموت هانت عليه المصيبات {
روي عن أبي هريرة رضي الله عنـه أنـه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } لما خلق الله الجنة قال لجبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم رجع فقال يا رب لا يسمع بها أحد إلا دخلها ثم حفها بالمكاره فقال الله اذهب فانظر إليها فذهب إليها فقال يا رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد فلما خلق الله النار قال يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب إليها فقال جبريل يا رب لا يسمع بها أحد فيدخلها ثم حفها بالشـهوات فقال يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال يا رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها فيا معشر المشتاقين جاهدوا عدوكم اللعين بترك الشـهوات ونافسوا في أفعال الخيرات وتحملوا في طاعة مولاكم المكروهات يسكنكم مولاكم الجنات وبيوئكم أعلا الغرفات ويرفع لكم الدرجات
13 شجرة طوبى
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنـه عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى لو يسير الراكب في ظلها مائة عام لم يقطعها { بطحاؤها ياقوت وترابها مسك أبيض ووحلها عنبر أشـهب وكثبانـها كافور أصفر وبسرها زمرد أخضر وأفناؤها سندس واستبرق وزهرها رياض أصفر وورقها برود
خضر وثمرها حلل صفر وسقيها زنجبيل وعسل وعبقها زعفران مبهج والألنجوج يتأجج من غير وقود يتفجر من أصلها أنـهار السلسبيل والرحيق وظلها مجالس أهل الجنة يألفونـه ومتحدث يجمعهم تحتها
14 وصف الجنة

فبينما هم ذات يوم يتحدثون في ظلها إذ جاءتهم الملائكة بنجائب مزمومة بسلاسل من ذهب كأن وجوهها المصابيح نضارة وحسنا وبرها خز أحمر وعبقري أبيض مختلطان الحمرة بالبياض والبياض بالحمرة لم ينظر الناظرون إلى مثله حسنا وبهاء ذللا من غير محنة نجب من غير رياضة رحالها من الياقوت الأخضر ملبسة بالعبقري والأرجوان ولجمـها ذهب وكسوتها سندس واستبرق فأناخوا إليهم تلك الرواحل وحيوهم بالسلام من عند الرب السلام وقالوا لهم أجيبوا ربكم جل جلاله فإنـه يستزيركم فزوروه وليسلم عليكم وتسلموا عليه وينظر إليكم وتنظروا إليه ويكلمكم وتكلموه ويحييكم وتحيوه ويزيدكم من فضله فإنـه ذو رحمة واسعة وذو فضل عظيم
15 رواحل الجنة
فيتحول كل رجل منـهم على راحلته ثم يسير بهم صفا واحدا معتدلا الرجل إلى جنب أخيه عن يمينـه لا يفوت ركبة ناقة ركبة صاحبتها ولا تعدو أذن ناقة أذن صاحبتها يمرون بالشجرة من أشجار الجنة فتميل لهم عن طريقهم كراهية أن يفرق بينـهم فإذا وقفوا بالجبار تبارك وتعالى أسفر لهم عن وجهه الكريم وتجلى لهم في عظمته العظيمة فيسلمون عليه ويرحب بهم وسلامـهم وتحيتهم أن يقولوا ربنا أنت السلام ومنك السلام ولك حق الجلال والإجلال فيقول لهم الرب جل جلاله عبادي عليكم السلام مني وعليكم رحمتي ومحبتي مرحبا وأهلا بعبادي الذين أطاعوني بالغيب والذي حفظوا وصيتي ورعوا عهدي وكانوا مني على كل حال مشفقين فيقولون وعزتك وجلالك وعظمتك وعلو مكانك ما قدرناك حق قدرك ولا أدينا إليك كل حقك فأذن لنا بالسجود لك فيقول لهم ربهم عز وجل إني قد رفعت عنكم مؤنة العبادة فهذا حين أرحت لكم أبدانكم وهذا حين أفضيتم إلى روحي ورحمتي وجنتي وكرامتي ومبلغ الوعد وعدتكم فاسألوني ما شئتم وتمنوا

على أعطيكم أمانيكم فإني لن أجزيكم اليوم بقدر أعمالكم ولكن أجزيكم بقدر رحمتي وكرامتي ورأفتي وعزي وجلالي وعلو مكاني وعظمة شأني فاسألوني ما شئتم فما يزالون في الأماني حتى ان المقصر في أمنيته يقول ربنا تنافس أهل الدنيا في دنياهم وفخر بعضهم إلى بعض فاجعل حظي من الجنة كل شيء كان فيه أهل الدنيا من يوم خلقتها إلى يوم أفنيتها فإنا رفضناها وزهدنا فيها وصغرت في أعيننا تشاغلا بأمرك وإعظاما لك وإجلالا وإعزازا
16 إكرام الله تعالى
فيقول لهم ربهم لقد قصرتم في أمنيتكم ورضيتم بدون حظكم وبأقل من حقكم فقد أوجبت لكم ما سألتم وتمنيتم حتى تعرفه أنفسكم وألحقت بكم ما قصرت عنـه أمانيكم فانظروا إلى ما أعددت لكم إلى ما لا تبلغه أمانيكم ولم يخطر على قلوبكم فيؤتون ذلك فيقولون ربنا أنت أحق بالأمن والرحمة ولو وكلتنا إلى أنفسنا وأمانينا لضبعنا حظنا وإذا بقباب في الرفيع الأعلى قد نصبت وغرف من الدر والمرجان قد رفعت أبوابها من ذهب ومنابرها من نور وسررها من ياقوت وفرشـها من سندس واستبرق يفور من أعراصها وأفواهها ماء
نور شعاع الشمس عنده كنوز الكوكب الدري فإذا هم بقصور شامخة في أعلا عليين من الياقوت يزهر نورها فلو أنـها متخذة إذا لامتثعت الأبصار من شدة صفائها وعتق جوهرها فما كان منـها أبيض فمن الياقوت الأبيض مفروشا بالحرير الأبيض
وما كان منـها أحمر فمن الياقوت الأحمر مفروشا بالعبقري الأحمر
وما كان منـها أخضر فمن الياقوت الأخضر مفروشا بالسندس الأخضر
وما كان منـها أصفر فمن الياقوت الأصفر مفروشا بالأرجوان الأصفر مبوبة بالذهب الأحمر والفضة البيضاء قواعدها من جوهر وأركانـها من ذهب وشفوفها قباب من لؤلؤ وبروجها غرف من مرجان
17 براذين الجنة

فهم كذلك وإذا براذين مقربة من الياقوت الأحمر مصنوعا فيها الروح بجنبها الولدان المخلدون وبيد كل وليد حكمة برذون من تلك البراذين على كل أربعة منـها مرتبة من مراتب الجنة كالرحالة أسفلها سرير من ياقوتة وعلى كل سرير منـها قبة من ذهب مفرغة في كل قبة منـها فراش من فرش الجنة ليس في الجنة لون حسن إلا
وهو فيها ولا ريحة طيبة إلا عبق بهما ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة حتى يظن من ينظر إليهما أنـهما من دون القبة يتبين مخها في عظامـها كما يتبين السلك الأبيض في الياقوتة الصافية ثم يأمر الله عز وجل رجلا منـهم فيتحول في مركبه مع صاحبته فتعانقه وتقبله وتمنيه بكرامة الله عز وجل والقبة إما لؤلؤة وإما زمردة وإما ياقوتة وإما درة وإذا في قبة من تلك القصور منابر من نور عليها ملائكة قعود ينتظرونـهم ليهنئوهم ويحيوهم فيتحول كل رجل منـهم على مركبة تزف تلك البراذين وبجنبها الولدان المخلدون تشيعهم الملائكة المقربون يقطعون بهم رياض الجنة
فلما رفعوا إلى قصورهم نـهضت الملائكة في أعراضهم فاستنزلوهم وصافحوهم وشبكوا أيديهم ثم أجلسوهم بينـهم ثم أقبلوا على الضحك والمداعبة حتى علت أصواتهم
18 مصافحة الملائكة
تقول الملائكة أما وعزة وربنا وجلاله ما ضحكنا منذ خلقنا إلا معكم ولا هزلنا إلا معكم فهنيئا لكم هنيئا بكرامة ربكم

فلما ودعوهم وانصرفوا عنـهم دخلوا قصورهم فليس أحد منـهم إلا وقد وجد الله عز وجل قد جمع له في قصره أمنيته التي تمنى وإذا على كل قصر منـها باب يفضي إلى واد أفيح من أودية الجنة محفوفة تلك الأودية بجبال من الكافور الأبيض وكذلك جبال الجنة وهي معادن الجوهر والياقوت والفضة فارغة أفواهها في بطون تلك الأودية في بطن كل واحد منـها أربع جنات جنتان ذواتا أفنان فيهما عينان تجريان فيهما من كل فاكهة زوجان وجنتان مداهامتان فيهما عينان نضاختان وفيهما فاكهة ونخل ورمان وحور مقصورات في الخيام لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان كأنـهن الياقوت والمرجان فلما تبؤوا المنازل واستقر قرارهم زارهم ربهم تبارك وتعالى في ملائكته فيقول لهم { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } الأعراف 44 قالوا نعم قال كيف وجدتم ثواب ربكم قالوا رضينا فارض عنا
فيقول لهم الجليل جل جلاله برضائي عنكم نظرتم إلى وجهي وسمعتم كلامي وحللتم داري وصافحتم ملائكتي
فهنيئا هنيئا عطائي لكم ليس فيه نكد ولا تكدير فقالوا { الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب } فاطر 35
19 عدد الجنات وأسماؤها
روي عن وهب بن منبه عن ابن عباس قال لما خلق الله تبارك وتعالى
الجنات يوم خلقها وفضل بعضها على بعض فهي سبع جنات دار الخلد ودار السلام وجنة عدن وهي قصبة الجنة وهي مشرفة على الجنان كلها وهي دار الرحمن تبارك وتعالى ليس كمثله شيء ولا يشبه شيء ولباب جنات عدن مصراعان من زمرد وزبرجد من نور كما بين المشرق المغرب وجنة المأوى وجنة الخلد وجنة الفردوس وجنة النعيم سبع جنات خلقها الله عز وجل من النور كلها مدائنـها وقصورها وبيوتها وشرفها وأبوابها ودرجها وأعلاها وأسافلها وآنيتها وحليها وجميع أصناف ما فيها من الثمار المتدلية والأنـهار المطرزة بألوان الأشربة والخيام المشرفة والأشجار الناضرة بألوان الفاكهة والرياحين العبقة والأزهار الزاهرة والمنازل البهية المعجبة

20 الحور العين
فيها الأزواج المطهرة والعين الغنجات بريط النور معتجرات بوشح الكرامة متزينات بالمسك متزملات حدق أعينـهن كاحلات وأطرافهن خاشعات وفروقهن مكللة بالدر مركبة بالياقوت ينادين بأصوات غنجة رخيمة لذيذة يقلن نحن خالدات فلا نموت أبدا ونحن الغانجات فلا نبأس أبدا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا ونحن الحور الحسان أزواج أقوام كرام ونحن الأبكار السوام للعباد المؤمنين طوبى لمن كان لنا وكنا له
فذلك قوله عز وجل { إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا } الواقعة 35 37 عاشقات لأزواجهن { أترابا } مستويات في الأسنان { وحور عين } الواقعة 22 حسان جمال { كأمثال اللؤلؤ المكنون } الواقعة 23 كأنـهن الياقوت والمرجان مشيها هرولة ونغمتها شـهية بهية فائقة وامقة لزوجها عاشقة وعليه محبوسة وعن غيره محجوبة فذلك قوله عز وجل { فيهن قاصرات الطرف } الرحمن 56 يقول قصرت أطرافهن عن الرجال فلا ينظرن إلى غير أزواجهن { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } الرحمن 56 وكلما أصابها زوجها وجدها عذراء عليها سبعون حلة مختلفة الوشي والألوان حملها أهون عليها وأخف من شعرها
21 صفة الحور
في نحرها مكتوب أنت حبي وأنا حبك لست أبغي بك بدلا ولا عنك
معدلا
كبدها مرآته وكبده مرآتها يرى مخ ساقها من وراء لحمـها وحليها كما ترى ال الأحمر في الزجاجة البيضاء وكما يرى السلك الأبيض في جوف الياقوتة الصافية
22 دار السلام
وخلق دار السلام من الياقوت كلها أزواجها وخدمـها وآنيتها وأسرتها وحجالها وقصورها وخيامـها ومدائنـها ودرجها وغرفها وأبوابها
وثمارها من اللؤلؤ والياقوت
23 جنة عدن
وخلق جنة عدن من الزبرجد كلها على هذه الصفة وخلق جنة المأوى من الذهب الأحمر بجميع ما فيها على هذه الصفة
24 جنة الخلد
وخلق جنة الخلد من الفضة البيضاء بجميع ما فيها على هذه الصفة
والجنات كلها مائة درجة ما بين الدرجتين خمسمائة عام

حيطانـها لبنة من ذهب ولبنة من فضة ولبنة من ياقوت ولبنة من زبرجد
ملاطها المسك وقصورها الياقوت وغرفها اللؤلؤ ومصارعها الذهب وأرضها الفضة وحصباؤها المرجان وترابها المسك
أعدها الله عز وجل لأوليائه يقول الله تبارك وتعالى يا أوليائي جوزوا الصراط بعفوي وأدخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم فلكم صنعت ثمار الفردوس ولكم نصبت شجرة الخلد ولكن بنيت القصور التي أسست بالنعيم وشرفت بالملك والخلود
25 درجات أهل الجنة
قال ابن عباس رضي الله عنـهما فأسفل أهل الجنة درجة من له من الجنة مسيرة خمسمائة عام ويزوج خمسمائة حوراء وأربعة بكر وثمانية آلاف بيت وإنـه ليعانق الزوجة عمر الدنيا فلا يتأخر واحد منـهما عن صاحبه وإنـه لتوضع المائدة بين يديه فلا ينقضي شبعة عمر الدنيا وإنـه ليوضع الإناء على فيه فلا ينقضي ريه عمر الدنيا وإنـه ليأتيه ملك بين إصبعيه مائة حلة تحية من ربه تبارك وتعالى فيلقيها على بدنـه فيقول العبد الحمد لله وتبارك ربي وتعالى فما عجبت
كإعجابي بهذه الهدية
فيقول الملك أعجبتك فيقول نعم فيبادر الملك أدنى شجرة من جنة الخلد فيقول أنا رسول ربك إليك تكوني لولي الله ما أحب فتتلون له على ما يشتهي
26 طعام الجنة
ويبلغ غداؤه سبعين ألف صفحة من ألوان لحوم الطير كأنـها البخت لا ريش لها ولا زغب ولا عظم فلا تطبخ بالنار ولا تقليها القدور ولذتها لذة الزبد وحلاتها حلاوة العسل ورائحتها رائحة المسك
يأكل من كلها يجد لآخرها من الطعم كما يجد لأولها
وفي عشائه مثل ذلك
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } يأكلون ويشربون ويتفكهون يصير طعامـهم وهم رشحا كرشح المسك يخرج من أجسادهم
ويبعث الله تبارك وتعالى إليهم الملائكة بهدية من لدن العرش
27 دلال الحور

روي عن الحسن رضي الله عنـه أنـه قال بينما ولي الله في الجنة مع زوجته من الحور العين على سرير من ياقوت أحمر وعليه قبة من نور إذ قال لها قد اشتقت إلى مشيتك قال فتنزل من سرير ياقوت أحمر إلى روضة مرجان أخضر وينشئ الله عز وجل لها في تلك الروضة طريقين من نور أحدهما نبت الزعفران والآخر نبت الكافور فتمشي في نبت الزعفران وترجع في نبت الكافور وتمشي بسبعين ألف لون من الغنج
وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنـه أنـه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } يسطع نور في الجنة فيرفعون رؤوسهم فإذا هو نور حوراء
ضحكت في وجه زوجها {
وروي عن جابر بن عبد الله أنـه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون ولكنـه رشح كرشح المسك قد
ألهموا التسبيح والتقديس والتكبير والتحميد
28 لباس أهل الجنة
وروي عن بعض العلماء أنـه قال بلغني أن ولي الله في الجنة يلبس حلة ذات وجهين يتجاوبان بصوت مليح تقول التي تلي جسده أنا أكرم على ولي الله منك أنا أمس بدنـه وأنت لا تمسين بدنـه فتقول التي تلي وجهه بل أنا أكرم على ولي الله منك أنا أرى وجهه وأنت لا ترين وجهه
وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } يبعث أهل الجنة على صورة آدم عليه السلام في ميلاد ثلاث وثلاثين سنة جردا مردا مكحلين ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيلبسون منـها ثيابا لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم
29 أول من يدخل الجنة
وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على آثارهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة قلوبهم على قلب واحد لا اختلاف بينـهم ولا تباغض يسبحون الله بكرة وعشيا لا يسقمون فيها ولا يموتون ولا ينزفون آنيتهم من الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ووقود مجامرهم الألوة ورشحهم المسك
30 مساكن الجنة

وقال الحسن رحمـه الله في قوله عز وجل { ومساكن طيبة في جنات عدن } التوبة 72 قيل سأله ابن أخيه في ذلك فقال يا ابن أخي على الخبير وقعت سألت عنـها أبا هريرة وعمران بن حصين فقالا على الخبير وقعت سألنا عنـها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كما سألتنا فقال هي قصر في الجنة من لؤلؤة بيضاء فيها سبعون
دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير فراش لون على لون على كل سرير امرأة من الحور العين
في كل بيت مائدة على كل مائدة سبعون قصعة وعلى كل مائدة سبعون وصيفا ووصيفة يعطي الله المؤمن في غداة واحدة ما يأكل ذلك الطعام ويطوف على تلك الأزواج
31 طيور الجنة
وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إنـه لينظر إلى الطير في الجنة فيخر بين يديه مشويا والطير أمثال الإبل فيقول الطير منـها يا ولي الله أما أنا فقد رعيت في وادي كذا وكذا وأكلت من ثمار كذا وكذا وشربت من ماء عين كذا وكذا وسني كذا وريحي كذا فكل مني فإذا اشتهى حسن الطير واشتهى صفته فوقع في نفسه وقع الطائر على ما يريد قبل أن يتكلم نصفه قديدا ونصفه شواء كلما شبع ألقى الله عليه ألف باب من الشـهوة في الأكل ثم يؤتى بال على برد الكافور وليس بهذا الكافور وطعم الزنجبيل وليس بهذا الزنجبيل وعلى ريح المسك وليس بهذا المسك فإذا شرب هضم ما أكل من الطعام ويأكل مقدار أربعين عاما ويعطي قوة مائة شاب في الجماع ويجامع مقدار أربعين سنة له في كل يوم مائة عذراء بذكر لا يمل ولا ينثني وفرج لا يحثى ولا يمنى
32 أنـهار الجنة
قال وهب بن منبه رضي الله عنـه إن في رياض الجنة نـهر من أنـهارها فهو أصل أنـهار الجنة كلها أظهره الله عز وجل حيث ما أراد وأن النيل نـهر العسل ودجلة نـهر اللبن في الجنة والفرات نـهر الخمر في الجنة وسيحان نـهر الماء في الجنة وجيجان كذلك وهما بأرض الهند وهما نـهرا الماء في الجنة وصفهم الله عز وجل في الدنيا حتى يصيرهم إلى الجنة

وذكر وهب عن ابن عباس رضي الله عنـهما أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال } مكتوب على باب الجنة إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أعذب من قالها إني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسول الله لا أعذب من قالها {
وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لشبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها { قال الله عز وجل { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } السجدة 17
33 سرر الجنة
قال ابن عباس رضي الله عنـه وذلك أن ولي الله في الجنة على سرير والسرير ارتفاعه خمسمائة عام وهو قول الله عز وجل { وفرش مرفوعة } الواقعة 34 قال والسرير من ياقوت أحمر وله جناحان من زمرد أخضر وعلى السرير سبعون فراشا حشوها النور وظواهرها السندس وبطائنـها من استبرق ولو دلى أعلاها فراشا ما وصل إلى آخرها مقدار أربعين عاما
34 أرائك الجنة
وعلى السرير أريكة وهي الحجلة وهي من لؤلؤة عليها سبعون سترا من نور وذلك قوله عز وجل { هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون } يس 56 يعني ظلال الأشجار على الأرائك يعني الأسرة في الحجال فبينما هو معانقها لا تمل منـه ولا يمل منـها والمعانقة أربعين عاما فإذا رفع رأسه فإذا هو بأخرى متطلعة عليه تناديه يا ولي الله أما لنا فيك من دولة فيقول حبيبتي من أنت فتقول أنا من اللواتي قال فيهن الله { ولدينا مزيد } ق 35 قال فيطير سريره أو قال كرسي من ذهب له جناحان فإذا رآها فهي تضعف على الأولى بمائة ألف جزء من النور فيعانقها مقدار أربعين عاما لا تمل منـه ولا يمل منـها فإذا رفع رأسه رأى نورا ساطعا في داره فيعجب فيقول سبحان الله أملك كريم زارنا أم ربنا أشرف علينا فيقول الملك وهو على كرسي من نور بينـه وبين الملك سبعون عاما والملك في حجبته في الملائكة لم يزرك ملك ولم يشرف عليك ربك عز وجل فيقول ما هذا النور
35 زوجة الدنيا

فيقول الملك لزوجتك الدنيوية وهي معك في الجنة إنـها طلعت عليك ورأتك معانقا لهذه فتبسمت فهذا النور الساطع الذي تراه في دارك هو نور ثناياها فيرفع رأسه إليها فتقول يا ولي الله أما لنا فيك من دولة فيقول حبيبتي من أنت
فتقول له يا ولي الله أما أنا فمن اللواتي قال الله عز وجل فيهن { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } السجدة 17 الآية
فيطير سريره إليها فإذا لقيها فهي تضعف عن هذه الأخرى بمائة ألف جزء من النور لأن هذه صامت وصلت وعبدت الله عز وجل فهي إذا دخلت الجنة أفضل من نساء الجنة لأن أولئك أنبتن نباتا فيعانق هذه مقادر أربعين عاما لا تمل منـه ولا يمل منـها ثم إنـها تقوم بين يديه وخلالها من يواقيت فإذا وطئت يسمع من خلالها صفير كل طير في الجنة فإذا مس كفها كان ألين من المخ ويشم من كفها رائحة كل طيب في الجنة وعليها سبعون حلة من نور لو نشر الرداء منـها لأضاء ما بين المشرق والمغرب خلقت من نور والحلل عليها أسورة من ذهب وأسورة من فضة وأسورة من لؤلؤ وتلك الحلل أرق من نسج العنكبوت وهو أخف عليها من النقش وانـه يرى مخ ساقها من صفائها ورقتها من وراء العظم واللحم والجلد والحلل مكتوب على ذراعها اليمين بالنور { الحمد لله الذي صدقنا وعده } الزمر 74 وعلى الذراع الآخر مكتوب بالنور { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } فاطر 34
36 تبادل الحب

ومكتوب على كبدها بالنور حبيبي أنا لك لا أريد بك بدلا وكبدها مرآته وهي على صفاء الياقوت وحسن المرجان وبياض البيض المكنون { عربا أترابا } الواقعة 37 العرب العاشقات لأزواجهن والأتراب بنات خمس وعشرين سنة مفلجة لو ضحكت لأضاء نور ثناياها ولو سمع الخلائق منطقها لافتتن كل بر وفاجر فهي قائمة بين يديه فساقها يضعف على قدميها بمائة ألف جزء من النور وفخدها يضعف على ساقها بمائة ألف جزء من النور وعجزها يضعف على فخدها بمائة ألف جزء من النور وبطنـها يضعف على عجزها بمائة ألف جزء من النور وصدرها يضعف على بطنـها بمائة ألف جزء من النور ووجهها يضعف على نحرها بمائة ألف جزء من النور ولو تفلت في بحار الدنيا لعذبت كلها ولو أطلعت من سقف بيتها إلى الدنيا لأخفى نورها نور الشمس والقمر عليها تاج من ياقوت أحمر مكلل بالدر والمرجان على يمينـها مائة ألف قرن من قرون شعرها
37 ضفائر الجمال
وتلك القرون قرن من نور وقرن من ياقوت وقرن من لؤلؤ وقرن من زبرجد
وقرن من مرجان وقرن من درون مكلل بالزمرد الأخضر والأحمر مفضص بألوان الجوهر موشح بألوان الرياحين ليس في الجنة طيب إلا وهو تحت شعرها الواحدة تضيء مسيرة أربعين عاما وعلى يسارها مثل ذلك وعلى مؤخرها مائة ألف ذؤابة من ذوائب شعرها فتلك القرون والذوائب إلى نحرها ثم تتدلى إلى عجزها ثم تتدلى إلى قدميها حتى تجره بالمسك وعن يمينـها مائة ألف وصيفة كل قرن بيد وصيفة وعن يسارها مثل ذلك ومن ورائها مائة ألف وصيفة كل وصيفة آخذة بذؤابة من ذوائب شعرها
38 الوصائف

ومن بين يديها مائة ألف وصيفة معهن مجامر من درون فيها بخور من غير نار ويذهب ريحه في الجنة مسيرة مائة عام حولها ولدان مخلدون شباب لا يموتون كأنـهن اللؤلؤ المنثور كثرة فيه قائمة بين يدي ولي الله ترى إعجابه وسروره بها وهي مسرورة عاشقة له فتقول له يا ولي الله لتزغبطة وسرورا فتمشي بين يديه بمائة ألف لون من المشي في كل مشية تجلى في سبعين حلة من النور وان الماشطة معها فإذا مشت تتمايل وتنعطف وتتكاسر وتدور وتبتهج بذلك وتبتسم فإذا مالت مالت القرون من الشعر معها ومالت الذوائب معها ومالت الوصفان معها فإذا دارت درن معها فإذا أقبلت أقبلن معها خلقها الرحمن تبارك وتعالى خلقة إذا أقبلت فهي مقابله وإذا ولت فهي مقبلة الوجه لا تفارق وجهه ولا تغيب عنـه ويرى كل شيء منـها إذا جلست بعد مائة ألف لون من المشي خرجت عجزتها من السرير وتدلي قرونـها وذوائبها فيضطرب ولي الله لولا أن الله سبحانـه قضى أن لا موت فيها لمات طربا فلولا أن الله تبارك وتعالى قدرها له ما استطاع أن ينظر إليها مخافة أن يذهب بصره فتقول له يا ولي الله تمتع فلا موت فيها
وأنشدوا
بحسبك يا عمار من دار بلغة
جنان بها الخيرات يزلفن في الحلل
ويمشين هونا في الجنان أمامـهم
خيام من الدر المجوف في الكلل
إذا برزت حوراء حف بها البها
وأشرقت الفرودس والقوم في شغل
يعانقن أزواجا لكل مطهر
على فرش الديباج والعيش قد كمل
وطاف بها الولدان من كل جانب
ونودي ولي الله يجزي بما فعل
وقال غيره
يا خاطب الحوراء في خدرها
وطالبا ذاك على قدرها
انـهض بعزم لا تكن دانيا
وجاهد النفس على صبرها
وجانب الناس وارفضهم
وحالف الوحدة في ذكرها
وقم إذا الليل بدا وجهه
وصم نـهارا فهو من مـهرها
فلو رأت عيناك إقبالها
وقد بدت رمانتا صدرها
وهي تماشي بين أترابها
وعقدها يشرق في نحرها
} لهان في نفسك هذا الذي
تراه في دنياك من زهرها
39 ضيافة الله

روى أنس بن مالك رضي الله عنـه أن الله تبارك وتعالى إذا سكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار هبط ربنا الجليل جل جلاله بلا تكييف ولا تمثيل يتعالى ربنا عن ذلك إلى مرج أفيح فمد بينـه وبين خلقه حجابا من لؤلؤ وحجابا من نور ثم وضعت منابر النور وسرر النور وكراسي النور ثم أذن لرجل كريم على الله عز وجل بين يديه أمثال الجبال من النور يسمع دوي تسبيح الملائكة معه وصفق أجنحتهم فمد أهل الجنة أعناقهم فقيل من هذا الذي قد أذن له الله عز وجل فقيل هذا المجبول بيده والمعلم والأسماء والذي أمرت الملائكة فسجدت له والذي أبيحت له الجنة آدم {صلى الله عليه وسلم} أذن له على الله عز وجل قال ثم أذن لرجل آخر على الله عز وجل بين يديه أمثال الجبال من النور يسمع تسبيح الملائكة معه وصفق أجنحتهم فمد أهل الجنة أعناقهم فقيل من هذا الذي أذن الله عز وجل فقيل هذا الذي اتخذه الله خليلا وجعل النار عليه بردا وسلاما إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد أذن له على الله عز وجل قال ثم أذن لرجل آخر على الله عز وجل بين يديه أمثال الجبال من النور يسمع تسبيح الملائكة معه وصفق أجنحتهم فمد أهل الجنة أعناقهم فقيل من هذا قد أذن له على الله عز وجل فقيل هذا الذي اصطفاه الله عز وجل برسالته وقربه نجيا وكلمة تكليما موسى عليه الصلاة والسلام قد أذن له على الله عز وجل ثم أذن لرجل آخر معه مثل جميع مراكب النبيين قبله بين يديه أمثال الجبال من النور ويسمع دوي تسبيح الملائكة وصفق أجنحتهم فقيل من هذا الذي قد أذن له
على الله عز وجل فقيل هذا أول شافع وأول مشفع وسيد ولد آدم وأول من تنشق عنـه الأرض وصاحب لواء الحمد أحمد {صلى الله عليه وسلم} قد أذن له على الله عز وجل قال فيجلس النبيون على منابر النور والصديقون على سرر النور والشـهداء على كراسي النور وجلس سائر الناس على كثبان من المسك الأبيض الأذفر
40 وفد الله

ثم ناداهم الرب جل جلاله من وراء الحجب مرحبا بعبادي وزواري وجيراني ووفدي يا ملائكتي انـهضوا إلى عبادي فأطعموهم قال فتقرب الملائكة إليهم لحم طير كأنـها البخت لا ريش معها ولا عظم فأكلوا ثم ناداهم الرب جل جلاله من وراء الحجب مرحبا بعبادي وزواري وجيراني ووفدي أكلوا أسقوهم يا ملائكتي قال فنـهض إليهم غلمان كأنـهم اللؤلؤ المنثور بأباريق الذهب بأشربة مختلفة تجد لذة آخرها كلذة أولها { لا يصدعون عنـها ولا ينزفون } الواقعة 19 قال ثم ناداهم الرب تبارك وتعالى من وراء الحجب مرحبا بعبادي وزواري وجيراني ووفدي أكلوا وشربوا فكهوهم فقربت إليهم أطباق مكللة بالياقوت من الرطب الجنى الذي أسماه الله أشد بياضا من اللبن وأطيب من عذوبة الشـهد فطعموا وشربوا وفكهوا ثم ناداهم الرب جل جلاله من وراء الحجب مرحبا بعبادي وزواري وجيراني ووفدي أكلوا وشربوا وفكهوا أكسوهم
41 كرامة الله لعباده
قال ففتحت لهم أشجار الجنة بحلل مصقولة بنور الرحمن فألبسوا ثم ناداهم الرب من وراء الحجب مرحبا بعبادي وزواري ووفدي أكلوا وشربوا وفكهوا وكسوا طيبوهم قال فهاجت عليهم ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة بأنابيب المسك الأبيض الأذفر فنضحت على وجوههم من غير غبار ولا قتار ثم الرب تبارك وتعالى من وراء الحجب مرحبا بعبادي وزواري وجيراني ووفدي أكلوا وشربوا وفكهوا وكسوا وطيبوا وعزتي وجلالي لأتجلين لهم حتى ينظروا إلي فذلك منتهى العطايا وفضل المزيد فيتجلى الرب تبارك وتعالى فيقول السلام عليكم عبادي انظروا إلي فقد رضيت عنكم قال فتداعت قصور الجنة وأشجارها واهتزت تقول سبحانك سبحانك أربع مرات وخر القوم سجدا
فناداهم الرب جل وعز عبادي ارفعوا رؤوسكم فإنـها ليست بدار عمل ولا بدار نصب وإنما هي دار جزاء ودار ثواب وعزتي وجلالي ما خلقتها إلا لأجلكم وما من ساعة ذكرتموني فيها في دار الدنيا إلا ذكرتكم فوق عرشي
42 سوق الجنة

وروي عن سعيد بن المسيب أنـه أتى أبا هريرة رضي الله عنـه فقال له أبو هريرة أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال له سعيد أو فيها سوق قال نعم أخبرنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن أهل الجنة إذا دخلوها فنزلوا بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عز وجل ويبرز لهم من عرش ه تبارك وتعالى في روضة من رياض الجنة وتوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من زبرجد ومنابر من ياقوت ومنابر من ذهب ومنابر من فضة يكون أدناهم وما فيها أدنى على كثبان المسك والكافور وما يرون أصحاب المنابر أفضل منـهم مجلسا
43 رؤية الله تعالى
قال أبو هريرة رضي الله عنـه فقلت يا رسول الله هل نرى ربنا عز وجل قال نعم هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر فقلنا لا قال فكذلك لا تضامون في رؤية ربكم تبارك وتعالى ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله عز وجل محاضرة حتى إنـه ليقول عز وجل لرجل يا فلان أتذكر يوم عملت كذا وكذا يذكره عذلاته في الدنيا فيقول يا رب ألم تغفر لي قال بلى فبسعة مغفرتي نلت منزلتك هذه قال فبينما هم على ذلك إذ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط فيقول ربنا عز وجل قدموا إلي ما أعددت لكم من الكرامة قال فنأتي سوقا من أسواق الجنة قد حفت بـه الملائكة لم تسمع بـه الآذان ولم تنظر إليه العيون ولم يخطر على القلوب قال فيحمل لنا فيها ما اشتهينا ليس يباع فيها شيء ولا يشتري وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم
بعضا قال فيلقى الرجل ذو المنزلة المرتفعة من هو دونـه فيروعه ما عليه من اللباس فما ينقضي حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منـه وذلك أنـه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها
قال ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا بحبيبنا لقد جئت وأن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه فنقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار جل جلاله ويحق لما أن نقلب بمثل ما انقلبنا

44 المتحابون في الله
وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } المتحابون في الله في الدنيا هم في الجنة على عمود من ياقوتة حمراء في رأس العمود سبعون ألف غرفة يشرفون على أهل الجنة إذا اطلع أحدهم ملأ حسنـه بيوت أهل الجنة نورا كما تملأ الشمس بيوت أهل الدنيا قال فيقول أهل الجنة أخرجوا بنا ننظر إلى المتحابين في الله فيخرجون فينظرون في وجوههم مثل القمر ليلة البدر عليهم ثياب خضر مكتوب في جباههم بالنور هؤلاء المتحابون في اله
وقال عليه الصلاة والسلام } إن أهل الجنة إذا زاروا ربهم وأرادوا الانصراف يعطي كل رجل منـهم رمانة خضراء فيها سبعون حلة لكل حلة سبعون لونا ليس منـهم حلة تشبه الأخرى فإذا انصرفوا عن ربهم مروا في أسواق الجنة ليس فيها بيع ولا شراء وفيها من الحلل والسندس والإستبرق والحرير والرفرف والعبقري من درون وياقوت وأكاليل معلقة فيأخذون من تلك الأسواق من هذه الأصناف ما شاؤوا ولا ينقص من تلك الأسواق شيئا وفيها صور كصور الناس من أحسن ما يكون من الصور مكتوب في نحر كل صورة منـها من تمنى أن يكون مثل صورتي جعل الله حسنـه على صورتي فمن تمنى أن يكون حسن وجهه مثل حسن تلك الصورة جعله الله على تلك الصورة قال ثم ينصرفون إلى منازلهم
45 خواتم الجنة
وقال النبي {صلى الله عليه وسلم} } إن أهل الجنة يعطيهم الله خواتم من ذهب يلبسونـها وهي خواتم الخلد ثم يعطيهم خواتم من درون وياقوت ولؤلؤ وذلك إذا رأوا ربهم في داره دار السلام {
46 نوق الجنة

وروي عن بعض العلماء أنـه قال بينا أهل الجنة يتحدثون في ظل طوبى إذ يأتيهم الملائكة بنوق مزمومة بسلاسل الذهب كأن وجوهها المصابيح من حسنـها ذلك من غير تهيئة نجب من غير رباية عليها رحائل الذهب وكسوتها سندس واستبرق حتى ترفع إليهم ثم يسلموا عليهم فيقولون إن ربكم بعث إليكم بهذه الرواحل لتركبوها فتزوره وتسلمون عليه قال فيتحول كل واحد منـهم على راحلته ثم يسيرون بها صفا في الجنة الرجل منـهم إلى جنب صاحبه لا يجاوز أذن ناقة منـها أذن صاحبتها ولا ركبة ناقة منـها ركبة صاحبتها وإنـهم ليمرون بالشجرة من شجر الجنة فتتأخر من مكانـها فإذا وقفوا بين يدي الرحمن تبارك وتعالى أسفر لهم عن وجهه الكريم وتجلى لهم فيسلمون عليه ويرحب بهم ويقال إن سلامـهم عليه أن يقولوا ربنا أنت السلام ومن عندك السلام ولك حق الجلال والإكرام فيقول لهم الجليل جل جلاله وعليكم سلام مني وعليكم رحمتي وكرامتي مرحبا وأهلا بعبادي الذين أطاعوني بالغيب وحفظوا وصيتي فيقولون لا وعزتك ما قدرناك حتى قدرك وما أدينا إليك كل حقك ائذن لنا أن نسجد لك فيقول إني قد رفعت عنكم مؤنة العبادة وأفضيتم إلي كرامتي
47 أماني أهل الجنة
وبلغ الوعد الذي وعدت لكم فتمنوا فإن لكل إنسان منكم ما تمنى فيتمنون فيعطي كل واحد منـهم ما يمني ثم يزيدهم تبارك وتعالى من فضله وكرمـه ما لم تبلغ إليه أمانيهم وأنشدوا
يا راغب الحور الجمم
والدل والشكل وحسن الشيم
الناعمات الدائمات الرضى
في جنة الفردوس مأوى النعم
أرفض بدار زهرها زائل
واغتنم الصحة قبل السقم
وابدر إلى الرؤية مستبصرا
واعتنق التشـهيد عند الظلم
واستغفر الله لما قد مضى
واستشعر الخوف وطول الندم
تفز بما تطلب من لذة
وتأمن البلوى وعقبى النقم

10 مجلس في قوله تبارك وتعالى { كل نفس ذائقة الموت } 248 قيل لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة متنا وعزة الله فعند ذلك أيقن كل ذي عقل وروح أنـه هالك
وأنشدوا
أيضحك من للموت فيه نصيب

وينعم عيشا إن ذا لعجيب
ويأكل والأيام تأكل عمره
وليس له جسم لذاك يذوب
ومن عرف الرحمن لم يهن قلبه
نعيم ولم ينفك عنـه نحيب
بعدت عن الورد الرضي بزلة
وبي قطعت دون الوصول ذنوب
قال الله تعالى { كل نفس ذائقة الموت } آل عمران 185 يموت كل صغير وكبير يموت كل أمير ووزير يموت كل عزيز وحقير يموت كل غني وفقير يموت كل نبي وولي يموت كل نجي وتقي يموت كل زاهد وعابد يموت كل مقر وجاحد يموت كل صحيح وسقيم يموت كل مريض وسليم كل نفس تموت غير ذي العزة والجبروت
وأنشدوا
ألا كل مولود فللموت يولد
ولست أرى حيا عليها يخلد
تجرد من الدنيا فإنك إنما
خرجت من الدنيا وأنت مجرد
وأنت وإن خولت مالا وكثرة
فإنك في الدنيا على ذاك أوحد
وأفضل شيء نلت منـها فإنـه
متاع قليل يضمحل وينفد
فكم من عزيز أعقب الذل عزه
فأصبح مذموما وقد كان يحمد
} فلا تحمد الدنيا ولكن فذمـها
وما بال شيء ذمـه الله يحمد
49 ذكر الموت
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال أكثروا ذكر هازم اللذات ومفرق الجماعات
وتوسدوه إذا نمتم واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم واعمروا بـه مجالسكم فإنـه معقود بنواصيكم يعني بما وكل بـه منكم ويفسد نعيمكم ويخرب مصانعكم ويفنيكم كما أفنى من كان قبلكم فلا تنسوه فإنـه لا ينساكم ولا تغفلوا عنـه فإنـه ليس بغافل عنكم
وأنشدوا
يا جار أحبابه شـهورا
وجار أمواته دهورا
ليس سرورا يعود حزنا
إذا تأملته سرورا
وروي عن عيسى عليه السلام أنـه قال ما من مولود يولد إلا وفي سرته من تراب الأرض التي يموت فيها
وأنشدوا
أمر على المقابر كل حين
ولا أدري بأي الأرض قبري
وأفرح بالغني إن زاد مالي
ولا ابكي على نقصان عمري
ما أحسن حال من ذكر الموت فعمل لخلاصه قبل الفوت وأشغل نفسه بخدمة مولاه وقدم من دنياه لأخراه ورغب في دار لا يزول نعيمـها ولا يهان كريمـها
وأنشدوا
الموت لا شك آت فاستعد له
إن اللبيب بذكر الموت مشغول
فكيف يلهو بعيش أو يلذ به
من التراب على عينيه مجعول

روي عن أبي ذر رضي الله عنـه أنـه قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنـهم له استعدادا
50 حكاية عن الربيع
وقيل للربيع رحمـه الله ألا تجلس معنا نتحدث فقال إن ذكر الموت إذا فارق قلبي ساعة فسد على قلبي
وأنشدوا
ما أغفل الناس عن وعيد
قربه الليل والنـهار
والعار ما جرت المعاصي
وليس في النائبات عار
ويحك ما تصنع المنايا
تأتي فتخلى لها الديار
فلا قلوب لها عيون
ولا عيون لها اعتبار
عباد الله اسعوا في فكاك رقابكم وأجهدوا أنفسكم في خلاصها قبل أن تزهق فوالله ما بين أحدكم وبين الندم والعلم بأنـه قد زلت بـه القدم إلا أن يحوم عقاب المنية عليه ويفوق سهامـها إليه فإذا الندم لا ينفع وإذا العذر لا يصنع وإذا النصير لا يدفع وإذا الشفيع لا يشفع وإذا الذي فات لا يسترجع وإذا البائس المحابي بـه في النجاة لا يطمع
فكأني بك يا أخي وقد صرخ عليك النسوان وبكى عليك الأهل والإخوان وفقدك الولدان ونفخ لفرقتك الجيران ونادى عليك المنادي قد مات فلان بن فلان
ثم نقلت عن الأحباب وحملت إلى أرماس التراب وأضجعوك في محل ضنك قصير السمك مـهول منظره كثير وعره مغشى بالوحشة
عرفته مـهول الصريح مطبق الصفيح على غير مـهاد ولا وداد ولا مقدمة زاد ولا استعداد
وأنشدوا
المرء يخدعه مناه
والدهر يسرع في بلاه
يا ذا الشبية لا تكن
ممن تعبده هواه
واعلم بأن المرء مرتهن
بما كسبت يداه
والناس في غفلاتهم
والموت دائرة رحاه
} الحمد لله الذي
يبقى ويهلك ما سواه
51 سكرات الموت
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه لما احتضر جعل يقول } لا إله إلا الله إن للموت
لسكرات وروي عنـه {صلى الله عليه وسلم} أنـه كان يقول وعنده قدح ماء عند موته وكان يدخل يده فيه ويمسح بالماء على وجهه ويقول مرة بعد مرة اللهم هون علي سكرات الموت
وروي عنـه {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لو أن ألم شعرة من شعر الميت وضع على أهل السماوات والأرض لماتوا أجمعين { لأن في كل شعرة ألم الموت ولا يقع الموت ولا يحل في شيء إلا مات

وروي أنـه قال لو أن قطرة وضعت على جبال الدنيا كلها لزالت
وأنشدوا
} تيقظ للذي لا بد منـه
فإن الموت ميقات العباد {
} يسرك أن تكون رفيق قوم لهم زاد بغير زاد
52 آلام الموت
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنـه قال لكعب يا كعب حدثنا عن الموت فقال يا أمير المؤمنين هو غصن كثير الشوك ادخل في جوف رجل حتى إذا أخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فقطع ما قطع وأبقى ما أبقى
وأنشدوا
} ألا أيها المغرور والموت نحوه خلقت له تحدو إليه الركائب {
} أغرك حلم الله أم لست موقنا
بأنك مبعوث غدا ومحاسب {
} بأيسر من مثقال حبة خردل وإنك مجزي بما أنت كاسب {
روي عن الحسن رحمـه الله أنـه قال لما مات خليل الرحمن اجتمعا إليه أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامـه عليهم أجمعين فقالوا إن الله تعالى اتخذك خليلا من بين سائر الأنبياء والرسل فإن كان الموت خفف عن واحد فأنت هو فأخبرنا كيف وجدت طعم الموت
53 طعم الموت
فقال أواه وجدته والله شديدا والذي لا إله غيره هو أشد من الطبخ في القدور والقطع بالمناشير أقبل ملك الموت نحوي بكلوب من حديد فأدخله في كل عضو مني ثم استل الروح من كل عضو حتى جعله في القلب ثم طعن في القلب طعنة بحربته المسمومة بسم الموت فلو أني طبخت في القدور سبعين مرة لكان أهون علي
فقالوا يا إبراهيم لقد هون الله عليك الموت فإذا كان هذا حال الأنبياء فما يصنع بالمخطئين كفى بالموت طامة
وإذا بجبريل {صلى الله عليه وسلم} عندهم يسمعهم فقال لهم يا أرواح الطيبين ما بعد الموت أشد وأطم وأعظم من الموت
وأنشدوا
وما الناس إلا هالك وابن هالك
وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
54 داود والذرة
ذكر في بعض الأخبار أن داود عليه الصلاة والسلام كان في محرابه فإذا بدودة كالذرة فقال داود في نفسه ما يعبأ الله بهذه الدودة فأنطقها سبحانـه وقالت والله يا داود إني أعبد الله سبحانـه وتعالى وأخافه وأسأله أن يهون علي الموت

وأنشدوا
} يحب الفتى طول البقاء وإنـه على ثقة أن البقاء فناء
زيادته في الجسم نقص حياته وليس على نقص الحياة نماء
إذا ما طوى يوما طوى اليوم بعضه ويطويه من بعد الصباح مساء
جديدان لا يبقى الجميع عليهما ولا لهما بعد الجميع بقاء
ذكر في بعض الأخبار أن الله سبحانـه وتعالى قال لإبراهيم {صلى الله عليه وسلم} لما مات يا خليلي مت قال يا الهي مت قالها ورددها عليه ثلاثا قال يا خليلي كيف وجدت طعم الموت قال كسفود محمي جعل في صوف رطب ثم جذب
قال أما أنت فقد هونا عليك الموت
وأنشدوا
} أرى المرء يبكي للذي مات قبله وموت الذي يبكي عليه قريب
وما الموت إلا في كتاب مؤجل إلى ساعة يدعى له فيجيب
55 موسى وموعظته
وروي أن موسى صلوات الله وسلامـه عليه لما صارت روحه إلى الله سبحانـه قال يا موسى كيف وجدت الموت قال وجدت نفسي كالعصفور حين يقلى على المقلاة لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير
وفي رواية أخرى قال وجدت نفسي كشاة حية تسلخ بيد القصاب
وأنشدوا
الموت لا والدا يبقي ولا ولدا
هو السبيل إلى أن لا ترى أحدا
مات النبي فلم يخلد لأمته
لو خلد الله حيا قبله خلدا
للموت فينا سهام غير مخطئة
من فاته اليوم سهم لم يفته غدا
ما ضر من عرف الدنيا وغدرتها
ألا ينافس فيها أهلها أبدا
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال
لو علمت الطير والبهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منـها سمينا
56 نوح وخوفه
وروي عن وهب بن منبه أنـه قال قام نوح عليه السلام خمسمائة عام لا يقرب النساء وجلا من الموت وهو المطلع
وروي أن عيسى صلوات الله وسلامـه عليه قال للحواريين أدعوا الله أن يخفف عني سكرات الموت
وأنشدوا
} قد سقاك الهوى الأماني فاستطبت المقام تحت التداني
وتصاممت عن نداء الأماني
لاهيا عن وقائع الحدثان
} وإذا عارضتك خطرة ذكر
بادأتك الطباع بالنسيان
57 سكرات الموت

وفي بعض الأخبار للموت ثلاثة آلاف سكرة كل سكرة منـها أشد من ألف ضربة بالسيف وفي بعض الأخبار أن الدنيا كلها بين يدي ملك الموت كالمائدة بين يدي الرجل يمد يده إلى ما شاء منـها فيتناوله ويأكله
بل الدنيا كله مشارقها
ومغاربها برها وبحرها وكل ناحية منـها أقرب إلى ملك الموت من الرجل على مائدته وإن معه أعوانا الله أعلم بعدتهم ليس منـهم ملك إلا لو أذن الله له أن يلتقم السموات السبع والأرضين السبع في لقمة واحدة لفعل وما تقرب ملك الموت من حملة العرش إلا ازدادوا فزعا منـه حتى يرعدوا وإن غصه من غصص الموت أشد من ألف ضربة بالسيف وفي كل ما خلق الله عز وجل البركة إلا في الأجل فإنـه مؤقت لوفاء العدة وانقضاء المدة
وأنشدوا
للمنايا رحى عليك تدور
كلنا جاهل بها مغرور
رحم الله من بكى للخطايا
كل باك فذنبه مغفور
يا ابن آدم ما أغفلك وعن الصواب ما أبعدك كأنك بالموت قد فاجأك وملك الموت قد وافاك فيئس منك الطبيب وفارقك الحبيب وتفجع لفقدك كل قريب
فوقعت في الحسرة وجفتك العبرة وبطل منك اللسان بعد الفصاحة والبيان وأدرجت في الأكفان وأزعجت عن الأوطان وصار القبر مأواك وإلى يوم القيامة مثواك
وفارقك الأهل والإخوان ووقع بهم عنك السلو والنسيان فإن كان لك منزل سكنوه أو كنت ذا مال اقتسموه
وأنشدوا
يا عجبا للأرض ما تشبع
وكل حي فوقها يفجع
ابتلعت عادا فأفنتهم
وبعد عاد أهلكت بتبع
وقوم نوح أدخلت بطنـها
فظهرها من جمعهم بلقع
يا أيها الراضي بما قد مضى
هل لك فيما قد مضى مطمع
58 اذكر الموت
يا هذا اذكر ما وصفته واحفظ ما حكيته وعليك بالصوم والاجتهاد والطاعة لرب العباد ومراقبته في الليل والنـهار والتضرع إليه في ظلمات الأسحار
يا هذا عمرك أنفاس معدودة وعليك رقيب يحصيها لا تنس الموت فإنـه لا ينساك
المبادرة المبادرة إنما هي أنفاس لو حبست عنك لانقطع عنك عملك آخر الأبد وخروج نفسك آخر الأمد وفراق أهلك آخر العدد
وأنشدوا

} إذا ما الموت جر على أناس كلا كله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
فاذكر حالك أيها الغافل يوم تقلبك على المغتسل يد الغاسل قد زال عزك عنك وسلب مالك منك وأخرجت من بين أحبابك وجهزت لترابك وأسلمت إلى الدود وصرت رهنا بين اللحود وبكى عليك الباكون قليلا ثم نسوك دهرا طويلا فتغيرت منك المحاسن والمحلى وتحكم في أعضائك البلى وقطعت في الأكفان وسعى إليك الديدان فبلى منك اللسان وسالت الحدق كأنك لم تكن قط ممن رأى ولا نطق
وأنشدوا
فلو أنا إذا متنا تركنا
لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا
ونسأل بعدها عن كل شيء
ابن آدم كأنك بالموت قد حل بساحتك وحال بينك وبين ما تريد وأنت في النزع والكرب الشديد لا والد يدفع عنك ولا وليد ولا عدة تنجيك ولا عديد ولا عشيرة تحميك ولا قصر مشيد
أليس ذلك نازل بك على كل حال أي وعزة الكبير المتعال فإنك الآن حين ينفعك البكاء والاستكانة قبل حلول الحسرة والندامة
وأنشدوا
يا من يموت ويسأل
عما يقول ويفعل
إن الموكل بالنفوس
إذا أتى لا يمـهل
والنار منزل من عصى
والنار بئس المنزل
59 موعظة حسنة
يا ابن آدم بادر إلى حسن العمل بينا أنت في فسحة ومـهل وتب إلى مولاك من قبيح الخطايا والزلل قبل أن يقال فلان عليل أو مدنف ثقيل فهل إلى دوائه سبيل أو على طبيب من دليل فتدعى لك الأطباء ويجمع لك الدواء فلا يزيدك ذلك إلا بلاء
وقد اجتمعه عندك الإخوان والأحباء والأهل والأقرباء وكثر حولك البكاء ثم يقال حشرج ونفسه توشك أن تخرج وأنت تعاين الأمر العظيم بعد اللذة والنعيم وعدلت ببصرك عن القريب والحميم وحل بك القضاء وخرجت الروح من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فيا لها من سعادة أو شقاء
وأنشدوا
} فلو يكن شيء سوى الموت والبلى وتفريق أعضاء ولحم مبدد
لكنت حقيقا يا ابن آدم بالبكا
على نائبات الدهر مع كل مسعد

فاستعذ من ذنوبك يا مسكين قبل عرق الجبين وانتشار العرقين وقبل مد الشمال وقبض اليمين وتضعيف قوتك بالأنين ويكثر حواليك البكا والحنين وجرت دموعك لمفارقة الأهل والبنين ولا ينفعك ما جمعت من الأموال في الشـهور والسنين ثم أنت في قبرك لعملك رهين إلى يوم عرضك على أسرع الحاسبين
قد تغير جسمك في الجنادل والتراب بعد تنعمك بدقائق الشباب
وأنشدوا
من لم يطأ منا التراب برجله
وطئ التراب بنضرة الخد
لو كشفت للناس أغطية البلى
لم يعرفوا المولى من العبد
من كان بينك في التراب وبينـه
شبران كان بموضع البعد
60 أسماء العباد
ذكر في بعض الأخبار أن لله سبحانـه وتعالى شجرة فرعها تحت العرش مكتوب على كل ورقة من أوراقها اسم عبد من عبيده فإذا جاء أجل العبد سقطت تلك الورقة التي فيها اسمـه في حجر ملك الموت فأخذ روحه في الوقت
وأنشدوا
} إني لعبت وحادي الموت في طلبي وإن في الموت شغل لي عن اللعب
لو شمرت مـهجتي فيما خلقت له ما اشتد حرصي على الدنيا ولا كلبي
سبحان ربي فلا شيء يعادله إن الحريص على الدنيا لفي تعب
لا تغترر بديار لا مقام بها واقصد لدارك إن الموت في الطلب
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ما من يوم إلا وملكان يناديان يا أهل الدنيا ولدتم للموت وتبنون للخراب وأنتم محاسبون ومعذبون عند ربكم {
وأنشدوا
} عجبت لجازع باك مصاب بأهل أو حميم ذي اكتئاب {
} شقيق الجيب داعي الويل جهلا كأن الموت كالشيء العجاب {
} وسوى الله فيه الخلق حتى
نبي الله فيه لم يحابي {
} له ملك ينادي كل يوم لدوا للموت وابنوا للخراب {
} لمن نبني ونحن إلى تراب نعود كما خلقنا من تراب {
ألا يا موت لم أر منك بدا
أتيت فلا تحيف ولا تحابي
كأنك قد هجمت على مشيبي
كما هجم المشيب على الشباب
قيل مر رجل على خراب فسمع إنسانا ينشد هذه الأبيات
قل للذين بنوا ديارا عالية
وتنافسوا والموت منـهم دانية
شيدتموها راغبين وأنتم
تردوا القبور وتتركوها خالية
أين الملوك وأين ما قد جمعوا

وجيوشـهم وعبيدهم وزبانية
تحت التراب تقطعت أوصالهم
وأكفهم بعد الأعنة بالية
ثم قرأ { قل هو نبأ عظيم أنتم عنـه معرضون } ص 68
61 نوح وزهده
ذكر في بعض الأخبار أن جبريل عليه السلام هبط على نوح عليه السلام قال فوجده قد عمل خصا على البحر فقال أيش هذا يا نوح فقال يا جبريل هذا لمن يموت كثير فقال له جبريل عليه السلام لتأتين أمة أعمارهم من الستين إلى السبعين يبنون بالحصى والآجر والحجر فقال نوح عليه السلام ما كان على هؤلاء إنـهم يستفون الرماد حتى يموتوا
وأنشدوا
} لو كنت تعقل يا مغرور ما برقت عيناك للناس من خوف ومن حذر
} ما بال قوم سهام الموت تخطفهم يفاخرون برفع الطين والمدر
62 عيسى والجمجمة
روي أن عيسى عليه السلام مر بجمجمة فقذفها برجله وقال تكلمي بإذن الله تعالى قالت يا روح الله أنا مالك زمام كذا وكذا بينا أنا جالس في ملكي وعلى رأسي تاجي وحولي جنودي وحشمي إذ بدا لي ملك الموت فأزال مني كل عضو على حياله ثم خرجت نفسي فيا ليت ما كان من ذلك الجمع كان فرقة وما كان من ذلك الأنس كان وحشة
فما ظنك يا عاصي بصفحة ملك الموت إذا بدت وعاينتها عند كشف الغطاء فتنظر إليها بطرف كليل وقلب وجل ثم تسل الروح للخروج فلا تخرج حتى تسمع نغمة ملك الموت بإحدى البشارتين ابشر يا عدو الله بالنار أو ابشر يا ولي الله بالجنة
وأنشدوا
يخيل لي بكاء القوم حولي
وقولهم ألا أزف الرحيل
وما يغني البكاء إذا تقضى
لدى عمري وإن كثر العويل
فخذ للموت أهبته فأما
نجاة بعد أو هول طويل
63 عمرو بن العاص عند موته
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنـهما أنـه قال لإبنـه عند الموت ليتني ألقي رجلا عاقلا عند نزول الموت يخبرني بما يجد فقال له ابنـه قد نزل بك الموت فصف لي الذي تجد فقال لي يا بني كأن في تحت وكأن غصن شوك يخرج من قدمي إلى هامتي وكأني أتنفس من سم إبرة
ثم مد يده وقال اللهم لا قوي فأنتصر ولا بريء فأعتذر اللهم إني مقر مذنب مستغفر

ثم مات رضي الله عنـه
وأنشدوا
} للموت فاعمل بجد أيها الرجل واعلم بأنك من دنياك مرتحل
إلى متى أنت في لهو وفي لعب تمسي وتصبح في اللذات مشتغل
كأنني بك يا ذا الشيب في كرب بين الأحبة قد أودى بك الأجل
لما رأوك صريعا بينـهم جزعوا وودعوك وقالوا قد مضى الرجل
فاعمل لنفسك يا مسكين في مـهل ما دام ينفعك التذكار والعمل
إن التقي جنان الخلد مسكنـه ينال حورا عليها التاج والحلل
} والمجرمين بنار لا خمود لها في كل وقت من الأوقات تشتعل
64 سليمان وملك الموت
روي أن ملك الموت كان صديقا لسليمان عليه السلام وكان يزوره أبدا فدخل عليه يوما وعنده رجل يكلمـه سليمان فجعل ملك الموت ينظر إلى الرجل الذي مع سليمان نظرا منكرا فقال الرجل لسليمان بعد خروج ملك الموت يا نبي الله من هذا الداخل عليك آنفا فقال ملك الموت فقال له لقد رايته يجد النظر إلي ولكن لي إليك حاجة قال وما هي قال تأمر الريح أن تحملني إلى الهند
فأمر سليمان الريح فحملته إلى الهند ثم قال سليمان بعد أيام لملك الموت وجدت عندي منذ أيام رجلا فنظرت إليه نظرا منكرا فقال ملك الموت كنت
أعجب منـه أمرت بقبض روحه في ذلك اليوم بجزائر الهند وهو عندك بالشام
فقبض روحه في ذلك اليوم بالهند
وأنشدوا
الموت بحر يهاب المرء مورده
وكل يوم له من كأسه جرع
لا صحة المرء في الدنيا تؤخره
ولا يقدم يوما موته الوجع
وكل يوم علينا في فجائعه
طير يحوم فلا ندري بمن يقع
65 سعيد بن المسيب والجني
روي أن سعيد بن المسيب دخل يوما مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فجعل يلتفت في أركان المسجد يتفكر فيمن أدرك من أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} ثم بكى وجعل يقول
} ألا ذهب الحماة واسلموني فوا اسفا على فقد الحماة
تولوا للقبور فاسقموني فوا اسفا على فقد الثقاة
فأجابه هاتف من ركن المسجد بصوت محزون من كبد مشجون وهو يقول
فدع عنك الثقاة فقد تولوا ونفسك فابكها حين الممات
فكل جماعة لا بد يوما يفرق بينـهم وقع الشتات

فقال سعيد من أنت فقد زدتني حزنا فقال أنا من مؤمني الجن كنا في هذا المسجد سبعين رجلا فأتى الموت على جماعتنا كما أتى على جماعتك ولم يبق منـهم غيري كما لم يبق من الإنس غيرك وإنا بهم لاحقون فإنا لله وإنا إليه راجعون
وأنشدوا
جرت الرياح على جميع ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد
} فأرى النعيم وكل ما يلهى بـه يوما يصير إلى بلى ونفاد
66 صلحاء الجن
وذكر عن بعض العباد أنـه كان يصلي فقرأ هذه الآية { كل نفس ذائقة الموت } آل عمران 185 الأنبياء 35 العنكبوت 57
وجعل يتدبرها ويرددها فسمع قائلا يقول يا هذا كم تردد هذه الآية فوالله لقد قتلت بها أربعة من الجن ما رفعوا رؤوسهم إلى السماء قط حياء من الله تعالى ولقد ماتوا من ترديدك هذه الآية
وأنشدوا
ليس ينجو المقصوص من ملك الموت
إذا جاءه ولا الطيار
للمنايا وإنما للمنايا
خلق الطفل والشيوخ الكبار
كم رأينا من سادة وملوك
ما على الأرض منـهم ديار
67 العبد وربه
حكي عن بعض العارفين أنـه قال إن الله سبحانـه يسر إلى عبده سرين يخبره ذلك بإلهام يلهمـه أحدهما إذا ولد وخرج من ظلمة بطن أمـه يقول له عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهرا نقيا نظيفا وسر عند خروج روحه يقول له عبدي ما صنعت في أمانتي عندك هل حفظتها حتى تلقاني على الوفاء والعهد والرعاية فألقاك بالوفاء والجزاء أو ضيعتها فألقاك بالمطالبة والعذاب وأنشدوا
} يا من تقدم جده وابوه وصديقه سكن الثرى وأخوه
وغدا إلى دار البلى أترابه ومضى إلى حفر القبور بنوه
ورأى مصارع إخوة وقرابة بين الثرى في برزخ سكنوه
ألا أتيت قبورهم فسألتها عنـهم وعن ما في القبور لقوه
فلتخبرنك أن أحكام البلى تجري عليهم هموا وطنوه
وليخبرنك أنـهم وجدوا الذي عملوه مكتوبا كما عملوه
ما زادت الحفظاء في أعمالهم مثقال خردلة ولا نقصوه
يا معشر الإخوان إن سبيلكم كسبيلهم في كل ما سلكوه
ولكم نصيب في البلى كنصيبهم وكأنـه قد حل فانتظروه

ومحجب قد غرهم بحجابه لما أتاه الموت ما حجبوه
لكنـهم سجوه فوق سريره وتكفلوه بأربع حملوه
ساروا بـه حتى إلى دار البلى بيت له تحت الثرى قبره
حتى إذا ما غيبته أكفهم بين الجنادل في الثرى تركوه
} وتفرقوا على بابه وتبدلوا وتبدلوا بابا سواه وغيروا ونسوه
68 عمر بن الخطاب وعظته
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنـه قال أكثروا من ذكر هازم اللذات فإنكم لا تذكرونـه في قليل إلا كفى وأجزى ولا في كثير إلا قلله
فالله الله عباد الله اجتهدوا واستعدوا للموت وبادروا آجالكم قبل الفوت تفوزوا بالجنان في دار الرحمن
وأنشدوا
لملك الموت في الدنيا ديون
تحل فليس يمطلها المطول
وكل العالمين بها ملي
فليس له على أحد جميل
سواء إذ يحل على غريم
عليه ذو التعزز والذليل
فالله الله معاشر المسرفين لا تغتروا بالعز والمال فإن الموت لا يهاب الكبير الجليل ولا يرحم الحقير الذليل فكونوا منـه على حذر وأعدوا له صالح الأعمال من قبل أن يأتي يوم لا حيلة فيه لمحتال
يا إخواني إلى كم هذه الغفلة إلى كم هذا التمادي في البطالة والاغترار بالمـهلة وأنشدوا
يا أيها الناس كان لي أمل
قصر عن بلوغه الأجل
ما أنا وحدي نقلت حيث تروا
كل إلى مثله ينتقل
فليتق الله ربه رجل
أمكنـه في حياته العمل
69 حث النبي أصحابه على ذكر الموت
روي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان في بيت بعض نسائه إذ سمع صوتا في مجلس من مجالس أصحابه وقد استعلى على حديثهم الضحك فخرج عليهم صلوات الله وسلامـه عليه حتى قام على رؤوسهم فقال أرى الضحك قد غلب على مجلسكم هذا أفلا تذكرون مكدر اللذات في أثناء حديثكم قالوا وما مكدر اللذات يا نبي الله قال ذكر الموت فبكى أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بأجمعهم

فإذا كان أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مصابيح الإسلام وقادة الأنام السادة الكرام رجع ضحكهم بكاء من هول يوم ال وقد أفنوا أعمارهم في طاعة ذي الجلال والإكرام وقطعوا أيامـهم في العمل بالسنة والأحكام فكيف بمن تمادى في المعاصي والإجرام والطغيان والآثام وأكلوا الربا والحرام وأموال الضعفاء والأيتام
وأنشدوا
} الموت في كل حين ينشر الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تطمئن إلى الدنيا وزهرتها وإن توشحت من أثوابها المحنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين همو كانوا لنا سكنا
سقاهم الدهر كأسا غير صافية
فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا
فالله الله معاشر المذنبين لا تشغلوا عمن يطلبكم ولا تنسوا من لا ينساكم وقد خلقكم الله تعالى وخلق آجالكم من قبل أن تأتي ساعة السكرات والندم على ما فات فهيهات هيهات ثم هيهات هيهات
وأنشدوا
إسمع فقد أسمعك الصوت
إن لم تبادر فهو الفوت
بل كان ما شئت وعش سالما
آخر هذا كله الموت
يا أخي إذا جاءك الموت لا ينفعك ما جمعته ولا ينجيك ما اكتسبته فامـهد لنفسك قبل مفارقة الأحباب والجيران والأصحاب والخروج من الديار إلى منازل الدود والتراب وبيوت الوحشة والعذاب إلا أن يعفو الملك الوهاب فتفكروا يا أولي الألباب يا معشر الشيب والشباب
وأنشدوا
مضى أمسك الماضي شـهيدا معدلا
وأعقبه يوم عليك شـهيد
فإن تك بالأمس اجترحت إساءة
فبادر بإحسان وأنت حميد
ولا تبق فعل الصالحات إلى غد
لعل غدا يأتي وأنت فقيد
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت
حميمك فاعلم أنـها ستعود
70 ذكر الموت والعمل
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ما أكثر رجل ذكر الموت إلا زاد ذلك في عمله فيا إخواني أكثروا ذكره لعل الله أن يهونـه عليكم ويرحمكم عند نزوله بكم واجعلوا الموت عند منامكم مـهادا وعند قيامكم سهادا
واستعدوا بكثير الحسنات واجتناب الأوزار والسيئات
فرحم الله امرأ رحم نفسه ونظر إليها وذكر رمسه
وأنشدوا
نغص الموت ويحكم كل طيب
ودهاني بفقد كل حبيب

كم وكم قد رأيت من حدث السن
عزيز كغصن بان رطيب
حس بالموت فانثنى بانكسار
واضعا خده بذل عجيب
قائلا إخوتي سلام عليكم
إذ دنت شمس مدتي بالمغيب
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ما أكثر رجل ذكر الموت إلا ترك الفرح
والحيد والرغبة { يا أخي لو كان عندنا علم أنـه لا يموت منا إلا رجل واحد لا يعلم من هو فينا لكان الواجب علينا أن لا ترقأ لنا دمعة خوفا من الموت فكيف ونحن على يقين أنـه لا يبقى منا أحد
وانشدوا
يلقى الفتى حذر المنية كارها
منـها وقد حدقت بـه لو يشعر
نصبت حبائلها له من حوله
فإذا أتاه يومـه لا ينذر
إن امرأ أمسى أبوه وأمـه
تحت التراب لواجب يتفكر
تعطي صحيفتك التي أمليتها
فترى الذي فيها إذا ما تنشر
حسناتها محشوة قد أحصيت
والسيئات فأي ذلك أكثر
فابكوا معاشر المذنبين على ساعة لا بد منـها أما ترون الموت قد أفنى الأمم الماضية وقتل القرون الخالية وهدم القصور العالية عطل عشارهم وخرب ديارهم وهدم منازلهم وقطع آثارهم وقطف أعمارهم ولم ينفعهم ما جمعوا ولم يحصنـهم ما بنوا وصنعوا قد صاروا في القبور رميما ولقوا من الموت والأهوال أمرا عظيما فهذا دليل على أن الموت لا يترك أحدا من المخلوقين حتى يتوفاهم وينقلهم إلى التراب أجمعين
71 حكاية في الزهد
روي عن عمرو بن مرة أنـه قال ذكر عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رجل فأثنوا عليه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كيف زهده في الدنيا وتركه لما يشتهي منـها قالوا إنـه ليصيب منـها
قال فكيف ذكره للموت قالوا ما سمعناه يكثر ذكره
قال ليس صاحبكم هناك فمن لم يكثر ذكر الموت ولا يترك الرغبة في حطام الدنيا فلا خير فيه والله أعلم
وأنشدوا
إنما الدنيا بلاغ
ليس في الدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيت
نسجته العنكبوت
ليس للطالب فيها
كل يوم غير قوت
كل من كان عليها
عن قليل سيموت
فالله الله بادروا العمر اليسير والأجل القصير قبل نزول ملك الموت بالهول العظيم الكبير فالموت يقصم الأصلاب ويذب الرقاب ويرد كل مخلوق إلى

التراب ويقرب المؤمن الطائع إلى الجنة المآب ويسوق الفاجر العاصي إلى أليم العذاب فتفكروا في الموت يا أهل الفناء والذهاب
وأنشدوا
هل للفتى من عثار الدهر من واق
أم هل له من الموت من راق
قد رجلوني وما بالشعر من شعث
ولبسوني ثيابا غير أخلاق
وكفنوني وقالوا أيما رجل
وأدرجوني كأني طي مخراق
هون عليك ولا تولع بإشفاق
فإنما مالنا للوارث الباقي
72 عظة ابن مسعود
روي عن ابن مسعود رضي الله عنـه أنـه قال ليس بغافل ولا ذاكر للموت من عد غدا من أجله فرب مستقبل يوما لا يستكمله ومؤمل غدا لا يبلغه لو أبصرتم الأجل ومروره لأبغضتم الأمل وغروره
فيا عجبا للفروع ذهبت أصولها وللنجوم قد آن أفولها
73 الداء والدواء
روي أن رجلا جاء إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنـها فقال يا أم المؤمنين إن بي داء فهل عندك دواء قالت وما داؤك قال القسوة قالت بئس الداء داؤك عد المرضى واشـهد الجنائز وتوقع الموت
فالله الله يا اعراض المنية ويا أبواب الرزية لا تنسوا الموت الذي كتبه الله على العباد المخرب الأقطار والبلاد وكونوا منـه على حذر واستعداد يا أبدان الأسقام ويا أعراض ال
أنشدوا
} من كان يعلم أن الموت مدرجه والقبر منزله والبعث مخرجه
وأنـه بين حيات ستنـهشـه يوم القيامة أو نار تنضجه
فكل شيء سوى التقوى بـه سمج وما اقام عليه من أسمجه
} ترى الذي اتخذ الدنيا له وطنا لم يدر أن المنايا سوف تزعجه
74 عظة عمر بن عبد العزيز
روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنـه أنـه كان يقول أيها الناس ما الجزع مما لا بد منـه وما الطمع فيما لا يرجى وما الحيلة فيما لا يزول وإنما
الشيء من أصله وقد مضت من قبلنا أصول نحن فروعها فما بقاء الفروع بعد الأصل فكل ما هو آت قريب

أيها الناس إنما أنتم في الدنيا أغراض تتنصل فيكم المنايا ونـهب للمصائب ومعدن للنوائب مع كل أكلة غصص ومع كل شربة شرق ألا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى ولا يعمر فيكم معمر لا بهدم آخر من أجله وأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم فأين المـهرب مما هو كائن فالله الله يا إخواني لا تركنوا إلى طول الأمل ولا تنسوا اقتراب الأجل فالموت لا بد منـه
وأنشدوا
آه على سفرة بغير إياب
آه من حسرة على الأحباب
آه من سكرة بغير سراب
آه من ركبة بغير ركاب
آه من مضجعي وحيدا فريدا
بين فرش من الحصى والتراب
يا إخواني هل رأيتم أحدا خلد في الدنيا حتى تكونوا مخلدين أم أنتم من الرحيل إلى الآخرة على شك فتكونوا بالقرآن كافرين فوالله لو كان الأمر كذلك لخلد خاتم النبيين لقد رانت على قلوبكم سترة الغافلين واستحوذ على نفوسكم كيد الشيطان اللعين حتى نسيتم الموت المفرق لجمع الجامعين
وأنشدوا
ليس دوام البقاء للخلق لكن
دوام البقاء للخلاق
غلب الموت حيلة كل محتال
واعي بدائه كل راق
عطفت شدة الزمان فأدته
إلى فاقة وضيق خناق
لا يغرنك الغرور من الدنيا
فمنـها شدائد بسياق
75 القرآن والموت واعظان
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } تركت فيكم واعظين ناطقا وصامتا فالناطق القرآن والصامت الموت مساكين فلا بالقرآن عملتم ولا في الموت تفكرتم تمسون وتصبحون وقلوبكم معلقة بعلائق الدنيا ما عندكم من الموت خبر ولا أنتم منـه على حذر قلوبكم خالية من خوف الرحمن عامرة بخدوع الشيطان كأنكم قد أمنتم الموت وطوارق الحدثان
وأنشدوا
} ركبت جموح الغي في سبل الصبا لم تدر أن النائبات تنوب
وجررت أذيال البطالة لاهيا
كأنك لم يكتب عليك ذنوب
أمليت كتاب الشمال صحائفا
بكثرة ما تأتي ولست تتوب
ومـهما يغب عنك ال لمدة
ستبلغها حتما وأنت كئيب
فقل لي إذا وافى على غير أهبة
بأي جواب إن دعيت تجيب

فالله الله عباد الله عظوا أنفسكم بآبائكم وأحبابكم وجيرانكم وإخوانكم فإن في ذلك بلاغا لم تذكر وعبرة لم تفكر إخوانكم كانوا بالأمس معكم يأكلون ما تأكلون ويلبسون مما تلبسون فاصبحوا اليوم وقد صارت القبور لهم بيوتا وصاروا بين أطباق الثرى خفوتا قد قسم الوارث أموالهم ونكح العدو والصديق عيالهم وأهان العدو أطفالهم
قد هتكت منـهم الأستار واستوحشت منـهم الديار وتحدثت عنـهم الأخبار
وأنشدوا
رأيت الموت لا يبقي خليلا
على خل وإن عاشا زمانا
فكن منـه على حذر فإني
رأيت الموت لا يعطي أمانا
أنسنا غرة منـه كأنا
بما نعني بـه يعني سوانا
وكم للموت من دار ودار
أبان عميرها عنـها فبانا
فكم ذي نخوة وعزيز قوم
أذل الموت عزته فهانا
كأنا قد نظرنا عن قريب
إلى ما قد وعدناه عيانا
76 شدة الموت
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه ذكر الموت وغمـه وكربه فقال } هو أشد من ثلاثمائة ضربة بالسيف فيا معشر الموقنين بنزوله ما هذه الفترة وما هذه السكرة من ذكر الموت قل فرحه وحسده ورغبته
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه كان إذا رأى فترة أو غفلة من الناس وقف بباب المسجد فأخذ بأعضاد الباب ثم صاح بأعلا صوته يا أيها الناس الموت الموت جاءكم الموت بالوحية سعادة أو شقوة جاءكم الموت بما جاء بـه بالروح والراحة والكرامة الرابحة في جنة عالية لأولياء الله من أهل دار الخلود الذين سعيهم لها ورغبتهم فيها ألا إن لكل ساع غاية وغاية كل ساع الموت جاءكم الموت بما جاء بـه بالخزي والندامة والمكرمة الخاسرة في نار حامية لأولياء الشيطان من أهل
دار الغرور الذين سعيهم لها ورغبتهم فيها ألا إن لكل ساع غاية وغاية كل ساع الموت فسابق ومسبوق
فالله الله يا إخواني كونوا من السابقين ولا تكونوا من الخاسرين وكونوا من الموت على تحقيق ويقين
وأنشدوا
أراك بما ترضى بـه النفس والهوى
ويغضب منـه الله صرت تدين
وقلبك لا يزداد إلا قساوة
فداركه بالذكرى عساه يلين
فإن كنت في شك من الموت فاعتبر

بمن قد مضى يزداد منك يقين
كأني بك استغرقت في غمراته
وجاءك من بعد الحراك سكون
وقد حشرجت في الصدر منك وأسلبت
بأدمعها تجري عليك عيون
فقل لي إذا وسدت ويحك في البلى
وهيل عليك الترب كيف تكون
77 تمني الموت
عباد الله تذاكروا أعماركم قبل الفوت وتأهبوا لأهوال غصص الموت
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لا تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد وإن من سعادة المرء أن يرزقه الله تعالى الإنابة إليه ويطيل عمره فإنا لله وإنا إليه راجعون على من طال عمره وساء عمله ولا تنفعه الموعظة فمن كان منا كذلك فقد عظمت خسارته وما ربحت تجارته
وأنشدوا
} نودي بصوت أيما صوت ما أقرب الحي من الموت
كأن أهل الحي في غيهم قد أخذوا أمنا من الموت
كم من صحيح عامر بيته لم يمس إلا خارب البيت
} كم وكم حي بكى ميتا فأصبح الحي مع الميت
78 دعاء مجرب
اللهم يا أكرم الأكرمين تفضل علينا وعلى جميع المذنبين بتوبة تنقلنا من ذل المعصية إلى عز الطاعة وثبتنا عليها حتى تخرجنا من الدنيا بلا ذل ولا تباعه على منـهاج أهل السنة والجماعة الذين أوجبت لهم الرحمة والشفاعة اللهم إن الطاعة بقدرك والمعاصي وفي قبضتك القلوب والنواصي فطهر قلوبنا بماء
التوبة واغسلها من دنس الحوبة ومتعنا بالسلامة في ديننا ودنيانا ما أبقيتنا ولا تردنا على أعقابنا بعد إذ هديتنا وصلى الله على محمد خاتم النبيين وخير المرسلين واحشرنا تحت لوائه أجمعين على منـهاجه وسنته غير مبدلين ولا مغيرين موفقين معصومين غير مغضوب علينا ولا ضالين يا أرحم الراحمين { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } يونس 10 ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
والله أعلم

1 مجلس في موت الأنبياء والأولياء الصالحين

279 وهو قوله تعالى { كل نفس ذائقة الموت } آل عمران 185 معاشر الموتى وأبناء الموتى أنتم موتى بلا محالة وإنما سبقكم إخوانكم إلى مناخ القبور فإذا استكمل ولد آدم من أولهم وآخرهم قام الكل للعرض والنشور على الملك الغفور فاستعدوا لذلك المقام واجتنبوا الأوزار والآثام وبادروا بالتوبة قبل نزول ال
80 صفة الموت
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } الموت غصن كثير الشوك أدخل في جوف رجل أخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وابقى ما أبقى {
وأنشدوا
} يا من سينأى مسرعا
كما نأى عنـه ابوه {
} مثل بقلبك قولهم جاء اليقين فلقنوه {
} وتحللوا من ظلمـه قبل الفراق وودعوه {
فالله الله عباد الله لا تضيعوا أعماركم في الباطلات ولا تفنوا أيامكم في الجهالات واذكروا الموت مفرق الأحباب وقاطع الأنساب ومذب الرقاب وقاصم الجبابرة والأرباب مـهلك الآباء والأمـهات وقاتل الأخوة والأخوات ومبيد الجيران والقرابات الموت يقطع أموالكم ويغير أحوالكم ويرمل نساءكم وييتم أطفالكم فلا يبقى منكم خليلا ولا حبيبا ولا جاهلا ولا أديبا
وأنشدوا
} الموت أفنى من مضى
والموت يفني من بقي {
} والموت يجمع في الثرى بين المنعم والشقي {
يا مسكين أنفقت مالك في بنيان الدور وتشييد القصور ونسيت الموت والتحول إلى ظلمة القبور ثاويا فيها إلى يوم النشور وأنشدوا
ألا للخراب بنى العامرونا
وللموت ما ولد الوالدونا
وعما قليل يرى الآخرون
عجائب ما قد رأى الأولونا
ويشقى أناس بما جمعوا
ويسعد بالقلة الزاهدونا
ولا يرحمون إذا ما بكوا
ولا يرتجي الرحمة الظالمونا
ويسأل قوم هناك الرجوع
فلا يرجعون ولا يكرمونا
اعلم يا مسكين أن المنية خير من الحياة الدنية يا ابن آدم الرقاد والله تحت التراب خير لمعصيتك لرب الأرباب
81 عظة الموت

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } كفى بالموت واعظا وكفى بالعبادة شغلا وكفى بالقين غناء { واعلموا عباد الله أنـه لا أمة بعد أمتكم ولا نبي بعد نبيكم وإنما ينتظر بأولكم أن يلحق آخركم ثم يجمعون في عرصة القيامة لوقوع الحسرة والندامة عند ذلك لا ينفعكم مال ولا بنون ويحال بينكم وبين ما تشتهون ويحيق بكم ما كنتم بـه تستهزؤون
وأنشدوا
} كل حي وإن بقي
فمن الموت يستقي {
} فاعمل اليوم واجتهد بادر اليوم يا شقي
82 أبو العتاهية الشاعر
ذكر عن أبي العتاهية رحمـه الله أنـه دخل يوما على الرشيد فقال له الرشيد أنشدني فقال اجعل لي الأمان قال أنت آمن فأنشأ وأنشد
} لا تأمن الموت في طرف ولا نفس وإن تسترت بالحجاب والحرس {
} واعلم بأن سهام الموت قاصدة
لكل مدرع منا ومترس {
} ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوبك الدهر مغسول من الدنس {
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
فاعلموا يا معشر بني آدم أن الموت لا يترك منكم أحدا ولا يرحم والدا ولا ولدا فاجعلوه بين أعينكم منصوبا فإنـه لا يترك الفرح كئيبا مكروبا فيقيننا يقين من يموت وأعمالنا أعمال من لا يموت كأن يقيننا بالموت مشوبا بالشك وكأن إيماننا بالبعث ممزوجا بالإفك ما هذه حال من أيقن بال يعصي مولاه في الليالي والأيام
وأنشدوا
نحن من العمر في ظنون
وفي يقين من المنون
ثمت لا نذكر المنايا
أليس ذا غاية الجنون
83 مثل الدنيا والموت

ذكر عن بعض الصالحين أنـه قال رأيت في المنام رجلا وهو في برية وأمامـه غزالة وهو يجري خلفها وهي تفر منـه وأسد كأعظم ما يكون خلقة وقد هم أن يلحقه والرجل يرد رأسه وينظر إلى الأسد فلا يجزع منـه ثم يجري خلف الغزالة حتى لحق بـه الأسد فقتله فوقفت الغزالة تنظر إليه وهو مقتول إذ جاء رجل آخر قد فعل ما فعله المقتول فقتله الأسد ولم يدرك الغزالة فخرج آخر ففعل كذلك قال فما زلت أعد واحدا بعد واحد حتى عددت مائة رجل صرعى والغزالة واقفة فقلت إن هذا لعجب فقال الأسد مم تعجب أو ما تدري من أنا ومن هذه الغزالة فقلت لا فقال أنا ملك الموت وهذه الغزالة الدنيا وهؤلاء أهلها يجدون في طلبها وأنا أقتلهم واحدا بعد واحد حتى آتي على آخرهن فاستيقظت فزعا مرعوبا وأنشدوا
} حتى متى وإلى متى نتوانى وأظن هذا كله نسيانا
والموت يطلبنا حثيثا مسرعا إن لم يزرنا بكرة مسانا
إنا لنوعظ بكرة وعشية وكأنما يعني بذاك سوانا
غلب اليقين على التشكك في الردى حتى كأني قد أراه عيانا
يا من يصير غدا إلى دار البلى ويفارق الإخوان والخلانا
إن الأماكن في المعاد عزيزة فاختر لنفسك إن عقلت مكانا
وانظر لنفسك إن أردت تعزها قبل الممات ولا تكن مـهوانا
واعلموا عباد الله أن ما من جماعة وإن كثرت إلا والموت يقللها حتى يفنيها عن آخرها وإنما أعمارها عوار والعارية لا تبقى يرجع الكل إلى الله تعالى يفصل بينـهم بالحق وهو خير الفاصلين فشقي وسعيد ومنـهم ومعذب
وأنشدوا
وما أهل الحياة لنا بأهل
ولا دار الفناء لنا بدار
وما أموالنا إلا عوار
سيأخذها المعير من المعار
84 ملاقاة الأرواح
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إذا عرج بروح المؤمن تلقته أرواح المؤمنين بالرحمة والبشرى كما يتلقى الغائب في الدنيا ثم يقبلون عليه فيسألونـه فيقولون ما فعل فلان وما حاله فيقول بخير تركته والله على طريقة حسنة

فيقولون يا ربنا أنت هديته لذلك فثبته عليه حتى تقبضه وإن سألوه عن إنسان قد مات فيقول قد هلك فيقولون إنا لله وإنا إليه راجعون عمل والله بغير عملنا فسلك بـه غير طريقنا ذهب والله بـه إلى أمة الهاوية بئست الأم وبئست المربية
85 أعمال الأحياء والأموات
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } تعرض على الموتى أعمالكم فإن رأوا خيرا استبشروا بـه وقالوا اللهم هذه نعمتك فأتا على عبدك وإن رأوا سيئة اغتموا لها وقالوا اللهم راجع بعبدك قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } فلا تحزنوا أمواتكم بأعمالكم السيئة فإن أعمالكم تعرض عليهم فالله الله عباد الله اجتهدوا في اكتساب الحسنات واجتنبوا في ليلكم ونـهاركم السيئات فإن ذلك محزن الأهل والأقربين من الأموات
وأعملوا في صحتكم قبل السقم وقدموا في شبابكم قبل الهرم فإن الموت إذا جاء لا يرجع وسهامـه إذا فوقها لا تدفع وكأسه إذا أدارها لاتنزع حياضه مورودة وساعاته معدودة وأهواله مشـهودة والحيلة عند نزوله مفقودة غير موجودة
وأنشدوا
الموت حتم حوضه مورود
والموت يفني جمعنا ويبيد
والموت يحكم في النفوس بحتفها
وله على تنفيذ ذاك جنود
والموت يفسد مـهجة الملك الذي
قد عززته عساكر وجنود
وقلوبنا في كل ذا مشغوفة
حبا لدار زهرها معقود
وإلى متى تهوى الذي هو هلكها
وإلى متى لا تنثني وتعود
الله الله يا أعراض المنية ويا أبواب البلية ويا معادن الرزية
أفيقوا من هذا الوسن قبل أن تزودوا من أموالكم بحنوط وكفن
إذا تبرأ منكم الحبيب وأنكر معرفتكم القريب وصار كل واحد منكم كأنـه أجنبي وغريب
وأنشدوا
الموت باب وكل الناس داخله
فليت شعري بعد الباب ما الدار
الدار دار نعيم إن عملت بما
يرضى الإله وإن خالفت فالنار
86 المثابرة
يا أخي بالله عليك لو أتاك ال ولك ملك الدنيا أما كنت تختار عيش يوم بالجميع فبادر ما دمت في فسحة من العمر قبل أن يضيق عليك الأمر لو صيح بك الليلة أجب الداعي أما كنت نادما على ما قدمت وباكيا على ما فرطت وأنشدوا

} الموت بحر طامح موجه تذهب فيه حيلة السابح
يا نفس إني قائل فاسمعي مقالة من مشفق ناصح
ما يعجب الإنسان في قبره مثل التقي والعمل الصالح
فالله الله عباد الله استعدوا للموت فكأنـه قد نزل بكم فأرمل النسوان وأيتم الولدان وفرق الإخوان فوالله يا أيها الإنسان وإنما أنا وأنتم ذلك الإنسان لو لم يكن ماء ولا ظلال ولا جواب ولا سؤال ولا نعيم ولا ثواب ولا جحيم ولا عقاب لكان في الموت وسكرته والقبر وظلمته واللحد وضغطته ما يمنع العاقل اللبيب عن كسب الخطايا والذنوب فكيف ومن وراء ذلك هول مـهول وشرح يطول من الصور ونفخته والنشور وروعته والصراط ورقته ومساءلة الله تعالى للعبد وتوبيخه
فما يكون جوابك أيها المغرور إذا وقفت بين يدي العالم الغفور لذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فأظهر لك قبائحك ونشر لك فضائحك واستشـهد عليك جوارحك فإن عفا عنك فأنت من الفائزين وإن طالبك بما قدمت يداك فأنت من الخاسرين
عفا الله عنا أجمعين وغفر لنا ذنوبنا فهو خير الغافرين آمين رب العالمين
وأنشدوا
من كان يرجو أن يعيش فإنني أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا
} في الموت ألف فضيلة لو أنـها
عرضت لكان سبيله أن يعشقا
87 قبض أرواح الصالحين

ذكر في بعض الأخبار عن بعض السلف الأخيار عن النبي المصطفى المختار أن الله عز وجل إذا أراد قبض روح عبده الكريم عليه وهو التقي لأنـه بالتقوى كرم عليه دعا بملك الموت فقال اذهب يا ملك الموت إلى عبدي فلان فأتني بروحه ليرتاح عندي فحسبي من عمله أني قد بلوته في السراء والضراء فوجدته حيث أحب فيذهب ملك الموت فيأخذ من مسك الجنة الأذفر وحريرها الأبيض فيهبط بـه ويهبط في أثره خمسمائة ملك ليس منـهم ملك إلا ومعه بشارة من الله تعالى إلى ذلك الولي وليس منـهم ملك يدري ما مع صاحبه من البشارة وليس منـهم ملك إلا ومعه صبائر في الريحان يعني حزما من الريحان من ريحان الجنة فإذا هبطوا أحدقوا بولي الله وجلس ملك الموت عند رأسه ونفث في وجهه سم الموت فصرعه ويقول له يا ولي الله ارتحل من الدنيا فليست لك دار وليست لك بوطن ولا بد لك يا ولي الله أن تذوق كما ذاق إخوانك من قبلك قال فملك الموت ألطف باستخراج نفسه من الوالدة بولدها
فإذا أذنت نفسه بالخروج وكانت عند ذقنـه أكب عليه الذين جاؤوا مع ملك الموت وهم خمسمائة ملك يخبرونـه بالبشارة التي أرسلهم الله بها إليه وليس منـهم ملك إلا وهو يضع على كل طائفة من جسده من صبائر الريحان الذي جاؤوا بـه فإذا خرجت نفسه لفها ملك الموت في ذلك الأبيض والمسك الأذفر ثم يعرج بها إلى السماء وتثبت الملائكة الذين بشروه عند جسده عند أهله
88 ملائكة الرحمة
فإذا دنا من السماء تلقاه جبريل عليه السلام في سبعين ألف موكب من الملائكة فأخذ الروح منـه جبريل عليه السلام فعرج بـه حتى يضعه بين يدي الجبار تبارك وتعالى فيقول جل جلاله وتعالى ليس كمثله شيء لجبريل عليه السلام اذهب فدع ولي الله في سدر مخضود وطلح منضود

فإذا حمل الرجل إلى سريره هبط خمسمائة ملك آخرون سوى الذين جاؤوا مع ملك الموت فيجلسوا صفين ما بين منزله إلى قبره يستقبلون جنازته بالاستغفار وإذا أدلي في قبره وحثي عليه التراب وولى القوم جاءته الصلاة فكانت عن يمينـه وجاءه الصوم فكان عن شماله
وجاءه ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فكانا عند رأسه وجاءه مشيه إلى الجمع وإلى مجالس العلم وعيادة المرضى واتباع الجنائز والصدقة فكانوا عند رجليه وجاءه الصبر على ما يكره وعلى ما يحب فلم يجد مجلسا فيجلس في ناحية من نواحي قبره فيخرج له من قبره عنق من العذاب فيأتي عن يمينـه فتقول هله الصلاة إليك عني لا سبيل لك عليه إنما استراح ولي الله من الإقبال والإدبار هذه الساعة ثم يأتي عن شماله فيقول الصيام إليك عني لا سبيل لك إليه إنما استراح ولي الله من الإقبال والإدبار هذه الساعة ثم يأتي عند رجليه فيقول له مشيه إلى الجمع وإلى مجالس العلماء وعيادة المرضى واتباع الجنائز والصدقة إليك عنا لا سبيل لك عليه إنما استراح ولي الله من الإقبال والإدبار هذه الساعة قال فلما لم ير شيا انقمع ودخل في الموضع الذي خرج منـه فيقول الصبر لهؤلاء أما إذا كفيتموني عذاب القبر فسأكفيكموه عند الميزان إذا نصب
89 سؤال الملكين
قال ثم يخرج الله إليه منكرا ونكيرا وهما ملكا القبر أسودان أزرقان يبحثان القبور بأنيابهما ويطآن في اشفارهما
كلاهما مثل الرعد القاصف وأبصارهما مثل البرق الخاطف وأنفاسهما مثل لهب النار وألوانـهما مثل الليل المظلم

فيقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول الله ربي وديني الإسلام ونبيي محمد عليه الصلاة والسلام وأنا أشـهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فيقولان له قد علمنا أنك ستكون مؤمنا فيفتحان له بابا إلى النار فينظر إلى ما أعد الله فيها لأهل المعصية من النقمة والعذاب قال فيرفعان ذلك الباب دونـه ثم يقولان له لا تخف يا ولي الله من هذا الباب أبدا ثم يفتحان له بابا إلى الجنة فينظر إلى ما أعد الله لأهل طاعته من الخير الدائم المقيم الذي لا زوال له ولا انقطاع فيقولان له يا ولي الله هذا دارك وقرارك ومنزلك
90 نعيم القبر
قال فذلك الباب مفتوح إلى قبره إلى يوم القيامة يخرج من ذلك الباب إلى قبره ريح الجنة وروحها وبردها يوسعان له قبره مد بصره ثم يقولان له يا ولي الله نم فينام نوم العروس في حجالها حتى يبعثه الله تعالى يوم القيامة إلى أزواجه وحرمـه ألا ترى أيها الغافل عن طاعة ربه المصر على ذنبه إلى هذا الولي الذي
صار إلى قبره وخرج عليه نوع من عذاب ربه وأن أعماله الصالحة كانت جنودا حوله فلم يجد العذاب دونـها مدخلا إليه ولولا قيامـها حواليه لكان عذاب الله واصلا إليه فلو لم يكن بطاعة الله عاملا لم يجعل المولى بينـه وبين عذابه حائلا ومن لم يكن بينـه وبين النار حائل فالهلاك والخزق له حاصل والعذاب والذل إليه واصل فكل من زعم أنـه مؤمن بالله عز وجل ورسوله وكتابه ولم يجعل العمل الصالح وقاية بينـه وبين عذابه فقد تعرض لهلاكه وعقابه لأنـه لم يجعل حائلا بينـه وبين جسده وكل موضع أمر الله سبحانـه وتعالى باتقائه في كتابه فإنما هو تحذير من عذابه
وأنشدوا
الموت أهنأ للمطيع وأصلح
والموت أطيب للتقي وأنجح
والموت أقرب للجنان طريقة
والعبد يكرمـه الإله ويمنح
}
91 سليمان وملك الموت

ذكر في بعض الأخبار أن سليمان عليه الصلاة والسلم دعا الله تعالى وسأله أن يريه ملك الموت وأن يلبسه من القوة حتى يكلمـه فبينما هو قاعد ذات يوم على سريره إذ خرج رجل من جنب السرير ليس يراه أحد إلا سليمان لم ير سليمان قط أتم خلقا منـه فقال يا عبد الله ما أدخلك داري قال أدخلنيها ربها أدخلني من هو أملك لها منك ومني فعلم عند ذلك أنـه من ملائكة الله فقال له من أنت من ملائكة ربي قال أنا ملك الموت قال فسمعوا من كلامـه جلبة فصعق سليمان من خوفه ومن كان معه في البيت فقال ملك الموت يا رب إن عبدك سليمان ونبيك سألك أن تأذن لي بال عليه وقد بلغ من خوفه ومن معه ما ترى فألبسه من القوة ما يطيق النظر إلي فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت أن ضع يدك في صدر سليمان ففعل فأفاق سليمان ومن معه بإذن الله تعالى قال سليمان يا ملك الموت أترى خلق الله في السموات والارض مثلك فقال ملك الموت يا نبي الله والذي بعثك بالحق إن رجلي الساعة على منكبي ملك وذلك الملك هو الموت قد خرق قرناه السموات السبع وارتفع فوق ذلك مسيرة ألف عام ورجلاه قد جاوزا الثرى بخمسمائة عام فاتحا فاه رافعا صوته بالتهليل والتقديس والتسبيح باسطا يديه لو أذن الله له أن يقبضهما إلى صدره لضم السموات وما فيهن وما عليهن ما خلا العرش وأن فوقه ملكا قائما قد أدخل رجليه تحت منكبي هذا الملك وهذا من فوقه
مسيرة ألف عام فاتحا فاه وأن شفته العليا ملتصقة بالعرش والسفلى تحت الثرى لو أذن الله تعالى له أن يضع شفته العليا على السفلى لأطبق ما بينـهما في جوفه وأن لله ملكا عنقه فثني تحت العرش ورجلاه قد جاوزتا رجلي هذين الملكين مسيرة ألف عام يخرج الريح من أنفه

لو أذن الله أن يتنفس لأدخل جميع ما خلق الله في السموات والأرضين في أنفه سوى العرش وأن هؤلاء الملائكة الذين وصفت لك يكون خلقهم عند خلق غيرهم من الملائكة الذين فوقهم كجناح ذبابة عند الفيل وأن لله ملكا باسطا كفه اليمنى منذ خلقه الله تعالى رافعا صوته بالتهليل والتسبيح والتقديس والتحميد لو أذن الله له أن يقبض كفه لقبض جميع الخلائق ما خلا العرش
فقال سليمان {صلى الله عليه وسلم} ياملك الموت أكفف عني فلقد وصفت أمرا أتخوف أن تطير روحي ولا تثبت نفسي ولا أطيق سماعه فكف ملك الموت فعندها قال سليمان عليه السلام يا رب متى ألتقي مع الأحبة يا رب قد أحببت لقاءك والراحة من الدنيا
فهذا كان سبب موت سليمان عليه السلام
وأنشدوا
الموت مر والعيش هم
فأي هذين لزم
وقد تعجبت إذ هنا لي
عيش وعندي بالموت علم
أنقل رجلي من كل دار
خوف المنايا والأرض سم
والروح مستوفز بجسمي
له على الانتقال عزم
فكأنكم والله بالموت قد فاجأكم وأزعجكم عن لذاتكم ونغص عليكم شـهواتكم ونقلكم إلى بيوت الوحشة والضيق حيث لا ينفعكم حميم ولا صديق ولا أخ شقيق ولا والد شفيق
92 نداء الموت
روي عن سلمان الفارسي رضي الله عنـه أنـه قال ما من يوم إلا وملك الموت ينادي يا أهل الدنيا عجلوا عجلوا لأن أهل القبور محبوسون من أجلكم اتركوا ما جمعتم وخربوا ما بنيتم الويل لكم إن أدرككم الموت على هذه الحالة زينتم الدور ونسيتم القبور
اذكروا القبر ووحشته والموت وسكرته والصراط ودقته
والموت سكرة في سكرة وحيرة في حيرة وجذبة يا لها من
جذبة
فالمسكين يكابد غصص المنون داهش العقل كالمحزون
فالله الله عباد الله أفيقوا من سكراتكم
وانتبهوا من نوماتكم واستيقظوا من غفلاتكم قبل نزول المنية وحلول الرزية ووقع البلية
حيث لا مال نافع ولا حميم شافع ولا فرح واقع ولا رجاء طامع ولا حسنة تزاد ولا حياة تعاد ويزودك أحبابك بالصراخ ويكثرون عليك البكاء والنواح فلا عثرة تقال ولا رجعة تنال
وأنشدوا

ألا إن أيام الحياة مراحل
طريق الفتى منـها إلى الموت ساحل
يسر بما يمضي لما هو آمل
ويأتي الردي من دون ما هو آمل
وما يومـه إلا غريم محكم
إذا ما اقتضاه نفسه لا يماطل
عجبت لمن يبغي السلامة جاهدا
ومر الليالي كلهن غوائل
ونحن بنو الأيام نظلم نفوسنا
ونرجع وهي القاتلات الثواكل
} ومن لحظ الدنيا بعين بصيرة
رأى عينـها في نفسه وهو شائل
93 عظة من الغفلة
أيها الإنسان وكلنا ذلك الإنسان استيقظ من غفلتك وهب من رقدتك
قد آن أن يدعي إليك الطبيب بجمع الدواء فلا يرجى لك مما نزل بك الشفاء
ثم يقال فلان قد أوصى وجميع ما له قد أحصى
قد تبرأ من الدنيا وعلائقها وأقبل إلى الآخرة وحقائقها
ثم ضعف جنانك وثقل لسانك وانقطع عن كلامك فلا تكلم إخوانك وكثرت خطوبك وعظمت كروبك إذا عرضت عليك عند كشف الغطاء ذنوبك واشتدت الأحزان وعلا صراخ النسوان وحزن الصديق الودود وفرح العدو الحسود ثم يقال لك هذا ولدك الصغير وهذا الكبير وهذه بنتك الكبرى وهذه شقيقتها الصغرى فلا ترد عليهم جوابا ولا يستطيع لسانك خطابا ثم اشتد بك النزع والسياق إذا التفت الساق بالساق وانتزع ملك الموت روحك الضعيف وعرج بـه إلى مولاك الرب اللطيف يجازيك على ما قدمت في سالف الأيام ويسألك عما اكتسبت من الحلال والحرام
وأمر بك إما إلى جنة عالية ذات نعيم وخلود وإما إلى نار حامية ذات جحيم ووقود وزودت من مالك حنوطا وكفنا ونزلت في رمسك بعملك مرتهنا
وانصرف أهلك لقسمة ما خلفت من الأموال وما سعيت فيه من الحرام والحلال
وأنشدوا
أبقيت مالك ميراثا لوارثه
فليت شعري ما أبقى لك المال
القوم بعدك في حال يسرهم
فكيف بعدهم صارت بك الحال
ملوا البكاء فما يبكيك من أحد
واستحكم القيل في الميراث والقال
مالت بهم عنك دنيا أقبلت لهم
وأدبرت عنك والأيام أحوال
قال رجل من الصالحين رأيت رجلا قد مات ووراثه يختصمون في ميراثه قبل أن تخرج جنازته فقلت هذه الأبيات المتقدمة
94 نداء الملك

ذكر في بعض الأخبار أن تحت العرش ملكا ينادي كل يوم وليلة الويل ثم الويل لمن ترك عياله بخير وقدم على الله بشر
فالله الله ارحموا أنفسكم قبل أن لا ترحموا وأكرموها قبل أن لا تكرموا
واذكروا الموت وما بعده من عظيم الأهوال واستعدوا له بذخائر الأعمال وأنشدوا
أرى الدهر لا يصفى إلى من لا يعاتبه
وأعتب دنياه على من يثالبه
ونحن نرجي الخلد في غير دارنا
وأين خلود المرء إن مات صاحبه
كأنا عطاشى والمنية منـهل
نسير إليه والليالي ركائبه
كفى سالبا للمرء يوم وليلة
ومن يلبسن الأيام فهي سوالبه
فلا تأمن الدهر الخئون فإنما
هو اليوم سلم ثم حرب عواقبه
أيها الناس استعدوا لما خلقتم له فإن الله لم يخلقكم عبثا وإنما خلقكم لتعبدوه وتوحدوه وليميتكم ويبعثكم بعد الموت وما رزقكم رزقه إلا لتستعينوا بـه على طاعته
وما خلق الدنيا إلا للزوال وجعلها دار ابتلاء واختبار وسجنا لأوليائه وجنة لأعدائه
فراحة الأولياء الموت وعذاب أعدائه الموت لأن الأولياء إذا ماتوا صاروا إلى جنة النعيم والعيش المقيم والأعداء إذا ماتوا صاروا
إلى العذاب الأليم
فالله الله عباد الله لا يغرنكم بالله الغرور وأنشدوا
ومنتظر للموت في كل ساعة
يشيد ويبني دائما ويحصن
له حين تبلوه حقيقة موقن
وأفعاله أفعال من ليس يوقن
عيان كأنكار وكالجهل علمـه
بمذهبه في كل ما يتيقن
95 حكاية عن واعظ
ذكر أن شيخا من تيماء كان يجلس إليه أصحابه فإذا كان عند قيامـهم عنـه قال قوموا قيام من قد يئسوا من المعاودة حذرا من القاطف للنفس ملك الموت ثم يبكي ويبكوا حوله
وأنشدوا
} وكن مستعدا لداعي المنون فكل الذي هو آت قريب
وقبلك داوي المريض الطبيب فعاش المريض ومات الطبيب
يخاف على نفسه من يتوب فكيف ترى حال من لا يتوب
إن من الشعر لحكمـه
96 خشية عيسى من الموت

روي أن عيسى عليه السلام كان إذا ذكر عنده الموت أو ذكره تقطر جسده ماء من خوف هوله يا أخي يا غافل مثلي يا مسكين فعيسى صلوات الله عليه يخاف وهو على ما كان عليه من الطاعة لربه فكيف بك يا مسكين على ما أنت عليه من المعصية لمولاك فالله الله يا إخواني لا تغتروا بصحة الأجسام ومداومة الأيام فإن الموت يأتي في ألهى ما أنت عليه في الدنيا وألذ ما كنت فيه فلا الصحيح يدعه لصحته ولا الصغير يرحمـه لصغره ولا الكبير يهابه لكبره
وأنشدوا
وكم من صحيح بات للموت آمنا أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة فرارا ولا منـه بحيلته امتنع
وقرب من قبر فصار مقيله وفارق من قد كان بالأمس قد جمع
} فلا يترك الموت الغني لماله ولا معدما في المال ذا حاجة يدع
97 حديث في ملك الموت
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن ملك الموت ينظر لوجه العباد في كل يوم
سبعين مرة فإذا ضحك العبد الذي بعث لقبض روحه يقول له يا عجبا لك يا فلان أمرت بقبض روحك وأنت تضحك فالعجب كل العجب بمن الموت يطلبه والمنية تعاجله وهو من ذلك على يقين وهو يضحك ويلهو
وأنشدوا
ضحك الفتى من عجبه جهالة
والموت يطلبه حثيثا مسرعا
والموت لا يدع الجهول لضحكه
إلا رماه بسهمـه فتفجعا
فتفلقت أوصاله لنزوله
وتفتت العظم الصليب توجعا
وبكى لفرقة ماله وعياله
ومضى إلى دار البلى متضرعا
فالله الله عباد الله لا يغرنكم طول الأمل وجدوا واجتهدوا وكونوا من الموت على وجل فإن للموت غاد ورائح وماس وصابح وأنت يا أخي منـه على يقين وتحقيق فلم تحد عن منـهاج الطريق
98 نداء للميت

ذكر في بعض الأخبار أن الميت ينادي إذا وضع على المغتسل أين لسانك الفصيح ما أسكتك أين صوتك الشجي ما أخرسك أين ريحك العطر ما أنتنك أين حركاتك ما أسكنك أين أموالك الكثيرة ما أفقرك الويل لك إن كنت عاصيا والبشرى لك إن كنت طائعا وتناديه الملائكة إذا وضع في القبر يا عبد الله أنت تركت الدنيا أم الدنيا تركتك أنت جمعت الدنيا أم الدنيا جمعتك أنت استعددت للمنية أم المنية عافصتك خلقت من التراب وأعدت للتراب
وأنشدوا
خلقت من التراب بغير ذنب
وعدت إلى التراب ولي ذنوب
فمالي لا أجاهد في خلاصي
بعزم للمعاصي لا أتوب
ومالي أثقلت ظهري ذنوب
ومنـها لا أمل ولا أنيب
ومالي لا أرق لسوء حالي
ومن نفسي علي غدا رقيب
ومالي مبعد مقصى طريد
وفي كل القبائح لي ضروب
وكم بالبر تسويفي ومطلي
ولا أدري متى تأتي شعوب
فيا من ليس لي رب سواه
عليم بالذي أدعو يجيب
تجاوز يا إلهي عن ضعيف
بغفران لعلي عسى أتوب
وهب لي ذلتي وعظيم جرمي
فأنت الواحد الفرد القريب
عباد الله لا تغفلوا عن ذكر الموت وتفكروا فيه قبل الفوت فوالله ما بين أحدكم وبين طول الأسف والندامة على ما قد سلف إلا أن تنزل بـه المنية غدوة أو عشية فعظ نفسك قبل حلول الرزية
وقيل في قول الله تعالى { وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب } المنافقون 10 قيل الأجل القريب عند كشف الغطاء يقول العبد عند الموت يا ملك الموت أخرني يوما أعمل فيه صالحا لنفسي فيقول ملك الموت فنيت الأيام فلا يوم فيقول أخرني ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة فيقول اتركني أتكلم فيقول فرغ كلامك فلا كلام
فتبلغ الروح الحلقوم فيؤخذ بكظمـه فتقطع الأوقات والأعمال ويبقى عدد الأنفاس ليشـهد فيها المعاينة عند كشف الغطاء فيحتد بصره فإذا كان في آخر نفس زهقت نفسه فيدركه ما سبقت له من شقاوة أو سعادة
99 سؤال الرجوع للدنيا

وقيل أول من يسأل الرجعة من لم يكن أدى زكاة ماله كقوله عز وجل { فأصدق وأكن من الصالحين } المنافقون 10 فالله الله بادروا قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل من صالح العمل وفراغ الأنفاس وورود الأرماس ولا ينفعك حبيب ولا حميم ولا ولد ولا والد رحيم قد أحاطت بك الخطوب وكثرت عليك الكروب وأخذ الوارث مالك ونكح العدو أو الصديق عيالك
وأنشدوا
أرى الأزواج تنكح إن هلكت
ويقسم وارثي ما قد تركت
ولا يبقى الوداد بقلب خل
إذا انقطع الرجا مني ومت
وينساني الصديق فما يبالي
أمر بـه ويعرض إن ذكرت
ويشمت بي رجال من سفاه
وما قد كنت قط بهم شمت
ولست بحاصل إلا على ما
من الأعمال في الدنيا عملت
فياذا العرش عفوا عن ذنوبي
وعن زللي وما كنت اجترمت
وشفع في نبيك حين أدعى
غداة العرض إن تفعل نجوت
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه عرض عليه ما يصيب أمته من بعده فما رؤي ضاحكا مستبشرا حتى قبضه الله تعالى
} 300 { 48000 قبيلة
ذكر في بعض الأخبار أن الله تعالى خلق في الأرض مما برأ وذرأ ثمانية وأربعين ألف قبيلة فجعل في البحر ثمانية آلاف قبيلة وجعل بين السموات والأرض أربعين ألف قبيلة تحملها الريح ليس منـها دابة صغرت أو كبرت في الأرض أو بين السماء والأرض إلا ومعها ملكان من قبل الله تعالى فملك يهيء لها رزقها بإذن الله ويسوقها إليك وملك آخر يقودها بإذن ربها إلى مستقرها ومنقلبها حتى الذرة والقملة والدودة والبعوضة والذبابة فإذا استوفت أثرها ورزقها وبلغت أجلها قبض ملك الموت روحها
فسبحان من له الملك والتدبير
عباد الله فالله اله لا تغفلوا عن طاعة مولاكم فإن الموت يطلبكم بالليل والنـهار والعشى والإبكار فاجتهدوا في الحسنات واجتنبوا في ليلكم ونـهاركم السيئات
قبل نزول الموت والندم فالموت لا يترك ملكا ولا أميرا ولا حاجبا ولا وزيرا
وأنشدوا
} قد صرف البواب والحاجب
وقهرمان الدار والكاتب {
} وأصبح الصاحب من بينـهم بحيث لا جار ولا صاحب {

} واعتاضت الناهد من بعده ألفا سواه وكذا الكاعب {
} وجد في تفريق ما لم يزل
يجمعه وارثه اللاعب {
} فكن من الدنيا على أهبة يا زاهدا فيها ويا راغب {
} فإنـها أم لأبنائها منـها عدو قاتل سالب
301 رحمة الله بالمسرفين
ذكر في بعض الأخبار أنـه مات رجل من أهل المدينة وكان مسرفا على نفسه فدعي لجنازته محمد بن المنكدر رحمـه الله فأبى أن يحضر جنازته ثم حضرها فعوتب في ذلك فقال لقد استحيت من الله أن أرى أن رحمته تضيق عليه ولا تسعه فصليت عليه
يا مسكين مثلي أعلم أنـه إذا نزل ملك الموت بالعبد المذنب فيرجع إلى مولاه بالذل والصغار
فنرجو إن شاء الله تعالى أن يعف عنـه ويرحمـه ويجعل الموت كفارة لذنوبه
وأنشدوا
} أفي كل يوم للمنية اقرب
وكل الذي آتيه يحصى ويكتب {
فيا سوأتا قد آن وقت ترحلي
وها أنا في الميدان ألهو وألعب
فإن لم تجد بالعفو منك عن الذي
جنته يدي إني إذا لمخيب
ذكر أنـه كان بالبصرة فتى وكان مسرفا على نفسه ما ترك ذنبا إلا ارتكبه ولا شرا إلا اكتسبه فلما مرض لم يعده أحد من جيرانـه فدعا بعضهم وقال إنـه قد نزل بي ما ترى فإذا مت فادفني في زاوية من زوايا بيتي فقد أذيت جيراني في حياتي وما أحب أن أضر بالموتى بعد وفاتي
فرؤي بعد موته في المنام في حالة حسنة فقيل له ما فعل الله بك فقال أوقفني بين يديه وقال يا عبدي هجروك جيرانك حنقا عليك وضيقوا مسالك الرحمة بين يديك فوعزتي وجلالي وجودي ومجدي وارتفاعي فوق علو مكاني ما ضاقت رحمتي عنك عبدي هذه خلع مغفرتي ومنازل جنتي وخاتم أماني وسجل إحساني وأنا الغفور الرحيم
302 حكاية عن الحسن
قال الحسن رحمـه الله قد علم الله منا قبل أن يخلقنا أننا نذنب ونعصيه ولم يمنعه ذلك منا أن جعلنا مسلمين
فالله الله يا أهل الذنوب مثلي بادروا قبل نزول السكرات ووقوع الحسرات واجتهدوا فإن الموت آت وكل آت فهو قريب
قد آن وكلما آن فقد حان
وأنشدوا
أآمل أن أخلد والمنايا
يثبن إلي من كل النواحي

ولا أدري إذا أمسيت حيا
لعلي لا أعيش إلى الصباح
عباد الله أيامكم مراحل تقطعونـها وساعاتكم مناهل تردونـها والموت يطوف عليكم بالليل والنـهار لا يؤخر من فقدت ساعاته وفرغت أيامـه وأوقاته
303 حكاية عن بعض الصالحين
يحكى عن بعض السادة الأخيار أنـه قال خرجت يوما لزيارة القبور فإذا بقوم يحملون جنازة فتقدمت إليها وصليت بهم ثم شـهدت دفنـها فنعست نعسه فأتاني آت فقال لي قد غفر الله لهذا الميت على ظلمة ذنوبه فانتبهت مرعوبا فأخبرت بذلك أم الميت فقالت الحمد لله رب العالمين والله لقد كان مسرفا على نفسه فلما نزل بـه الموت بكى وقال لي يا أماه ضعي خدي على الأرض والتراب ففعلت ذلك فقال ضعي قدمك على خدي وادعي الله واستوهبيني منـه فلعله يرحمني وإقلعي
فص خاتمي وتصدقي بثمنـه فعسى الله يرحمني
فقلت لها قد غفر الله له ورحمـه ثم أخبرتها بالذي رأيت فالله الله معشر المخلصين تضرعوا إلى ربكم قبل يوم موتكم فعساه أن يرحمكم ويتجاوز عن سيئاتكم
فذلك عليه يسير وهو على كل شيء قدير وأنشدوا
رأيت المرء تأكله الليالي
كأكل الأرض ساقطة الحديد
ولا تجد المنية حين تأتي
على نفس ابن آدم من مزيد
} فلا تغفل فديتك عن منون تدور رحاه بالهول الشديد
فكأ نكم بالأعمال قد انقضت وبالدنيا قد مضت فاستعدوا بذخائر الأعمال لما تلقوا من عظيم الأهوال وقد نودي فيكم بالتحويل وقد قرب منكم الرحيل
304 شاب عاص غفر له
حكي عن بعض الخائفين أنـه قال كان في جواري شاب وكان يتشاغل بالبطالة والجهالة ما رأيته صاحيا من السكر قط وعهدي بـه البارحة وقد رفع صوته على أمـه في ساعتي هذه
فأخبرتني أنـه أصبح ميتا من غير علة ولا مرض وسألتني في كفنـه فزجرتها وقلت الحمد لله الذي أراحنا منـه فمضت مدحورة فرق لها قلبي وقلت إن الرحمة لا تضيق على المذنبين من أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} فبعثت من ساعتي في طلبها وعزيتها وصبرتها واشتريت لها كفنا وحضرت جنازته

فعرفني بعض أصحابنا أنـه رآه في المنام وأنـه سأله ما فعل الله بـه فقال قدمت على الله تعالى وكنت قد دخلت قبل وفاتي ال فرأيت شخصا ميتا ا فتوليت غسله ونظافته وحمله إلى بيته فقال غفر الله لك ذنوبك كلها فصادفت دعوته إجابة فغفر الله تعالى لي وأنا في الجنة مع التعلق بالسنة غفر الله لنا أجمعين وأماتنا مسلمين وختم لنا بخواتيم الصالحين إنـه على ذلك قدير
وأنشدوا
لا تأسفن على الدنيا وحليها
فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
واعمل لدار يكن رضوان خازنـها
والجار أحمد والرحمن عاليها
أرض لها ذهب والمسك طينتها
والزعفران حشيش نابت فيها
أنـهارها لبن محض ومن عسل
والخمر يجري رحيقا في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفة
تسبح الله جهرا في مغانيها
أحمد دلالها والرب بائعها
وجبريل ينادي في نواحيها {
من يشتري الدار في الفردوس يغمرها بركعة في ظلام الليل يحييها
أين الملوك الذي عن حظها غفلت حتى سقاهم بكأس الموت ساقيها
أفنى القرون وأفنى كل ذي عمر كذلك الموت يفني كل من فيها
والموت أحدق بالدنيا وزخرفها والناس في غفلة عن ترك ما فيها
لو أنـها عقلت ماذا يراد بها ما طاب عيش لها يوما ويلهيها
تلهو وتأمل آمالا تسر بها شريعة الموت تطوينا وتطويها
والله لو قنعت نفس بما رزقت من المعيشة إلا كان يكفيها
والله والله ايمانا مكررة ثلاثة من يمين بعد ثانيها
لو أن في صخرة صما ململه في البحر راسية ملس نواحيها
رزقا لعبد يراه الله لانفلقت حتى تؤدي إليه كل ما فيها
أو كان تحت طباق السبع مسلكها لسهل الله في المرقى مراقيها
حتى ينال الذي في اللوح خط له فإن أتته وإلا سوف يأتيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
تلك المنازل في الآفات خاوية أضحت خرابا وذاق الموت بانيها
305 عظة للاستعداد للموت

عباد الله قد آن وقت التحويل إلى الوقوف بين يدي الملك الجليل فأنفاسكم معدودة عليكم وملك الموت قاصد إليكم يركبكم بكلكله ولا بد لكم من منـهله
يقطع آثاركم ويخرب دياركم
فرحم الله عبدا نظر لنفسه وقدم لغده من أمسه قبل حلوله في رمسه
وعمل في العمر اليسير لليوم العبوس القمطرير وسأل المغفرة من السميع البصير الذي هو على كل شيء قدير وهو مولانا ومولاكم ونعم المولى ونعم النصير
306 الموت ينتقي الخيار
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إذا تقارب الزمان انتقى الموت خيار أمتي كما ينتقي أحدكم خيار الرطب من الطبق
فإنا لله وإنا إليه راجعون الذي ذهب عنا الأخيار وبقينا في غمار مع الأشرار فلا للموت نعمل قبل إتيانـه ولا أحد منا يقطع
عن عصيانـه
ما هذه أفعال المؤمنين ولا هذه سيرة الموقنين قد أضلنا عدونا الشيطان اللعين وخدعنا بمكره وأغوانا أجمعين
307 عمل الملكين
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال
إذا قبض الله روح عبده المؤمن صعد ملكاه إلى السماء فقالا ربنا وكلتنا بعبدك المؤن فلان نكتب عمله وقد قبضته إليك فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله عز وجل سمائي مملوءة بملائكتي يسبحوني فيقولان فأذن لنا أن نسكن الأرض فيقول عز وجل أرضي مملوءة من خلقي فيقولان يا ربنا أين نكون فيقول عز وجل قوما عند قبر عبدي فسبحاني وأحمداني وهللالني واكتبا ثواب ذلك لعبدي إلى يوم القيامة فالحمد لله الذي جعلنا من أمة محمد المصطفى وحسبنا بهذا فضلا وكفى بكتاب مولانا لأمواتنا الحسنات ويجعل الموت لهم كفارة لما سلف من السيئات
وأنشدوا
} على كل حال وشريكون فقد مات مثلك في مثلها
فما لك تلعب بالتراهات
وتخدع نفسك من عقلها
من الرشد في برها بالعقوق
وترضى بذلك من جهلها
وأنت تخالف فيها العذول
وتطوي لسانك عن عذلها
وسيف المنية قد سلها
وأنت تنام على قتلها
ودولة ذي العز مقطوعة
وأنت تغفل عن عذلها {

إلى متى هذا الصدود عن طاعة الملك المعبود والغفلة عن بحر الموت المورود فارحموا أنفسكم قبل التلف وأبكوا عليها قبل الأسف فإن السفر بعيد وهول المطلع فظيع شديد والزاد قليل والهم والحزن طويل وبعد ذلك اليوم العبوس الثقيل يا أخي لكل حي قوت وأنت يا مسكين قوت الموت فاعمل للموت قبل الفوت
وأنشدوا
أراني في انتقاص كل يوم
ولا يبقي على النقصان شيء
طوى العصران ما نشراه مني
فأتلف جثتني نشر وطي
فإن أك قد فنيت ومات بعضي
فإن الحرص باق في حي
وطير الموت حائمة لقتلي
مدلاة علي وفي عي
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من أكثر الفكرة في الموت هون الله عليه سكراته وجعله منـه على حذر ومن غفل عن ذكره يوشك أن يأتيه فجأة على غير أهبة ولا استعداد { فالله الله قد انصرمت عنكم أعماركم وأنتم لا تشعرون فإن اتبعتم هموم الدنيا حتى تفرغ فإنـها لا تفرغ أبدا ولو عشتم إلى أن تنقرض الدنيا
فتفرغ يا مسكين في اليسير من الأيام ودارك أمرك مع مولاك قبل نزول ال
308 المبادرة بالتوبة
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } أيها الناس بادروا بالتوبة قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الزاكية قبل أن تشغلوا وصلوا الذي بينكم وبينـه بكثرة ذكركم إياه
309 السني والزنديق
ذكر في بعض الحكايات أن رجلا من أهل السنة لقي رجلا زنديقا قد نحل جسمـه وتغير لونـه واذابه الخوف وكان السني قويا سمينا فقال له الزنديق يا هذا صف لي بعض ما تعتقده فقال أعتقد الموت وغصصه وسكراته وأهواله

فلما سمع الزنديق مقالته صاح صيحة عظيمة ثم وقع على وجهه مغشيا عليه فمكث ما شاء الله ثم أفاق فقال له زدني فقال ثم من بعد الموت القبر وظلمته واللحد وضجعته ومنكرا ونكيرا قال وما منكر ونكير فقال ملكان أسودان أزرقان يطآن في شعورهما ويحفران الأرض بأنيابهما وبيد كل ملك منـهما عمود من حديد جهنم لو ضرب بـه جبال الدنيا لقلعها من أصولها يسألان العبد في قبره قال وثم ما بعد ذلك قال هول البعث والنشور والحساب والميزان والصراط قال وما الصراط قال هو جسر منصوب على جهنم أرق من الشعرة وأحد من السيف وأحر من الجمر عليه حسك وكلاليب قد تعلق بكل كلوب عدد نجوم السماء من الزبانية لو أذن الله لواحد منـهم أن يخرج إلى الدنيا لاحرق بحارها وجبالها وإنسها وجنـها
وهوامـها ودوابها من حر نفسه قال له وما الزبانية وما جهنم قال الزبانية خلقوا من النار هم ملائكة العذاب وجهنم دار العذاب أوقد عليها النار أربعة آلاف سنة السنة أربعة آلاف شـهر الشـهر أربعة آلاف يوم اليوم أربعة آلاف ساعة الساعة أربعة آلاف نظرة النظرة الواحدة مقدار سبعمائة ألف سنة من سنين الدنيا
وهي سوداء مظلمة من دخلها طال بلاؤه وحزنـه
قال له الزنديق لقد عجبت من قلة عقلك هذا كله تعتقده وأنت سمين فوالله ما اصدق أنا بشيء من هذا الذي ذكرته إلا بالموت وحده وقد أطال حزني وذاب جسمي وإنما أنت من عداد الأنعام التي لا تعقل فالله الله إخواني اشكروا الله على ما بـه أنعم عليكم من جزيل ن إذ بعث إلى جميع خلقه محمد {صلى الله عليه وسلم} أخرجكم بـه من الضلالة وأيقظكم بـه من سكرة الجهالة ثم أتحفكم بطيبات رزقه وفضلكم على كثير من خلقه فلا تستعينوا بن على معاصيه فإن الموت لا بد منـه وقد وعظكم الله
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } كفى بالموت واعظا { فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليجعل الموت نصب عينيه فإنـه لا يدري متى يقدم عليه
وأنشدوا
} والموت سلطان عليك مسلط
إذا حم لم يصرف بنـهي ولا أمر {

} ودارك إما شقوة أو سعادة ومالك من باب إليها سوى القبر {
} كفى عظة بالموت إن ركابه على سفر يهوي إلى حيث لا يدري
310 رفق ملك الموت بالمؤمن
روي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان جالسا عند مريض فرأى ملك الموت عند رأسه فقال له } يا ملك الموت ارفق بصاحبي { فقال له يا محمد أنا بكل مؤمن رفيق
فالله الله لا تغفلوا عمن ليس يغفل عنكم ولا تنسوا الموت فإنـه لا ينساكم وفقنا الله وإياكم لحسن العمل والفعال وهدانا وإياكم لصالح الأعمال إنـه الجواد الكريم المفضال

12 مجلس في ذكر القبور 311 قال الله سبحانـه وتعالى { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } التكاثر 1 2 السورة مكية التكاثر يعني في الدنيا
روت زينب بنت جحش عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إذا قرأ قارئ ألهاكم التكاثر يدعى في ملكوت السموات والأرض بمؤدي الشكر لله
312 حكاية في الخوف من الله
روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنـهما أنـه قال كان رجل باليمن يقال له يعلى وكان مشركا ليس له من الدنيا إلا قطيفة تواري عورته ويأوي بالنـهار إلى ظل شجرة وبالليل إلى جحر كجحر الكلب فسمع بخروج النبي {صلى الله عليه وسلم} فأقبل إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} وكان شابا ترفعه أرض وتضعه أخرى حتى قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأسلم وقعد مع أهل الصفة يطعم القبضة من العجوة والكسر من خبز الشعير وكان لا يفارق مجلس النبي {صلى الله عليه وسلم} حتى تعلم أربع سور من القرآن فسمع النبي {صلى الله عليه وسلم} يقول لا فاقة بعد القرآن ولا غني بعد النار فقال يا رسول الله زوجني
قال أعندك مال قال عندي أربع سور من القرآن ومن كان عنده الوحي وكلام الله فهو غني قال النبي {صلى الله عليه وسلم} } صدقت فانطلق إلى بني سلمة حي من الأنصار واستخر الله فأول جارية تستقبلك فهي زوجتك فانطلق الشاب لا يدري إلى أين يتوجه فاستقبله جارية جميلة فقال يا جارية أي حي هذا قالت بنو سلمة قال الشاب الله أكبر أنت امرأتي تعالي قالت ما أسفهك قال لست بسفيه ولكن أمرني
إذا دخلتموها

قال الفراء هذا تكرار التغليظ ويقال { لترون الجحيم } التكاثر 6 أي لترونـها رؤية علم { ثم لترونـها عين اليقين } التكاثر 7 بالمشاهدة { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } التكاثر 8 يسألون عن شكر ما كانوا فيه من النعم والحياة والنعيم فزعم قوم أن الآية في الكفار وقال آخرون بل هي على العموم في المؤمنين
عن ابن عباس رضي الله عنـهما أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال } نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ {
روى أبو هريرة عن النبي {صلى الله عليه وسلم} } أول ما يحاسب بـه العبد يوم القيامة أن يقال له ألم أصح جسمك وأروك من الماء البارد {
وعن محمود بن لبيد قال لما نزلت { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } التكاثر 8 قال أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أي نعيم وإنما هما الأسودان التمر والماء وسيوفنا على عواتقنا
قال أما إنـه سيكون ابن مسعود وقتادة وسعيد قالوا الأمن والصحة
مجاهد قال الخبز والماء والملح
إبراهيم النخعي من سمي الله تعالى على الطعام حين يأكل ويحمد الله حين يفرغ فقد أدى شكره
الحسن قال كانوا يعدون من النعيم في الدنيا أن يتغدى الرجل ويتعشى
علي رضي الله عنـه النعيم الرطب والماء البارد
أبو أمامة قال النعيم خبز البر والماء العذب وقال النبي {صلى الله عليه وسلم} } طيب النفس من النعيم { أبو الدرداء رضي الله عنـه قال النعيم الشعير والماء العذب
محمد بن علي قال النعيم العافية
وقال أبو عسيب مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مر بنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليلا فدعاني فخرجت إليه ثم مر بأبي بكر فدعاه فخرج إليه ثم مر بعمر رضي الله عنـه فدعاه فخرج إليه ثم انطلق بنا

رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى دخل حائطا لبعض الأنصار فقال لصحابه أطعمنا بسرا فجاء بعذق فوضعه فأكل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه ثم دعا بماء بارد فشرب وشربوا ثم قال لتسألن عن هذا يوم القيامة فأخذ عمر العذق وضرب بـه الأرض حتى تناثر البسر وقال له يا رسول الله إنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة قال نعم إلا كسرة تسد بها جوعتك وخرقة تلف بها عورتك وجحر تدخل فيه من القر والحر علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منـهم وهو قوله تعالى { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنـه مسؤولا } الإسراء 36 قال الله تعالى { ألهاكم التكاثر } التكاثر 1 قيل معناها ألهاكم التكاثر في الدنيا بجمع الحطام واكتساب الآثام والتمادي في الإجرام وأنشدوا
أرضيت دارا لا بقاء لها
تعد الشرور وتنصب الفتنا
ما يستقيم سروره صاحبها
حتى يعود سوره حزنا
عجبا لها لا بل لموطنـها المغرور
حين يعدها وطنا
فالحمد لله اللطيف بنا
ستر القبيح وأظهر الحسنا
ما تنقضي عنا له منن
حتى يجدد بعدها مننا
يا أخي اشتغلت باللذات وأفنيت عمرك بالترهات وعصيت إله الأرض والسموات ونسيت بيوت الوحشة والحيرات
فيا له من بيت ما أظلمـه ومن صندوق ما أغمـه
منزل الوحشة وبيت الغمة والوحدة
وأنشدوا
وربما عوقص ذو صحة
أصح ما كان ولم يسقم
يا واضعا للميت في قبره
خاطبك القبر ولم تفهم
{ حتى زرتم المقابر } التكاثر 2 بيوت الوحشة ومنازل الضيق والغمة في ضيق وكربات وغم وحسرات وأهوال مقطعات
من ظلمات القبور وسؤال منكر ونكير والخلود في البرزخ إلى يوم النشور فانظر لنفسك أيها المغرور فإن القبر له شأن يتلوه شؤون وأنشدوا
لا تغرنك الحياة وقدم
واحذر القبر إن للقبر شانا
إن فيه لما يحاذر ذو اللب
إذا كان ذا تقى ومعانا

بذلك رسول الل ه {صلى الله عليه وسلم} قالت الجارية إن كان أمرك بذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسمعا وطاعة لله عز وجل ولرسوله {صلى الله عليه وسلم} ولكن حتى أسمع منـه فانطلق الشاب والجارية ليأتيا النبي {صلى الله عليه وسلم} فإذا أبوها وأخوها فقالا أين تذهبين فقالت إن الشاب تعلق بي وزعم أني امرأته فانكرت ذلك عليه فقال كذا أمرني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأنا معه إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أسمع منـه فقالا سمعا وطاعة لله عز وجل ولرسوله {صلى الله عليه وسلم} فانطلقوا جميعا حتى دخلوا على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فتكلم والدها فقال يا رسول الله زعم هذا الشاب الغريب إنك امرته بما صنع بابنتي فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} } نعم فزوجه ابنتك على اسم الله وبركته قال قد فعلت فزوجه الشيخ ابنته وأشـهد النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} } يا معشر المسلمين أعينوا أخاكم فجمعوا له أربعة أواق فضة فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} } لك أوقيتان ولزوجتك أوقيتان فقال يا رسول الله قد جعلت أوقيتي لها أيضا فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} للشيخ والدها جهزوا هذه الجارية للشاب من يومـه هذا قال الشيخ سمعا وطاعة لله عز وجل ولرسوله فجاء الشاب إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأمره أن ينصرف إلى أهله فجاء إلى منزله فدخل إلى فراش مفروش وإلى بساط ممدود وإلى زوجة جالسة وإلى سراج يزهر وإلى طعام قد هيء له فلما نظر إلى ذلك بادر إلى مكان في مجلسه فصلى فيه ركعتين شكرا لله عز وجل لما رأى ثم قام وصلى ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء فحمد الله وأثنى عليه وشكر نعمته ثم جعل يقوم في خلال ذلك فيصلي ركعتين ثم يقوم إلى مثل حاله من الثناء فالشكر لله عز وجل لما رأى فلم يزل كذلك حتى أصبح ثم غدا إلى المسجد فصلى مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الغداة والظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ثم رجع إلى منزله فلما عاين أهله وما هيء له بادر إلى مسجده فصلى مثل صلاته في الليلة الأولى وجعل يحمد الله عز وجل ويشكره بين كل ركعتين حتى أصبح فغدا إلى المسجد فصلى مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ففعل مثل ذلك حتى تمت له ثلاث ليال فجاء الشيخ في اليوم الرابع فدخل على ابنته فسألها عن زوجها وحالها

معه فقالت لا أدري ما زوجي ما يعرف غير الصلاة وهو يقوم الليل كله يحمد الله ويثني عليه ويصلي فجاء الشيخ إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره بذلك فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما منعك من أهلك فقال يا رسول الله تذكرت شأني وكنت مشركا باليمن لم يكن لي مأوى إلا جحر كجحر الكلب آوي إليه الليل والنـهار أتبع ظلال الشجر
والحيطان حين أخرج من جحري فهداني الله للإسلام وعلمني أربع سور من القرآن فشرح الله صدري بها ونور بها قلبي فلما زوجتني هذه الجارية نظرت إلى فراشـها وإلى حسنـها وجمالها ولم أر فراشا قط منذ كنت ونظرت إلى سراج يزهر ولم يكن لي سراج قط ونظرت إلى هذه الحالة فتدبرت إحدى سوري الأربع فزهدني الله فيها وما عندها فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} وأي سورة هي قال { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف } التكاثر 1 2 ثم بكى وبكى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه فلما هدؤوا قال الشاب يا رسول الله خصني منك بدعوة فقال اللهم اغفر له الكثير وأشكره على اليسير واغنـه برحمتك فلم تأت عليه جمعه حتى قيل للنبي {صلى الله عليه وسلم} أن الشاب قد مات فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} لا إله إلا الله إذا فرغتم من غسله أخبروني فأخبروه {صلى الله عليه وسلم} فقال {صلى الله عليه وسلم} هنيئا لك الجنة ثم سأل زوجته هل نال منـها شيئا قالت لا والذي بعثك بالحق نبيا ما نال مني شيئا
313 حكايات عن الصالحين في الخشية من الله
قال ميمون بن مـهران دخلت على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنـه وهو يقرأ { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } التكاثر 1 2 فقال إنما يزورون المقابر بالموت ولا بد لكل زائر أن يعود لوطنـه من جنة أو نار
وقال زر بن جبيش عن علي رضي الله عنـه فال كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت { ألهاكم التكاثر } التكاثر 1 يقول شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد عن ذكر الله وطاعته واللهو ما شغل
وأكثر ما يقال في البطالة { حتى زرتم المقابر } التكاثر 2 بيوتكم

ويقال إن حيين من قريش تفاخرا وتعاددا بالأموات كان منا فلان وكان منا فلان { كلا سوف تعلمون } التكاثر 3 يقول سوف تعلمون إذا متم { ثم كلا } التكاثر 4 يقول ثم كلا سوف تعلمون في قبوركم وهو وعيد مع وعيد فمعنى الأول غير معنى الثاني وليس ذلك بتكرير
قال الفراء والكلمة قد تكررها العرب على التغليظ والتخويف
فهذا من ذلك
ثم قال { كلا } أي كلا لا يؤمنون بالوعيد ثم استأنف وقال { لو تعلمون علم اليقين } التكاثر 5 يقول محض اليقين وهو الذي لا شك أعلمكم أنكم سترون الجحيم في الآخرة كقوله { وبرزت الجحيم لمن يرى } النازعات 36 فالتكرار في قوله تعالى { لترون الجحيم } التكاثر 6 في القيامة إذا برزت { ثم لترونـها عين اليقين } التكاثر 7
إنني موقن بما في كتابي
عاجلا تسوني الأكفانا
فإذا ما وضعت في ظلمة اللحد
وبدلت من مكان مكانا
وإذا لم يدركني ربي بعفو
ألق في القبر ذلة وهوانا
314 صفة القبر
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إلا وإنـه ليتكلم في كل يوم ثلاث مرات فيقول أنا بيت الظلمة أنا بيت الوحشة أنا بيت الدود الله الله يا إخواني اعملوا لهذا الضيق وجدوا في العمل باجتهاد وتحقيق
وأنشدوا
} كأني بإخواني على حافة القبر يهيلونـه فوقي وأدمعهم تجري
عفى الله عني حين أترك ثاويا أزار فلا أدري وأجفى فلا أدري {
فانتبهوا عباد الله من نومة الغفلة واعملوا ليوم النقلة واستعدوا لظلمة القبر ما دمتم في فسحة ومـهلة ولا تقطعوا أيامكم بالمحال وجنبوا أعماركم سوء الفعال فإن الموت نازل بكم والقبر أمامكم
وأنشدوا
ني أني من حديثي
والحديث له شجون
ضيعت موضع مضجعي
وقتا ففارقني السكون
قل لي فأول ليلة
في القبر كيف ترى أكون
315 أشد ما على الميت

قيل إنـه لا يأتي على الميت في قبره أشد وأصعب من أول ليلة يبيت فيه فمن تفقد ميته في أول ليلة بشيء من الصدقة وإلا فليصل ركعتين وليهد ثوابهما لميته يرفع الله تعالى عن ميته ما يجد من الغم والوحشة ويكتب الله للمصلين عبادة ستين سنة بقيامـها وصيامـها
وأنشدوا
} بالله يا عين بوحي وابكي علي ونوحي
غدا أوسد قبري
غدا أزور ضريحي
غدا نزوح الأحبة
وتمنعي أن تروحي
ذكر أن الميت إذا وضع في قبره وقال المشيعون انصرفوا آجركم الله يقول الميت إن كان من أهل الشقاء يا ليتني مع من انصرف لعظم ما يعاين من هول المطلع
يا أحبابي فإذا كان لأحدكم بيت ولم يبسط فيه على ما يجلس جلس على التراب والأرض كذلك من لم يقدم لقبره عملا صالحا لنفسه بقي مستوحشا وحيدا فريدا في رمسه
وأنشدوا
أنا في القبر رهين
قد تبرا الأهل مني
اسلموني بذنوبي
خبت إن لم يعف عني
فارحم اليوم مشيبي
وارحم اللهم سني
وارحم اللهم ضعفي
لا يخيب اليوم ظني
316 عظة للنبي {صلى الله عليه وسلم}
روي عن ابن عباس رضي الله عنـهما أنـه قال كان النبي {صلى الله عليه وسلم} يعظنا أحيانا فيقول تجهزوا لقبوركم فإن القبر ينادي كل يوم سبع مرات فيقول يا ابن آدم الضعيف ارحم نفسك في حياتك قبل أن تلقاني فإنك إذا لقيتني وكنت عاملا بطاعة مولاك رحمتك ورأيت مني السرور وإن لم ترحم نفسك لم أرحمك أنا بيت الدود مع الندامة الطويلة وأنا بيت الوحشة مع الجوع الشديد والشدة أنا بيت العطش مع الظلمة أنا بيت الضيق مع العقارب يا ابن آدم إياك أن تغرك الحياة الدنيا فإن ممرك علي وأنا أول منازلك إلى الآخرة فإن نجوت مني نجوت من كل شدة تتخوف منـها يا ابن آدم أنا بيت الغضب لا أرحم شابا لشبابه ولا صغيرا لصغره ولا كهلا ولا شيخا لكبره ولا أرحم إلا من رحم نفسه
وأنشدوا
} عجبت لمن يتم له السرور بدار كل ما فيها غرور
وكيف يلذ ساكنـها بعيش ويعلم أن مسكنـه القبور

يا ابن آدم لقد خلقت لأمر عظيم لو كنت تعقل لظهر قنوعك ولبان خشوعك وثارت دموعك خوفا من القبر ووحشته ومن اللحد وضغطته ومن هول المطلع وروعته
فامـهد لنفسك يا مسكين بينما أنت حي وبينما يقبل منك
كل شيء قبل طي الكتاب وغلق الباب ونزول الحجاب والرحيل إلى التراب
وأنشدوا
0 لا تأتمن وإن أمسيت في حرم
إن المنايا تفاجئ كل إنسان {
واسلك طريقك واثبت غير منحرف حتى تلاقي الجزا من عند رحمن
فكل خل وإن أشفقت تتركه وكل مال وإن أكثرته فان
والخير والشر مقرونان في قرن بكل ذلك يأتيك الجديدان
ففكروا رحمكم الله في أحبابكم وجيرانكم وأصحابكم وإخوانكم وآبائكم وأمـهاتكم وأخواتكم والأباعد والأقارب وذوي المودة والأجانب
قد استوحشت من أنفسكم الديار وانقطعت بينـهم الآثار وبقوا رهنا في الأحداث بالأوزار
قد هجرهم الحبيب وسلا عنـهم القريب قد ضيقت عليهم اللحود وسالت عيونـهم على الخدود وتمزقت عنـهم الجلود ودبت في أجسادهم الهوام والدود وبقيت أرواحهم في البرزخ إلى اليوم الهائل الموعود
لم ينفعهم ما جمعوا ولا حصنـهم ما بنوا وشيدوا ولا منعهم كلما صنعوا
صارت القبور لهم قرارا وفرت الأحباب عنـهم فرارا
فانتبهوا يا معشر الإخوان واجتهدوا في طاعة الرحمن من قبل مفارقة الأحباب والأوطان
وأنشدوا
هي الأحداث تطرق أو تعاد وكل للمنية في مـهاد
وما يبقى ال إذا يوافي شديد البطش جبار القياد
فكم أسرى إلى ليث هصور وجبار من الأجناد عاد
فقل لأخي السلامة عش مليا فإن الكون داعية الفساد
وكن في العمر لقمان بن عاد وهاك لقمان بن عاد
} فإن المرء في أيدي المنايا أسير ما له منـهن فاد
317 العبرة بالقبور
يا أخي إذا أردت أن تدري كيف حالك من بعدك فأخرج إلى القبور وانظرها وقد عفت ومثل قبرك بين القبور

ثم انظر ماذا تحتاج إليه في قبرك فأكثر منـه لطول مدتك فيه وهو العمل الصالح فأما ما سوى ذلك فما لك حاجة في شيء من أمور الدنيا فإنـه يصير عليك وبالا في قبرك وحسرة وانظر حالك الذي أنت عليه
إن كان يصلح للموت والقبر فتمادى عليه وإن كان لا يصح لهذين فتب إلى الله تعالى منـها وأرجع إلى ما يصلح
وأنشدوا
كم تناسى القبور يا مغرور
حفر ما بها لعاص سرور
وتعامى عنـها وأنت تراها
ورحاها على الأنام تدور
فاتق الله حق تقواه واحذر
كل هول يخافه المقبور
ودع اللهو والبطالة واعمل
للتي عاجلا إليها تصير
تلك دار البقاء فكل تقي
في رباها مكرم محبور
ولعاص مصر إن لم تنله
رحمة الله مبعد مثبور
318 دعاء لأهل القبور
كان بعض الخائفين إذا خرج إلى القبور لا ترقأ دمعته ولا يأكل ولا يشرب ثلاثة أيام ويقول ترى يا أحبائي ما لقيتم في بيوت الحسرات آنس الله غربتكم ورحم الله وحشتكم وبرد الله مضاجعكم وهون ما قدر عليكم مولاكم إنـه سميع قريب نعم المولى ونعم النصير
ثم يأخذ في البكاء والنحيب
فالله الله أبكوا قبل أيام البكاء واندبوا قبل يوم الأسى
وأنشدوا
} لاه بدنياه والأيام تنعاه والقبر غايته واللحد مأواه
يلهو ولو كان يدري ما أعد له إذا لأحزنـه ما كان ألهاه
أو ما جنت يده لو قد تعرفه ويلاه مما جنت كفاه ويلاه
اعلموا عباد الله أن القبور على الأموات توابيت مقفولة والأعمال في أعناقهم قلائد مجعولة وأرواحهم بالغداة والعشي إلى الجنة أو النار محمولة وأنشدوا
يا أيها الرجل المزخرف قبره ولعله في جوفه مغلول
يا أيها الرجل المقيم بمنزل فيه الحوادث ما أقام نزول
ألا يغرك ملكه ونعيمـه فالملك يفنى والنعيم يزول
وإذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمول
يا إخواننا مضى الإخوان ونحن على آثارهم فإنا لله وإنا إليه راجعون قد عميت أبصارنا عن حقائق الأمور وغفلنا عن ال ونسينا القبور
319 حكاية عن الأصمعي

يحكى عن الأصمعي رضي الله عنـه أنـه قال مررت بأعرابي وهو واقف على مقبرة فقلت له يا أخا العرب ما هذا الموضع الذي أنت فيه فقال
هذي منازل أقوام عهدتهم
في رغد عيش نفيس ما له خطر
صاحت بهن نائبات الدهر فانقلبوا
إلى القبور فلا عين ولا أثر
عباد الله من كان مصيره إلى القبر ما للفرح إليه سبيل والقبر يناديه كل يوم يقول له لا بد لك مني فماذا قدمت لي من عمل صالح وأنشدوا
أجار الدهر ليس له جوار
وحسن الظن بالدنيا اغترار
إذا ما رمت يوما كان يوما
ونقص البدر غايته السرار
ودع حرص الجبان على حياة
وأجمل إن عمرك مستعار
وذو الآمال منـها في غمار
وعند الموت ينكشف الغمار
ويرجو المرء أن يبقى سليما
ويأبى الليل ذلك والنـهار
وهل تخطي المنية نفس حي
وهاديها رواح وابتكار
320 حكاية عن الحسين
قيل كان الحسين رضي الله عنـه إذا رأى القبور قال ما أحسن ظواهرها وإنما الدواهي في بطونـها
فالله الله عباد الله لا تشتغلوا بالدنيا فإن القبر بيت العمل فاعملوا ولا تغفلوا وأنشدوا
} يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
أخي لو رأيت الميت في قبره بعد ثلاثة أيام لاستوحشت من فقده بعد طول الأنس بناحيته ولو رأيت كيف تجول فيه الهوام ويجري فيه الصديد وتخرقه الديدان مع تغير الريح وبلاء الأكفان بعد حسن الهيأة وطيب الريح ونقاء الثوب
وأنشدوا
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
واستنزلوا من أعالي عز معقلهم واسكنوا حفرا يا بئس ما سكنوا
ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا
اين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت محجبة
من دونـها تضرب الأستار والكلل {
فافصح القبر عنـهم حين ساء لهم تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طال ما أكلوا دهرا وما نعموا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
فيا معشر الشباب تأهبوا للغدو إلى التراب فإن الشيخ يكفيه مصيبة الشيب فإنـه يمـهد للقبر
وأنشدوا
ما للشيوخ وللغد وإلى الملاهي والبكور

وهم غدا أو قبله أو بعده حشو القبور
321 نداء القبر لساكنيه
عباد الله ما من أحد لا مؤمن ولا فاجر إلا وقبره يناديه بكرة وعشية إما بالبشرى والسرور وإما بالويل والثبور فمن فكر فيه وفي وحشته وضيقه وغمته كان عليه أوسع من الدنيا وأفرج منـها وأبدله الله خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وجعل القبر خيرا من داره فأكثروا ذكره في الآناء والأوقات وأطيعوا جبار الأرضين والسموات عساه يجعله لكم روضة من رياض الجنات ويقيكم فيه الذل والحسرات
وأنشدوا
} قف بالمقابر واذكر وإن وقفت بها
لله درك ماذا تستر الحفر
ففيهم لك يا مغرور موعظة
وفيهم لك يا مغرور معتبر
كانوا ملوكا تواريهم قصورهم
دهرا فوارتهم من بعدها الحفر
الدود يأكل أقواما منعمة
نعم ومن دونـها الألواح والمدر
أعن رضاه ذاك عنـهم أم على سخط
هيهات ضلت وحارت فيهم الفكر
322 بكر بن حماد
يحكى عن بكر بن حماد رحمـه الله أنـه خرج يوما إلى القبور وجعل ينظر إلى امتداد القبور ويفكر في الأحباب والإخوان والأصحاب والجيران
ثم بكى حتى طال بكاؤه وبلت دموعه لحيته ثم جعل يقول
} زرنا منازل قوم لا يزورونا إنا لفي غفلة عما يقاسونا
لو ينطقون لقالوا الجد ويحكم
جدوا الرحيل فقد آوى المقيمونا
الموت أحدق بالدنيا وعزتها
وفعلنا فعل قوم لا يموتونا
فابكوا كثيرا فقد حق البكاء لكم
فالحاملون لعرش الله باكونا
فالله الله جدوا في العمل فإن القبر أمامكم والموت يطلبكم يفرق ما جمعتم ويخرب ما قد بنيتم بقطع الأنفاس وينقلكم إلى ضيق اللحود والأرماس فمن قدم إلى القبر عملا صالحا وجده روضة من رياض الجنان ومن لم يكن له عملا وجده حفره من حفر النيران فاستعدوا له يا معشر الأصحاب والإخوان
روي عن محمد بن السماك رحمـه الله أنـه قال مررت بالمقابر فإذا مكتوب على قبر
تمر أقاربي جنبات قبري
كأن أقاربي لم يعرفوني
وذو الميراث يقتسمون مالي
وما يألون إن جحدوا ديوني
وقد أخذوا سهامـهم وراحوا
فيا لله أسرع ما نسوني

عباد الله أفيقوا من سكرتكم من دار الغرور وطاعة الشيطان المثبور واعملوا لضيق اللحود والقبور
323 حكاية عن أحمد بن أبي الحواري
حكي عن أحمد بن أبي الحواري رحمـه الله أنـه قال خرجت يوما للقبور فذكرت الموت في نفسي والبلاء فرأيت شابا بين القبور قد استفرغه الخوف والبكاء وهو بين القبور منصرف فقلت له من أين أقبلت أيها الفتى فقال من هذا المبرز قلت وأي شيء قلت لهم قال قلت لهم متى ترحلون فقالوا حين تقدمون ثم ولى عني وهو يبكي فتبعته فقلت له أين تريد فقال ألتمس العيش فقلت له كيف تلتمس العيش بين القبور فقال وأي شيء هو العيش عندكم قلت المال والبنون وأشباه ذلك من اللذات بالنساء والصبيان فولى عني وهو يقول أف لعيش يعقب أحزانا وندامة وأشجانا
فقلت وأي شيء هو العيش عندكم قال إنما العيش عندنا هو الإقرار بتوحيد الله والوقوف بفناء الله والخضوع بين يدي الله والتلذذ بحلاوة مناجاة الله فهناك تزدحم عليك أعلام الفوائد من الله تعالى وجميل العوائد قلت له أخبرني عن الصادق لله في حبه متى يشتاق إلى لقائه قال إذا نزع
الله حب الدنيا من قلبه وتبرم ببقائه بين خلقه
فحينئذ يشتاق إلى لقائه
قال قلت له أخبرني عن غاية الزهد في الدنيا قال ترك الحلال حتى لا يقع في الحرام قال قلت أخبرني عن غاية الرضا بالله تعالى قال إذا كنت راضيا بكل ما قدر الله تعالى وقضاه وأحكمـه وأمضاه وأنـه هو المتفضل على المتقين بفضله والخاذل لمن شاء بعدله قلت له أخبرني عن غاية العبادة قال تجمع الهموم فتجعلها هما واحدا حتى يستوي عندك العمران والخراب وتكون خائفا من الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنـه يراك
قلت له كيف النجاة من مخالفة الناس قال إنما الناس رجلان عاقل وجاهل فالعاقل اشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره وقام مجتهدا بطاعة ربه فهو لا يلتفت إليك ولا إلى غيرك وأما الجاهل فلا يبالي كيف ما كان عليه

فعليك بالبراري والقفار والاستئناس بالواحد القهار قلت فمن أين القوت قال تهرب إلى الله تعالى وقد فتح لك باب التوكل عليه ويضيعك حتى تتهمـه في رزقك إنـه رؤوف رحيم لا يسلمك
ثم تصافحنا وتفرقنا ودعا لي فما رأيت أنور قلبا منـه
ووجد على قبر مكتوب
تناجيك أجداث وهن سكوت
وسكانـها تحت التراب خفوت
فيا جامع الدنيا لغير بلاغة
لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
عباد الله ارحموا أنفسكم قبل نزول العذاب فإن القبر لا يرحم من ليس له عمل ولا يشفق على من غره طول الأمل ولا يحن على من ضيع أيام المـهل
وأنشدوا
ما حال من سكن الثرى ما حاله
أمسى وقد صرمت هناك حباله
أمسى ولا روح الحياة تصيبه
يوما ولا لطف الحبيب يناله
أضحى وقد درست محاسن وجهه
وتفرقت في قبره أوصاله
واستبدلت منـه المحاسن غبرة
وتقسمت من بعده أوصاله
} ما زالت الأيام تلعب بالفتى
والمال يذهب صفوه وحلاله
324 عيسى والمدينة الخربة
روي أن عيسى بن مريم عليه السلام دخل مدينة خربة فدخل قصرا من قصورها فنادى يا خراب الأخر بين أين أهلك فأجابه شيء من آخر القصر يا ابن
مريم بادوا
فاجتهد ولا تفرط فإن العظام قد بليت وبقيت أعمالهم في رقابهم
وأنشدوا
قف بالقبور وقل على ساحاتها
من منكم المغموم في ظلماتها
ومن المكرم منكم في قفرها
قد ذاق برد الأمن من روعاتها
أما السكون لدى العيون فواحد
لا يستبين الفضل في درجاتها
لو جاوبوك لأخبروك بألسن
تصف الحقائق بعد من حالاتها
أما المطيع فنازل في روضة
يفضي إلى ما شاء من راحاتها
والمجرم الطاغي بها متقلب
في حفرة يأوى إلى حياتها
وعقارب تسعى إليه فروحة
في شدة التعذيب من لذعاتها
عباد الله ما لكم لا تفيقون من غفلاتكم وتنتهون من نوماتكم وتصحون من سكراتكم وتملون من شـهواتكم وتدعون الكثير من لذاتكم
وتذكرون هول المقابر والمصير إلى ضيق الحفائر فإن ملك الموت لا يأتيكم إلا على ألذ ما تكونون من طيب عيشكم ولذة دنياكم فبادروا قبل مبادرته بكم
وأنشدوا

بناء الفتى في لهوه وعنائه
متبختر يختال في لذاته
قد غره الأمل الكذوب
فهمـه في كل ما يدنيه من شـهواته
إذ جاءه ملك النفوس بسكرة
تركه ملقى الجسم بين ثقاته
فتقطعت أسبابه وتخرمت
وتنكر المعروف في حالاته
} لا يستجيب لمن دعاه ولا يرى
شق الجيوب عليه حين وفاته
325 ابن عباس وابن الخطاب
ذكر في بعض الأخبار أن عبد الله بن عباس رضي الله عنـهما دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنـه يوم قتل فقال أبشر يا أمير المؤمنين قال بماذا قال آمنت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين كفر بـه الناس وجاهدت مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حين خذله الناس ومات رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو عنك راض ولم يختلف في خلافتك إثنان وقتلت شـهيدا فقال له عمر رضي الله عنـه أعد علي ما قلت فأعاد عليه فقال والذي لا إله غيره لو أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت لاقتديت بـه من هول المطلع فإذا كان هذا قول عمر رضي الله عنـه إمام السنة وحبيب الأمة
وسراج أهل الجنة في الجنة قال هذا عند الفراق والانقطاع وأشفق من هول المطلع فكيف بأهل اللهو واللعب والبهتان والكذب أمثالنا الذين قطعوا أعمارهم في الذنوب وأفنوا أيامـهم في معصية علام الغيوب وغفلوا عن القبور ولم يتفكروا في هول يوم النشور والله أعلم وأنشدوا
أراني كل يوم في انتقاص
وبعد لا يزول وطول هجر
وأيامي تمر بغير شيء
وعمر المرء في الأيام يسري
ألا خطوا على قبري كتابا
وقولوا قبر ذي ظلم وغدر
أتى الدنيا وفارقها فقيرا
وكل فتى على ذا النـهج يجري
وقولوا حين أدفن أي عبد
أتى مولاه في ذل وفقر
حكي عن داود الطائي رحمـه الله أنـه مر على امرأة تبكي على قبر وهي تقول
عدمت الحياة ولا نلتها
إذا أنت في القبر قد الحدوكا
فكيف أذوق لذيذ الكرى
وأنت بيمناك قد وسدوكا
قال داود فلما سمعت تذكرت في الأحباب والأخدان والأصحاب والأخدان لا يرى لهم آثار ولا على الأرض منـهم ديار
أمر على القبور وأرتقيها
كأني ليس لي فيها حبيب
وأكره أن أسائلها فإني
أراها حين تسأل لا تجيب
326 عظة نفيسة

عباد الله ما مضى من مضى إلى القبور الحالية من الأمم الخالية لتبقوا بعدهم إلا النذر اليسير الذي بقي من أعماركم ثم تنتبهون إلى القبور وتخرجون من سعة القصور والدور
والحمد لله يا معشر المؤمنين وجماعة إخواني المسلمين جدوا واجتهدوا وبالعمل الصالح فاستعدوا وقدموا لأنفسكم ما تجدوه في المقابر وابكوا عليها قبل حلولها في الحفائر
وأنشدوا
} لكل أناس مقبر بفنائهم فهم في انتقاص والقبور تزيد
وفي محشر الموتى أمام قبورهم فما منـهم من للحياة يعود
327 وأنشدوا
المرء رهن مصائب لا تنتهي
حتى يوارى جسمـه في رمسه
فمؤخر يلقى الردى في أهله
ومقدم يلقى الردى في نفسه
تذكر أيها المغرور أباك وإخوانك وتذكر أهلك وجيرانك وتذكر أحبابك وأخدانك أين الذين كانوا لك في الدنيا أحبابا وفي أيام حياتك أصحابا صحبتهم وصحبوك وذهبوا عنك وتركوك وأوحشوا الأهل والأحباب وفارقوا القرابة والأصحاب قد ضمت أجسادهم المقابر وغيرت أبشارهم الحفائر وبقيت أرواحهم تنتظر يوما تبلى فيه السرائر فمنـهم من يجازى بنعيم وخلود ومنـهم من يرد النار وبئس الورد المورود أين لقمان بن عاد أين ثمود وشداد أين فرعون ذي الأوتاد وأين من طغى في البلاد وأظهر فيها الفساد ذهبت والله تلك الأجناد وصاروا إلى ظلم القبور على غير مـهاد ولا وساد
تذكر أيها الغافل أين الملوك الأكابر وأين الطغاة الجبابر وأين الذين جمعوا الأموال والذخائر وقادوا الجيوش والعساكر وكانت الخطباء تذكرهم على المنابر حولتهم والله النوائب إلى الحفائر وبقوا مرتهنين بأعمالهم في ظلمات المقابر ونزلوا على ما قدموا من ذخائر الأعمال قد قطعت الديدان أوصالهم وغير البلاء أحوالهم
قد سالت العيون منـهم على الخدود وصارت لحومـهم قوتا للهوام والدود وقسمت من بعد دفنـهم في التراب أموالهم ونكحت من عدوهم عيالهم وأنشدوا
هل كان قبلك للذات مرتاحا
لو شفه ذكر ذنب قد مضى ناحا
لله عبد جنى ذنبا فأحزنـه
فظل حيران يذري الدمع سفاحا

فاسفح دموعك عن ذنب أصبت به
فرب دمع جرى للخير مفتاحا
ورب عين رآها الله باكية
خوف القبور ستلقى الروح والراحا
مستعبر قلق مستيقظ فطن
كأن في قلبه للنور مصباحا
يا صاحبي دعا التسويف ويحكما
واستبدلا بفساد الدين إصلاحا
لا تأمنن وقوع الموت إن له
لأنفسا من جميع الخلق مجتاحا
إن لم يبيتهم ناداهم سحرا
وإن تأخر عن تبكيرهم راحا
لا يترك الموت بيتا حشوه فرح
إلا أعاضهم ذلا وأتراحا
أهل القبور أبينوا عن قبوركم
هل تستطيعون لي بالرد إفصاحا
ماذا لقيتم وماذا بعد قيل لكم
لما فقدتم من الأجساد أرواحا
يعزز علي بأبدان منعمة
أمسى بها الدود جوالا وسواحا
الناس في غفلة عما يراد بهم
من كان ذا بصر فالصبح قد لاحا
328 حكاية عن ابن السماك
حكي عن ابن السماك رحمـه الله أنـه حضر يوما جنازة فلما نظر إلى القبور بكى وقال لأصحابه معشر الإخوان ألا متأهب لموت يوصف له يراه أمامـه ألا مستعد ليوم فقره ونزوله إلى حفرته وقبره ألا شاب عازم قد بارز لمنيته ألا من ليس يغيره شباب متنـه ولا شدة قوته إلا شيخ قد بادر لانقضاء مدته فشمر السير فيما بقي من رمقه ماذا ينتظر من دفن أباه وقر أمـه وأخاه ما فرح من القبر مأواه والتراب فراشـه وغطاه
وأنشدوا
} ألا إنما الدنيا بلاء وفتنة وبينا الفتى فيها مـهاب مسود
إذا انقلبت عنـه وزال نعيمـها فاصبح من ترب القبور يمـهد
فكن خائفا للموت والقبر بعده ولا تك ممن غره اليوم أو غد
حكي عن بعض الصالحين رحمـه الله أنـه قال دخلت على مريض وهو في شدة السكرات فقلت له كيف تجدك فبكى ثم قال
رحلت عن الدنيا وقامت قيامتي غداة أقل الحاملون جنازتي
وعجل أهلي حفر قبري وصيروا خروجي وتعجيلي إليه كرامتي
كأنـهم لم يعرفوا قط صورتي غداة أتى يومي علي وساعتي

إخواني ما هذا لمن مضى بل والله لمن مضى ولم بقي لا بد من القبر ووحشته ومن الموت وسكرته فانظروا لأنفسكم ما دام ينفعكم وتفكروا في وحشة القبر ما دام التفكر يباح لكم من قبل وقوع السكرة ونزول الحسرة وحيث لا تقال العثرة
فإن الأيام غرور وهي طريق إلى القبور
وأنشدوا
ما للمقابر لا تجيب إذا دعاهن اللبيب
حفر يستر فوقهن من الجنادل والكثيب
فيهن أطفال وولدان وشبان وشيب
كم من حميم لم يكن نفسي بفرقته تطيب {
غادرته في بعضهن
مجندلا وهو الحبيب
329 حكاية عن بعض الصالحين
حكي أن رجلا من الصالحين رحمـه الله حضر جنازة فلما وضعوها في قبرها وانصرف أهلها وقف على قبر صديق له فناداه يا حبيب
يا فلان الصديق فلم يجبه أحد فأنشأ يقول
} أحبيب مالك لا تجيب مناديا أنسيت بعدي جملة الأحباب
فأجابه مجيب يسمع صوته ولا يرى شخصه وهو يقول
قال الحبيب وكيف لي بجوابكم وأنا رهين جنادل وتراب
أكل التراب محاسني ونسيتكم وحجبت عن أهلي وعن أحبابي
فعليكم مني السلام تقطعت مني ومنكم عقدة الأنساب
يا مسكين فهذه صفتكم وصفة إخوانكم وأحبابكم وجيرانكم وأصحابكم فاعتبروا بهم وعظوا أنفسكم وأبكوا طول حياتكم أيام وحشتكم وبعد رقدتكم وطول غربتكم وانفرادكم في قبوركم ووحدتكم فعسى الله مولاكم أن يرحمكم فيؤنسكم فيها بأنس كرامته وينورها بنور مغفرته ويجعلها لكم أول منزلة من منازل الجنة وينجيكم فيها من كل عذاب ومحنة إنـه المنان الكريم المتفضل الرحيم
330 موعظة ابن عباس
روي عن ابن عباس رضي الله عنـهما أنـه قال ارحم ما يكون المولى جل جلاله بعبده إذا دخل قبره وتفرق الناس وأهله فمن أكثر من ذكره وجده روضة من رياض الجنة

وما من يوم إلا والأرض تنادي بخمس كلمات يا ابن آدم تمشي على ظهري ومصيرك إلى بطني يا ابن آدم تضحك على ظهري وسوف تبكي في بطني يا ابن آدم تفرح على ظهري سوف تحزن في بطني يا ابن آدم تذنب على ظهري وسوف تعذب في بطني يا ابن آدم تأكل الحرام على ظهري وسوف يأكلك الدود في بطني يا ابن آدم كم من محسود في حياته يود إذا نزل في حفرته لو كان كل ما جمعه وخلفه لأعدائه وحساده فكم من تارك لعياله ما يصلحهم لمعادهم
ويكون هو في قبره أو في رمسه مثبورا
وأنشدوا
أخلق الموت جدتي
ومحا حسني البلى
صرت بين النعيم في
منزل البعد والقلى
وجفاني أحبتي
حين غيبت في الفلا
يا أخي تفكر في تلك الأكفان
وتغير الروائح وصولة الديدان ونـهش العقارب والحيات والكون تحت أطباق الثرى والظلمات
وانظروا إلى أحبابكم في بسط الأرماس كيف عدموا الأناس والحراس وانقطعت عنـهم الحركات وسكنت منـهم الأنفاس وأنشدوا
أتعمى عن الدنيا وأنت بصير
وتجهل ما فيها وأنت خبير
وتصبح تبنيها كأنك خالد
لقد كان فيما قد بلوت نذير
متى أبصرت عيناك أمر ولم يكن
يخبرنا أن البقاء يسير
فدونك فاصنع كلما أنت صانع
فإن بيوت المتقين قبور
331 حكاية عن الحسن البصري
يحكى عن الحسن البصري رضي الله عنـه أنـه نظر إلى جنازة قد وضعت في لحدها فقال يا لها من موعظة بليغة لو صادفت قلوبا حية والله لقد فضح الموت الدنيا ولم يترك فيها لذي نسب فرحا
ثم أشار إلى امتداد القبور فبكى وقال هؤلاء أهل محلة قد كفى من جلس إليهم شرهم وإن ترحم عبد عليهم وصل إليهم ما ترحم به
عباد الله اعلموا أن القبور منزلة بين الدنيا والآخرة فاعملوا لمثل هذا اليوم فإنما هم إخوانكم تقدموا وأنتم في الأثر أيها المتخلف من بعد أخيه أنت الميت من بعده غدا والباقي بعدك هو الميت في أثرك الأول فالأول حتى يتوفوا جميعا فكأنا بكم قد عمكم الموت واستويتم جميعا في سكراته وحللتم جميعا في القبور إلى يوم النشور

فالله الله تفكروا في طول البلاء في ظلمات بين أطباق الثرى
وأنشدوا
} أخي ما بال قلبك ليس ينقي كأنك لا تظن الموت حقا
أيا ابن الذين فنوا وبادوا اما والله ما بادوا وتبقى
وما أحد بزادك منك أحصى وما أحد بزادك منك أشقى
وما للنفس عندك مستقر
إذا ما استكملت أجلا ورزقا
تفكروا في الملوك العتاة والجبابرة والطغاة الذين عمروا الدنيا وملكوها وأقطارها وسكنوا المشيد من قصورها كانوا أشد منكم قوة وآثارا واقوى أجساما وأطول أعمارا خلفوا ما كسبوا للأهل والأحباب وعمر ديارهم من بعدهم الأصحاب وانصرم عنـهم الليل والنـهار ونزلوا على ما عملوا من الأوزار فلو أبصرتموهم بعد قليل في ظلمات القبور وقد تقطعت منـهم الجلود وتمزقت الخدود وضيقت على أبدانـهم اللحود واتخذ الخليل من بعدهم خليلا وصارت أبدانـهم للدود مقيلا
فتفكر يا أخي وكن إلى التوبة مسرعا عجولا ولا تطع الشيطان إنـه كان للإنسان خذولا وكو نوا أولياء الرحمن ولا تكونوا أولياء الشيطان
فعسى الله أن ينجيكم من عذاب النيران ويدخلكم برحمته الجنان
وأنشدوا
اعمل لمثواك في الضريح
واندم على فعلك القبيح
ولا تقصر وفيك روح
فسوف تبقى بغير روح
واقرح الخد من دموع
بالجد من قلبك القريح
والتمس الصفح قبل يوم
تنقل فيه إلى الصفيح
يا نفس إني غدا طريح
والترب يحثى على الطريح
نوحي فلو قد حواك قبر
لم تقدري فيه أن تنوحي
أحبابي قوموا بنا إلى الحزن والبكاء وإلى طول الأسف والأسى لعل الله يرحمنا في ظلمات القبر وعسى فإن القبر ينادي في الصباح والمسا
قيل وقف بعض الصالحين في المقابر وأنشأ يقول
أغضاب أحبابنا أم رقود
فإلى كم يكون هذا الصدود
إن تكونوا قوما نياما فهبوا
كم تناموا عنا ونحن قعود
أو تكونوا هجرتمونا بذنب
كان منا فإننا لا نعود
حكي عن بعضهم رضي الله عنـه أنـه قال مات لي صديق فاغتممت عليه لما كان فيه من الصلاح والخير وحسن الطريقة فرأيته بعد موته في المنام فسألته عن حاله فأنشأ يقول

أنا لكم إخوتي نذير
من هول ما ضمت القبور
عاينت ما لم تعاينوه
وإنما يبتلى الخبير
إن الذي حل بي جليل
جدا فقد أعذر النذير
فإنما أنت في غرور
فلا يغرنك الغرور
فإن قدامك المنايا
والقبر والبعث والنشور
إما إلى جنة وإما
إلى جحيم لها سعير
فالله الله يا معشر الإسلام انتبهوا من ثقل هذا المنام فإن أمامكم وحشة القبور بعد سكرات هول ال فمن ضيع في البطالة والجهالة أيامـه وكثرت في صحيفته أوزاره وآثامـه فمقام الحسرة غدا في القبر مقامـه
وأنشدوا
أبصر وتب يا رجل
قد أزف التنقل
إلى محل ضيق
تذهب فيه الحيل
مالك فيه مؤنس
إلا التقي والعمل
أي غلام قام في
محرابه يبتهل
يقول في سجدته
ودمعه ينـهمل
يا ظاهر يا باطن
يا مالك لا تعجل
اغفر ذنوبي كلها
فشأنك التفضل
} وتب علي توبة
فهي المنى والأمل
332 نباش القبور
روي عن سعيد بن جبير رضي الله عنـه أنـه قال بينما نحن جلوس في مجلس ابن عباس رضي الله عنـهما إذ وقف رجل بين يديه فقال يا ابن عباس ما أذل العاصين بين يدي الله تعالى وما أحسن المبادرين إلى طاعة الله تعالى يا ابن عباس ما أغفل المذنبين عن قرب الجليل وأشد تخليط من لم يوفق بالرحيل
قال ثم خرج
فقام إلى ابن عباس بعض جلسائه فقال له يا ابن عباس إن هذا الفتى نباش وإنما يتستر بهذه المقالة فإذا جن عليه الليل خرج إلى المقابر فنبش فيعري الموتى من أكفانـهم
قال ابن عباس لا أصدق مثل هذا حتى أراه بعيني وألمسه بكفي
فقال له الرجل إن شئت لأرينك ذلك
فقال قد شئت
فلما هجم الليل إذا الفتى قد
أقبل وفي يده اليمنى قنديل وفي اليسرى غل حتى توسط المقابر ثم رمى بطرفه شاخصا وقال سلام عليكم أهل مضايق اللحود ومطعم البلاء والدود ما أبعد سفركم وما أوحش طريقكم فليت شعري ما حالكم ارتهنتم بأعمالكم وقطعتم دون آمالكم بل ليت شعري أندم الحياة حل بكم أم فرح البشرى بالقدوم على ربكم

سبقتمونا فلبيتم وأجبتم قبلنا إذ دعيتم ونحن للقدوم عليكم منتظرون وللمنـهل الذي وردتموه واردون فبارك الله لنا ولكم على القدوم عليه ورحمنا إذا صرنا إلى ما صرتم إليه
ثم نزل في قبر قد احتفره لنفسه فوضع خده على شفير اللحد وجعل ينادي يا ويلتى إذا دخلت في قبري وحدي ونطقت الأرض من تحتي فتقول لي لا مرحبا ولا أهلا ولا سعة ولا سهلا بمن كنت أمقته وهو على ظهري فكيف وقد صرت اليوم في بطني لأضيقن عليك أرجائي ولأذيقنك مكروه بلائي
ويلي إذا خرجت من لحدي حاملا وزري على ظهري وقد تبرأ مني أبي وأمي
بل ويل من طول كذبي إذا أسمعني منادي ربي أين فلان بن فلانة فأبرزت من بين جيرتي وقد بدت إلى الناس سريرتي وقمت عريانا ذليلا وقاسيت كربا طويلا
ثم أساق إلى أرض القيامـه للعرض والوقوف بين يدي جبار السموات والأرض
ويلي إذا وقفت أمام ربي فقال لي عبدي استترت بمعصيتي عن المخلوقين وبارزتني بها وأنا عليك من أكبر الشاهدين أفكنت عليك من أهون الناظرين إليك ثم خر مغشيا عليه فلما أفاق رفع رأسه إلى السماء فقال يا ذخري ويا ذخيرتي ومن هو أعلم بطويتي وسريرتي يا من عليه اعتمادي في حياتي ومن إليه ألجأ بعد مماتي لا تخذلني بعد الموت ولا توحشني في قبري يا سامع كل صوت فلما سمع ابن عباس مقالته لم يتمالك أن سعى حتى وقف على شفير القبر وجعل ينادي لبيك لبيك حبيبي ما أنبشك للذنوب والخطايا هكذا تنبش الذنوب وتمزق الخطايا
ثم التفت إلى الذي سعى بـه وقال له يا عبد الله هكذا فاصنع كلما علمت بمثل هذا النباش فأرشده إلى ابن عباس فما أحبه وآثره لديه يا ليت كل النابشين مثله
وأنشأ يقول
قف بنا بالقبور نبكي طويلا
ونداوي بالدمع داء جليلا
فعسى الدمع أن يبرد منا
بعض لوعاتنا ويشفى الغليلا
وننادي الأحباب كيف وجدتم
سكرة الموت بعدنا والمقيلا
لو أطاقوا الجواب قالوا وجدنا
سكرة تترك العزيز ذليلا
بدلوا بعد القصور قبورا
ثم بعد اللباس ردما ثقيلا

عباد الله اعملوا لظلمة القبر قبل فوات العمل وبادروا بالتوبة قبل انقضاء الأجل واشعلوا في قلوبكم نيران الخوف والوجل وتزودوا للقبر بينما أنتم في فسحة ومـهل فإن الموت آت والعمر فات والطريق طويل والزاد قليل وهول القبر ثقيل
وأنشدوا
تضرع في دجى الليل
إلى مولاك يكفيكا
ولا تأمن هجوم الموت
إن الموت يأتيكا
كأني بالذي يهواك
في القبر يدليكا
وقد أفردت في لحدك
فردا بمساويكا
واسلمك الذي قد كان
في الدنيا يصافيكا
فيا سؤلي ويا ذخري
وكل الخلق راجيكا
ويا من ليس منا
أحد يحصى اياديكا
تجاوز عن مقال ثم
حقق أملي فيكا {
يا أخي قم بين يدي مولاك إذا دخل الليل البهيم واسأله لعله يكفيك في قبرك العذاب الأليم
333 حكاية عن ابن الأسود
حكي عن الحجاج بن الأسود أنـه قال رأيت في المنام كأني دخلت في المقابر فإذا أهلها نيام في قبورهم وقد تشققت الأرض عنـهم فمنـهم النائم على التراب ومنـهم النائم على القباطي ومنـهم النائم على السندس ومنـهم النائم على الإستبرق ومنـهم النائم على الحرير ومنـهم النائم على الديباج ومنـهم النائم على الياسمين والريحان ومنـهم النائم كالمبتسم في نومـه ومنـهم حائل اللون ومنـهم من قد أشرق نوره ومنـهم قد اشتد كربه ومنـهم من قد اغتم في ضيق القبر ووحشته
فبكيت في منامي مما رأيت ثم قلت يا رب لو شئت لسويت بينـهم في الكرامة فناداني مناد من بينـهم يا حجاج هذا الذي تراه من تفاضل الأحوال إنما هي منازل الأعمال ولكل امرئ منـهم ما قدم
فاستيقظت فزعا مرعوبا وأنشدوا
تحرك إن قدرت وقم طويلا
فسوف يطول نومك في التراب
وحقق ما تقول فأنت عبد
تساءل ثم تطلب بالجواب
وكفر ما عملت وكن مجدا
وتب لله تسعد بالمتاب
عباد الله ليس لكم دواء من جميع أمراض الشـهوات إلا التوبة والندم على ما سلف وحسن الأوبة لعل الله يغفر لكم ما عقدتم عليه من الضمائر وما طويتم عليه خفيات السرائر وينور لكم في ظلمات الأجداث وضيق القبور ووحشة الحفائر
وأنشدوا

نعت نفسها الدنيا إلينا فأسمعت
ونادت ألا جدوا الرحيل وودعت
وزمت مطايانا إلى برزخ البلى
وساقت بنا سوقا حثيثا فأسرعت
سلام على أهل القبور أحبتي
لقد بليت أجسامـهم وتقطعت
فما موت الأحياء إلا ليبعثوا
يقينا وتجزى كل نفس بما سعت
عباد الله فما لكم تدعون إلى الرجوع إلى الله فلا تجيبون والموت والقبر فلا تذكرون فإنا لله وإنا إليه راجعون ذهب السامعون والواعظون
وبقي الجاهلون والغافلون
فلا سامع يعي ويسمع ولا واعظ يداوي وينفع
كل قد شغل بالأماني والغرور ونسي الرحيل إلى القبور
ووجد على قبر مكتوبا
لا تثق بالحياة من بعد قبري
كل حي مصيره كمصيري
كنت في نعمة وفي خفض عيش
فمضى وانقضى كيوم قصير
} ثم افردت في القبور وحيدا
وجفاني الصديق فوق القبور
حديث في منكر ونكير
روي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال لجبريل عليه السلام ليلة الإسراء كفى بالموت طامة فقال جبريل عليه السلام ما بعد الموت أطم منـه وأعظم
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وما ذاك يا جبريل قال الملكان الأزرقان الأسودان يطآن في شعورهما ويخرقان الأرض بأنيابهما بيد كل واحد منـهما عمود لو ضرب بـه الجبال لقلعها من أصولها أعينـهما كالبرق الخاطف واصواتهما كالرعد القاصف يبتلي بهما كل مؤمن وكافر فيأتيانـه في قبره فيروعانـه ويقعدانـه ويعرضان عليه عمله ويريانـه ه من الجنة أو النار
فقال {صلى الله عليه وسلم} أما الكافر لهما أن
يروعانـه ويفعلان بـه ذلك وأما المؤمن فكيف قال جبريل عليه السلام كذلك أمر ربك يا محمد فأما الكافر فلا يجد من عذاب الله فترة من حين يدخل قبره وأما المؤمن فتكون له تلك الروعة كفارة لما مضى من ذنوبه في الدنيا فإذا خرج من قبره خرج مغفورا له ثم لا يدري روعة بعدها أبدا
335 غرور
ذكر أن بعض الملوك بنى قصرا وشيده فأعجب بذلك وسر بـه فلما كان في بعض الليل سمع قائلا يقول
كأني بهذا القصر قد باد أهله
وأوحش منـه أهله ومنازله
وصار مشيد القصر من بعد بهجة
وملك إلى قبر عليه جنادله
ولم يبق إلا ذكره وحديثه

تنادي بليل معولات حلائله
فخذ عدة للموت إنك ميت
وإنك مسؤول فما أنت قائله
فأجابه الملك وهو يقول
أقول بأن الله حق شـهدته
فذلك قول ليس تخفى فضائله
فأجابه الهاتف وهو يقول
فوالله يا فدم إنك ميت
وقد أزف الأمر الذي أنت نازله
فأجابه الملك وهو يقول
متى ذاك حدثني هديت فإنني
سأفعل ما قد قلته وأعاجله
فأجابه الهاتف وهو يقول
تقيم ثلاثا بعد عشرين ليلة
إلى منتهى شـهر وما أنت كامله
قال فلم يتم الشـهر حتى مات
وقال بعض الشعراء في هذا المعنى
تمنت نفسه قصرا مشيدا
يلد بـه ليعمره جديدا
فلما تم عاجله
فأخرجه إلى جدث فريدا
فقل لذوي الترجح في الأماني
ولا يبغون في التقوى مزيدا
تهابوا الموت إن له مجالا
فما يبقى الكبير ولا الوليدا
ويختطف الملوك ذوي المعالي
ولا يخشى الجيوش ولا الجنودا {
336 الملك الزاهد
حكي عن عباد المـهلبي أنـه قال كان رجل من ملوك البصرة ترك الدنيا وتعبد ثم بعد ذلك مال إلى الدنيا وغرورها فبنى دارا وشيدها وأمر بفرشـها ففرشت الدار ونجدت وأمر أن يصنع طعام ودعا الناس إليه فجعلوا يدخلون ويأكلون ويشربون وينظرون إلى بنائه ويعجبون منـه ثم يدعون له ويتفرقون عنـه فمكث بذلك زمانا حتى فرغ من أمر الناس ثم أجلس نفرا من خاصة إخوانـه فقال لهم أترون سروري بداري هذه وقد حدثتني نفسي أن أتخذ لكل واحد من أولادي مثل هذه فأقيموا عندي أياما استمتع بحديثكم فأقاموا عنده أياما يأكلون ويشربون ويلهون ويلعبون وشاورهم كيف يريد أن يبني إذ سمعوا ذات ليلة هاتفا يقول بصوت جهير
يا أيها الرجل الناسي منيته
لا تأمنن فإن الموت مكتوب
على الخلائق إن سروا وإن كرهوا
فالموت حتم لذي الآمال منصوب
لا تبنين ديارا لست ساكنـها
وراجع النسك كيما يغفر الحوب

قال فخرج وخرج أصحابه وراعهم ما سمعوا ثم قال لأصحابه هل تجدون ما أجد قالوا وما تجد قال أجد مسكة على فؤادي وما أراها إلا علة الموت ثم أمر بال فأهريق وأمر بالملاهي فأخرجت ثم قال اللهم إني أشـهدك واشـهد ملائكتك ومن حضر من عبادك أني تائب إليك من جميع ذنوبي نادم على ما فرطت في أيام مـهلتي
ثم اشتد بـه الأمر فلم يزل يقول الموت حتى خرجت روحه وتفرق أحبابه عنـه وأصحابه
وأنشدوا
يا عجبا للناس لو أبصروا
وحاسبوا النفس وقد فكروا
واعتبروا الدنيا إلى غيرها
فإنما الدنيا لهم معبر
والموعد الموت وما بعده
حشر فذاك الموعد الأكبر
عجبت للإنسان في فخره
وهو غدا في وحشة يقبر
ما بال من أوله نطفة
وجيفة آخره يفخر
أصبح لا يملك تعجيل ما
يرجو ولا تأخير ما يحذر
وأصبح الأمر إلى ربه
في كل ما يقضي وما يقدر
لا فخر إلا فخر أهل التقى
غدا إذا ضمـهم المحشر
337 موعظة للبهلول
حكي عن بعض السادات أنـه قال نظر إلي بهلول وأنا أبني دارا فقال لمن هذا الدار فقلت لرجل من كبار أهل الكوفة فقال أرنيه فأريته إياه فناداه يا هذا لقد تعجلت الجناية قبل العناية إسمع إلى صفة دار كونـها العزيز أساسها المسك وبلاطها العنبر اشتراها عبد أزعج للرحيل كتب على نفسه كتابا وأشـهد على عقد ضمائره شـهودا هذا ما اشترى العبد الجافي من الرب الوافي اشترى منـه هذه الدار بالخروج من ذل الطمع إلى عز الورع فما أدرك المشتري من درك فيما اشتراه فعلى المولى خلاص ذلك

شـهد على لك العقد وهو الأمن والخواطر وذلك في إدبار الدنيا وإقبال الآخرة ولهذا الدار حدود أربع فالحد الأول ينتهي إلى مبادئ الصفا والحد الثاني إلى ترك أخلاق الجفا والحد الثالث ينتهي إلى مدارج أهل الوفا والحد الرابع ينتهي إلى السكون والتسليم والرضا في جوار من على العرش استوى ولهذا الدار شارع ينتهي إلى دار الخلد والسلام وخيام قد ملئت بالولدان والخزام ليس فيها أسقام ولا ضر ولا آلام ولا يذوق ساكن هذه الأماكن سكرات ال
يا لها من دار لا ينقضي نعيمـها ولا يبيد كريمـها دار أسست فجعل من الدر والياقوت شرف تلك الحدود وجعل بلاطها من البهاء والنور ومليء خيامـها من جوار بهن كمل السرور من العين الحور ليس لهن سوى الدين والتقوى مـهور فترك الرجل قصره وتاب إلى الله عز وجل وهام على وجهه وجعل البهلول ينادي خلفه ويقول
} يا ذا الذي طلب الجنان لنفسه لا تهربن فإنـه يعطيكا
وأنشدوا
طاب المقام وطاب فيه نعيمـه في دار عدن والجليل يراه
فالله الله يا عباد الله لا تغتروا ببناء الدور وتشييد القصور فعما قليل تخرب وتخرجون منـها إلى ضيق اللحود وظلمات القبور وأنشدوا
سلام على أهل القبور الداورس كأنـهم لم يجلسوا في المجالس
ولم يشربوا من بارد الماء شربة
ولم يأكلوا من كل رطب ويابس
فيا معشر أهل الدنيا تفقدوا أهل القبور بالدعاء الحسن وتلاوة القرآن
338 حديث في هدية أهل القبور
فإنـه روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من دخل المقابر وقرأ قل هو الله أحد عشر مرة وأهدى ثوابها للموتى غفر الله تعالى للموتى وأدخل في قبورهم النور والسرور ويكتب الله تعالى للقارئ بكل ميت مات من يوم أهبط الله آدم إلى الأرض إلى يوم القيامة عشر حسنات
339 الصدقة والدعاء للميت

وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } أهدوا إلى موتاكم { قيل وما نـهدي يا رسول الله إلى الموتى قال الصدقة والدعاء وما من أهل بيت يموت منـهم ميت يتصدقون عنـه بعد موته إلا أهداها له جبريل عليه السلام على طبق من نور فيقف على شفير القبر فيقول يا صاحب القبر هدية أهداها إليك أهلك اقبلها فتدخل عليه فيفرح بها ويستبشر ويحزن جيرانـه الذين لا يهدي إليهم شيء فالله الله لا تغفلوا عن موتاكم ولا تنسوهم من الصدقة والدعاء فإنكم تدخلون عليهم بذلك السرور ويغتبطون بها في القبور
340 رجاء الأموات للأحياء
وقد جاء في الحديث أن الموتى يرجون الأحياء من الأحباب إلى رأس أربعين سنة فمن أيأسهم أيأسه الله رحمته ومن فرحهم أكرمـه تعالى بتحيته
وفقنا الله وإياكم للأعمال الصالحة وأعاننا وإياكم على طلب الرغائب والخيرات آمين برحمته فإنـه مجيب الدعوات وقاضي الحاجات ومقيل العثرات وصلى الله على من أخرجنا من الظلمات إلى النور المطهر من الآفات المجتنى من أطيب الثمرات وعليه منا أطيب السلام والتحيات ما دامت الأرض والسموات آمين آمين فهو مجيب الدعوات وقاضي الحاجات وغافر الذنوب والزلات آنس الله وحشتي ووحشتكم في القبور وآنس روعتي وروعتكم يوم النشور وأحلنا وإياكم برحمته دار السرور
آمين آمين

13مجلس في فضل الصيام 341 قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } البقرة 183 أيها الغافل عن الثواب الكثير والساهي عن الملك الكبير واللاهي عن لباس السندس والحرير المتقاعد عن اليوم العبوس القمطرير النائم عما أتي بـه محمد البشير النذير الذي أنقذنا الله بـه من جهنم وحر السعير

يا غافل يا ساهي أتاك شـهر رمضان المتضمن للرحمة والغفران وأنت مصر على الذنوب والعصيان مقيم على الآثام والعداون متمادي في الجهالة والطغيان متكل م بالغيبة والبهتان متعرض لسخط الرحمن قد تمكن من قلبك الشيطان فألقي فيه الغفلة والنسيان فأنساك نعيم الخلد والجنان فظللت تعمل أعمال أهل النيران فإن كنت يا مسكين كذلك فكيف ترجو الفوز بالرضوان والحلول في دار الخلد والأمان والخلاص من دار العقوبة والهوان
وأنت مطعمك حرام ولباسك حرام ولسانك لا يفتر عن قبيح الكلام وبصرك حديد إلى ما حرم من الحرام عليك ذو الجلال والإكرام ويدك ممدودة إلى ما نـهاك عنـه الملك العلام وقدمك تسعى إلى ما هو إثم وحرام وأنت في جميع أمورك وأفعالك مخالف للقرآن والأحكام تارك لسنة محمد عليه الصلاة والسلام
فجسمك من الجوع متعوب من الفجر إلى الغروب ويلحقك النصب واللغوب وصومك عن مولاك بالطرد محجوب وأخاف أن تكون في النار على وجهك مكبوب لمخالفتك لعلام الغيوب
فخمص ويحك بطنك عن أكل الربا والحرام وأحبس لسانك عن الوقوع في جماعة الإسلام وغض طرفك عما هو عليك أعظم من أعظم الآثام وهو النظر إلى ما لا يحل لك من حرم الأنام وامتثل ما أمرك بـه أحكم الحكام وقم بين يديه في الليل البهيم إذا هجع النوام وتضرع إليه إذا أدهم
الليل بداجي الظلام
وحينئذ يصح لك القبول لشـهر رمضان وتفوز بالنعيم الأبدي في دار السلام وتنجو من الأهوال والعذاب الغرام
فليكن ويحك بصرك من النظر إلى المحارم معدولا وسمعك عن سماع القبيح من القول معزولا وبطنك من أكل الحرام محمولا وقلبك بالفكرة في الحسنات والمعاد مشغولا وذكر مولاك وسيدك في لسانك مجعولا ومالك في طاعة العزيز الجبار مبذولا { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنـه مسؤولا } الإسراء 36 وقد أعلمك مولاك أن الشيطان كان للإنسان خذولا فلم خنت عهد مولاك وأمانته وكنت لنفسك ظلوما جهولا
وأنشدوا
قل لأهل الذنوب والآثام

قابلوا بالمتاب شـهر الصيام
إنـه في الشـهور شـهر جليل
واجب حقه وكيد الزمام
واقلوا الكلام فيه نـهارا
واقطعوا ليله بطول القيام
واطلبوا العفو من إله عظيم
ليس يخفى عليه فعل الأنام
كم له فيه من إزاحة ذنب
وخطايا من الذنوب عظام
كم له فيه من أياد حسان
عند عبد يراه تحت الظلام
كم له فيه من عتيق شـهيد
آمن في القيام خزي المقام
إن دعاه مذلل بخضوع
وخشوع ودمعه ذو سجام
أين من يحذر العذاب ويخشى
أن يصلي الجحيم مأوى اللئام
أين من يشتهي التذاذا بحور
في جنان الخلود بين الخيام
التمس فيه ليلة القدر واترك
التماسا لها لذيذ المنام
واجتهد في عبادة الله واسأل
فضله عند غفلة النوام
يا لها خيبة لمن خاب فيه
عن بلوغ المنى بدار السلام
يا لها حسرة لمن كان فيه
ساترا شره بثوب الظلام
يا إله الجميع أنت بحالي
عالم فاهدني سبيل القوام
} وأمتني على اعتقاد جميل
واتباع لملة الإسلام
342 فضل رمضان
فالله الله عباد الله اغتنموا شـهر المتاب وما وعدكم فيه من جزيل الثواب ومن العفو عن الأوزار وعتق الرقاب
وهو شـهر لياليه أنور من الأيام وأيامـه
مطهرة من دنس الآثام وصيامـه أفضل الصيام وقيامـه أجل القيام
شـهر فضل الله بـه أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام شـهر جعله الله مصباح العام وواسطة النظام وأشرف قواعد الإسلام المشرف بنور الصلاة والصيام والقيام شـهر أنزل الله فيه كتابه وفتح للتائبين فيه أبوابه فلا دعاء فيه إلا مسموع ولا عمل إلا مرفوع ولا خير إلا مجموع ولا ضرر إلا مدفوع شـهر السيئات فيه مغفورة والأعمال الحسنة فيه موفورة والتوبة فيه مقبولة والرحمة من الله لملتمسها مبذولة والمساجد بذكر الله فيه معمورة وقلوب المؤمنين بالتوبة فيه مسرورة
وأنشدوا
أين أهل القيام لله دأبا
بذلوا الجهد في رضا الجبار
أنتم الآن في ليال عظام
قدرها زائد على الأقدار
فاستزيدوا من العبادة فيها
تأمنوا اليوم من عذاب النار
أين من يركب الذنوب اغترارا
لا يخافون سطوة القهار {

قد أهل الهلال من رمضان شـهر زلفى وتوبة وادكار
فاذكروا الله فيه ذكرا كثيرا واستجيروه من عذاب النار
وارجعوا عن ذنوبكم بمتاب صادق واقلعوا عن الإصرار
رب من كان مسرفا مستمرا في خطاياه مكثر الأوزار
ثم إن الإله تاب عليه فاقتضى حمده سبيل الخيار
فاعملوا أيها المسيئون وادعوا ربكم جهرة وفي الإسرار
واحذروا غفلة القنوط وداووا داءها بالرجوع للغفار
تجدوا الله في المعاد كريما ماحيا للذنوب والإصرار
إخواني هذا شـهر ليس مثله في سائر الشـهور ولا فضلت بـه أمة غير هذه الأمة في سائر الدهور الذنب فيه مغفور والسعي فيه مشكور والمؤمن فيه محبور والشيطان مبعد مثبور والوزر والإثم فيه مـهجور وقلب المؤمن بذكر الله معمور وقد أناخ بفنائكم وهو عن قليل راحل عنكم شاهد لكم وعليكم مؤذن بشقاوة أو سعادة أو نقصان أو زيادة وهو ضعيف مسئول من عند رب لا يحول ولا يزول يخبر عن المحروم منكم والمقبول
فالله الله أكرموا نـهاره بتحقيق الصيام واقطعوا ليله بطول البكاء والقيام فلعلكم أن تفوزوا بدار الخلد والسلام
مع النظر إلى وجه ذي الجلال والإكرام ومرافقة النبي عليه الصلاة والسلام وأنشدوا
ألا داع إلى الله المجيب
بقلب من معاصيه معيب
ألا باك لأيام تقضي
بلا عمل ولا قول مصيب
ألا باك على أمد بعيد
يؤديه إلى أجل قريب
فإن الموت يندبنا ويبغي
نفوسا ليس تألم للذنوب
تنادي للترحل كل يوم
ولا تصغي إلى الداعي القريب
كأن يقننا بالموت شك
ونلغي الحق بالإفك المريب
وشـهر الصوم شاهده علينا
بأعمال القبائح والذنوب
فيا رباه عفوا منك وألطف
بفضلك للمحير والكئيب
وهذا الصوم لا تجعله صوما
يصيرنا إلى نار اللهيب
سلام الله ما هبت عليه
قبول أو شمال أو جنوب
عباد الله هذا أول الصوم قد أقبل عليكم بالمغفرة والرحمة فلا تصرفوه عنكم بالسخط والنقمة

لأنـه شـهر عظيم زكي مبارك كريم من أطاع فيه الملك الجبار واتبع فيه السنة والآثار غفر الله له ما قد سلف من الذنوب والأوزار وخاصة برحمته من عذاب النار وأباحه بلطفه دار الرحمة والقرار مع مجاورة النبي محمد المختار صلى الله عليه وعلى آله السادة الأخيار ومن عصى فيه الملك القهار وخالف القرآن والآثار وعمل بأعمال الفجار ولم يوقر شـهرا عظمـه الإله الستار غضب عليه مقدر الأقدار ولعنـه كل شيء يختلج بالليل والنـهار هكذا روي عن الصادق المصدوق محمد المختار قال الله الملك الجبار
343 تقسيم الصوم
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } البقرة 183 الصيام ينقسم على أحد عشر ضربا صيام الفرض وصيام الظهار وصيام النقل وصيام الوطء في رمضان وصيام كفارة اليمين
وصيام فدية الأذى وصيام التمتع والقرآن وصيام إفساد الحج وصيام كفارة قتل الصيد وصيام النوافل وصيام النذر
والأيام المنـهي عن صيامـها ستة يوم الفطر ويوم الأضحية وثلاثة أيام بعد أيام التشريق ويوم الشك
344 الصوم اللغوي
} يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام { البقرة 183 الصوم ضربان صوم لغوي وصوم شرعي فالصوم في اللغة هو الإمساك وكل ممسك عن شيء فهو صائم
وذم أعرابي قوما فقال يصومون عن المعروف ويفطرون على الفواحش
قال الله تعالى إخبارا عن مريم عليها السلام { فقولي إني نذرت للرحمن صوما } مريم 26 يعني صمتا
يقال صام النـهار إذا ارتفعت الشمس ويقال صامت الخيل وهو قيامـها من غير علف ولا حركة
قال الشاعر
} خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وخيل تعلك اللجما {
أي خيل تصهل وخيل لا تصهل
345 صيام الجوارح

وكذلك حقيقة الصيام ترجع إلى اللغة لأن ما من جارحة في بدن الإنسان إلا ويلزمـه الصوم في رمضان وفي غير رمضان فصوم اللسان ترك الكلام إلا في ذكر الله تعالى وصوم السمع ترك الإصغاء إلى الباطل وإلى ما لا يحل سماعه وصيام العينين ترك النظر والغض عن محارم الله تعالى لأن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال } من نظر إلى امرأة نظرة حراما حشا الله عينيه يوم القيامة بمسامير من نار حتى يقضي الله بين الخلق ثم يؤمر بـه إلى النار إلا أن يتوب { وعلى كل نظرة لفحة من لفحات جهنم
346 عقاب نظرة في الحرام
ذكر عن بعض الصالحين أنـه نظر على وجهه لمعة سوداء فسئل عنـها فقال نظرت يوما إلى امرأة فتابعت النظرة بأخرى فرأيت في المنام كأن القيامة قد قامت وقد نشر الخلائق في صعيد واحد وجيء بجهنم ونصب الصراط على متنـها وقال الله تعالى لي جز يا عبدي فاقتحمت الصراط فخرج لسان من نار جهنم فأحرق وجهي فأثر فيه هذه اللمعة فقال الله تعالى يا عبدي نظرة بنظرة ولو زدت لزدناك
هذا في المنام من نظرة فكيف بمن تابع النظر ولم يغض البصر وصيام اليدين أن تقبضهما عما ليس لك بحق ولا ملك وأن لا تبسطهما إلا بما هو لله عز وجل
رضى
وصيام البطن أن تخمصه عن أكل الربا والحرام وعن أكل أموال اليتامى ظلما
وصيام القدمين أن لا تسعى بهما في غير طاعة الله عز وجل لأنـه قد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } من مشى في إفشاء عيب أو كشف عورة لمسلم كان أول خطوة يخطوها يضعها الله في النار وكشف الله عورته يوم القيامة على رؤوس الإشـهاد ثم يؤمر بـه إلى النار {
وصيام الفرج القعود عن الفواحش لأن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال
347 عقوبة الزنا

} من زنى بأمرأة يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو مسلمة أو كائنة من كانت من النساء فتح الله في قبره ثلاثمائة باب من جهنم يخرج عليه منـها حيات وعقارب من نار جهنم وشـهب من نار فهي تحرقه وهو معذب مما يلقى من حيات جهنم وعقاربها ويبعث يوم القيامة وهو يتأذى بـه الناس من ريح فرجه ثم يؤمر بـه إلى النار وهو يؤذي أهل النار مع ما هم فيه من شدة العذاب { وقال {صلى الله عليه وسلم} } من زنى بحليلة جاره المسلم لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام { وقال {صلى الله عليه وسلم} } عفوا تعف نساؤكم { من فسد بـه وما من رجل زنى بامرأة إلا جلد بين يدي الله تعالى يوم القيامة ثمانين سوطا من نار من بين يديه ومن خلفه ثم هو في مشيئة الله عز وجل
348 آفات الزنا
وقال {صلى الله عليه وسلم} } الزنا يورث صاحبه ست خصال ثلاث معجلات يعني في الدنيا وثلاث مؤخرات يعني في الآخرة فأما التي في الدنيا فإنـها تذهب بالبهاء وتورث الفقر وتقصر العمر وأما التي في الآخرة فإنـها توجب سخط الله وسوء الحساب وال في النار {
وقال {صلى الله عليه وسلم} } مررت ليلة أسري بي على أناس أمامـهم موائد حسان وعليها لحم مشوي كأحسن ما يكون من الشواء وحولهم جيف أنتن ما يكون من الجيف وهم يأكلون في الجيف ويتركون الشواء فقلت حبيبي جبريل من هؤلاء قال الزناة من أمتك يا محمد تركوا ما أحل الله لهم واقبلوا على ما حرم عليهم فاليوم يطعمون بما يكرهون ويحرمون ما يشتهون ألا وإنـه لا أحد أغير من الله ومن غيرته حرم الفواحش وحد الحدود وكذلك من عمل عمل قوم لوط حشره الله يوم
القيامة أنتن من الجيف يتأذى بـه أهل الجمع ثم يؤمر بـه إلى النار فإذا دخل النار أمر بـه فأدخل تابوت من نار فيسمر عليه مسامير فوق صفائح التابوت حتى يشد في تلك المسامير فلو وضع ما على عرق من عروقه من الآلام والأوجاع على أربعمائة ألف أمة لماتوا جميعا وهو أشد من في النار عذابا
ومن تاب ورجع في حياته فإن الله يغفر له ولا يسأله عن ذلك بعد وفاته

فهذا صيام الجوارح وهو فرض على كل مسلم أبد الدهر في رمضان وفي غيره
فالله الله عباد الله صوموا جوارحكم عن المنكرات واستعملوها في الطاعات تفوزوا بنعيم الأبد في قرار الجنات والتمتع بالنظر إلى جبار الأرض والسموات
349 الصوم الشرعي
والصوم الشرعي هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع بنية من قبل الفجر ويجوز صوم رمضان بنية في أوله
فهذا حد الصيام في اللغة والشريعة
قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } البقرة 183 فيه أقوال كثيرة وأصحها إن المعنى فرض عليكم الصيام كما فرض على الأمم الماضية التي سلفت من قبلكم قال مجاهد هم أهل الكتاب
روي عن سعيد بن جبير رضي الله عنـه أنـه قال في قوله تعالى { كما كتب على الذين من قبلكم } البقرة 183 أنـه كان كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل الأكل ولم يطعم شيئا إلى الليلة المقبلة وحرم عليهم أن يقربوا النساء تلك الليلة ورخص الله تعالى في ذلك لهذه الأمة
وقيل إشارة الله تعالى بقوله { كما كتب على الذين من قبلكم } البقرة 183 إلى الأمم الخالية وهذه الآية مدح لأمة محمد {صلى الله عليه وسلم} لأن ما من أمة ولا نبي إلا وقد فرض الله تعالى عليه وعلى أمته صيام شـهر رمضان فآمنت بـه هذه الأمة وكفرت بـه سائر الأمم
وقيل إشارة الله تعالى بهذا إلى النصارى وكانوا قد فرض عليهم إذا نام أحدهم من بعد غروب الشمس حرم عليه الطعام وال وكان وطء النساء عليهم حرام حتى بعث الله محمدا {صلى الله عليه وسلم} رحمة لهذه الأمة وفرض عليهم شـهر رمضان فبقي الأمر على تحريم الطعام وال بعد النوم وكذلك تحريم وطء النساء حتى وقع
أربعون رجلا في الأمر منـهم عمر بن خطاب رضي الله عنـه جامعوا نساءهم بعد النوم
350 حكاية الأنصاري

وجاء رجل من الأنصار يكنى أبا قيس واسمـه صرمة بن قيس من بني النجار فصلي مع رسول الله صلاة المغرب والعشاء ثم أتي منزله فقالت امرأته علي رسلك حتى أسخن طعاما صنعته فذهبت ثم عادت إليه وقد نام من تعبه فقالت له الخيبة الخيبة حرم عليك الله الطعام وال فبات طاويا واصبح صائما وعمل في أرضه فأصابه من التعب ما غشي عليه فرآه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يهادي بين رجلين فقال له مالي أراك أبا قيس طليحا والطليح هو الضعيف وفي لغة أخري هو التمايل فأخبره بخبره فرق له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى دمعت عيناه وكانت قصة الأنصاري أولا وكانت قصة عمر والأربعين رجلا رضوان الله عليهم آخرا فأنزل الله تعالى في قصة عمر وبدأ بها لأن الجناح في الوطء هو أكثر منـه في الأكل
351 قصة عمر بن الخطاب وغيره
فأنزل الله في قصة عمر رضي الله عنـه وفي الأربعين رجلا الذين وقعوا في الوط هذه الآية { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } البقرة 187 إلى قوله { وابتغوا ما كتب الله لكم } البقرة 187 وقال الله تعالى في قصة صرمة بن قيس { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } البقرة 187 وهذه رحمة من الله تعالى لأمة محمد {صلى الله عليه وسلم}
وقيل إن الأنصاري فرض عليهم صيام شـهر رمضان في الإنجيل فكانوا يصومون شـهرا فمرض ملك من ملوكهم فجعل عليهم إن أفاق أن يزيدوا فيه عشرة أيام فبرأ فزادوا فيه عشرة أيام فكانوا يصومون أربعين يوما فهلك ذلك الملك وجاء ملك آخر فأكل لحما فأوجع فاه فاشتكى فجعل عليه إن برئ يزيد في سبعة أيام فبرأ فزادوا فيه ثم إنـه هلك وجاء بعده ملك آخر فقالوا اجعلوه في حين لا حر ولا قر فحجبهم الله تعالى عن فضل الشـهر العظيم للإله الكريم الحكيم وجعلهم من أصحاب الجحيم وجعل ثوابهم لأمة النبي الرؤوف الرحيم
352 الأعرابي المجتهد

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه جاءه رجل من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } خمس صلوات في اليوم والليلة { فقال هل علي غير هذا فقال لا إلا أن تطوع قال رسول الله وصيام شـهر رمضان قال هل علي غيره قال لا إلا أن تطوع وذكر له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الزكاة فقال له هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منـه
فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} } أفلح وإن صدق
353 ثواب الصيام
وروي عنـه {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه { فارغبوا رحمكم الله في هذا الثواب العظيم والملك الجسيم وصوموا واحتسبوا ثوابه عند الرب الرحيم فإنـه شـهر أنزل فيه القرآن من عند الملك الرحمن على النبي محمد عليه الصلاة والسلام
فارغبوا في فضله وسارعوا إلى القيام بحقه يا أولي العقول والألباب ولا تعملوا أعمال من خالف السنة والكتاب فما تدرون أترون غيره أم لا
354 فضل الصلاة على النبي
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخبرني جبريل عليه السلام قال يا محمد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فلم يغفر الله له فدخل النار أبعده الله
فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} آمين ثم قال جبريل عليه السلام من أدرك والديه أو أحدهما فلم يغفر له فيه فدخل النار أبعده الله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} آمين ثم قال جبريل يا محمد من أدرك شـهر رمضان فمات فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قلت آمين
فالله إياكم والموت أن يفاجأكم وقد حيل بينكم وبين صيام غيره وقد فاز العاملون وخسر المبطلون
355 صيام الدهر
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله { وفقنا الله وإياكم لأعمال البر برحمته

قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } البقرة 183 سماهم باسمـه ورسمـهم برسمـه وشرفهم حين عرفهم فقال { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } سهل عليكم بذلك وارد الخطاب
فلما أراد الله جل جلاله أن يكفلهم الصيام الشاق عليهم بدأ الله بأخص أسماء المؤمنين وأجل صفات العارفين وأعلا مقام المحبين فقال { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } ثم زاد بيانا فقال { أياما } ثم زاد بيانا فقال { معدودات } ثم زاد بيانا فقال { شـهر } ثم بين أي شـهر فقال { شـهر رمضان } ثم بين ورقق ويسر فقال { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } البقرة 187 ثم بين تمامـه فقال { ثم أتموا الصيام إلى الليل } فكأنـه سبحانـه قال كتب عليكم الصيام أياما في السنة ووعدتكم عليها المقام في الجنة كتب عليكم الصيام شـهرا ووعدتكم الثواب دهرا
كتب الله الصيام على عبيده وكتب الرحمة على نفسه كتب الصيام أياما معدودات وكتب لكم على نفسه الحصول في الدرجات كتب عليكم أن تصوموا شـهرا وكتب لكم بالحسنة عشرا
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صام رمضان في إنصات وسكوت وكف سمعه وبصره ولسانـه ويده وجوارحه عن الحرام والكذب والغيبة والأذى اقترب من الله تعالى يوم القيامة حتى تمس ركبته ركبة إبراهيم الخليل ولم يكن بينـه وبين العرش إلا فرسخ أو ميل { شك عطاء بن يسار في هذا الحديث
وروي عنـه {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لو أذن الله عز وجل للسماوات والأرض أن تتكلما لشـهدتا لمن صام رمضان بالجنة { الإشارة في قوله تعالى { أياما معدودات } البقرة 184 كأنـه سبحانـه يقول فريضتي عليكم معدودة وعطيتي لكم غير محدودة عبادتكم لي بارة ونعمتي عليكم بارة طاعتكم من الحين إلى الحين وثابت لكم أبد الآبدين صيامكم لي من العام إلى العام وإباحتي لكم من الجنة أحسن المقام

اعلموا عباد الله أن مولاكم جل جلاله حياكم بشـهر الصيام وشرفكم بملة الإسلام وجعلكم من خير أمة أخرجت للأنام بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام
فلا تدنسوا شـهركم بالإفك والزور وأطيعوا مولاكم الكريم الغفور تفوزوا في الجنان بالولدان والحور
الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون { البقرة 183 سماهم باسمـه ورسمـهم برسمـه وشرفهم حين عرفهم فقال { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } سهل عليكم بذلك وارد الخطاب
فلما أراد الله جل جلاله أن يكفلهم الصيام الشاق عليهم بدأ الله بأخص أسماء المؤمنين وأجل صفات العارفين وأعلا مقام المحبين فقال { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } ثم زاد بيانا فقال { أياما } ثم زاد بيانا فقال { معدودات } ثم زاد بيانا فقال { شـهر } ثم بين أي شـهر فقال { شـهر رمضان } ثم بين ورقق ويسر فقال { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } البقرة 187 ثم بين تمامـه فقال { ثم أتموا الصيام إلى الليل } فكأنـه سبحانـه قال كتب عليكم الصيام أياما في السنة ووعدتكم عليها المقام في الجنة كتب عليكم الصيام شـهرا ووعدتكم الثواب دهرا
كتب الله الصيام على عبيده وكتب الرحمة على نفسه كتب الصيام أياما معدودات وكتب لكم على نفسه الحصول في الدرجات كتب عليكم أن تصوموا شـهرا وكتب لكم بالحسنة عشرا
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صام رمضان في إنصات وسكوت وكف سمعه وبصره ولسانـه ويده وجوارحه عن الحرام والكذب والغيبة والأذى اقترب من الله تعالى يوم القيامة حتى تمس ركبته ركبة إبراهيم الخليل ولم يكن بينـه وبين العرش إلا فرسخ أو ميل { شك عطاء بن يسار في هذا الحديث

وروي عنـه {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لو أذن الله عز وجل للسماوات والأرض أن تتكلما لشـهدتا لمن صام رمضان بالجنة { الإشارة في قوله تعالى { أياما معدودات } البقرة 184 كأنـه سبحانـه يقول فريضتي عليكم معدودة وعطيتي لكم غير محدودة عبادتكم لي بارة ونعمتي عليكم بارة طاعتكم من الحين إلى الحين وثابت لكم أبد الآبدين صيامكم لي من العام إلى العام وإباحتي لكم من الجنة أحسن المقام
اعلموا عباد الله أن مولاكم جل جلاله حياكم بشـهر الصيام وشرفكم بملة الإسلام وجعلكم من خير أمة أخرجت للأنام بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام
فلا تدنسوا شـهركم بالإفك والزور وأطيعوا مولاكم الكريم الغفور تفوزوا في الجنان بالولدان والحور
356 التوبة في رمضان
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن الله تعالى قد وكل بـه ملائكة لا يغلقونـه ما دام الصائمون يصومون
357 أحاديث عدة في فضل رمضان
وروي عنـه {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } للجنة باب يقال له باب الريان يدخل منـه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منـه أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيقومون فإذا دخلوا غلق فلم يدخل منـه أحد {
وروي عن أبي هريرة أنـه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } إذا دخل شـهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين ونادى مناد يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر {
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن لله ملكا رأسه تحت العرش عرش رب العالمين ورجلاه في تخوم الأرضين له جناحان أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب أحدهما من ياقوتة حمراء والآخر من زبرجدة خضراء ينادي كل ليلة من شـهر رمضان هل من تائب فيتاب عليه هل من مستغفر فيغفر له هل من طالب حاجة فيسعف بحاجته
يا طالب الخير أبشر ويا طالب الشر أقصر وأبصر {

فأين أنتم يا إخواننا من هذا النعيم المقيم وهذا الثواب العظيم من عند الإله الكريم ثم اجتهدوا في هذا الشـهر تسعدوا في باقي الدهر واجتهدوا في هذه الأيام القليلة تفوزوا بالنعم الجزيلة والراحة الدائمة الطويلة
اجتهدوا في شـهر رمضان تفوزوا بجنات الرضوان مع الحور الحسان
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } أتاكم شـهر رمضان شـهر خير وبركة يغشيكم الله فيه بالرحمة ويغفر فيه الخطايا ويستجيب فيه الدعاء وينظر فيه إلى تنافسكم
ويناهى بكم الملائكة فأدوا فيه أنفسكم خيرا فإن الشقي كل الشقي من حرم فيه رحمة الله تعالى { فالله الله عباد الله إياكم والحرمان وابلتمادي في العصيان ولا ترضوا في أديانكم بالنقصان في الشـهر الفاضل شـهر رمضان
358 عظيم فضل رمضان

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لو يعلم الناس مالهم في شـهر رمضان لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان فقالوا يا رسول الله حدثنا بـه فقال } إن الجنة لتزين من الحول إلى الحول ل شـهر رمضان فإذا كانت أول ليلة من رمضان هبت ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة فتصفق ورق الجنان وخلق المصارح فيسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منـه فتتزين الحور العين ثم يقفن بين شرف الجنة فينادين هل من خاطب لنا إلى الله فيزوجه ثم يقلن يا رضوان ما هذه الليلة فيجيبهن بالتلبية يا خيرات حسان هذه أول ليلة من شـهر رمضان فتفتحت أبواب الجنان للصائمين والقائمين من أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} ويقول الله تعالى يا رضوان افتح أبواب الجنان للصائمين والقائمين من أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} ولا تغلقها حتى ينقضي شـهرهم هذا فإذا كان اليوم الثاني أوحى الله تعالى إلى مالك خازن النار يا مالك أغلق أبواب النيران عن الصائمين والقائمين من أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ولا تفتحها حتى ينقضي شـهرهم هذا فإذا كان في اليوم الثالث أمر الله جبريل عليه السلام أن أهبط إلى الأرض فصفد مردة الشياطين وعتاة الجن وغلهم في الأغلال ثم اقذف بهم في لجج البحار كي لا يفسدو على أمة محمد حبيبي صيامـهم فإذا غلقت في شـهركم أبواب النيران وفتحت أبواب الجنان وصفد فيه الملعون الشيطان فأولى أن لا يسكنكم مولاكم دار العقوبة والهوان وأن يمنحكم بمنـه وفضله دار الخلود والرضوان كما فضلنا بشـهر التجاوز والغفران وهو الكريم المتفضل المنان
359 الصيام والقرآن شفيعان
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام رب عبدك منعته الطعام وال والشـهوات بالنـهار شفعني فيه ويقول القرآن رب عبدك منعته النوم بالليل وتلاني وحرم النوم من أجلي فشفعني فيه فيشفعان {
ويا أخي إذا كان شـهر رمضان في القيامة شفيعا فكن لمولاك فيه عبدا سامعا مطيعا وليكن قلبك عن معصيته رفيعا
360 الصيام باب العبادة

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لكل شيء باب وباب العبادة الصيام { وإذا كان الصيام لعبادة الرحمن بابا فأولى أن يكون بينكم وبين النار حجابا
أين من يدل على طريق السعادة عسى أصل بعد النقصان إلى الزيادة وألزم نفسي الاجتهاد في العبادة
وأنشدوا
} ألا خيرا لمقترح النواح
أطير إليه منشور الجناح
} فأسأله وألطفه عساه سيسلي ما بقلبي من جراح {
} ويجلو ما دجا من ليل جهلي بنور هدى كمنسلخ الصباح {
} سأصرف همتي بالكل عما
نـهاني الله من أمر المزاح {
} إلى شـهر الخضوع مع الخشوع إلى شـهر العفاف مع الصلاح {
} يجازي الصائمون إذا استقاموا بدار الخلد والحور الملاح {
} وبالغفران من رب عظيم
وبالملك الكبير بلا براح {
} فيا أحبابنا اجتهدوا وجدوا لهذا الشـهر من قبل الرواح {
} عسى الرحمن أن يمحو ذنوبي ويغفر زلتي قبل افتضاحي
361 فضل السحور
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } تسحروا فإن الله يحب المتسحرين والملائكة تصلي على المتسحرين وتستغفر لهم {
وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور {
ذكر في بعض الأخبار أن العبد المؤمن إذا قام في رمضان إلى السحور فتوضأ وصلى ركعتين جعل الله تعالى خلفه سبع صفوف من الملائكة فإذا فرغ ودعا آمنوا على دعائه ويكتب الله تعالى له بعددهم حسنات ويرفع له في الجنة بعددهم درجات ويمحو عنـه بعددهم سيئات ثم لا يزالون يدعون ويستغفرون له إلى يوم القيامة
فالله الله اغتنموا في هذا الشـهر المكرم هذا الثواب المعظم ولا تقطعوا
نـهاره بالغيبة وقبح الكلام وتغفلوا في ليله عن طول القيام وتفطروا فيه على السحت والحرام
وتصوموا بجارحة واحدة وتهملوا سائر جوارحكم في المعاصي والآثام فاتقوا الله إن الله عزيز ذو انتقام
وأنشدوا
أتعصي بعد شيب الراس جهلا
كما قد كنت تعصيه غلاما
أراك من التهاون لا تبالي
ولا ترعي الصلاة ولا الصياما
وتفرح بالفطور ولا تبالي
حلالا كان كسبك أم حراما

عباد الله اغتنموا بركة هذا الشـهر العظيم المخصوص بالتفضيل والتكريم الذي بلغنا الله إليه في صحة من الأجسام وسلامة من عوارض الأسقام فالواجب على من عرف قدر هذه النعمة التي سوغها وفضل هذه الأيام التي بلغها أن يحفظها من التخليط والالتباس وأن يكف أذاه عن جميع الناس وأن يحذر لغو الكلام ولا يبطل فضل الصيام عند الملك العلام
362 شدة العقوبة في رمضان
وفي الحديث عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من سرق في رمضان أو زنا أو غصب أو انتهك حراما أو شرب خمرا أو تعدى ظلما لم يتقبل الله منـه صرفا ولا عدلا ولعنـه هو وملائكته إلى مثله من الحول
فكل من يؤذي في رمضان ويظلم على مثل ما يقدم ويندم حيث لا ينفعه الندم
فكم من صائم عن الطعام مفطر بالكلام دائب على القيام مؤذ للأنام فهو من لسانـه وفعله موزور وعلى صيامـه وقيامـه غير مأجور
أين من زاغ عن الهدى ودال على سبيل الردى بل أين من رانت الذنوب على قلبه ولم يبادر بالتوبة من ذنبه ولم يخف من عذاب ربه ويحك يا مسكين اغتنم شـهر رمضان المتضمن بالرحمة والغفران وانظر لنفسك يا مسكين قبل أن تصل إلى حلقك السكين وانتبه من نومك يا مغرور فإن ربك كريم غفور
إلى أي وقت تعانق حوبتك
ولأي يوم تؤخر توبتك إلى حول حائل أو إلى عام قابل كلا والله ما إليك الأقدار ولا بيدك المقدار لعلك إذا انقضى عنك شـهر الصوم لم يبق من عمرك إلا يوم يا هذا إذا أنت صمت فلتصم جوارحك كلها بطنك من الحرام ولسانك من قبح الكلام وبصرك ويدك وسمعك من الإجرام واكتساب الآثام
363 كف الجوارح عن الشرور

عباد الله ينبغي لمن أصبح صائما أن يقول للسانـه إنك اليوم صائم من الكذب والنميمة وقول الزور والباطل والغيبة ولعينيه إنكما اليوم صائمتان عن النظر إلى ما لا يحل لكما وللأذنين إنكما اليوم صائمتان من الاستماع إلى ما يكره ربكما ولليدين إنكما اليوم صائمتان من البطش فيما حرم عليكما من الغش في البيع والشراء والأخذ والعطاء وللبطن إنك اليوم صائمة عن المطعم فانظري على ماذا تفطري وتجنبي المطعم الخبيث الذي تدعين إليه فإن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب وللقدمين إنكما اليوم صائمتان من السعي إلى ما يكتب عليكما وزره ويبقى قبلكما تباعته وإثمـه
ومن وقف لهذا وصبر عليه فقد أوفى بعهد نبيه {صلى الله عليه وسلم}
ومخاطبة ابن آدم لجوارحه بما تقدم وصفه يجب على العبد استعماله أيام صومـه وغيرها ما دام حيا وهكذا كلما أصبح صباح أو أقبل مساء وفقنا الله وإياكم لاستعمال ذلك وأمثاله بتوبة صادقة مخلصة عاجلة بكرمـه
فالله الله عباد الله امتثلوا في هذا الشـهر المكرم وفي غيره لأوامر الله تعالى وانتهوا عن نواهيه
364 أصل رمضان في اللغة
قال الله تعالى { شـهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } البقرة 185 فما جعله هدى فلا يكون ضلالة وما جعله بيانا فلا يكون جهالة وما ضعف فيه الأجر فلا تجعلوه بطالة
شـهر رمضان قيل سمي شـهر رمضان لشدة الحر فيه وقيل أخذ من حرارة الحجارة لما يأخذ القلوب من حرارة الموعظة والفكرة والاعتبار بأمر الآخرة
قال الخليل الرمضاء الحجارة الحارة ورمض الإنسان إذا مشى على الرمضاء فسمي رمضان بذلك لأنـه يرمض الذنوب أي يحرقها وقيل سمي بذلك لأنـه شـهر يغسل الأبدان غسلا ويطهر القلوب تطهيرا
وهو مأخوذ من الرمض وهو مطر يأتي قبل الخريف
وقيل رمض ورفض بمعنى واحد وهو من الحروف المتعاقبة يرفض قوما إلى محل القربة والزلفى ويرفض آخرين إلى محل البعد والسخطة
وقيل سمي شـهرا لشـهرته

وهو شـهر الإيقان وشـهر القرآن وشـهر الإحسان وشـهر الرضوان وشـهر الغفران وشـهر إغاثة اللهفان وشـهر التوسعة على الضيفان
وشـهر تفتح فيه أبواب الجنان ويصفد فيه كل شيطان وهو شـهر الأمان والضمان
شـهر يخفف فيه عن المملوك
تزهر فيه القناديل وينزل فيه بالرحمة جبريل ويتلى فيه التنزيل ويسمح فيه للمسافر والعليل شـهر رمضان للعباد مثل الحرم في أم البلاد الحرم يمنع منـه الدجال اللعين ورمضان يصفد فيه مردة الشياطين
شـهر رمضان في الدنيا مثل الجنان في العقبى سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود ومكله خلود متصل ليس يبيد وفي رمضان بذل المجهود ورضى طلب المعبود وحفظ الحدود وإظهار الكرم والجود
أقبل الصوم يا مسكين وكلنا مساكين وأنت عاكف على ما يسخط الجبار مصر على الآثام والأوزار عامل بأعمال أهل النار متشبه بالنساك والأخيار وأنت في جملة الفساق والفجار وقد أطلع على سرك وضميرك عالم الضمائر والأسرار
وشـهر الصوم شاهد عليك والملائكة تلعنك والله لا ينظر إليك وهو جل جلاله بإعراضك عن الطاعة معرض عنك غاضب عليك فلا تجعل أيها الصائم شـهرك هذا كسائر الشـهور
والله سبحانـه ينظر من عبده إذا لم ير أثرا لشـهر رمضان من ملكه لجوارحه يقول جل جلاله هذا عبدي لا يعرف لشـهري هذا فضلا وأنا لا أعلم الآن له عندي فضلا
365 عظة بليغة
افق يا ذا الغي والمحال واستيقظ يا ذا السهو والإغفال وانتبه من السكرات الطوال

أترضى يا مسكين أن يرد صومك في وجهك من غير قبول من الله أتستحسن أن تكون جائعا عطشان وليس لك جاه عند الله أين النية المجردة أين التوبة المجددة أين الندامة المؤكدة أين الحلال من الطعام أين اجتناب الطعمة الحرام أين حجر الأوزار والآثام أين الرحمة لذوي الفقر والضعفاء والأيتام أين الإخلاص للملك العلام أين التزام شريعة الإسلام أين الأسوة بالنبي عليه الصلاة والسلام انظر يا مسكين إذا قطعت نـهارك بالعطش والجوع وأحييت ليلك بطول السجود الركوع إنك فيما تظن صائم وأنت في جهالتك جازم وفي صلاتك دائم وفي بحار سكراتك هائم
أين أنت من التواضع والخشوع أين أنت من الذلة لمولاك والخضوع أتحسب أنك عند الله من أهل الصيام والأمان الفائزين في شـهر رمضان كلا والله حتى تخلص النية وتجردها وتطهر الطوية وتجودها
وتجتنب الأعمال الدنية ولا تردها وتكثر البكاء والحسرة وتسيل الدموع والعبرة وتلزم الفكرة والعبرة وتسأل مولاك إقالة العثرة فحينئذ يكون صيامك لك من الذنوب شفاء ومن العيوب سترة وجلبابا
أين الصائمون أين القائمون أين الطائعون أين العاملون أين السابقون أين الخاشعون أين الذاكرون أين القانتون أين الصادقون أين الصابرون أين المتصدقون أين الآمرون بالمعروف أين المغيثون الملهوف أين التهاون عن المنكر أين المستشعرون للفكر أين السامعون للعبر بادوا والله مع الصالحين وانقلبوا مع المؤمنين ونزلوا مع النبيين وسكنوا مع الصديقين وبقينا والله مع الجاهلين وسكنا مع الفاسقين وتأسينا بالغافلين واصطلحنا على معصية رب بالعالمين
فصيامك يا مسكين في وجهك مردود وأنت عن رشدك مغيب مفقود وعن صلاحك ونجاحك غير موجود وأنت عن باب مولاك مبعد مطرود وأعمالك بالفسق موصولة وجوارك للعصيان مبذولة وألفاظك في الغيبة مجعولة وعزيمتك للطاعة محلولة وعبادتك في هذا الشـهر غير مقبولة وفرائض مولاك بالمعاصي مـهمولة
وأنشدوا
الصوم جنة أقوام من النار

والصوم حصن لمن يخشى من النار
والصوم ستر لأهل الخير كلهم
الخائفين من الأوزار والعار
والشـهر شـهر آله العرش من به
رب رحيم لثقل الوزر ستار
فصام فيه رجال يربحون به
ثوابهم من عظيم الشأن غفار
فأصبحوا في جنان الخلد قد نزلوا
من بين حور وأشجار وأنـهار
فهنيئا لمن أطاع الملك الرحمن في شـهر الرحمة شـهر رمضان لقد فاز بالحور والولدان في دار السلام والرضوان
صبروا الأيام القليلة فأعقبهم الراحة الطويلة والنعمة الجزيلة كلما تعودت من الخير وما تعمل في هذا الشـهر جوزيت إلى آخر العمر فإن الخير عادة والشر لجاجة
أين أنت يا صائم يا قائم اقبل على الخير تفوز بسرور دائم
تاجر مولاك فإنك تربح وعامله فإنك تفلح واعتذر إليه فإنـه يقبل عذرك واستغفره فإنـه يغفر ذنبك وارغب إليه فإنـه يكشف كربك واسأله من فضله فإنـه يوسع رزقك وتب إليه فإنـه يعظم حظك يا أخي هذا شـهر تستر فيه القبائح والعيوب وتلين فيه النفوس والقلوب وتغفر فيه الأوزار
والذنوب وينفس الله عن الحزين المكروب يقول المولى جل جلاله لملائكته يا ملائكتي انظروا إلى الألسن اليابسة كيف تبتل بذكري انظروا إلى الأحداق الصلبة كيف تدمع من خوفي انظروا إلى الأقدام المنعمة تنصب في المحاريب ابتغاء وجهي يا أخي متى أطعمت في هذا الشـهر لله رب الأرض والسموات رفعت إلى الدرجات العالية في قرار الجنات وحصلت مع مولاك مكسيا من الحسنات عريانا من السيئات
366 تقسيم الصوم والصائمين
والصوم ثلاثة صوم الروح وهو قصر الأمل وصوم العقل وهو مخالفة الهوى
وصوم الجوارح وهو الإمساك عن الطعام وال والجماع

يا أخي من صام عن الطعام وال فصومـه عادة ومن صام عن الربا والحرام وأفطر على الحلال من الطعام فصومـه عدة وعبادة ومن صام عن الذنوب والعصيان وأفطر على طاعة الرحمن فهو صائم رضي ومن صام عن القبائح وأفطر على التوبة لعلام الغيوب فهو صائم تقي ومن صام عن الغيبة والبهتان وأفطر على تلاوة القرآن فهو صائم رشيد ومن صام عن المنكر والإغيار وأفطر على الفكرة والاعتبار فهو صائم سعيد ومن صام عن الرياء والانتقاص وأفطر على التواضع والإخلاص فهو صائم سالم ومن صام على خلاف النفس والهوى وأفطر على الشكر والرضا فهو صائم غانم ومن صام عن قبيح أفعاله وأفطر على تقصير آماله فهو صائم مشاهد ومن صام عن طول أمله وأفطر على تقريب أجله فهو صائم زاهد
قال الله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } البقرة 184 يا أخي هذه رحمة مولاك رضي أن ينقص من حقه لئلا ينقص من نفسك وهذه غاية اللطف من مولاك
رخص لك أن تفطر الأيام الطوال بالعذر ورخص لك أن تفطر متتابعا وتقضي إن شئت متفرقا ليسهل عليك وتصوم الأيام القصار عوضا عن الأيام الطوال وهذا الرفق
367 تمثيل الشـهور كأخوة يوسف
قبل الشـهور الإثني عشر كمثل أولاد يعقوب عليه وعليهم السلام
وشـهر رمضان بين الشـهور كيوسف بين إخوته فكما أن يوسف أحب الأولاد إلى يعقوب كذلك رمضان أحب الشـهور إلى علام الغيوب
368 نكت في ذلك
نكتة حسنة لأمة محمد {صلى الله عليه وسلم} إن كان في يوسف من الحلم والعفو ما غمر جفاهم حين قال { لا تثريب عليكم اليوم } يوسف 92 فذلك شـهر رمضان فيه من الرأفة والبركات والنعمة والخيرات والعتق من النار والغفران من الملك القهار ما يغلب جميع الشـهور وما اكتسبنا فيه من الآثام والأوزار
نكتة حسنة الإشارة فيه جاء إخوة يوسف معتمدين عليه في سد الخلل وإزاحة العلل بعد أن كانوا أصحاب الخطايا وزلل

فأحسن لهم الإنزال وأصلح لهم الأحوال وبلغهم غاية الآمال وأطم في الجوع وأذن لهم في الرجوع وقال لفتيانـه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونـها فسد الواحد خلل أحد عشر
كذلك شـهر رمضان واحد والشـهور أحد عشر وفي أعمالنا خلل وأي خلل وتقصير وأي تقصير وتفريط في طاعة العليم الخبير
ونحن نرجو أن نتلافى في شـهر رمضان ما فرطنا فيه في سائر الشـهور ونصلح فيه فاسد الأمور ويختمـه علينا بالفرح والسرور ونعتصم فيه بحبل الملك الغفور
إن شاء الله تعالى بمنـه وإحسانـه وعفوه وغفرانـه إنـه سميع بصير وهو نعم أولى ونعم النصير
369 أولاد يعقوب ورمضان
وإشارة أخرى كان ليعقوب أحد عشرا ولدا ذكورا وبين يديه حاضرين ينظر إليهم ويراهم ويطلع على أحوالهم وما يبدوا من أفعالهم ولم يرتد بصره بشيء من ثيابهم وارتد بقميص يوسف بصيرا وصار بصره منيرا وصار قويا بعد الضعف بصيرا بعد العمى فكذلك المذنب العاصي إذا شم روائح رمضان وجلس فيه مع المذكرين وقرأ القرآن وصحبهم بشرط الإسلام والإيمان وترك الغيبة وقول البهتان يصير إن شاء الله مغفورا له بعد ما كان عاصيا وقريبا بعد ما كان قاصيا ينظر بقلبه بعد العمى ويسعد بقربه بعد الشقا ويقابل بالرحمة بعد السخط ويرزق بلا مؤونة ولا تعب ويوفق طول حياته ويرفق بقبض روحه عند الوفاة ويفضل بالمغفرة عند اللقاء ويحظى في الجنان بدرجات الالتقاء
فالله الله اغتنموا هذه الفضيلة في هذه الأيام القليلة تعقبكم النعمة الجزيلة والدرجة الجليلة والراحة الطويلة إن شاء الله
هذه والله الراحة الوافرة
والمنزلة السائرة والحالة الرضية والجنة السرية والنعمة الهنية والعيشة الرضية لا تنال إلا بالوقار لهذا الشـهر الذي عظمـه الجبار وفضل بـه محمد المختار ومن لا يوقره كان مصيره إلى النار
370 رمضان في القيامة

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال بمنى } إذا كان يوم القيامة بينما أنا واقف عند الميزان فيؤتى بشاب من أمتي والملائكة يضربونـه وجها ودبرا فيتعلق بي ويقول يا محمد المستغاث المستغاث بك فأقول يا ملائكة ربي ما ذنبه فيقولون أدرك شـهر رمضان فعصى الله فيه ولم يتب فأخذه الله فجأة فأقول هل قرأت القرآن فيقول تعلمته ونسيته فأقول بئس الشاب أنت فلا هو يتركني ولا الملائكة يتركونـه ثم أشفع له من الله تعالى فأقول إلهي شاب من أمتي فيقول الله تعالى إن له خصما قويا يا أحمد فأقول ومن خصمـه يا رب حتى أرضيه فيقول الله تعالى خصمـه شـهر رمضان فأقول أنا بريء ممن خصمـه شـهر رمضان
ومن يشفع لمن لم يعرف حرمة رمضان فيقول الله تعالى وأنا بريء ممن أنت بريء منـه فينطلق بـه إلى النار فالله الله عباد الله لا تهونوا شـهرا أعظم الله حرمته وأوجب حقه وقد فضلكم بـه عن سائر الأمم وهو هدية من الله تعالى إليكم وكرامة تفضل بها عليكم ليغفر لكم ذنوبكم ويستر عن النار عيوبكم ويغشيكم منـه الرحمة ويرفع عنكم فيه النقمة
ويفضلكم بجزيل النعمة ويشرح صدوركم بنور الحكمة
371 خسران العاصي في رمضان
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال 0 سمعت جبريل يقول سمعت الله عز وجل يقول يؤتى بشاب يوم القيامة باكيا حزينا والملائكة تسوقه بمقامع من حديد ومن نار وهو يقول الأمان الأمان ألف سنة ولا أمان له ثم يساق فيوقف بين يدي الله تعالى فيأمر الله ملائكة العذاب أن تسحبه على وجهه إلى النار قلت يا جبريل من هو قال شاب من أمتك قلت وما ذنبه قال أدرك شـهر رمضان فعصى الله فيه ولم يستغفر الله ولم يتب إليه كي يغفر الله فأخذه الله بغتة فالله الله عباد الله اسمعوا بآذانكم وتدبروا بقلوبكم فلعل الله يبلغكم مرغوبكم ويغفر العظيم من ذنوبكم
هذا شـهر كريم وثوابه كريم والموقر له عند الله كريم يكرمـه الله بجنات النعيم والمستخف بحقه عند الله لئيم مأواه في قرار الجحيم مع الشيطان الرجيم

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } يؤتى يوم القيامة بشـهر رمضان والناس في الموقف فيقولون من هذا نبي أم رسول أم ملك ما رأينا مثل هذا ولا مثل جماله وحسنـه فيقوم بين يدي الجبار جل جلاله فيقول من كان له قبلي حق فليقم فيقولون من أنت فيقول أنا رمضان قال النبي {صلى الله عليه وسلم} فتقوم أمتي إليه وبيده قضبان من نور تضيء ما بين المشرق والمغرب فمنـهم من يعطي قضيبا يضيء له مسيرة شـهر وآخر يضيء له مسيرة جمعة وآخر مسيرة يوم وآخر مسيرة ساعة وآخر موضع قدميه فمن شاء فليوقره ومن لا يوقره فيسام عذابا يصيبه عند الأنوار من الحسرة والندامة فيا معشر أهل رمضان وقروا شـهرا تنعموا فيه دهرا ووقروا الخطر اليسير تجاوزا بالملك الكبير ووقروا الأيام القلائل تصيروا إلى الكرامة والفضائل وقروا اليسير من الأيام تنظرون إلى وجه ذي الجلال والإكرام
372 موعظة للحسن البصري
روي أن الحسن البصري مر بقوم يضحكون فوقف عليهم وقال إن الله تعالى قد جعل شـهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته فسبق أقوام ففازوا وتخلف أقوام فخابوا فالعجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه الباطلون أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانـه والمسيء بإساءته
فالله الله عباد الله اجتهدوا أن تكونوا من السابقين ولا تكونوا من الخائبين في شـهر شرفه رب العالمين
فالله الله اصرفوا ضيفكم رمضان بالكرامة واحرصوا فيه على طلب طريق الاستقامة إلى أن يقضي بكم إلى دار الكرامة والخلد والمقامة وسرمد العز والكرامة وينجيكم من هول يوم الطامة
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } أحب الصلاة إلى الله عز وجل صلاة داود عليه
الصلاة والسلام وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود عليه السلام كان ينام من الليل نصفه ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما
373 الصيام باب العبادة
روي عن كعب الأحبار رضي الله عنـه أنـه قال ليس في العبادات أفضل من الصيام لأنـه باب العبادة

وقد جعل الله تبارك وتعالى هذا الشـهر العظيم كفارة للذنب وليس في الذنوب إلا عظيم لأننا إنما نعصي بها الرب العظيم
وقد قالوا لا تنظر إلى صغير ذنبك ولكن انظر من عصيت تاب الله علينا حتى لا نعصيه
فالله الله عباد الله غضوا أبصاركم في هذا الشـهر العظيم وفي غيره عن النظر إلى المحظورات واحبسوا ألسنتكم عن أخذ أعراض المسلمين والمسلمات وأكثروا فيه من الصدقة على أهل المسكنة من ذوي الحاجات وقوموا في لياليكم فيه بكثرة الصلوات واسكبوا من أعينكم واكف العبرات وتضرعوا إلى الله في إقالة العثرات
عساه يبدل سيئاتكم بالحسنات
فإن قيل ما الحكمة في فرض شـهر رمضان ففيه أقوال أحدها أن الله تعالى أمرنا أن نصوم فيه ونجوع لأن الجوع ملاك السلامة في باب الأديان والأبدان عند الأطباء والحكماء
وقيل ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنـه والحكمة ملك لا يسكن إلا في بيت خال
374 فضل الجوع
روي عن يحيى بن معاذ رضي الله عنـه أنـه قال من شبع من الطعام عجز عن القيام ومن عجز عن القيام افتضح بين الخدام وإذا امتلأت المعدة رقدت الأعضاء عن الطاعات وقعدت الجوارح عن العبادات
وأنشدوا
تجوع فإن الجوع يورث أهله
عواقب خير ا الدهر دائم
ولا تك ذا بطن رغيب وشـهوة
فتصبح في الدنيا وقلبك هائم
وروي عن ذي النون المصري رحمـه الله تعالى عليه أنـه قال تجوع بالنـهار وقم بالأسحار تر عجبا من الملك الجبار
وروي عن يحيى بن معاذ رضي الله عنـه أنـه قال لو كان الجوع يباع في
السوق لكان المريد محقوقا إذا دخل السوق أن لا يشتري شيئا غيره والله تعالى قد فضلكم بدين الإسلام ومن عليكم بشـهر الصيام والله أعلم
وأنشدوا
وربك لو أبصرت يوما تتابعت
عزائمـهم حتى لقد بلغوا الجهدا
لأبصرتم قد حاربوا النوم وارتدوا
بأردية السهاد واستعملوا الكدا
وصاموا نـهارا دائما ثم أفطروا
على بلغ الأقوات واستقربوا البعدا
أولئك قوم حسن الله فعلهم
وأورثهم من حسن فعلهم الخلدا

قيل أمرهم المولى جل جلاله بالصيام لأنـه ليس على أهل النار شيء أشد من الجوع وذلك أن الله تعالى يلقي عليهم حتى ينسوا كل العذاب من شدة الجوع
فيستطعمون مالك خازن النار فيأتيهم بطعام الغصة كما قال الله تعالى { إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما } المزمل 12 فيعبر في حلوقهم فيقولون إنا كنا نبتلع الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون المـهل كما قال تعالى { وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمـهل } الكهف 29 الآية
فأمر الله تعالى أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} بصيام هذا الشـهر ليصرف عنـهم ذلك الجوع وكذلك أمر الله تعالى بصيامـه سائر الأمم فآمنت بـه هذه الأمة وكفرت بـه سائر الأمم وهذا من لطف الله تعالى على أمة محمد {صلى الله عليه وسلم}
وأنشدوا
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه
ولم يعص قلبا غاويا حيث يمما
قضى وطرا منـه يسيرا وأصبحت
إذا ذكرت أمثاله تملأ الفما
وقيل فرض عليهم صيام شـهر رمضان لأن الزهد زهدان زهد في الحلال وزهد في الحرام وأشرفها الزهد في الحلال فأمرهم الله تعالى بصوم هذا الشـهر حتى يعطيهم ثواب زهد الحلال والحرام
وقيل أراد الله تعالى بذلك انتباه الأغنياء ليعلموا حال الفقراء فيصوموا معهم وقيل حتى يذكروا بشدة الصوم شدة القيامة لأنـه ليس على أهل القيامة أشد من الجوع وليعلموا أنـه إذا كانت في طاعة الله تعالى شدة فإن الجوع في النار أعظم شدة
فالله الله عباد الله اجتهدوا في حفظ هذا الشـهر العظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين يوم يفوز فيه الصائم ويحشر فيه المتأني المتهاون الظالم إذا عرضت عليه الأوزار والجرائم وانتهاك المحذورات والمحارم
375 سبب فريضة الصيام
فإن قيل لم فرض رمضان ثلاثين يوما فالجواب أنـه قيل إن الوقوف على الصراط ثلاثين سنة فإذا صمت ثلاثين يوما أعانك الله في الموقف بالعافية والسلامة والسعادة والكرامة ثلاثين سنة
فالله الله جدوا واجتهدوا في هذا الشـهر بلا إفراط وخذوا لأنفسكم بالاحتياط واحذروا من المكث الطويل على الصراط

376 رمضان رسول من الله
قيل مثل هذا الشـهر كمثل رسول أرسله سلطان إلى قوم فإن أكرموا شأنـه وعظموا مكانـه وشرفوا منزلته وعرفوا فضيلته رجع الرسول إلى السلطات شاكرا لأفعالهم مادحا لأحوالهم راضيا لأعمالهم فيحبهم السلطان على ذلك فيحسن إليهم كل الإحسان
وإن استخفوا برعايته وهونوا لعنايته ولم ينزلوه منزلته من الإكرام وفعلوا بـه فعل اللئام فيرجع الرسول إلى السلطان وقد غضب عليهم من قبيح أفعالهم وسيء أعمالهم فيغضب السلطان لغضبه
كذلك يغضب الله سبحانـه وتعالى على من استخف بحرمة شـهر رمضان
فيا أيها الإنسان هذا شـهر رمضان شـهر التوبة والغفران وهو رسول من عند الملك الديان فمن أكرمـه منكم حقيقة الإكرام وحفظ فيه لسانـه من قبيح الكلام وبطنـه من أكل الربا والحرام وأموال الأرامل والأيتام غفر له الملك العلام وأدخله الجنة مع محمد عليه الصلاة والسلام
377 أحاديث في فضل الصيام
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ما من مؤمن يصبح صائما إلا فتحت له الجنة واستغفر له أهل السماء الدنيا حتى يتوارى بالحجاب فإن صلى ركعتين تطوعا أضاءت له السموات نورا وإن سبح وهلل تلقاه سبعون ألف ملك يكتبون تسبيحه إلى أن يتوارى بالحجاب {
فالله الله عباد الله يا أهل الذنوب يا أهل المعاصي والعيوب يا من عصى مولاه علام الغيوب اعملوا في بقية شـهركم ليوم وفاتكم وفقركم إذا وقفتم بين يدي ربكم
روى أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان يقول إذا دخل شـهر رمضان } إن الله فرض عليكم
شـهر رمضان وسننت لكم قيامـه فمن صامـه وأقامـه إيمانا واحتسابا خرج من الذنوب كيوم ولدته أمـه { وقال في حديث آخر ومن صامـه وأقامـه إيمانا واحتسابا وجبت له الجنة فالله الله ارغبوا فيما رغبكم فيه نبيكم وما عرفكم بـه من ثواب ربكم ورحمته عسى أن يغفر لكم ربكم ويتقبل منكم سعيكم

وروي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان يقول إذا دخل رمضان مرحبا بالمطهر قالوا يا رسول الله وما المطهر قال مطهر من الذنوب والخطايا اللهم اكتب لنا فيه براء من النار وشريعة من الإيمان
فالله الله تطهروا من ذنوبكم للحلول في جوار ربكم واحفظوا العهود في صيام شـهركم فأدوا زكاة فطركم
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال من صام رمضان ولم يؤد زكاة الفطر كان صيامـه معلقا بين السماء والأرض حتى يؤديها فالله الله عباد الله اتبعوا ما أمركم بـه النبي الرسول وأطيعوا ربا لا يحول ولا يزول ولا تغيره الأيام ولا الدهور لا إله إلا الله هو العزيز الغفور

14 مجلس في تحريم الخمر وما جاء فيها 378 قال عبد الملك بن حبيب رحمـه الله ذكر الله سبحانـه وتعالى الخمر في كتابه في ثلاث آيات فذمـها في الإثنتين وحرمـها في الثالثة
فالإثنتان الأولتان منسوختان والثالثة الناسخة وذلك أنـها كانت تشرب في أول الإسلام حتى نزل تحريمـها بالمدينة وبعد الهجرة فالناسخة قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } المائدة 90 فهذا تحريم وكذلك نـهى الله في كتابه كله تحريم في كل ما نـهى عنـه كما كل ما أمر بـه فرض مفترض ألا ترى أنـه قرن تحريم الخمر بالأنصاب وهي الأصنام التي كانت تعبد من دون الله وقد قال تعالى في آية أخرى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } الحج 30 فقد قرن في نـهيه بين الخمر والأصنام التي كانت تعبد من دون الله تعالى فلما نزل تحريمـها بعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مناد ينادي في المدينة ألا إن الله قد أنزل تحريم الخمر إن الله ورسوله يحرمان الخمر
فقال بعضهم وهم يشربونـها صه صه حين سمعوا المنادي
يقول اسكتوا حتى تسمعوا ما يقول هذا المنادي فلما تبينوا منـه قوله قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير

فكفوا عنـها وأهريقوا ما بقي عندهم منـها ثم ندموا على ما شربوا منـها وتخوفوا أن يكون الله عز وجل قد سخط عليهم فأنزل الله سبحانـه { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } المائدة 93
379 تحريم الخمر
اعلموا أن أول ما عاب الله تبارك وتعالى الخمر في سورة النحل في قوله سبحانـه { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منـه سكرا ورزقا حسنا }
النحل 67 قال الشيخ وهذا ظاهره تعداد النعمة وباطنـه تعيير وتقريع وتوبيخ يقول الله تعالى رزقتكم ثمرات النخيل والأعناب فاتخذتم منـه السكر وعدلتم عن الرزق الحسن
فالمفهوم من هذا القول أن الله تبارك اسمـه عرفكم بمنـه ون عليكم ووبخكم بتغييركم لن فكأنـه تبارك وتعالى قال { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منـه سكرا ورزقا حسنا } النحل 67 فالمعنى تتخذون من الرزق الحسن سكرا وبدلتم الطيب بالخبيث وهذه غاية الكفر بنعم الله تعالى أن تستعمل في معاصي الله تعالى فلما نزلت هذه الآية وقد أعاب الله تعالى في الخمر ثم امتنع ناس من شربها وبقي على شربها الأكثرون حتى هاجر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى المدينة
380 حمزة عم النبي والخمر
فخرج حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنـه وقد شرب الخمر حتى سكر منـها فلقيه رجل من الأنصار وبيده ناضح له والأنصاري يتمثل ببيتين من شعر لكعب بن مالك في مدح قومـه وذكر مفاخرهم وهما
جمعنا مع الإيواء نصرا وهجرة
فلم يرج حي مثلنا في المعاشر
} فأحياؤنا من خير أحياء من مضى
وأمواتنا من خير أهل المقابر
381 حمزة والأنصاري
فقال حمزة رضي الله عنـه أولئك المـهاجرون فقال الأنصاري بل نحن الأنصار فتنازعا فجرد حمزة سيفه وعدا على الأنصاري فلم يمكن الأنصاري أن يقوم بـه فانـهزم وترك ناضحه فقصد حمزة إلى الناضح فضربه بالسيف فقطعه ومضى الأنصاري مستعديا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره بخبر حمزة وفعاله بالناضح فأعطى النبي {صلى الله عليه وسلم} الأنصاري ناضحا

382 عمر بن الخطاب والخمر
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنـه أما ترى ما نلقى من أمر الخمر يا رسول الله إنـها مذهبة للعقل متلفة للمال فأنزل الله تعالى بالمدينة { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } البقرة 219 وقرئ كثير والمعنيان متقاربنا { ومنافع للناس } البقرة 219 وعلى هذا معارضة لقائل أن يقول أين
المنفعة وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها { فالجواب عن ذلك أنـهم كانوا يتبايعونـها من الشام بالثمن اليسير ويبيعونـها بالحجاز بالثمن الكثير وكانت المنافع التي فيها من الأرباح
وكذلك قال الله سبحانـه وتعالى { قل فيهما إثم كبير } البقرة 219 فانتهى عن شربها قوم وبقي قوم على شربها حتى دعا محمد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قوما فأطم وسقاهم الخمر حتى سكروا فلما حضر وقت الصلاة قدموا رجلا منـهم يصلي بهم
383 ابن أبي جعونة والخمر
وكان أكثرهم قرآنا رجل يقال له أبو بكر بن أبي جعونة وكان حليف الأنصار فقرأ فتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون فمن أجل سكره خلط فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وخلط أول السورة بخاتمتها حتى ختم السورة على ذلك فبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فشق عليه ذلك
فأنزل الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } النساء 43 فكانوا يشربونـها بعد صلاة العشاء الآخرة ثم ينامون ثم يقومون عند صلاة الفجر فيصحون منـها ثم يشربونـها بعد صلاة الصبح فيصحون منـها عند صلاة الظهر ثم لا يشربون بعد ذلك حتى يصلون العشاء الآخرة
384 سعد بن أبي وقاص والخمر

حتى دعا سعد بن أبي وقاص الزهري رجلا لوليمة عملها على رأس جزور فدعا أناسا من المـهاجرين فأكلوا وشربوا الخمر حتى سكروا منـها فافتخروا فعمد رجل من الأنصار إلى أحد لحيى الجزور فضرب بـه أنف سعد ففزه فجاء مستعديا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } المائدة 90 الآية فاختلف العلماء من أهل التفسير في موضع التحريم هل وقع في قوله تعالى { فهل أنتم منتهون } المائدة 91 أو في غير هذا الموضع
وقال قوم من المفسرين إن التحريم وقع في قوله تعالى { فاجتنبوه } المائدة 90 وقال الأكثرون منـهم بل وقع في قوله تعالى { فهل أنتم منتهون } المائدة 91 واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في سورة الفرقان في قوله تعالى } أتصبرون { الفرقان 2 والمعنى اصبروا وكذلك في الشعراء { قوم فرعون ألا يتقون }
الشعراء 11 والمعنى اتقوا
وكذلك في سورة يوسف {صلى الله عليه وسلم} وعلى نبينا محمد وسلم قوله { تزرعون سبع سنين دأبا } يوسف 47 والمعنى ازرعوا
وفي سورة الواقعة قوله { فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونـها } الواقعة 89 يعني الروح والمعنى ارجعوها وكذلك قوله في الخمر { فهل أنتم منتهون } المائدة 91 والمعنى انتهوا فقالوا عند ذلك انتهينا انتهينا يا رسول الله وهذه من الأخبار التي معناها الأمر
وقال بعض أهل العلم إن تحريم الخمر في الآية التي في الأعراف قوله تعالى { إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منـها وما بطن والإثم } الأعراف 33 والإثم هي الخمر قال الشاعر
شربت الإثم حتى ضل عقلي
كذاك الإثم يذهب بالعقول
وقال آخر
نشرب الإثم بالكؤوس جهارا
نترك الهتك بيننا مستعارا
والهتك الأترج

فهذه جمل تحريم الخمر وانتقاله في مواطنـه وأما تحريمـها في الأنعام في قوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يط إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } الأنعام 145 فإنـه رجس والدم رجس والميتة رجس والخمر بل الخمر أكثر رجسا بل الميتة أحلت للمضطر ولم تحل الخمر لأحد والخمر ما خامر العقل فغطاه وإذا غاب العقل حضر الجهل وإذا حضر الجهل كفر العبد ولا يبالي
وأما قول الله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نـهاكم عنـه فانتهوا } الحشر 7
385 أحاديث في تحريم الخمر
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال كل مسكر حرام وما أسكر كثيره من جميع الأشربة فقليله حرام
وفي حديث آخر قال {صلى الله عليه وسلم} كل أسكر فهو حرام واعلموا أن أمكن ما يكون الشيطان من العبد إذا شرب المسكر فإذا تمكن الشيطان من العبد أمره بالكفر وصده عن الإيمان وعن طاعة الرحمن وأغلق في وجهه أبواب الخير كله
وأنشدوا
الخمر داعية إلى العصيان
والخمر قائدة إلى النيران
والخمر شاربها يصد عن الهدى
ويبدل الطاعات بالعصيان
والخمر شاربها حليف ضلالة
ويبدل الإيمان بالكفران
شرب المدامة للإله عداوة
ومحبة للمارد الشيطان
فبادروا التوبة يا أهل الزنا
وتقربوا للواحد الديان
وتباعدوا عن شرب مفتاح الردى
ومغالف الخيرات في الإيمان
فهي المحرمة التي تحريمـها
في محكم الآيات والقرآن
روي عن رسول الله أنـه قال } الخمر جماع الإثم { وهذا الحديث يخرج منـه قول النبي {صلى الله عليه وسلم} ليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة { وشارب الخمر لا يقبل منـه صلاة فإذا لم يقبل الله منـه حسنة واحدة واجتمعت عليه الآثام فهي جامعة للآثام قائدة إلى الحرام قاطعة عن طاعة الملك العلام
386 الخمر شر كله
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } الخمر مفتاح كل شر وأن خطيئتها تعلو كل الخطايا كما أن شجرتها تعلو كل الشجر { فهنا قد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } الخمر مفتاح كل شر { وما كان مفتاحا للشر كله كان مغلاقا للخير كله

فإذا شربتم القهوات وعصيتم رب الأرضين والسموات وانغلقت عنكم أبواب الخيرات وانفتحت لكم أبواب المنكرات وحلت بكم عظائم المصيبات وغضب عليكم رب الأرباب وسيد السادات عاقبكم بأشد العقوبات في دار المصائب والحسرات ومحل العذاب والبليات
وأنشدوا
} أهل الخمور من الرحمن قد بعدوا
وفي العذاب على الخسران قد وردوا {
} بشربهم من إله العرش قد بعدوا وفي الصدور مع الشيطان قد قعدوا {
} دع المدامة لا تسلك طريقتها فأهلها لنعيم الرب قد جحدوا {
} وقد تواعدهم رب السماء على
شرب الخمور بنار جمرها يقد {
} غدا ترى أهل شرب الخمر كلهم بدار ويل على النيران قد وردوا
387 قول ابن عباس في السكران
روي عن ابن عباس رضي الله عنـه أنـه قال من بات سكرانا بات للشيطان عروسا وللعروس حبيبا فإذا كنت بيب الشيطان فأنت عدو الرحمن وإذا كنت
عدو الرحمن فأنت من أهل الهوان وفي سموم النيران
عباد الله مولاكم قد أمركم بأمره ونـهاكم بنـهيه ومن عليكم برفقه ووسع عليكم من سعة رزقه
وجعلكم من خير الأمم وأسبل عليكم جزيل النعم فلا تستعينوا بن على معاصيه فإنـه ذو انتقام وعذاب ورحمة وثواب فأطيعوا مولاكم في جميع الأمور ولا تهتكوا أستاركم بشرب الخمور ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور
وأنشدوا
يا شارب الخمر ترجو أن تنال به
عفو الإله وأنت اليوم مطرود
وأنت تشرب طول الدهر منـهمكا
وأنت عن طاعة الرحمن مفقود
شربتم الخمور وعصيتم الرب الغفور وهتكتم الستور وركبتم الفواحش والفجور وتهاونتم بصعاب الأمور ولم تفكروا في العرض والنشور والوقوف بين يدي من يعلم ما تخفي الصدور
388 ثمن الخمر خسارة

ذكر في بعض الأخبار ما من عبد أنفق درهما في الخمر إلا محق الله تبارك وتعالى من رزقه سبعين درهما وجعل الله كل درهم ينفقه في الخمر سلسلة في عنقه من نار جهنم وجعله تعبانا يأكله في قبره إلى يوم القيامة فإذا خرج من قبره خرج معه الثعبان فلا يفارقه حتى يلقيه في نار جهنم وأعظم من هذا أن شارب الخمر لا يكتب له صاحب اليمين حسنة واحدة ولا ينظر الله إليه وإنما يكتب له صاحب الشمال لأن رأس العبادات هي الصلاة ولا يقبل من أحد حسنة حتى تقبل صلاته وصاحب الخمر لا تقبل صلاته فإذا تاب تاب الله عليه ومحا الله من صحيفته كل ذنب عمله في حال شربه وكتب له بكل حسنة عملها ولم تقبل منـه يثبتها الله تعالى وإذا مات من ساعته مات ولا ذنب عليه ويكون أفضل ممن لم يشربها في الدنيا وأنشدوا
لا تشرب الخمر يا مغرور إن لها
وزرا عظيما لدى الرحمن في الحشر
الخمر تبعد عن حق الإله وعن
شرع االرسول الذي في محكم الذكر
إن الذي قطع الأيام يشربها
له عذاب شديد كاشف الستر
روي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} أعار عليا بعيرين ليأتي عليهما بأذخر يستعين بـه على زفاف
فاطمة رضي الله عنـها فجاز بهما علي رضي الله عنـه فأناخهما عند باب حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنـه واستأجر يهوديا ليخرج معه ويأتي بالأذخر وكان حمزة يشرب وغنت المغنية غناء تذكر في أكباد الإبل فخرج حمزة فوجد البعيرين على بابه فنحرهما ودخل بأكبادهما فجاء علي رضي االله عنـه فوجد البعيرين نحيرين فمضى إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} فشكا إليه فجاء معه صلوات الله عليه فلما رأى حمزة النبي {صلى الله عليه وسلم}
389 كيف سكر حمزة

وكان حمزة رضي الله عنـه قد أخذت فيه الخمر قال ألستم عبيدي فتأخر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال لست بعبد لأبيك فقال عمر رضي الله عنـه اللهم إن الخمر مفسدة للعقل مذهبة للمال فأنزل اللهم لنا في الخمر بيانا فأنزل الله سبحانـه { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } البقرة 219 إثم أي في تناولها ومنافع للناس في ترك تناولها فإذا تركها عبد من عباد الله غفر الله له ما قد سلف
390 قراءة السكران
فقال قوم نشربها لما فيها من المنفعة فحانت وقت الصلاة فقدم رجل سكران فصلى بأصحابه فقرأ يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وختم السورة على هذا فبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فشق عليه فقال عمر رضي الله عنـه اللهم أنزل علينا بيانا في الخمر فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } النساء 43 فكانوا يشربونـها في غير وقت الصلاة حتى كان من أمر سعد بن أبي وقاص ما كان مع الأنصاري وقد تقدم ذكره فقال عمر رضي الله عنـه اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا فأنزل الله عزل وجل { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } المائدة 90 إلى آخر الآيتين إلى قوله { فهل أنتم منتهون } المائدة 91 فقالوا بأجمعهم انتهينا يا رسول الله انتهينا فعند ذلك بعث النبي {صلى الله عليه وسلم} مناديا ينادي في المدينة ألا إن الخمر قد حرمت
قال أنس بن مالك فسمعت النداء وأنا أسقي طلحة في رهط من الأنصار الفضيخ والبسر والرطب فوالله ما انتظروا حتى قالوا يا
أنس أخرجها عنا فأهريقت في الحين فانتهوا
فإذا فعل هذا أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبادروا إلى التوبة وأطاعوا مولاهم ونبيهم {صلى الله عليه وسلم} فمالكم لا تتأسوا بأفعالهم وتقتدوا بأعمالهم وتقفوا آثارهم وتسمعوا أخبارهم وتتركوا الخمر لوجه الله الكريم فعساه يجعل الجنة مأواكم ويكرم الآخرة مثواكم فراقبوه فإنـه يراكم ويعلم سركم ونجواكم والله أعلم
وأنشدوا

لا يشرب الخمر إلا فاجر بطر
قد خالف الله والقرآن والرسلا
بئس ال وبئس الشاربون لها
لا يسلكونـه إلى دنياهم سبلا
هي الدليل إلى دار الجحيم غدا
بئس الدليل ولا يرجى لهم حولا 9
} إلا يتوب عسى الرحمن يقبله فتب من الذنب لا تيأس وإن ثقلا
391 من مات يدمن الخمر
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من مات وهو يشرب الخمر لم يشربها في الآخرة
وهي والله من ألذ نعيم الجنة كما قال تبارك وتعالى { وأنـهار من خمر لذة للشاربين } محمد 15 يا عدو نفسه يا مسكين حرمت نفسك اللذات وفي قرار الجنات وعصيت رب الأرضين والسماوات بشربك القهوات المحرمات في محكم الآيات ولم تستح من عالم السرائر والخفيات وأنشدوا
أكثرت الخمر من عيوبي وزاد حزني مع الكروب
جل مصابي وضاق ذرعي واسود قلبي من الذنوب
يا ليتني تبت باجتهاد لعالم الجهر والغيوب
} الخمر مفتاح كل شر لكل عاص لها شروب
392 عذاب شارب الخمر
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } بعثني الله تعالى رحمة وهدى للعالمين وأقسم ربنا بعزته وجلاله لا يشرب عبد من عبيده جرعة خمر إلا سقيته مكانـها من حميم جهنم معذبا أو مغفورا له ولا يدعها عبد من مخافتي إلا سقيته إياها من حظيرة
الفردوس فيا معشر الإسلام أطيعوا مولاكم الملك العلام ولا تخالفوا القرآن والأحكام واقبلوا نصيحة نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام يدخلكم ربكم برحمته دار السلام وأنشدوا
إلى الله أشكو ضيق صدري من الضر
وعظم خطايا كالجبال وكالقطر
لعل إلهي أن يجود بعفوه
وينقذ عبدا عام في غمرة السكر
ظلموا غشوما لا يفارق محرما
لا يستفيق الدهر من فتنة الخمر
فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي
لئن لم يجد لي عالم السر والجهر
393 شارب الخمر في القيامة

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } والذي بعثني بالحق إن شارب الخمر يأتي يوم القيامة فيقول الله سبحانـه وتعالى لملائكته خذوه فيبتدرون له سبعون ألف ملك فيسحبونـه على وجهه فتستقبله الملائكة معها السلاسل فيضربون وجهه فيفتح فاه فيلقى فيه طعام مثل رؤوس الشياطين ولا يكاد يسيغه فيخرج الدود منـه فيتلعق بلسانـه ثم يقع في بطنـه فهي تجري فيه مثل الوحوش في البرية أيها المصرون على الجراع والآثام المسرفون في المسكر الحرام أفنيتم أعماركم في الكذب والزور وضيعتم أيامكم في الجهل والغرور وقطعتم أوقاتكم في الفسق والفجور واستعننتم على معصية الله بشرب الخمور أما علمتم أن الخمر متلفة للمال مذهبة للبهاء والجمال عاقبتها إلى وبال ويؤول شاربها إلى شر مآل الخمر أولها لهو ومزاح وآخرها بكاء ونياح امرأة شارب الخمر في كل وقت مطلقة وثيابه في كل حين ممزقة
شارب الخمر خليل الشيطان شارب الخمر عدو الرحمن شارب الخمر بعيد من الإيمان شارب الخمر قريب من الضلال والخسران شارب الخمر في بحار السخط عائم شارب الخمر على عذاب النار حائم شارب الخمر مخالف للتنزيل شارب الخمر مخالف لسنة الرسول عدو للملك الجليل شارب الخمر ملعون على لسان سيد المرسلين شارب الخمر مخالف لسنة خاتم النبيين
أما علمت يا من بعد من الإحسان وتقرب من الفسوق والعصيان وحل في سخط المـهيمن الديان أن الخمر موقعة للعداوة والشقاق قاطعة للخير والأرزاق قائدة إلى أليم العذاب يوم التلاق
أما علمت أنـها تحول بين شاربها وبين الرشاد وتلقيه في الضلال والفساد وتوقع العداوة والبغضاء بين
العباد وتقود إلى العذاب الشديد يوم التناد
وأنشدوا
الخمر ولادة للشر أجمعه
ومن ولادتها العصيان والكفر
تعصي الإله إذا ما عشت تشربها
وتبعد الخير والإحسان والشكر
العبد يشربها واللعن تابعه
والخزي شامله والويل والعسر
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال

لعن الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومبتاعها وحاملها والمحمول إليه وآكل ثمنـها والدال عليه يا أخي قد لعن الله كل من نسب إلى الخمر واللعنة هوانا للعبد وإذا أبعد الله العبد من جواره أصلاه عذابه وحر ناره فبادر يا شاربها إلى المتاب فإن الله قد حرمـها في الكتاب وتواعد عليها أشد النكال والعذاب
وأنشدوا
} يا من يبيت على شرب الخمور ولا يخشى الإله ولا يخشى من النار
تعصي الإله ولا تقضي فرائضه
عار عليك وما في التوب من عار
فتب من الخمر للرحمن خالقنا
وكل ذنب قديم العهد أوتار
394 الخمر جريمة عظيمة
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من شرب شربة من مسكر لم يقبل الله له صلاة أربعين يوما فإن تاب تاب الله عليه والذي بعثني بالحق من شرب من الخمر ثلاث شربات لا يقبل الله تعالى صلاته مائة وعشرين يوما وكان حقا على الله تعالى أن يسقيه من الخبال قال عبد الله بن عمر رضي الله عنـه هو صديد أهل النار وقيحهم
وفي بعض الأخبار لو أن قطرة من الخبال ألقيت من السماء السابعة لمات أهل السماوات والأرض من النتن فإن لله وإنا إليه راجعون على من شرب الخمور وهتك الستور وعصى الملك الغفور وبذل مـهجته لعذاب الويل والثبور وغره بالله عدوه الغرور
وأنشدوا
تعصي الإله وتأتى الخمر تشربها
وترتجي من إله العرش غفرانا
وأنت تحوي فعال الخير أجمعها
وقد جمعت من العصيان ألوانا
فتب ولا تتمادى في الضلال عسى
تلقى إلها كثير العفو رحمانا
عباد الله أما تستحون ممن أخرجكم من بطون الأمـهات وأسبغ عليكم جزيل النعم والخيرات وهداكم بفضله إلى الصوم والصلوات ووعد من أطاعه
بالخيرات في الجنات العاليات وتواعد من عصاه بالخيبات وشدائد العقوبات
أما علمتم أن الخمر أم الجرائم والسيئات ومفتاح الكبائر والخطيات وباب المصائب والرزيات وموجبة لغضب رب الأرضين والسموات ومخربة الديار بوقوع الشتات

فلا تدنسوا أعمالكم بشرب الخمر الحرام فإنـها أم الكبائر ولآثام ومن شربها فقد خالف القرآن والأحكام وحل في سخط الملك العلام أما تستحي يا مطرود من باب الله يا مخالفا لحدود الله يا مؤالفا لأعداء الله من رب من عليك بنعمة الإسلام وجعلك من خير أمة أخرجت للأنام وفضلك بمحمد عليه افضل الصلاة والسلام فعصيت يا مغرور مولاك واتبعت غيك وهواك ونسيت النعم التي أولاك ولم تنته عما عنـه نـهاك
أهذا جزاء من أحسن إليك وسترك وأنعم عليك بئس ما صنعت يا من ظل في المعاصي سرا وجهرا يا من بدل ن الله كفرا يا من هتك بعصيانـه حجابا وسترا يا من حرم بذنيه توفيقا ويسرا يا من أورثه العصيان شرا وعسرا
أما تستحي يا مطرود يا من هو عن باب مولاه مردود يا من خالف الأحكام والحدود من رب أخرج لك من العدم إلى الوجود عنبا حلالا أخرجه من العود تعصر منـه خمرا تعصي بـه الملك المعبود ما أجهلك بطريق المتقين ما أبعدك عن سيرة خير المرسلين يا قليل الدين يا ضعيف الإيمان واليقين يا خليل الشيطان اللعين ستعلم غدا إذا وقفت بين يدي أسرع الحاسبين وأمر بك إلى العذاب المـهين فحينئذ تقول بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين اللهم تب علينا حتى لا نعصيك برحمتك يا أرحم الراحمين

15 مجلس في فضل يوم عاشوراء وما جاء فيه 395 وفي صيامـه من الفضل العظيم
اعلموا عباد الله أن الله سبحانـه وله الحمد والمنة قد فضل هذه الأمة بفضائل خص بها أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} من سائر الأمم
الحكمة في ذلك أن الله تعالى لما جعل أمة محمد أقصر الأمم أعمارا جعل لهم هذه الفضائل وهذه الدرجات ورفع لهم بذلك الدرجات والمنازل في الجنة وهي كالأيام البيض من كل شـهر وكيوم عرفة ورجب وشعبان والستة أيام بعد الفطر ومثلها كثير

فهذه أمة قد رفق الله بها وجعل لها من اليسير كثيرا ووعد لها على ذلك في الآخرة أجرا كبيرا فيوم عاشوراء يوم تغفر فيه الذنوب والخطيات ويتقرب فيه بالصدقات وأفعال الخيرات إلى عالم الخفيات وصومـه سنة مستحبة لما روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال
396 ثواب صيامـه
من صام يوم عاشوراء أعطاه الله تعالى ثواب عشرة آلاف ملك وثواب عشرة آلاف شـهيد وثواب كل حاج ومعتمر في ذلك العام وثواب تسبيح ملائكة السبع سموات ومن فيهن {
وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صام يوم عاشوراء كتب الله له عبادة ستين سنة صيام أيامـها وقيام لياليها وكأنما حج واعتمر سبعين مرة {
فالله الله عباد الله تقربوا إلى الله في يوم عاشوراء أيما استطعتم من نوافل الخير وسبل البر فإن يوم عاشوراء يوم يوصل فيه الرحم ويضاعف الأجر للمؤمن السخي الكريم ومجزي الله جل جلاله معطي الزكاة جنات النعيم ويبذل فيه السخط على الشقي اللئيم
الذي يمنع الزكاة المفروضة في القرآن الحكيم
فالله الله معشر المؤمنين وجماعة الموحدين ارغبوا في هذه الفضيلة الجزيلة تفوزوا بالنعمة الدائمة الطويلة التي ليس لها زوال ولا انقطاع ولا لصاحبها عنـها صد ولا امتناع

روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من أفطر عنده مؤمن في يوم عاشوراء فكأنما أفطر عنده جميع أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} وأشبع بطونـهم ومن مسح على رأس يتيم في يوم عاشوراء رفع الله له بكل شعرة على رأسه درجة في الجنة ومن كسا فيه مسكينا فكأنما كسا مساكين أمة محمد {صلى الله عليه وسلم} وكساه الله سبعين حلة من حلل الجنة { فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنـه يا رسول الله صلى الله عليك لقد فضلنا الله عز وجل بيوم عاشوراء فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } نعم يا عمر خلق الله السموات والأرض في يوم عاشوراء وخلق الشمس والقمر في يوم عاشوراء والنجوم كمثله وخلق العرش والكرسي في يوم عاشوراء وخلق القلم في يوم عاشوراء واللوح كمثله وخلق جبريل في يوم عاشوراء وملائكته كمثله وخلق آدم في يوم عاشوراء وحواء كمثله وخلق الجنة في يوم عاشوراء وأسكن آدم الجنة في يوم عاشوراء وولد إبراهيم عليه السلام في يوم عاشوراء ونجاه الله من النار في يوم عاشوراء وهداه الله في يوم عاشوراء وأغرق الله فرعون في يوم عاشوراء ورفع عيسى في يوم عاشوراء ورفع الله إدريس في يوم عاشوراء وولد عيسى بن مريم في يوم عاشوراء وتاب الله على آدم في يوم عاشوراء وغفر ذنبه في يوم عاشوراء واستوت سفينة نوح على الجودي في يوم عاشوراء وأخرج يوسف من السجن في يوم عاشوراء وتاب الله على قوم يونس في يوم عاشوراء وأعطى سليمان الملك يوم عاشوراء ويوم القيامة يوم عاشوراء
ويروى أن أول مطر ينزل من السماء يوم عاشوراء
397 الغسل يوم عاشوراء
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض إلا مرض الموت ومن اكتحل بالاثمد يوم عاشوراء لم ترمد عيناه في تلك السنة كلها ومن عاد مريضا يوم عاشوراء فكأنما عاد جميع ولد آدم عليه السلام وعلى جميع الأنبياء الكرام ومن سقى مؤمنا شربة من ماء يوم عاشوراء فكأنما سقى جميع ذرية آدم وكانوا عطاشا ومن صلى يوم عاشوراء أربع ركعات ويقرأ في كل ركعة بفاتحة

الكتاب وقل هو الله أحد خمس عشرة مرة غفر الله له خمسين عاما ماضيا وخمسين عاما مقبلا وبنى له الله ألف منبر من نور الله عباد الله ارغبوا في فضل هذا اليوم المرغوب فعسى الله أن يغفر لكم ما أسلفتم من الأوزار والذنوب ويستر عليم ما أتيتم من القبائح والعيوب
روي أن موسى عليه السلام قال مكتوب في التوراة من صام يوم عاشوراء فكأنما صام الدهر كله ومن تصدق يوم عاشوراء فكأنما لم يترك سائلا إلا أعطاه ومن كسا فيه عريانا فكأنما كسا جميع خلق الله ومن مسح على رأس يتيم فكأنما مسح رؤوس اليتامى وغرس الله له بكل شعرة على رأسه سبعمائة شجرة تحمل من الحلي والحلل عدد نجوم السماء ومن أرشد فيه ضالا دفع الله عنـه ظلمة القبر وملأ قلبه نورا ومن كظم غيظا كتب من الراضين بقسم الله تبارك وتعالى ومن شـهد جنازة يوم عاشوراء فله بكل شيء خلقه الله وهو خالقه درجات في الجنة ومن ترك فيه شـهوة وأطا أخاه المسلم لم يقبض روحه ملك الموت حتى يط من طعام الجنة ويسقيه من ها ومن اغتسل في يوم عاشوراء كان عند الله طاهرا ومن قرأ آية في كتاب الله في ليلة عاشوراء أو في يومـها أعطي من الثواب مثل ما أعطي لإدريس عليه السلام ومن أحيا ليلة عاشوراء فكأنما عبد الله بعبادة الملائكة المقربين ومن بكى يوم عاشوراء أو ليلة عاشوراء أو فاضت عيناه من خشية الله تعالى كتب الله له نصيبا في عبادة الخائفين ومن أتى عالما في يوم عاشوراء ليسمعه أو يتعلم منـه مسألة في دينـه وما ينفعه لآخرته أعطي مثل ثواب المـهاجرين والأنصار وأوجب الله له الجنة ويكتب له الملكان الحسنات إلى يوم عاشوراء من العام الذي يأتي ومن صام يوم عاشوراء محتسبا عالما بفضله سخر الله له بكل ساعة من ليله ونـهاره من ذلك اليوم الذي صامـه مائة ألف ملك يدعون له إلى يوم القيامة ومن أراد صيام يوم عاشوراء وأصبح فيه آكلا وهو لا يعلم فليمسك عن الأكل في بقيته وله فضله كاملا إن شاء الله تعالى

398 النفقة على العيال
وتستحب النفقة في ليلة عاشوراء ويوم عاشوراء رجاء فضل الله وطلبا لمرضاته ولوجوب البركة فيه فإنـه روي أن من أنفق فيه درهما أخلف الله له
سبعمائة
وكل درهم ينفقه فيه في طاعة الله فهو عند الله تعالى أثقل من السموات والأرضين السبع
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنـه يقول أكثروا خير بيوتكم في ليلة عاشوراء ويومـه ووسعوا فيه على أهاليكم فيما يحل ويجمل فمن لم يجد فليسوع خلقه أظنـه مع قرابته وليعف عمن ظلمـه
399 بنو إسرائيل وعاشوراء
وكان يوم عاشوراء يصومـه بنو إسرائيل ويعظمونـه وكانت قريش تصومـه في الجاهلية فلما قدم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة صامـه وأمر بصيامـه إلى أن فرض شـهر رمضان فجعل الله تعالى هذا الخير كله لأمة محمد {صلى الله عليه وسلم}
فيوم عاشوراء يوم يتقبل الله فيه الحسنات وترفع فغيه الدرجات المرتفعات وتخلف فيه النفقات وتكثر فيه البركات
ويفرح فيه أهل الفاقة والحاجات
يوم عاشوراء يوم تظهر فيه الأعمال ويوسع فيه على العيال وتزكوا فيه الأفعال والأقوال ويرحم فيه عبيده ذو الإكرام والجلال
يوم عاشوراء يوم توصل فيه الأرحام وتربح فيه الكرام وتخسر فيه اللئام لمخالفتهم القرآن والأحكام وعصيانـهم الملك العلام
يوم عاشوراء تفرح فيه الأرامل والأيتام ويرحم فيه ذو الجود والأنعام ويغفر فيه السيئات والإجرام ويوجب لمن أطاعه دار الخلد والسلام فالله الله عباد الله إياكم أن يضرب الشيطان على قلوبكم الأقفال ويصدكم عن سبيل الكريم المتعال ويفتح في قلوبكم أبواب الفقر لتمنعوا الزكاة من أموالكم ويؤول بكم إن أطعتموه شر مآل يا أخي البخيل صاحب الشيطان الذليل يمنع الزكاة ويقل النفقات ويفوت نفسه جميع الخيرات

فعيشـه في الدنيا عيش الفقراء وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء فيا معشر المؤمنين كونوا كراما ولا تكونوا لئاما فإن الكرام في جنة الخلد والنعيم واللئام في عذاب الجحيم فتقربوا إلى الله في هذا اليوم بأداء الزكاة وتطوعوا فيه بالنوافل من الصلوات
فعسى الله أن يغفر لكم ما أسلفتم من الأوزار والسيئات
400 صيامـهم له
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن الله تعالى افترض على بني إسرائيل صوم يوم في السنة وهو يوم عاشوراء العاشر من المحرم فصوموه ووسعوا فيه على عيالكم وأهليكم فمن وسع على أهله من ماله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته فمن صام هذا اليوم كان له كفارة أربعين سنة وما من أحد أحيا ليلة عاشوراء أو اصبح صائما إلا مات ولم يذق طعم الموت يا أخي إن العجوز لتغزل يوم عاشوراء لتبقي بركة غزلها إلى العام القابل فاعمل أنت في هذا اليوم من الطاعات لتبقي بركتها عليك إلى ليوم القيامة وما من عبد مؤمن أنفق في يوم عاشوراء درهما أو مثقالا إلا أخلف الله تعالى عليه في دنياه سبعين ضعفا مثل ما أنفق وجعل نفقته زاده إلى الجنة فالله الله يا عباد الله اصنعوا في هذا اليوم المعروف وأعينوا الضعيف وأغيثوا الملهوف يغيثكم الرب الرحيم الرؤوف
401 كل معروف صدقة
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } كل معروف صدقة والمعروف يقي سبعين نوعا من البلاء ويقي ميتة السوء { والمعروف والمنكر منصوبان للناس في المحشر يوم القيامة فالمعروف لازم لأهله يقودهم ويسوقهم إلى الجنة والمنكر لازم لأهله يقودهم ويسوقهم إلى النار
أعاذنا الله وإياكم من النار
فالله الله احرصوا أن تكونوا من أهل الجنان ولا تكونوا من أهل النيران واجتهدوا في الخير والزيادة ولا ترضوا بالنقصان
402 أهل المعروف

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن الله تبارك وتعالى جعل للمعروف وجوها من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه كما يسر الغيث إلى الأرض المجدبة ليحييها ويحيي أهلها وإن الله
تبارك وتعالى جعل للمعروف أعداء من خلقه بغض إليهم المعروف وبعض إليهم فعاله وحظر على طلاب المعروف الطلب إليهم وحظر عليهم إعطاءه كما حظر الغيث عن الأرض المجدبة ليهلكها ويهلك أهلها وما يغفر الله عز وجل أكثر فالله الله يا أولياء الله يا أهل المعروف
فكونوا من أهل المعروف وأعينوا الفقير وأغيثوا الملهوف فعسى الله أن يغيثكم يوم البعث إنـه رحيم رؤوف
403 إخراج الزكاة
وهذا اليوم المبارك الشريف يوم عاشوراء لما جعل الله فيه من الخلف والخيرات واعلموا أنـه لما عظم الله تعالى يوم عاشوراء وجعل فيه الخلف والخيرات استحب للمؤمنين فيه إخراج الزكاة وما من أحد من المؤمنين والمؤمنات لم تجب عليه زكاة ماله فأعطى في يوم عاشوراء أو تصدق من اليسير الذي معه رغبة في فضل يوم عاشوراء إلا كتب من أهل الزكاة ولم يخرج من الدنيا حتى يعطي مالا حلالا يزكي عليه
فإياكم يا معشر المؤمنين والمؤمنات أن يخدعكم الشيطان اللعين لأنـه قد جاء في الخبر أن العبد إذا هم بإخراج درهم لوجه الله تعالى فتح الشيطان في قلبه سبعين بابا من الفقر حتى يحول بينـه وبين إخراجه فإن من الله تعالى على العبد وأعانـه حتى يغلب عدوه وشيطانـه كان كمن هزم عسكرا من المشركين وقتلهم

ويدل على صحة هذا القول أن عليا بن أبي طالب رضي الله عنـه كان إذا آن أوان الزكاة وعزم على إخراجها لبس درعه وتقلد بسيفه وأخذ رمحه وركب فرسه فتقول الصحابة رضي الله عنـهم مالك يا أبا الحسن لبست آلة حربك فيقول أنا خارج إلى محاربة الشيطان أخاف أن يمنعني إخراج الزكاة فجهاد الشيطان هو الجهاد الأكبر والشيطان لعنـه الله يريد أن يردك إلى فقر نفسك ويصدك عما وعدك ربك جل جلاله حين قال عز وجل { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منـه وفضلا والله واسع عليم } البقرة 268 والله واسع العطاء لأنـه جل وتعالى لا ينقص من ملكه ما يخلف على العبد المؤمن الذي يؤدي الزكاة ويتصدق من فضل ماله
وقوله تعالى { عليم } أي عليم بما يفعله العباد من الخير والشر فمن أنفق من مال الله ووسع منـه على عياله وعباد الله كان له الخلف من الله تعالى يقول المولى جل جلاله { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } سبأ 39 فالله الله عباد الله ثقوا بمولاكم
جل جلاله في الخلف ولا تطيعوا الشيطان الذي يعدكم الفقر والتلف
404 اللعنة على مانع الزكاة

روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ينزل من السماء في كل يوم اثنان وسبعون لعنة على مانعي الزكاة من هذه الأمة وقد سماهم الجليل جل جلاله كفارا في قوله تعالى { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون } فصلت 6 وقد ذكر بعض العلماء أن الله تعالى لما أخرج الذرية من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام عزل منـهم الأغنياء من أهل البدو الحضر وعزل أموالهم ثم قال جل جلاله هذه أموال أعطيتها لكم وجعلتكم عليها أمناء فلا تشتغلوا بها عن أداء فرائضي وحقوقي ثم قال عز وجل للفقراء من أهل البدو والحضر وحرر أرزاقهم على قدر آجالهم وأخرها وجعلها وديعة في أموال الأغنياء وقال لهم عز وجل هذه أرزاق الفقراء من عبادي وديعة في أموالكم إياكم أن تقتروا وتمسكوا عنـهم أموالهم وأرزاقهم فيحل عليكم غضبي وسخطي فإني قد ائتمنتكم عليها
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } ما من يوم إلا وملكان يناديان تحت العرش المال مال الله والعباد عباد الله فإن جاع الفقراء عذب الله الأغنياء {
فالله الله عباد الله أوفوا لديه بالعهود وارغبوا في دار النعيم والخلود ومجاورة الملك المعبود
405 من شبع وجاع جاره
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره جائعا { وقد جاء في الحديث إن الجار الفقير يتعلق بجاره الغني يوم القيامة ويقول يا رب سل هذا الغني لم منعني معروفه وسد بابه دوني وفي حديث آخر يقول يا رب سل هذا لم بات طاعما وبت إلى جنبه طاويا
ومما يصدق هذا أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لأسامة بن زيد في وصيته يا أسامة
إياك وكل كبد جائعة تخاصمك عند الله فإنـه يقول ما آمن بي من بات شبعانا وجاره طاويا إلى جنبه

وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } أيما رجل كان له جار مسلم بات جائعا وهو يعلم بجوعه وعنده فضل ولم يشبعه فقد برئ من ذمة الله تعالى وذمة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فيا لها من خسارة لم نتدبرها بعقولنا فكم بين أظهرنا من مسكين وضعيف وزمن لا يمتلكون قيمة رغيف فالله الله لا تغتروا بالعز والمال وتضيعوا للفقراء وأهل الإقلال فإن غاية كل شيء الانقلاب والانتقال والنفاد والزوال
وقد ذكر في تفسير هذه الآية { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } البقرة 61 قيل يحرص العبد على جمع الحطام والسحت والحرام وكل من أدى زكاة ماله فهو كريم قد برئ من وعد الشيطان الرجيم ووثق بوعد العزيز الرحيم ونجا من العذاب الأليم
406 حديث في ذم الشح
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } اتقوا الشح فإنـه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمـهم { وأنشدوا
} صافي الكريم فخير من صافيته
من كان ذا كرم وكان عفيفا {
} إن الكريم وإن تضعضع حاله فالفعل منـه لا يزال شريفا {
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه كان يطوف بالبيت فإذا هو برجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول بحرمة هذا البيت إلا غفرت لي
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما ذنبك صفه لي فقال الرجل هو أعظم من أن أصفه لك يا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } ذنبك أعظم أم الأرضون قال بل ذنبي يا رسول الله قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذنبك أعظم أم الجبال قال بل ذنبي يا رسول الله قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذنبك أعظم أم السموات قال بل ذنبي يا رسول الله قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ذنبك أعظم أم الله قال بل الله أعظم وأجل فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } ويحك فصف لي ذنبك قال يا رسول الله إني ذو ثروة من المال وإن السائل ليأتيني يسألني شيئا فكأنما يستقبلني
بشعلة من نار قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}

إليك عني لا تحرقني بنارك والذي بعثني بالهدى والكرامة لو أقمت بين الركن والمقام ثم صليت ألف عام وألف عام حتى تجري من دموعك الأنـهار وتسقي بها الأشجار ثم مت وأنت لئيم لأكبك الله في النار ويحك أما علمت أن البخل كفر والكفر في النار وويحك أما علمت أن الله تعالى قال { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } الحشر 9
وأنشدوا
} إن البخيل إذا ما مات يتبعه سوى الثناء ويحوي الوارث الإبلا
} يرى البخيل سبيل المال واحدة
إن الجواد يرى في ماله سبلا
407 عظة في الحض على الزكاة
فالله الله يا معشر المؤمنين كونوا من الأسخياء الصالحين ولا تكونوا من البخلاء الفاسقين فالبخيل هو شريك الشيطان اللعين قال الله تعالى { وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } الإسراء 64 فكل مال لا تؤدي زكاته فصاحبه خازن الشيطان وكل مال أخرجت زكاته فصاحبه عدو الشيطان حبيب الرحمن وعمل بالسنة والقرآن وناج من عذاب النيران وداخل في نعيم الجنان
فكل من مات وترك مالا قد أدى زكاته فإن صاحبه لا تزال الملائكة تكتب له الحسنات إلى يوم القيامة وكل من مات وترك مالا لم يؤد زكاته فلا يزال وزره يجري عليه إلى يوم القيامة وإن وصله وقع المال عند من يزكيه وما من عبد أدى زكاة ماله بطيب من نفسه إلا جعل الله ذلك المال يوم القيامة طوقا من نور الجنة يضيء لأهل الجمع من المؤمنين حتى يجوزوا الصراط ويدخل بـه الجنة وما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا طوقه الله يوم القيامة بطوق من نار جهنم لو أن ذلك الطوق وضع في الدنيا لاحترقت الدنيا كلها وتقطعت جبالها وجفت بحارها
فوالله لو لم يكن فخر الكريم السخي إلا ذكر الله تعالى له في كتابه لكفي في قوله تعالى { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } الحشر 9 فاغتنموا هذا اليوم الفاضل فهو يوم تعرف فيه الكرام وتفضح في اللئام

وهذا يوم عاشوراء يوم تواترت فيه الأخبار عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو يوم النفقة في الله فيه مخلوفة
والنفقة فيه في غير الله متلوفة
فإذا كان هذا اليوم تخلف فيه النفقات فأولى أن تغفر فيه الخطيئات وتتضاعف فيه الحسنات وينجي الله فيه المؤمنين من العذاب والعقوبات يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وتظهر فيه السرائر والخفيات
وأنشدوا
يا جامع المال يرجو أن يدوم له
كل ما استطعت وقدم للموازين
ولا تكن كالذي قد قال إذ حضرت
وفاته ثلث مالي للمساكين
روي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} سئل أي الصدقة أفضل فقال } أن تتصدق وأنت صحيح حريص شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمـهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا
408 من خلف ثروة لبيت المال
ذكر أن رجلا مات بالمدينة من أهل اليمن وخلف مالا كثيرا فأخبر بخبره رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال هل من وارث فقالوا لا يا رسول الله فقال {صلى الله عليه وسلم} } من لا وارث له فماله لبيت مال المسلمين { فأمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يحضر المال فيجيء بالمال إلى المسجد فوضع حتى غاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من الجانب وغاب الناس من الجانب الآخر من حلي وذهب وورق وثياب
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } ارفعوا المال إلى بيت مال المسلمين { فرفع كما أمر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فالتفت عبد الله بن عمر رضي الله عنـه في المسجد فوجد فرصة من ذهب فيها قيراط فقال يا رسول الله هذه من ذلك المال فأخذها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ووضعها في كفه وجعل يقلبها في يده ثم قال {صلى الله عليه وسلم} } لو تصدق بها في حياته حين كان صحيحا شحيحا يأمل العيش ويخشى الفقر كانت أحب إليه من هذا المال كله يعطي من بعده في سبيل الله فالله الله عباد الله اسمعوا صواب المقال وبادروا إلى حسن الفعال ولا تغتروا بالعز والمال

فإن المال يذهب والدنيا تخرب ونفسك تموت والمرد غدا إلى الحي الدائم الباقي الذي لا يموت واعلم يا أخي أنك مرتهن بالذنوب وأنت محاسب مطلوب مسئول بين يدي علام الغيوب فاستعد للسؤال وتهيأ للجدال في يوم تشيب فيه الرؤوس وتضيق من فظاعة هولة النفوس ذلك يوم هائل عبوس
يوم تضع فيه الحوامل أحمالها وتزلزل الأرض زلزالها وتخرج
بأمر الله بعد ذلك أثقالها
يا مغرور يا مسكين ظلمت الفقراء والمساكين وتركت مالك للوارثين ولم تخف من عقوبة رب العالمين يوم يقتص للمظلومين من الظالمين
وأنشدوا
ولا تكن كالذي قد قال إذ حضرت
وفاته ثلث مالي للمساكين
روي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} سئل أي الصدقة أفضل فقال } أن تتصدق وأنت صحيح حريص شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمـهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا {
} يا جامع المال لأولاده
يخشى عليهم شمت حساده {
} ولا يبالي كيف كان الغني يغتر بالله وإيعاده {
} اسمع مقالا سوف تحظى بـه إن أنت لم تعمل بأضداده {
} بنوك إن لاذوا بمولاهم
وتابعوا منـهاج إرشاده {
} فالله يكفيهم ويحميهم والله لا خلف لميعاده {
} وإن يحيدوا عن سبيل الهدى وقابلوا الدين بإفساده {
} فقد يكن مالك عونا لهم
في طاعة اللهو وأجناده {
قيل وقف رجل في حلقة منصور بن عمار في يوم عاشوراء فقال أيها الناس رحم الله من تصدق من فضل وأنفق من كفاف وآثر في فاقة
فقال لهم منصور معشر الناس ما ترك منكم أحدا
فلم يكن أحد في المجلس إلا واساه قال منصور بن عمار اللهم عجل لهم بالخلف في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة قال منصور فلقد افتقدت أهل مجلسي كلهم واحدا بعد واحد بعد ذلك بعام فما منـهم إلا من قال أخلف الله علي سبعين ضعفا مما أعطيت

قال منصور فأخذتني عيناي فنمت فرأيت قائلا يقول أبشر يا منصور قد غفر الله لجميع من كان في ذلك المجلس فأخبرهم بذلك وقد غفرت لك فأنت الذي دللتهم على الخير فالله الله يا عباد الله تفضلوا على أنفسكم بأموالكم فليس أحد منكم أحق بها من نفسه
409 تحذير من البخل
ذكر في بعض الأخبار أن ملكا ينادي كل يوم تحت العرش الويل ثم الويل لمن ترك عياله بخير وقدم على الله بشر
وأنشدوا
لا تؤثرن بما جمعت سواكا
الموت لا تدري متى يغشاكا
إن البنين مع البنات رأيتهم
يتطلعون ويشتهون فناكا
من كان يعلم أن مالك ماله
بعد الممات فلا يحب بقاكا
فالله الله عباد الله اجتهدوا وارغبوا في ثواب يوم فضله الرحمن ووعد من أدى زكاة ماله جنة الرضوان وأناب مؤدي الزكاة إخلاص الإيمان وذم مانع الزكاة وجعله من أهل الكفر والخذلان وبين ذلك في القرآن
وأنشدوا
يا جامع المال في الدنيا لوارثه
هل أنت بالمال بعد الموت تنتفع
} قدم لنفسك قبل الموت في مـهل
فإن حظك بعد الموت ينقطع
410 من أقرض الله فضاعفه له

ذكر أن رجلا دخل بعض الأسواق في يوم عاشوراء فسمع سائلا يقول { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم } الحديد 11 قال فقام إليه رجل من التجار فأعطاه عشرة دنانير فلما كان العام القابل إذا بالرجل السائل قد جاء وحوله فقراء يتبعونـه وهو يفرق عليهم الصدقة فقال الرجل الذي رآه حين أعطاه الرجل العشرة دنانير يا أخي أقسمت عليك أما أنت الذي أعطاك فلان التاجر العشرة دنانير عام أول في يوم عاشوراء قال نعم قال قلت ألم تك فقيرا ذلك اليوم قال بلى قال قلت له فما أغناك قال لما علم الله صدق نيتي وأني ما أخذت الصدقة إلا وأنا محتاج وعلم الله تعالى طيب نفس المتصدق بإعطائها بارك لي في تلك العشرة دنانير وأنماها لي حتى وجبت علي اليوم عشرة دنانير زكاة في مالي قال فلما سمعت منـه ذلك مضيت إلى الرجل الذي كان تصدق عليه بالعشرة دنانير فقلت صف لي قصتك في العام الماضي في يوم عاشوراء إذ جاء الرجل الذي قال { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم } الحديد 11 فقال الرجل المتصدق إنـه لما قرأ هذه الآية وقع في نفسي أن الله سبحانـه سيخلف علي في الدنيا ويوفيني في الآخرة الأجر الكريم فبت على هذه النية فرأيت ربي جل جلاله في منامي وهو يقول يا عبدي قد أنجزت الأمرين وقد أوجبت لك الجنة
411 يوم عاشوراء وقتل الحسين
فالعجب كل العجب من بعض جهلة الناس الذي يذمون يوم عاشوراء ويسمونـه يوم النحس لقتل الحسين رضي الله عنـه فيه وهذه غاية السخافة في الجهالة وفي معاندة الأخبار عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ومبالغة في الرد على صاحب الشريعة في قوله بفضائل يوم عاشوراء ولولا البغي والعداوة لعدوا ذلك من فضائل الحسين رضي الله عنـه إذا استشـهد في مثل هذا اليوم الشريف كما أن الواحد منا يموت له قريب في ليلة الجمعة أو ليلة القدر أو يستشـهد يوم الجمعة أو يوم عرفة فيكون من فضائله أو يعد من مناقبه فكذا الحسين

هذا ورسول الله {صلى الله عليه وسلم} أخبره جبريل عليه السلام بقتله
412 الحسين وجده
قالت أم سلمة رضي الله عنـها كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مع الحسين في منزلي إذ دخل عليهما فطالعتهما من الباب فإذا الحسين على صدر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يلعب وفي يد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قطعة من طين ودموعه تجري على خديه فلما خرج الحسين دخلت إليه وقلت له بأبي أنت وأمي يا رسول الله اطلعت عليك وفي يدك طينة والصبي على صدرك وأنت تبكي فقال لها النبي {صلى الله عليه وسلم} إني لما فرحت بـه وهو على صدري يلعب إذ أتاني جبريل عليه السلام وناولني الطينة التي يقتل عليها الحسين فلذلك بكيت
413 رؤيا ابن عباس لمقتل الحسين
وقيل رأى ابن عباس رضي الله عنـه في منامـه يوم قتل الحسين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبيده قارورة وهو يلتقط شيئا من الأرض قال فقلت له ما هذا يا رسول الله قال قتل ولدي الحسين ولم أزل منذ ذلك اليوم ألتقط دمـه من الأرض وأجمعه في القارورة وأرفعه إلى الله تعالى
فكان كما رأى رضي الله عنـه
وقيل لما خرج الحسين إلى العراق خوفه أهله وجزعوا فلما رأى جزعهم أنشأ يقول
سأمضي فما في الموت عار على الفتى
إذا ما نوى حقا وحارب مجرما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه
وخالف مثبورا ووافق مسلما
وجاهد في الرحمن حق جهاده
كفى بك ذلا أن تعيش فتغرما
فلما قدم الكوفة استقبله الفرزدق فقال له الحسين ما وراءك يا أبا فراس قال أصدقك أم لا قال الصدق أريد قال أما القلوب فمعك وأما السيوف فمع بني أمية عليك
قال له الحسين ما أراك إلا صدقت إن الناس عبيد للمال فالدين نفق على ألسنتهم يحوطونـه ما ردت بـه معائشـهم فإذا تحولوا للإبتلاء قل الديانون
ثم التفتت إلى أصحابه وقال على الخبير سقطنا
414 آيات ظهرت لمقتل الحسين
وقال الحسن لم نر هذه الحمرة في السماء إلا حين قتل الحسين ووجد على حائط قسطنطين
أترجو أمة قتلت حسينا
شفاعة جده يوم الحساب
ويقال ناحت الجن على قتل الحسن سبعة أيام حتى سمعت من تحت السبع أرضين وأبكت الملائكة أجمعين
415 حكاية غريبة

وقال الحذاء بن رباح القاضي رأيت رجلا مكفوفا قد شـهد قتل الحسين وكان الناس يأتونـه ويسألونـه عن ذهاب بصره قال فكان يقول شـهدت قتل الحسين ولكني لم اضرب بسيف ولم أرم بسهم فلما قتل الحسين رجعت إلى المنزل وصليت العشاء الأخيرة ونمت فأتاني آت في منامي فقال لي أجب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقلت ما لي وله فأخذني وجذبني جذبة شديدة وانطلق بي إليه فإذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جالسا في المحراب مغتما حاسرا عن ذراعيه آخذا بخده وبين يديه نطع وملك قائم بين يديه وبين يدي الملك سيف من نار وكان لي تسعة من الأصحاب فقتل أصحابي التسعة كلما ضرب الملك أحدا التهبت نفسه نارا فكلما قام الملك صاروا أحياء فقتلهم مرة بعد أخرى حتى قتلهم سبع مرات فدنوت من النبي {صلى الله عليه وسلم} وحبوت إليه فقلت السلام عليك يا رسول الله والله ما ضربت بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم فقال لي صدقت ولكن كثرت السواد أدن مني فدنوت منـه فإذا طشت مملوء دما من دماء الحسين فكحلني من ذلك الدم فانتبهت أعمى لا أبصر شيئا
416 حكاية عن قتلة الحسين
وقال الفضل بن الزبير كنت قاعدا عند السدي فجاءه رجل فجلس إليه فإذا منـه ريح قطران فقال له السدي أتبيع قطرانا فقال لا
قال له ما هذه الرائحة قال شـهدت عسكر عمر بن سعد فكنت أبيع منـهم الأوتاد الحديد فلما قتل الحسين يوم عاشوراء بت في العسكر فرايت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في النوم والحسين وعلي معهم وهو يسقي الماء من قتل من أصحاب الحسين فاستسقيته فأبى أن يسقيني قال فقال لي ألست ممن أعان علينا فقلت بل كنت أبيعهم أوتاد الحديد قال فقال لعلي أسقه قطرانا قال فناولني قدحا فشربت منـه فكنت ثلاثة أيام أبول القطران ثم ذهب ذلك عني وبقيت هذه الرائحة علي
قال فقال له السدي كل خبز البر وكل من كل النبات واشرب من ماء الفرات فما أراك تعاين الجنة ولا محمدا أبدا
417 من استخف بالحسين

حكي أن رجلا ممن شـهد قتل الحسين يوم عاشوراء قال وعلى وجهه الاستخفاف ما أكثر ما يكذب أهل العراق ويقولون إنـه لم يشـهد قتل الحسين أحد إلا أصيب ببلاء وإني حضرت يوم قتله ولم يصبني بلاء ولا شيء قال وكان ضيفا عند قوم فقام ليصلح السراج فتعلقت بـه شرارة من المصباح فاشتعل نارا ومات على المكان
418 بر سليمان بن عبد الملك للحسين
وحكي عن الحسن البصري أنـه قال رأى سليمان بن عبد الملك في النوم أنـه يبره ويلاطفه فسأل الحسن عن ذلك فقال لعلك فعلت إلى أهل بيته معروفا قال نعم إني وجدت راس الحسين في خزانة يزيد بن معاوية فكسوته خمسا من الديباج وصليت عليه في جماعة من أصحابي وقبرته
فقال الحسن إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد رضي عنك بسبب ذلك فأحسن إلى الحسن البصري وأمر له بالجوائز
فعليكم بحفظ مقام الأشراف ولو كانوا في غاية الإسراف
419 في قتل الحسين
ورأيت في كتاب التعازي والعزاء من وضع أبي محمد عبد الله بن محمد البللوري أن الحسين رضوان الله عليه استسقى ماء حين قتل فمنع منـه وقتل وهو
عطشان وأتى الله حتى سقاه من الجنة وذبح ذبحا وسبيت حرمـه وحملن مكشفات الرؤوس على الأكف بغير وطاء حتى دخلن دمشق ورأس الحسين بينـهن على رمح إذا بكت إحداهن عند رؤيته ضربها حارس بسوطه ووقف أهل الذمة لهن في سوق دمشق يبصقون في وجوههن حتى وقفن بباب يزيد فأمر براس الحسين فنصب على الباب وجميع حرمـه حوله ووكل بـه الحرس وقال إذا بكت منـهن باكية فالطموها
فظللن ورأس الحسين بينـهن مصلوب تسع ساعات من النـهار وإن أم كلثوم رفعت رأسها فرأت رأس الحسين فبكت وقالت يا جداه تريد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذا رأس حبيبك الحسين مصلوب وبكت فرفع يده بعض الحرس ولطمـها لطمة حصر وجهها وشلت يده مكانـه وفي هذا يقول الأزدي
لقد ضل قوم أصبحوا في تلدد
سباياهم في الحرب آل محمد
كما ضل سعي الناكبين بعجلهم
فأعقبهم لعنا بدين التهود
وموسى وعيسى بشرا بمحمد
عليه سلام الله من متهجد

أيا أمة الإسلام يا أمة الذي
هدى الله منا بالنبي كل مـهتد
وثوب لأبناء النبي فلو ترى
بنو اللعن إذ عنوا لهم بالتهدد
بسوق دمشق يبصقون وجوههم
فداء لها نفسي وما ملكت يدي
} فما جرى دمعي يا حبيبي بناضب
ولا زند ودي للحسين بمصلد
420 عمرو بن الليث
وقيل إن عمرو بن الليث عرض عليه جنوده يوما فرأى كثرة عسكره وكان يحمل بين يديه إثنا عشر ألف عمود من ذهب تحت كل عمود قائد من حشمـه تحت يده ألف فارس فلما رأى ذلك اغرورقت عيناه بالبكاء وقال في نفسه يا ليتني وقت قتل الحسين بن علي مع هؤلاء فكنت أفديه بنفسي ومالي وحشمي فرأى بعض الصالحين في منامـه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال له قل لعمرو بن الليث أطلعنا على ما خطر بقلبك وقبلنا منك وأعطاك الله تعالى على نيتك وقولك الثواب الجزيل فجاءه فأخبره فبكى بكاء شديدا
421 من فضائل عاشوراء
ومن فضائل يوم عاشوراء ما ذكره وهب بن منبه قال وهب بن منبه أنزل
الله سبحانـه وتعالى خاتم سليمان عليه الصلاة والسلام في يوم عاشوراء وذلك أن الله تعالى أسكن آدم الجنة وختمـه بخاتم العز وقال يا آدم هذا خاتم عهدي فإذا نسيت عهدي يا آدم اخلعه منك ثم ألبسه من أنبيائي من لا ينسى عهدي وأورثه خلافتك ففزع آدم وقال يا ربي من هذا الذي تورثه خلافتي قال الله تعالى ولدك سليمان أسلمـه من الكبر وأجعله مثلا للمردة من ولدك الذين يفسدون في أطراف الأرض ويسمون أنفسهم ملوكا في أكنافها

فأخذه آدم عليه السلام فتختم بـه فكان يضيء لنوره أشجار الجنة وتضحك حور الجنان وتميل الخزنة لرؤيته عجبا منـه ومن حسنـه وجماله فسبحان من أكرمـه واصطفاه {صلى الله عليه وسلم} حتى عصى ربه ونسي عهده طار الخاتم من أصبعه طيرانا فزعا مذعورا حتى استجار بركن من أركان العرش وأنطق الله الخاتم فقال إلهي وسيدي هذا آدم قد رفضني وأنت قد طهرتني بـه وجعلتني لأهل الطهارة فقال الله جل جلاله استقر فلك الأمان وسنجعلك لمن نسلمـه من الكبر ونعزه بك على أن لا يملكك أحد بعده أبدا فلما اصطفى الله سبحانـه سليمان عليه السلام بالخلافة والولاية وأحب أن يرى عباده قدرته جعل عن سليمان عليه الصلاة والسلام في ذلك الخاتم وأنزله الله سبحانـه إليه يوم عاشوراء صبيحة يوم الجمعة وسليمان قائم في محرابه وخلفه إثني عشر سبطا في كل سبط إثني عشر ألفا من العلماء والحكماء والقضاة من أهل التوراة والزبور ودراسة الكتب إلا أصحاب البرانيس والعكاكيز فقد أظلهم الطير من فوقهم فبينما سليمان عليه السلام في قراءة الزبور إذا ناداه جبريل عليه السلام
422 خاتم سليمان
وقال له السلام عليك يا سليمان هذه هدية الله إليك خذ هذا الخاتم فتختم بـه فسجد سليمان لله رب العالمين شكرا وسجد من خلفه من أول النـهار إلى آخره تعظيما لله عز وجل وتحميدا له حتى إذا رفع رأسه صعد كرسيه واستقبل الناس بوجهه ورفع إليهم الخاتم فلمع في يده كالبرق الخاطف فقال لهم هذا خاتم جمع الله لي فيه سلطاني وعزتي وفضلني بـه على العالمين وهو خاتم الطاعة لا يمسه إلا عزيز تقي نقي قالوا له قد أدينا لك طاعتنا وأنت العزيز التقي النقي الأمين وكان على تربيع الخاتم مكتوب على الجانب الأول أنا الله لم أزل وعلى الثاني أنا الله الحي القيوم وعلى الثالث أنا الله العزيز لا عزيز غيري وعزيز من
ألبسته إياه وعلى الرابع آية الكرسي محيط بـه لا إله إلا الله محمد رسول الله خاتم الأنبياء
فهذه صفة خاتم سليمان عليه السلام
423 كيف نجا أسير

وحكى أن أسيرا كان بأيدي الكفار وكانوا يعذبونـه فلما كان في يوم عاشوراء قال اللهم بحرمة هذا اليوم عليك إلا ما فرجت عني قال فلطف الله بـه وعطف عليه قلوب الكفار حتى خلصوه وأفرجوا عنـه وقيل خرج أسير في يوم عاشوراء من بلد الكفار فطلبوه فلما رأى الفرسان خلفه وأيقن أنـه مأخوذ مدرك رفع رأسه إلى السماء وقال إلهي وسيدي ومولاي بحرمة هذا اليوم أسألك أن تنجيني وتحفظني منـهم فأعمى الله أبصارهم عنـه فنجا وصام ذلك اليوم فلم يجد شيئا يفطر عليه عند الليل فنام وأطعم وسقى في النوم لفضل يوم عاشوراء
فعاش بعد ذلك عشرين سنة لم يكن له حاجة إلى الطعام وال
وهذا رحمكم الله من فضل يوم عاشوراء فاعرفوا حقه وارغبوا في فضله لا حرمنا الله فضله وغفر لنا فيه ما أسلفنا من الأوزار والذنوب وستر علينا ما أتينا من القبائح والعيوب
424 دعوات صالحة
اللهم كما تبت على آدم في عاشوراء فتب علينا وكما نجيت عيسى من الأعداء فنجنا وكما رفعت إدريس مكانا عاليا فارفعنا وكما لعنت فيه إبليس فأعذنا من سخطك وجنبنا معاصيك برحمتك يا أرحم الراحمين
اللهم ارزقنا الشـهادة والسعادة كما فعلت بهابيل واجعلنا يا رب من أحبابك كما فعلت بالخليل
اللهم برد علينا نار الآخرة كما بردت النار على خليلك إبراهيم وأهلك أعداءنا كما أهلكت أعداء موسى في اليم
اللهم نجنا من طوفان الشـهوات والهوى وانزل علينا السكينة والوقار في دار الدنيا
اللهم اكشف الضر عنا والبلوى ورد علينا أبصار القلوب بعد التحير والعمى
اللهم وإذا أخرجتنا من سجن الدنيا فأكرمنا بملك البقاء ورد علينا ما فات منا من طيبات التقى
اللهم اغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر وما أعلنا وما أسررنا وما أنت أعلم بـه منا برحمتك يا أرحم الراحمين

اللهم يا عماد من لا عماد له ويا ذخر من لا ذخر له ويا حرز من لا حرز له ويا ناصر من لا ناصر له يا مؤيد قلوب العارفين ويا مستراح مذاهب المتوكلين ويا شاهد مجالس الخائفين ويا مقيل عثرة العاثرين ويا أرحم الراحمين أجب دعاءنا ولا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا
اللهم اجعلنا ممن شملته رحمتك وناله عفوك وعد على ما تعلم من ذنوبنا برحمتك وعلى ما سلف من تقصيرنا عن طاعتك ما وعدتنا من الإحسان من نفسك يا ذا الجلال والإكرام
اللهم يا سيدنا كرمت أفعالك بنا فعصيناك ووجدناك كريما فدعوناك ولقيناك رحيما فسألناك
اللهم فكما مننت علينا بالستر والعافية في حال الذنب والمعصية لا تحرمنا المغفرة والرحمة في حال التضرع والاستكانة سيدنا ومولانا ارحم في هذه الدنيا غربتنا وارحم عند الموت صرعتنا وآنس في اللحود وحشتنا وارحم بين يديك ذل موقفنا واغفر لنا ما خفي على الناس من أعمالنا
اللهم انظر إلينا النظرة الرضا وأعذنا من نظرة الخزي والعلل
اللهم لا تجعلنا ممن صرفت عنـه وجهك ومحوت عنـه عفوك وأغلقت عنـه باب التوبة وقطعت من يديه أسباب العصمة وطبعت على قلبه وأعميته لذنبه ووكلته إلى نفسه إنك على كل شيء قدير
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
اللهم يا ربنا وسيدنا ومولانا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين واحفظنا واحفظ علينا ما رزقتنا وبارك لنا فيما أعطيتنا ولا تجعل لأحد من خلقك علينا سلطانا ولا سبيلا يا ارحم الراحمين
اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا للعسرى
اللهم إنا نسألك من فضلك وعطياك رزقا طيبا مباركا فيه
اللهم إهدنا للهدى وقنا بالتقوى واغفر لنا مغفرة واقية في الدنيا والأخرى
اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبا إلا غفرته ولا دينا إلا قضيته ولا هما إلا فرجته ولا مريضا إلا شفيته ولا غائبا إلا أدنيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة مما يصلحنا ويرضيك إلا قضيتها

اللهم أد دين المدينين وفرج عن المـهمومين والمكروبين واكتب سلامة المسافرين في البر والبحر أجمعين وجاز اللهم خير المحسنين
اللهم إن نواصينا بيدك وقلونا في قبضتك تعلم منقلبنا ومثوانا وسرنا ونجوانا إليك مردنا ومصيرنا أنت فوق العباد بعزتك أنت الخالق ونحن المخلوقون وأنت المالك ونحن المملوكون أنت الرب ونحن العبيد أنت الغني ونحن الفقراء إسمع دعاءنا ولا تقطع منا في كل ما سألناك ورغبنا إليك رجاءنا فإن ذلك عليك يسير وأنت نعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأزواجه الطاهرات أمـهات المؤمنين وهو حسبنا ونعم الوكيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

16 مجلس في قوله تعالى { الله نور السماوات والأرض } 425 مثل ضربه الله المولى البصير السميع لقلب العبد المؤمن المطيع وما أودعه من الإيمان والمعرفة في القرآن من نور الملك الرحمن
فقال خالق الطول والعرض الذي عبد بالنوافل والفرض { الله نور السماوات والأرض } النور 35 أي بنوره جل جلاله يهتدي من في السماوات والأرض

ثم قال تبارك وتعالى { مثل نوره } النور 35 يعني النور الذي جعل في قلب المؤمن وهذا قول جمـهور المفسرين { كمشكاة } النور 35 يعني قلب المؤمن والمشكاة هي الكوة غير نافذة وذلك أن الكوة إن كانت غير نافذة وكان فيها قنديل الزجاج ولا يقال للزجاجة قنديل حتى يكون فيها مصباح وهو السراج فإذا كان المصباح في زجاجة صافية في كوة غير نافذة انضم النور واجتمع ولم يجد له منفذا فتكون الكوة أكثر نورا مما لو كانت نافذة وهذه مبالغة من الله في وصف قلب المؤمن ثم إن الله تعالى خلق الخلق ضروبا مختلفة فإذا كانت أنوار المعرفة والإيمان في قلب العبد استدل ونظر بنور الله تعالى وأخذته الفكرة في خلق السماوات والأرض وفي عظمة الله تبارك وتعالى فإذا كان العبد كذلك تمكن من قلبه الخوف فعند ذلك يتبع القرآن والأحكام ويتجنب الفواحش والآثام من كثرة النور الذي جعله في قلبه الملك العلام
فهذا الصنف الذي أثنى عليه الله في كتابه العزيز
فقال الله تعالى { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنـهار لآيات لأولي الألباب } آل عمران 190 ثم نعتهم المولى بالتذكير والتفكير فقال تعالى { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } آل عمران 191 إلى قوله { عذاب النار } فلما جعل الله تبارك وتعالى نور الإيمان في قلوبهم أيقنوا أن الله عز وجل خلق السماوات والأرض والليل والنـهار والشمس
والقمر وعلموا بنور الهدى إنما خلق الله ذلك ليطاع ولا يعصى وعلموا أن الجنة جزاء لمن أطاعه والنار جزاء لمن عصاه
فاستعملوا قلوبهم بالفكرة وجالت أبصارهم في مصنوعات الله بالعبرة فلا يقدر واحد منـهم أن يباشر شيئا من المنكرات ولا يضيع شيئا من الطاعات
426 النور هو الهدى

قال بعض أهل العلم أراد الله تبارك وتعالى بهذا النور الهدى وليس المراد بـه نور شعاع ولا ضياء لأن الله تبارك وتعالى لا يوصف بلون من الألوان ولا يشبه بملك ولا إنسان { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } الشورى 11 وقال بعض العلماء هذا مثل ضربه الله بارك وتعالى في وصف نور محمد {صلى الله عليه وسلم} الذي هدى بـه المؤمنين واستنقذهم بـه من موارد الهالكين لأن الله تعالى رحم بمحمد {صلى الله عليه وسلم} العباد وأنقذهم بـه من جهنم وبئس المـهاد
وأوجب لهم الاقتداء بنور الجنة وأعظم عليهم بـه المنة
ثم قال تعالى { فيها مصباح } النور 35 أي ولو لم يسرج بـه من شدة صفائه تم الكلام ثم ابتدأ تعالى فقال { نور على نور } النور 35 يعني سراجا { المصباح في زجاجة الزجاجة كأنـها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية } النور 35 الآية
فشبه الله تعالى القنديل في شدة بياضه وتلألؤه بكوكب دري يوقد ذلك المصباح بزيت من شجرة لا شرقية ولا غربية أي لا بارزة للشمس كل النـهار فتحرقها الشمس بحرها ولا غربية أي ولا مستترة بالظل فيؤذيها الظل ببرده كل النـهار ولكنـها شرقية غربية تصيبها الشمس بعض النـهار وإذا كانت الشجرة كذلك فهو أنضر لها وأجد لحملها وأنور لزيتها
ثم قال تعالى { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } النور 35 يعني نور المصباح على نور الزجاجة وصفاء الزيت
وهذا مثل ضربه الملك الجبار لقلوب المؤمنين الأبرار قال سبحانـه وتعالى { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } الزمر 22 فنور الهدى إذا دخل القلب انفسح وانشرح وزالت عنـه الأسباب المانعة عنـه الضلالة والمعصية فعند ذلك ذكر الجوارح بالأعمال الموجبة لدار

القرار والمنجية من سخط الملك الجبار ومدار ذلك كله على القلب والقلب هو سلطان البدن فإذا صلح صلح جميع الجسد وإذا فسد فسد جميع الجسد وصلاحه إنما هو بنور الإيمان وبنظر الملك الرحمن وفساده إنما هو بظلمة العصيان ووسواس العدو الشيطان ولذلك ورد الخبر عن سيد البشر إن في ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب
427 شجرة الزيتون
وقال الله تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } المائدة 15 وقال عز وجل { وأنزلنا إليكم نورا مبينا } النساء 174 وقال سبحانـه { ولكن جعلناه نورا نـهدي بـه من نشاء من عبادنا } الشورى 52 وقوله تعالى { زيتونة لا شرقية ولا غربية } النور 35 لا شرقية تطلع عليها الشمس كل النـهار فتحرقها ولا غربية يصيبها الظل كل النـهار فيظلها وهي أفضل ما يكون من الشجر
وهذا مثل ضربه الله تعالى في وصف نبيه محمد {صلى الله عليه وسلم} والنور الذي أنزل عليه هو القرآن
فالله تعالى قد وصف الشجرة بأنـه سبحانـه وتعالى حفظها من الشمس والظل فكذلك حفظ لنا القرآن فلم يقع فيه تحريف ولا بهتان ولا زيادة ولا نقصان ولو جعل الله حفظه إلينا وقع فيه التحريف والتبديل كما وقع في الكتب المتقدمة قال الله تعالى { بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شـهداء } المائدة 44 ثم أخبرنا عنـهم عز وجل أنـهم حرفوا وبدلوا فقال تعالى { يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا بـه } المائدة 13 وقال سبحانـه { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله } البقرة 79 فاخبرنا الملك الرحمن في محكم القرآن أنـهم أوقعوا في كتبهم الزيادة والنقصان والتحريف والبهتان
وخبرنا مولانا عن القرآن أنـه الحافظ له بقوله { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } الحجر 9 وما حفظ الملك الديان فلا يقع فيه زيادة ولا نقصان ولا تحريف ولا بهتان

فكتابنا قد حفظه الملك الجليل فسلم من التحريف والتبديل وكذلك حفظ نبيه محمدا {صلى الله عليه وسلم} وعصمـه وهداه فقال تعالى في عصمته لنبيه حبيبه وصفيه { والله يعصمك من الناس } المائدة 67 وقال تبارك وتعالى في هدايته لنبيه { ويهديك صراطا مستقيما } الفتح 2 فأخبرنا مولانا العزيز الحكيم عن
محمد النبي الرؤوف الرحيم أنـه قد هداه إلى الصراط المستقيم وأعاذه من الشيطان الرجيم وحفظه الملك الرحمن من الشرك والكفران والعوج والبهتان فقال له الديان في محكم القرآن { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } الأنعام 161 فهداه الله تبارك وتعالى إلى الحق المعلوم وعلمـه ما لم يكن يعلم من دقائق العلوم فأدى رسالة ربه غير مقصر ولا مذموم ولا مفرط ولا ملوم فأخبرنا الحي القيوم عن النبي الصادق المرحوم أنـه قد بلغ كتاب ربه المعلوم وقال له { فتول عنـهم فما أنت بملوم } الذاريات 54 وقد أخبرنا الملك الجبار أنـه أمر نبيه المختار بتبليغ الرسالة ليستنقذ المؤمنين من النار فقال تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } المائدة 67 فأمره تعالى بالتبليغ وأخبر عنـه أنـه قد بلغ
وما حفظ الملك القهار لقلوب المؤمنين الأبرار فقوله تعالى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } الحجر 42 فصار المؤمن في عصمة الله تبارك وتعالى وحفظه لما دخل نور الهدى في قلبه
فهذا مثل ضربه الله العزيز الحكيم المنان المتفضل الكريم لنبيه الصادق الأمين ولكتابه النور المبين
ثم قال تعالى { ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } النور 35 فهو تعالى عالم بما كان وما يكون وما لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف كان يكون

ثم إن الله تبارك وتعالى أثنى على المؤمنين المحافظين على أداء الصلوات الذاكرين لله في المساجد في جميع الآناء والأوقات الخائفين من عقوبة رب الأرضين والسموات فقال رب الأرباب وسيد السادات في محكم الكتاب { بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمـه يسبح له فيها } النور 36 الآية
أي يذكر فيها جميع ما أنزل المولى من أسمائه الحسنى وصفاته العلى لا يذكر فيها زور ولا بهتان ولا غيبة ولا عصيان ولا نميمة على اللسان وإنما جعلها الله تعالى للسنة والقرآن وعبادة الملك الديان لا يذكر فيها لغو ولا تأثيم لأنـها إنما جعلت لأداء فرض العزيز الحكيم
428 المساجد لذكر الله
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إذا سمعتم الأصوات قد علت في المساجد في غير ذكر الله فلا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة {
وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إذا علت الأصوات في المساجد في ذكر
الدنيا تقف عليهم الملائكة فيقولون لهم اسكتوا يا أولياء الله اسكتوا يا أعداء الله اسكتوا عليكم لعنة الله وقوله { ويذكر فيها اسمـه } النور 36 يذكر فيها جميع ما أنزل العليم الخبير في كتابه المبين وجميع ما أمر بـه الصادق البشير النذير
قال الله مولانا الذي بيده ضلالنا وهدانا { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نـهاكم عنـه فانتهوا } الحشر 7 وقد نـهانا محمد {صلى الله عليه وسلم} عن فضول الكلام في كل مكان
فإذا كان فضول الكلام وبالا على العباد في غير المساجد فأولى أن يتحفظ العبد عن الكلام في غير ذكر الله في المساجد
429 كلمة السوء
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن العبد ليتكلم بالكلمة فينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب {
فهذا ثناء من أسرع الحاسبين على عمار المساجد المؤمنين
وقد أثنى عليهم الملك الرحمن في محكم القرآن حيث أوجب لهم الإيمان { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله } التوبة 18

وجاء في الخبر عن سيد البشر {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إذا كان يوم القيامة يقول الجبار تبارك وتعالى أين جيراني فتقول الملائكة مولانا ومن ينبغي أن يكون جارك فيقول الله تبارك وتعالى يا ملائكتي أين عمار المساجد في الدنيا {
وأنشد يحيى بن معاذ بعرفات
} إليك جئنا وانت جئت بنا
وليس شيء سواك يغنينا {
} فناك رحب وأنت ذو كرم تدعو إلى بابك المساكينا {
قال الله تعالى { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } النور 37 يريد أن القلوب يوم القيامة تعرف أمره يقينا فتتقلب وما كانت عليه من الكفر والشك في الحساب والبعث والثواب والعقاب والنعيم والعذاب فترى الأبصار يومئذ ما كان عنـها مغطى بقوله تعالى { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } ق 22 وقيل تتقلب الأبصار من الكحولة إلى الزرقة ومن البصر إلى العمى ومن بياض الوجه إلى السواد والقلوب تتقلب من الشك إلى اليقين ومن الأمن إلى الخوف ثم لم يوقنوا بالبعث حتى عاينوه ولم
يصدقوا بالعذاب حتى شاهدوه
ثم ضرب الله تبارك وتعالى مثلا للكافرين فقال تعالى { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء } النور 39 يراه من البعد { حتى إذا جاءه لم يجده شيئا } النور 39 كذلك الكافر بحسب ما قدم من عمله في الدنيا ينفعه بل وجده بلاء وحسرة عليه لأن الله تبارك وتعالى محقه وأبطله بالنفاق والكفر لأنـه عمل لم يعمله لوجه الله تبارك وتعالى ولا ينفع من الأعمال كلها إلا ما كان لوجه الله خالصا والكافر والمنافق لم يرد بعمله وجه الله تعالى فنعوذ بالله من النفاق والكفر بعد الإيمان ومن زوال النعمة بعد الإحسان ومن القطيعة والحرمان ومن ترك الزيادة ولزوم النقصان ومن ترك العز واتباع الهوان وترك المولى الكريم وصحبة الشيطان

ثم وصف الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه الرجال الذين يسبحون له بالمساجد فقال تبارك وتعالى { يسبح له فيها } النور 36 يعني المساجد { بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } النور 36 فسبحان من لو سجدنا له على جمر الغضا وحرارة الرمضاء ما بلغنا جزءا واحدا من فناء الأعداء من حق الملك الجواد الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام وفضلنا بمحمد عليه الصلاة والسلام خير نبي وأكرم إمام شاهدا علينا في جميع الأحكام وجعل هذه الأمة شـهداء يوم القيامة على الناس يوم تشقق فيه السماء بالغمام
فمن كانت هذه النعمة من بعض ن عليهم كيف تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله وتجارتهم مع الله رابحة ومحاسنـهم لذوي الألباب لائحة
ثناؤهم عطر الأنام فهو بين لناس كالأعلام بهم يستمطرون الغيث إذا حجب وفي جملتهم يحشر السعيد والنجيب ومن فاخرهم يخب ومن حاربهم نكب ومن أقلع إليهم بغير ريح عطب بدعائهم يستمطر الغمام فهو دواء الآلام وشفاء الأسقام وبهم يستنقذ المغلوب وبهم يفرج الله عن المكروب كروبهم كشف العمى عن القلوب وبهم تغفر الخطايا والذنوب ومن اقتدى بهم تجنب الآثام والذنوب وأقلع عن القبائح والعيوب وبلغ من رحمة مولاه المنى والمرغوب وبهم يتوصل إلى غاية المحبوب
وأنشدوا
وربك لو أبصرت يوما تتابعت
عزائمـهم حتى لقد بلغوا الجهدا
لأبصرت قوما جانبوا النوم وارتدوا
بأردية التسهاد واستقربوا البعدا
وصاموا نـهارا دائما ثم أفطروا
على بلغ الأقوات واستعملوا الكدا
أولئك قوم حسن الله فعلهم
وأورثهم من حسن فعلهم الخلدا
رجال جالت قلوبهم في الملكوت رجال تفكروا في العظمة والجبروت رجال استقاموا على عبادة الحي الذي لا يموت رجال خطرت على قلوبهم الأشجان وأتعبوا النفوس والأبدان وتسربلوا الخوف والأحزان وأقبلوا على مولاهم كورود الظمآن

شربوا بكأس الزلال مع اليمين وتأسوا بسيد المرسلين وعملوا أعمال الصالحين وأتبعوا سيرة المؤمنين واستقاموا على طريق الهدى والدين
رجال شربوا بكأس الوداد والحب فكشف لهم حجب الغيب وغفر لهم ما عملوا من ذنب فأشعلوا في قلوبهم نيران خوف الملك الرب
رجال أقلقهم خوف الوعيد وأنحل أجسامـهم التفكر الشديد رجال تجنبوا الفواحش والآثام ولذيذ ال والطعام رجال ليلهم قيام ونـهارهم صيام يطلبون رضا ذي الجلال والإكرام
وأنشدوا
سقوا كأس المحبة فاطمأنت
قلوبهم وهيجها اليقين
إلى ملك تحن إليه شوقا
وليس لها إلى أحد حنين
يميل بهم هبوب القرب ميلا
كما مالت مع الريح الغصون
رجال كحلوا أعينـهم بالسهر وغضوها عما لا يحل من النظر وشغلوا خواطرهم بالفكر وأشغلوا قلوبهم بالعبر رجال أزعجوا أنفسهم عن الأوطان ولزموا مساجد الملك الرحمن وجالت قلوبهم في علوم القرآن وما واعدهم وتواعدهم بـه الماجد الديان
وأنشدوا
اختصم الطرف مع فؤادي
في وصارا إلى عناد {
فقال طرفي أن ابتليت بطول ليلي وبالسهاد
وقال قلبي أنا المقلا بالكرب الصعبة الشداد
} فقال جسمي قتلتماني أنا الذي ذبت في الجهاد
430 الزهاد
رجال قد نحلت منـهم الأبدان وتغيرت منـهم المحاسن والألوان وخوف العذاب والنيران وشوقا إلى نعيم الجنان
رجال صحبوا القرآن بحسن العمل ولم
يغتروا بطول الأمل ونصبوا لأعينـهم تقريب الأجل وسمت هم إلى الرفيع من المحل واشتاقت نفوسهم إلى الملك الأعلى الأجل فلو رأيتهم لرأيت قوما يتلون كتاب الله بشفاه ذابلة ودموع وابلة وزفرات قاتلة وأجسام ناحلة وعقول زائلة وخواطر في عظمته جل جلاله جائلة
وأنشدوا
لله قوم شروا لله أنفسهم
فأتعبوها بزجر الله أزمانا
أما النـهار فقد وافوا صيامـهم
وفي الظلام تراهم فيه رهبانا
أبدانـهم أتعبت في الله أنفسهم
وأنفس أتعبت في الله أبدانا
ذابت لحومـهم خوف العذاب غدا
وقطعوا الليل تسبيحا وقرآنا

رجال إذا نظروا اعتبروا وإذا سكتوا تفكروا وإذا ابتلوا استرجعوا وإذا جهل عليهم حلموا وإذا علموا تواضعوا وإذا عملوا رفقوا وإذا سئلوا بذلوا عونا للوارد وتفضيلا للقاصد حلفاء صدق وكهوف ودق قد عملوا بالسنة والكتاب ونطقوا بالحكمة والصواب وحاسبوا أنفسهم قبل يوم الحساب وخافوا من عقوبة رب الأرباب
رجال لزموا البكاء والعويل ورضوا من الدنيا بالقليل فأزمعوا إلى الآخرة التحويل ورغبوا في ثواب الملك الجليل وحنوا إلى النعيم الدائم الجزيل وتمسكوا بالسنة والتنزيل ومنعوا أنفسهم التسويف والتعليل وأشفقوا من هول اليوم العبوس الثقيل الهائل المنظر الطويل
وأنشدوا
لله قوم لدار الخلد أخلصهم
وخصهم بجزيل الملك مولانا
فلو تراهم غدا في دار ملكهم
قد توجوا من حلي الكون تيجانا
وقد دعاهم إلى الفردوس سيدهم
إلى الزيارة والتسليم ركبانا
على نجائب دركى تطير بهم
والخيل من جوهر والسرج مرجانا
حتى إذا جاوزوا دار السلام وقد
أبدى لهم وجهه الرحمن سبحانا
خروا سجودا فناداهم بعزته
إني رضيت بكم قربا وجيرانا
إني خلقت لكم دار النعيم فلا
ترون بؤسا ولا تخشون أحزانا
هذا النعيم الذي لا ينقضي أبدا
ولا تغيره الأزمان ألوانا
وهو الجزاء لكم مني على عمل
أخلصتموه وكنتم في إخوانا
رجال ركبوا فلك السلامة وجروا بريح الاستقامة فقطعوا بحار العطب
277 والندامة ونجوا من الأهوال يوم القيامة فحظوا في دار المقامة وأرسوا في سرمد الكرامة
431 خيار الأمة
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } خيار أمتي الملأ الأعلى في الدرجات العلى { قوم ضحكوا جهرا من سعة رحمة الله وبكوا سرا من خوف عذاب الله
هم بالغداة والعشي في بيوت الطيبة يدعون بألسنتهم رغبا ورهبا ويسألونـه بأيديهم خفضا ورفعا ويشتاقون إليه بقلوبهم غدوا وعشيا
مؤنتهم على الناس قليلة وعلى أنفسهم ثقيلة يدبون على الأرض حفاة أقدامـهم دبيب النمل بغير مرح ولا ميل ولا ترح

يمشون بالسكينة والوقار ويتقربون بالوسيلة إلى الملك الجبار
يلبسون الخلقان ويعبدون الرحمن ويتلون القرآن ويشفقون من عذاب النيران ويخافون يوما يكثر فيه الويل والأحزان قد تجنبوا كل ريبة وبهتان ولم يأمنوا مكر الملك الديان رجال تعوقوا ريب المنون وجزعوا من السابقة في الغيب المكنون فحال بينـهم وبين ما يشتهون ينتظرون الخاتمة كيف تكون أولئك أولياء الله الصالحون { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } المجادلة 22 رجال المساجد مأواهم والله جل جلاله معبودهم ومولاهم تركوا المعاصي خوفا من الحساب والسؤال وبادروا إلى الطاعة وحسن الأعمال وتنزهوا عن الغي واللهو والمحال وحادوا عن طريق كل مطرود بطال وأشفقوا من عقوبة ذي المجد والجلال وعملوا ليوم لا بيع فيه ولا خلال
وأنشدوا
} لله قوم أخلصوا في حبه
اختصهم ورضى بهم خداما {
} قوم إذا هجم الظلام عليهم قاموا فكانوا سجدا وقياما {
} يتلذذون بذكره في ليلهم ونـهارهم لا يفترون صياما {
} خمص البطون من الحرام أعفة
لا يعفرون سوى الحلال طعاما {
} فسيفرحون بورد حوض محمد وسيسكتون من الجنان خياما {
رجال تحولوا عن الدنيا تحويلا وبدلوها تبديلا ولم يشتروا بعهد الله ثمنا قليلا وعلموا أن وراءهم يوما عبوسا هائلا ثقيلا وأن أمامـهم من الموت خطبا جليلا وبدلت عيونـهم وقلوبهم بكاء ونوحا وعويلا حين سمعوا مولاهم يقول { كان وعده مفعولا } المزمل 18 رجل قطعوا الأيام والليالي بالتفكير وخافوا

من هول يوم عبوس قمطرير وجالت قلوبهم خوف العلي الكبير فعما قليل ينجون من الفزع الهائل الخطير ويجاورون السيد النذير البشير في جنة ليس فيها شمس ولا زمـهرير رجال اطمأنت قلوبهم بذكر الرحمن ولزموا الطاعة وتجنبوا العصيان وحفظوا ألسنتهم من العيب والبهتان واتبعوا السنة وأحكام القرآن ولم يقبلوا من خدع العدو الشيطان وطلبوا الزيادة ولم يرضوا بالنقصان فأثابهم الجبار بجنة الرضوان ومتعهم بالحور الغنجات الحسان كأنـهن الياقوت والمرجان فأخبرنا الجليل جل جلاله في محكم القرآن عما أتاهم بـه من الجود والامتنان فقال تعالى { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } الرحمن 60 فالإحسان من العبد في الدنيا قول لا إله إلا الله والإحسان من الله في الآخرة الجنة
فمن أحسن الرضا عن الله جل ثناؤه جازاه الله بالرضا عنـه فقابل الرضا بالرضا وهذا غاية الجزاء ونـهاية العطاء
432 صفة المؤمنين
روي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال لطائفة من المؤمنين ما أنتم قالوا نحن المؤمنون فقال ما علامة إيمانكم قالوا نصبر عند البلاء ونشكر عند الرجاء ونرضى بمواقع القضاء
فقال مؤمنون ورب الكعبة وقيل أحسن الأشياء أن يكون العبد رقيبا على باطنـه وظاهره لأن الله تعالى رقيب عليه وهو قوله تعالى { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } الرعد 33 فتكون أنت أيها العبد تراقبه في سرائرك وعلانيتك وظاهرك وباطنك وحركاتك وسكناتك وتعلم أنـه رقيب عليك وتستحي ممن هو معك ولا تستحي ممن هو أقرب إليك من حبل الوريد
وقيل المحمود من الدنيا المساجد والمحاريب وذلك أن شركاءك فيها الملائكة والنبيون والصديقون وحسن أولئك رفيقا
والمذموم من الدنيا البطن والفرج والكنيف والمزابل وشركاؤنا فيها اليهود والنصارى والمجوس والمشركون والزنادقة وغيرهم
فيدعوك الرب جل جلاله وهو قوله تعالى { والله يدعو إلى دار السلام } يونس 25 الآية

وتأبى أنت عليه فيقول الله سبحانـه يا عبدي لا تذنب في الدنيا رأفة منـه لعبده فيقول العبد لا بد لي من الذنوب فيقول الرب جل جلاله عبدي فتب إلي أقبلك على ما كان منك فيقول العبد لا أفعل لأنني مبتلي بالأهل والبطن والفرج فيقول الرب جل جلاله عبدي فكن مكانك حتى أوتيك
فيقول العبد ربي أي شيء تؤتين فيقول الله عز وجل الجوع والفقر والعرى والمرض فيقول العبد لا حاجة لي في هذا
ثم يدعو ويتضرع ويصرخ إذا نزل بـه ذلك
قال فتقول الملائكة عند ذلك يا رب أما اتستجيب لعبدك هذا أما ترحمـه فيقول الله عز وجل سوف يحمدني عبدي إذا أدخلته الجنة
قال فإذا قبض روح العبد على ذلك أدخله الجنة
فيقول العبد { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنـهتدي لولا أن هدانا الله } الأعراف 43 { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } فاطر 34 الآية
فيقول الرب جل جلاله الآن يحمدني عبدي وكان في دار الدنيا يلومني ويشكو إلي نظري إليه وكان أصلح له مما كان يريده لنفسه
فالآن قد أبحت له الجنة وأدنيته مني ووصلته جنتي فادن مني يا عبدي بلا نـهاية وعلى المزيد بمشاهدتي له والنظر إلى وجهي
لا أحرمنا الله النظر إلى وجهه الكريم وأدخلنا برحمته جنات النعيم

17 مجلس في قوله تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما }

433 اعلموا عباد الله وأحباب الله رحمكم الله أن الله تبارك وتعالى لطف بعباده المؤمنين وأمرهم بالصلاة على سيد المرسلين ليستنقذهم بها من العذاب الدائم المـهين فصلى عليه ربنا ومولانا تشريفا وتكريما وصلت عليه ملائكته تفضيلا وتعظيما وأمر عباده أن يصلوا عليه ليبيح لهم من الجنة مقاما كريما فقال من لم يزل سميعا عليما عليا عظيما { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } الأحزاب 56 فاجتهدوا بنا يا معاشر الإسلام في الصلاة والسلام على محمد خير الأنام فعسى أن يشفعه فينا يوم تشقق السماء بالغمام
ذكر في بعض الأخبار أن ما من ملك ولا نبي ولا ولي ولا صفي ولا صديق ولا شـهيد ولا تقي ولا سعيد إلا وهو يقول يوم القيامة بحرمة محمد أن تنجيني من عذابك وما من عبد سأل {صلى الله عليه وسلم} وسأل الله مولاه حاجة له فيها رضي الله عنـه إلا قضى الله حاجته وصرف عنـه عند صلاته على محمد {صلى الله عليه وسلم} سبعين نوعا من البلاء في بدنـه وفي دينـه وفي ماله وفي أهله
ورفع له سبعين درجة
اللهم صل على النبي محمد المختار وسيد الأنبياء والأبرار وزين المرسلين الأخيار وأكرم من أظلم عليه الليل وأشرق النـهار أبي القاسم الأواب المختار
أنشدوا
صلى الإله وكل عبد صالح
والطيبون على السراج الواضح
المصطفى خير الأنام محمد
الطاهر العلم الضياء اللائح
زين الأنام المرتضى علم الهدى
الصادق البر الوفي الناصح
صلى عليه الله ما هبت صبا
وتجاوبت ورق ال النائح
وذكر في بعض الأخبار أن ما من بقعة يكثر فيها الصلاة على محمد {صلى الله عليه وسلم} إلا تصير روضة من رياض الجنة وحصنا وحجابا بين المصلين وبين حجاب النار
فاجتهدوا في الصلاة على محمد يا معشر المؤمنين والمؤمنات وتحصنوا بها من العذاب الشديد
434 الصلاة على النبي وشفاعته
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال
أكثروا من الصلاة علي فإني أشفع لكم على قدر ذلك
وأنشدوا
} صلى الإله على قدر الحبيب ومن وسط المدينة يعلو فوقه النور

رفعت قريش هنالك نعش سيدها
فثم ثكل التقى والبر مقبور
وثم خير عباد الله كلهم
وثم أكرم خلق الله محبور
عباد الله تحصنوا من العذاب والوبل بإكثار الصلاة على نبينا محمد في النـهار والليل
ذكر في بعض الأخبار أن على ساق العرش مكتوبا من اشتاق إلى رحمتي رحمته ومن سألني أعطيته ومن لم يسألني لم أنسه ومن تقرب إلي بقدر محمد {صلى الله عليه وسلم} غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر
فالله الله يا أمة محمد ويا أحباب محمد من أصابته نائبة أو وقع في شدة فليتضرع إلى مولاه ويسأله بقدر محمد وبحرمة محمد {صلى الله عليه وسلم} فإنـه قدره عند الله عظيم
فأكثروا عباد الله الكريم يا معشر من آمن بالله العظيم الصلاة على محمد الكريم والنبي السيد الرؤوف الرحيم ينجيكم الله بها من العذاب الأليم ويدخلكم جنات الخلد والنعيم إنـه هو الحكيم العليم
435 الصلاة عليه في يوم الجمعة
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صلى علي في يوم الجمعة مائة مرة غفر الله له خطيئة ثمانين سنة {
فالله الله يا معشر المؤمنين والمؤمنات أكثروا من الصلاة على حبيبكم محمد في جميع الأيام والأوقات والأحايين والساعات عسى الله أن يخلصكم من الأهوال والآفات والعذاب والعقوبات ويدخلكم الجنات العاليات يوم تبدل الأرض والسموات
وأنشدوا
صلوا على المصطفى زلفى تقربكم
إن الصلاة عليه خير ما اكتسبا
أعلا الأنام على في جلالته
واشرف الخلق منسوبا إذا انتسبا
وأسرع الناس يوم العرض مغفرة
إذا العقاب بدا للخلق وانتصبا
حكي عن الشبلي رحمـه الله تعالى أنـه قال مات رجل من جيراني فرايته في المنام فسألته عن حاله

فقال يا شبلي مرت بي أهوال عظام وذلك أنـه لما سئلت تلجلج لساني عند السؤال منـه جاءني الملكان وأراد أحدهما أن يبادرني بالعذاب إذا أنا بشخص جميل ما رأيت أجمل منـه وجها فحال بيني وبينـهما فقلت له من أنت من بعد ما لقنني حجتي فقال أنا ملك خلقني الله من ثواب الصلاة على محمد وأنت كنت تكثر الصلاة على محمد {صلى الله عليه وسلم} لأخلصنك بإذن الله من جميع الأحزان ومن عذاب النيران ولا ابارحك حتى أدخلك الجنة برحمة الله
فالله الله عباد الله لا تملوا من الصلاة على محمد {صلى الله عليه وسلم} زين العباد الذي خلصنا بـه من حر جهنم وبئس المـهاد
وأنشدوا
من كان يكثر بالصلاة
مؤملا فضل النبي
أعطاه رب محمد
عونا من اللطف الخفي
أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى {صلى الله عليه وسلم} يا موسى إن أردت أن أكون إليك أقرب من لسانك إلى كلامك ومن نور بصرك إلى عينك ومن سمعك إلى أذنك فأكثر من الصلاة على حبيبي محمد {صلى الله عليه وسلم}
وأنشدوا
صلى الإله على النبي محمد
خير الأنام وجاءه التنزيل
وبفضله نطق الكتاب وبينت
بصفاته التوراة والإنجيل
ذاك النبي الهاشمي المصطفى
قد جاءه الترفيع والتفضيل
} أسرى بـه المولى إلى أفق السما
فوق البراق وعنده جبريل
436 عجيبة
روي عن محمد بن النعمان رضي الله عنـه أنـه قال كنا عند النبي {صلى الله عليه وسلم} فجاءه فتى من الأنصار في حاجة فوسع له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينـه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنـه وقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا أبا بكر لعلك يشق عليك أن أجلست
هذا الفتى بيني وبينك فقال أبو بكر رضي الله عنـه أي والله يا رسول الله إنـه ليشق علي أن يكون بيني وبينك أحد
437 فضل المصلي وأبو بكر

فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يا أبا بكر إن هذا الفتى يصلي علي صلاة ما يصليها علي أحد من أمتي فقال أبو بكر رضي الله عنـه كيف يقول يا رسول الله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول اللهم صل على محمد عدد من صلى عليه وصل على محمد عدد من لم يصل عليه وصل على محمد كما أمرت بالصلاة عليه وصل على محمد كما تحب أن يصلى عليه وصل على محمد كما ينبغي أن يصلي عليه واعلم يا أخي علما يقينا لا شك فيه أنـه ليس أحد أحظى عند نبينا محمد {صلى الله عليه وسلم} ولا عند ربنا سبحانـه بعد النبيين من أبي بكر الصديق رضي الله عنـه ثم عمر بعده كذلك عثمان ثم علي رضي الله عنـهم أجمعين وصلوات الله ورحمته عليهم وعلى العشرة وجميع الصحابة لكن خص النبي {صلى الله عليه وسلم} الفتي بإقعاده بينـه وبين أبي بكر لما ألهمـه الله من تلك الصلاة فأكرمـه النبي كذلك صلوات الله وسلامـه عليه ما حن مشتاق إليه
438 حكاية الشافعي عن مؤمني الجن
فما يقوي ما ذكرناه من فضل الأركان الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين ما روي عن محمد بن إدريس قال رأيت بمكة أسقفا وهو يطوف بالكعبة فقلت له ما الذي رغب بك عن دين آبائك فقال تبدلت خيرا منـه فقلت كيف ذلك قال ركبت البحر فلما توسطنا انكسر بنا المركب فعلوت لوحا فلم تزل الأمواج تدفعني حتى رمتني في جزيرة من جزائر البحر فيها أشجار كثيرة ولها ثمر أحلا من الشـهد وألين من الزبد وفيها نـهر جار عذب فحمدت الله على ذلك وقلت آكل من هذا الثمر وأشرب من هذا النـهر حتى يأتيني الله بالفرج فلما ذهب النـهار خفت على نفسي من الدواب فعلوت شجرة من تلك الأشجار فنمت على غصن منـها فلما كان في جوف الليل فإذا بدابة على وجه الماء تسبح الله وتقول لا إله إلا الله العزيز الجبار محمد رسول الله النبي المختار أبو بكر الصديق صاحبه في الغار عمر الفاروق مفتاح الأمصار عثمان القتيل في الدار علي سيف الله على الكفار فعلى

مبغضيهم لعنة الجبار ومأواهم جهنم وبئس القرار

فلم تزل تكرر هذه الكلمات حتى إذا طلع الفجر قالت لا إله إلا الله الصادق الوعد والوعيد محمد الهادي الرشيد أبو بكر الصديق الموفق السديد عمر بن الخطاب سور من حديد عثمان القتيل الشـهيد علي ذو البأس الشديد فعلى مبغضيهم لعنة الرب المجيد فلما وصلت البر فإذا رأسها رأس نعامة ووجهها وجه إنسان وقوائمـها قوائم بعير وذنبها ذنب سمكة فخشيت على نفسي هالكة فهربت بنفسي أمامـها فوقفت فقالت ما دينك قلت النصرانية فقالت ويلك ارجع إلى الحنيفية فقد حللت بفناء قوم من مؤمني الجن لا ينجو منـهم إلا من كان مسلما قلت وكيف الإسلام قالت تشـهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقلتها فقالت أتم إسلامك بالترحم على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين
قلت ومن أتاكم بذلك فقالت قومنا حضروا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فسمعوه يقول
إذا كان يوم القيامة تأتي الجنة فتنادي بلسان طلق يا إلهي قد وعدت أن تشد أركاني فيقول الجليل جل جلاله قد شددت أركانك بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزينتك بالحسن والحسين ثم قالت الدابة المقام تريد أم الرجوع إلى أهلك قلت لها الرجوع فقال اصبر حتى تجتاز مركب وإذا مركب تجري فأشرت إليهم فدفعوا إلي زورقا فلما علوت معهم فإذا في المركب إثني عشر رجلا كلهم نصارى فأخبرتهم خبري فأسلموا عن آخرهم
فالله الله عباد الله اشكروا الله على نعمة الإسلام وعلى هدايتكم لسنة محمد {صلى الله عليه وسلم} عليه أفضل الصلاة والسلام ومحبتكم لأصحابه البررة الكرام فقد فضلكم على جميع الأنام قال الله ذو الجلال والإكرام والطول والإنعام { إن الدين عند الله الإسلام } آل عمران 19 ونرجع إلى ما كنا فيه من الصلاة على خير الأنام محمد رسول الملك العلام
وأنشدوا
} لهجت بذكرك مـهجتي ولساني وحللت من قلبي بكل مكان
فأنا بذكرك في البرية كلها
علم وحبك آخذ بعناني
سلطان حبك في الهوى عين الهوى
وبه تعزز في الهوى سلطاني
أنت النبي الهاشمي محمد
صلى الإله عليك في القرآن

أنت الحبيب لأهل دينك كلهم
يوم المعاد وموقف الخسران
أنت الشفيع لمن عصى رب العلا
أنت الدليل لجنة الرضوان
فلأذكرنك ما بقيت معمرا
حتى الممات ولا يمل لساني
فصلاة ربي ماجد ومـهيمن
ترى عليك تعاقب الملوان
439 أوتاد المجالس
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن المجالس أوتادا جلساؤهم الملائكة إذا جلسوا لذكر الله حفت بهم الملائكة من لدن أقدامـهم إلى عنان السماء بأيديهم قراطيس الفضة وأقلام الذهب يكتبون الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} يقولون أكثروا رحمكم الله فإذا استفتحوا في الذكر فتحت لهم أبواب الجنة واستجيب لهم الدعاء وتطلع عليهم الحور العين وأقبل الله تعالى عليهم بوجهه الكريم ما لم يخوضوا في حديث غيره ويتفرقوا وأنشدوا
} إذا طيب الناس المجالس بينـهم مداما وريحانا فذكرك طيبنا
ولو كانت الدنيا نصيبا لأهلها فحبك من كل الأماني نصيبنا
وإن كان حب الخلق بعضا لبعضهم فأنت من الخلق الجميع حبيبنا
إخواننا طوبى لمن رزق لسانا بذكر الله والصلاة على محمد رسول الله طوبى لمن رزقه مولانا لسانا مشغولا بذكر الإله الكريم
وبالصلاة على الرؤوف الرحيم
440 صيغة الصلاة
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال لرجل من أصحابه ما قلت البارحة من قول الخير قال الرجل يا رسول الله صلى الله عليك قلت اللهم ثل على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من الصلوات شيء ويبارك على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من البركات شيء وارحم محمدا وآل محمد حتى لا يبقى من الرحمات شيء
فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } لذلك رأيت البارحة الملائكة يحفون بأزقة المدينة { فأكثروا من الصلاة على سيد الأنبياء وأفضل الأحباء وأكرم الأصفياء وأجل من ولدت النساء صلى الله عليه صلاة دائمة بلا انقضاء في الليل إذا يغشى وفي النـهار إذا تجلى وفي الآخرة والأولى
وأنشدوا
} صلى الإله على خير الأنام ومن نرجو النجاة بـه في موضع العطب {
فهو الشفيع لمن يرجو شفاعته
عند الحساب وعند اللهو والكرب

روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن أولى الناس بي أكثرهم علي صلاة { فأكثروا من الصلاة عليه يا معشر الإسلام وتحصنوا بها من العذاب الغرام واطلبوا بها رضا الملك العلام وأنشدوا
} يا خير مولود تعاظم فخره
وأتى بأشرف ملة وكتاب {
} صلى الإله عليك يا خير الورى ما أنـهل في الآفاق قطر سحاب {
} يا خير مبعوث إلى خير أمة وأكرم من يدعو لسبل صواب
441 ثلاثة تحت ظل العرش
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ثلاثة يوم القيامة تحت عرش الله يوم لا ظل إلا ظله قيل من هم يا رسول الله قال من فرج عن مكروب أمتي ومن أحيا سنتي ومن أكثر الصلاة علي { فاجتهدوا رحمكم الله في التفريج لهموم المكروبين وفي إحياء سنة خاتم النبيين وفي الصلاة على سيد المرسلين وأكرم الخلق على رب العالمين
وأنشدوا
} صلوا على خير الأنام كرامة وجلالة يا معشر الإسلام {
} فهو النبي المصطفى علم الهدى
وأدل من يدعو لسبل قوام {
} نطق الكتاب بفضله وجلاله وبفضله ننجو من الأسقام {
} صلوا على خير البرية كلها ما لاح بدر تحت جنح ظلام {
} فهو السبيل لدار كل كرامة
وهو الدليل لجنة وسلام {
} وهو الشفيع لمن يدين بدينـه ولمن يلوذ بملة الإسلام
442 للصلاة رائحة طيبة
روي عن بعض الصحابة رضي الله عنـهم أجمعين أنـهم قالوا ما من مجلس يصلي فيه على النبي {صلى الله عليه وسلم} إلا نمت له رائحة طيبة حتى تبلغ عنان السماء فتقول الملائكة هذه رائحة مجلس صلي فيه على النبي محمد {صلى الله عليه وسلم}
اللهم صل عليه كما تحب أن يصلى عليه {صلى الله عليه وسلم}
وأنشدوا
} تتعطر الأنفاس ما ذكرت أخباره في المجلس العطر {
سبحان باريه وخالقه
نورا تصور أجمل الصور
المسك منحدر ببردته
والوجه منـه طلعة القمر
يا صادقا فيما يخبرنا
بشـهادة الأسماع والنظر
سبحان من أنشاك من بشر
يا سيدا للخلق والبشر
القول تتبعه شواهده
والخير مقرون مع الخبر
أنت النبي بلا معة
والمصطفى من خيرة البدر
443 الإمام الشافعي

روي عن أبي جعفر الطحاوي أنـه قال قال عبد الله بن عبد الحكم رأيت الشافعي رضي الله عنـه في المنام فقلت ما فعل الله بك فقال رحمني وغفر لي وزففت إلى الجنة كما تزف العروس إلى زوجها فقلت له ما الذي بلغك هذه المنزلة قال لي بما في آخر كتاب الرسالة من الصلاة على محمد {صلى الله عليه وسلم} فقلت له وكيف ذلك فقال لي وصلى الله على سيدنا محمد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون
قال فلما أصبحت طلبت كتاب الرسالة فوجدت الأمر كما ذكر
وأنشدوا
} صلوا على خير الأنام ومن بـه تنجو العباد بموقف الأهوال
إن الصلاة على النبي حبيبنا من أفضل الأفعال والأعمال
فهو النبي المصطفى علم الهدى الطيب الأقوال والأفعال
معشر المسلمين تحصنوا من عذاب النار وخففوا عن ظهوركم ثقل الأوزار بكثرة الصلاة على النبي المختار
444 أبخل الناس
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } حسب المؤمن من البخل إذا ذكرت عنده فلم يصل علي { أعوذ بالله من اللئيم البخيل
الذي يبخل بالصلاة على رسول الملك الجليل الذي خصه الله بالكرامة والتفضيل وائتمنـه على الإيضاح عن بيان التأويل في جميع التنزيل
وأنشدوا
صلوا على القمر المنير إذا بدا
في موكب من حسنـه وجماله
لم يخلق الرحمن خلقا مثله
في فضله وبهائه وكماله
ختم النبوة طيبه فختامـه
مسك تكون من نسيم جلاله
صلوا على العلم الذي من أمـه
نال المنى وجرى السرور بباله
صلوا على بدر التمام محبة
وكرامة وجلالة لجلاله
إن الصلاة على النبي سلامة
وتفضل وتوسل بجماله
وتودد وتحنن وتشوق
وتوسل وتقرب لنواله
عباد الله صلوا على رسول الله صلوا على سيدنا وحبيبنا محبة وكرامة فهو الشفيع لنا يوم القيامة
445 أنجاكم أكثركم صلاة
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال
أنجاكم يوم القيامة من أهوالها ومن مواطنـها أكثركم علي صلاة عباد الله الملك الديان يا أهل الإسلام والإيمان صلوا بنا على سيدنا محمد رسول الملك الرحمن لعله يخلصنا من عذاب النيران
وأنشدوا

} صلوا على ماجد جلت مآثره وأكثر الخلق إفضالا وإحسانا
أتى العباد وقد ضلت مسالكهم
فأوضح الحق تبيانا وبرهانا
وبين الدين بالتذكير مجتهدا
وأظهر الشرع أحكاما وقرآنا
وأنقذ الخلق من نار السموم لظى
وأورد الناس جنات ورضوانا
لا تبغ طيبا إذا ما كنت ذاكره
ولا ترد بعده روحا وريحانا
فيه الجنان وفيه الحسن مجتمع
والنبل والظرف أشكالا وألوانا
} فالحمد لله إذ كنا له تبعا
لقد تفضل بالخيرات مولانا
446 ثمرة الصلاة
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صلى علي صلاة تعظيما لحقي خلق الله تعالى من ذلك القول ملكا جناحه بالمشرق والآخر بالمغرب ورجلاه مغروزتان في الأرض السابعة السفلى وعنقه ملوي تحت العرش يقول الله تعالى له صل على عبدي كما صلى على نبيي محمد فهو يصلي عليه إلى يوم القيامة أحبابي تحصنوا
من أليم العذاب وارغبوا في جزيل الثواب بالصلاة على النبي الصادق الأواب
اعلموا عباد الله أن الله تبارك وتعالى لما اتخذ محمدا {صلى الله عليه وسلم} حبيبا أقسم بحياته فقال تعالى { لعمرك إنـهم لفي سكرتهم يون } الحجر 72 فهذه غاية المحبة
ولما أحب الله تعالى أن يصلي العباد على محمد النبي الحبيب بدأ بالصلاة عليه الملك القريب ثم ثنى بملائكته البعيد منـهم والقريب ثم عرف عباده المؤمنين أنـه يصلي على محمد هو وملائكته ثم أمر بالصلاة عليه أهل الإيمان لينجيهم بها من عذاب النيران فقال الملك الرحمن في محكم القرآن { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } الأحزاب 56 فكأنـه قال جل وتعالى عبدي قد أعلمتك أني أصلي على محمد حبيبي وملائكتي تصلي عليه فمن أكثر الصلاة على محمد الحبيب جعلت له من الجنة أوفر نصيب وكان رفيقا وجارا لأبي القاسم الحبيب
وأنشدوا
صلى الإله بعظمـه وجلاله
ثم الملائكة الكرام على النبي
فهو الحبيب لربنا رب العلا
وهو الدليل لجنة لا تختبي
447 الملائكة تستغفر للمصلي

ذكر في بعض الأخبار أن العبد المؤمن أو الأمة المؤمنة إذا ابتدأ بالصلاة على محمد {صلى الله عليه وسلم} فتحت له أبواب السموات السبع والسرادقات حتى العرش فلا يبقى ملك في السموات أإلا صلى على محمد {صلى الله عليه وسلم} ويستغفرون لذلك العبد أو الأمة ما دام العبد أو الأمة يصلي على النبي {صلى الله عليه وسلم} وأنشدوا
} صلوا بنا يا معشر الإسلام على النبي الواضح الأحكام
} نطق الكتاب بفضله وجلاله وبفضله ننجوا من الإجرام
448 مقام الشبلي
حكي عن بعضهم أنـه قال كنت عند أبي بكر بن مجاهد جالسا إذ أقبل الشبلي فقام أبو بكر إليه فعانقه وقبل بين عينيه فقلت يا سيدي تفعل هذا بالشبلي وأهل بغداد يقولون عنـه إنـه مجنون فقال قد فعلت بـه كما رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يفعل بـه وذلك أني رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المنام وقد أقبل الشبلي فقام النبي {صلى الله عليه وسلم} فعانقه وقبله بين عينيه فقلت له يا رسول الله تفعل هذا بالشبلي فقال {صلى الله عليه وسلم} نعم
لأنـه يقرأ في آخر كل صلاة { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } التوبة 128 الآية
ثم يتبعها بالصلاة علي
وأنشدوا
صلاة رب كريم ماجد صمد
على النبي الذي قد نال تفضيلا
صلى عليه إله العرش خالقنا
جاء الكتاب بذا وحيا وتنزيلا
فهو الدليل لأهل الخير كلهم
لمن أراد إلى الفردوس تحويلا
ومن أراد فرارا عن تمرده
ومن أراد له الرحمن توصيلا
هذا بيان لأهل الفضل كلهم
يعجلون لدار الخلد تعجيلا
عباد الله ارغبوا في هذا الملك الجليل والنعيم الدائم الطويل بإكثار الصلاة على محمد الأصيل النبي السيد النبيل الذي جاء بالوحي والتنزيل وأوضح بيان التأويل وجاءه الأمين جبريل بالتكريم والتفضيل وأسرى بـه الجليل في الليل البهيم الطويل كشف له عن أعلا الملكوت وأراه أسنى الجبروت ونظر إلى قدرة الحي الذي لا يموت
فلقد رأى في ليلة الإسراء من آيات ربه الكبرى وانتهى إلى سدرة المنتهى
وأنشدوا
صلوا على خير الأنام محمد
فهو الدليل إلى السبيل المرشد
} صلى عليه الرب ما دام الدجى
ومضى النـهار وفي الظلام الأسود
449 إبلاغ الصلاة إلى الله

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن الله تبارك وتعالى أعطى ملكا من الملائكة أسماء الخلائق فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة فليس أحد من أمتي يصلي علي إلا قال ذلك الملك يا محمد فلان بن فلان يصلي عليك صلى الله عليك وضمن لي الرب عز وجل أن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا وإن زاد زاده الله فأين أنت يا من أراد النجاة من سموم الحميم والفوز والخلد في جنات النعيم فأكثروا من الصلاة على النبي الكريم والرسول الرؤوف الرحيم
450 صلاة الملائكة
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صلى علي صلت عليه الملائكة ومن
صلت عليه الملائكة صلى عليه ربه فليقل العبد أو ليكثر واعلموا أن الفاجر الشقي الذي يسمع هذه الفضائل على الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} وقد حبس لسانـه عنـها فيجب أن يتعوذ بالله منـه
نعوذ بالله من لسان جامد عن الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} رسول الملك الماجد العزيز الفرد الصمد الواحد
وأنشدوا
صلوا على النور البهي محمد
إن الصلاة عليه تنجي من لظى
فهو الدليل إذا اهتديت بنوره
وهو الرسول فذاك مصباح الهدى
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال
إن الله تعالى وهب ذنوبكم عند الاستغفار فمن استغفر الله تعالى بنية صادقة غفر له ومن قال لا إله إلا الله رجح ميزانـه ومن صلى علي كنت شفيعه يوم القيامة عباد الله ارغبوا في الشفاعة وتمسكوا بالصلاة على شفيع المذنبين يوم قيام الساعة وارغبوا إلى مولاكم أن يوفقنا إلى أعمال أهل السنة والجماعة
وأنشدوا
} من كان يعلم أن الله خالقه ومحمدا قد جاء بالقرآن
فليكثر التسليم بعد صلاته
للطيب المبعوث بالتبيان
الهاشمي الأبطحي محمد
خير الأنام وزين كل مكان
451 من كتب الصلاة في كتاب
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب فيا معشر المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات أطيعوا رب الأرضين والسموات بالصلاة على سيد السادات
وأنشدوا

} جد بالصلاة على خير الوري كرما ذاك النبي الذي قد جاء بالنور
فهو الإمام لأهل الحق كلهم وهو الدليل على الولدان والحور
452 الصلاة تبلغه عن العباد
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } تباهوا بالصلاة علي فإنـها تبلغني
فبلغوا
صلاتكم على سيدكم ونبيكم وصفيكم وارغبوا إلى مولاكم أن يتوفاكم على سنته وأن يجعلكم من أمته وأن يجعله شفيعكم من النار وقائدكم إلى دار الراحة والقرار إلى جنات عدن تجري من تحتها الأنـهار
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال
إن الله تعالى وكل بي ملكين فلا اذكر عند عبد مسلم فيصلي علي إلا قال الملكان مجيبين آمين فيقول الله تعالى جوابا للملكين آمين ولا أذكر عند أحد فلا يصلي علي إلا قال الملكان لا غفر الله لك فيقول الله تعالى وملائكته جوابا لقول الملكين آمين فما خلق الله تعالى أعجز ولا أذل ولا أبخل ممن يسمع ذكر محمد النبي الفاضل الزكي ولا يصلي عليه {صلى الله عليه وسلم} وملائكته وبلغ سلامنا إليه
وأنشدوا
} صلوا بنا في الليل والنـهار على النبي الصادق المختار
أسرى بـه الرحمن في جنح الدجى
قد جاء في القرآن والآثار
الهاشمي المصطفي خير الورى
الطائع الأواب للجبار
صلوا على المبعوث يا أهل النـهي
من جاء بالتنزيل والأخبار
453 حسنات الحرم
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صلى علي من أمتي كتبت له عشر حسنات من حسنات الحرم قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال الحسنة بسبعمائة حسنة يا أخي هذا والله قول يسير وثواب كثير
454 الصلاة صلة تعارف
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ليردن علي أقوام يوم القيامة عند حوضي ما أعرفهم إلا بكثرة الصلاة علي عباد الله أنتم ترون نبيكم وحبيبكم وصفيكم فأكثروا من الصلاة عليه فعسى يعرفكم بكثرة الصلاة عليه لأن الصلاة عليه نور لصاحبه يوم القيامة فعلى قدر الصلاة على الهاشمي القرشي التهامي الأمي الأبطحي يكون النور المضيء الذي يعرف بـه المؤمن التقي ومن لا يكثر الصلاة على هذا النبي فهو مبعد مطرود شقي

يا إخواني في الله صلوا على شجرة غرسها الملك الجليل وجعل أصلها الخليل وجعل خلالها التفضيل وزينـها بالتنزيل وجعل رقيقها جبريل وخضع لها كل كثير وكل عزيز وذليل
أصولها عربية وأغصانـها
مضرية وأوراقها قرشية وثمرتها تهامية غرسها الملك الديان وأخضع لها جميع الإنس والجان فصلوا عليه يا معشر الإخوان وأنشدوا
الله فضل خير الخلق بالكرم
وأفضل الناس من عرب ومن عجم
هو النبي الذي فاقت فضائله
وخصه الله بالتنزيل والحكم
اختصه بكتاب بين علم
هدي العباد بـه من غمة الظلم
الله فضله الله أكرمـه
الله أرسله من جملة الأمم
صلوا عليه عباد الله كلكموا
إن الصلاة له تنجي من النقم
عباد الله طيبوا بنا مجالسنا بالصلاة على سيدنا محمد {صلى الله عليه وسلم}
455 طيب مجلس صلي فيه عليه
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } ما جلس قوم مجلسا فتفرقوا عن غير صلاة علي إلا تفرقوا عن أنتن من جيفة حمار { فإذا كان المجلس الذي لا يصلى فيه على النبي {صلى الله عليه وسلم} تفرق أهله عن أنتن من جيفة حمار فلا غرو أن يتفرق المصلون عليه من مجلسهم عن أطيب من خزانة العطار
وذلك أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان أطيب الطيبين وأطهر الطاهرين وكان إذا تكلم امتلأ المجلس بريح المسك فكذلك مجلس يذكر فيه النبي {صلى الله عليه وسلم} نمت فيه رائحة تخترق السموات السبع حتى تنتهي إلى العرش ويجد كل من خلق الله ريحها في الأرض غير الإنس والجن فإنـهم لو وجدوا تلك الرائحة اشتغل كل منـهم بلذته عن معيشته ولا يجد تلك الرائحة ملك أو خلق من خلق الله تعالى إلا استغفر لأهل المجلس ويكتب لهم بعدد هذا الخلق كلهم حسنات ويرفع لهم درجات سواء كان في المجلس واحد أو مائة أو ألف كل واحد يأخذ من الأجر مثل هذا العدد وما عند الله تعالى أكثر
فيا أحباب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} صلوا على حبيب غذي بماء الوصال وكسي ثوب الجمال والكمال وزين بكتاب الكريم المتعال
456 حكاية نساخ أكثر من الصلاة

ذكر عن بعض الصالحين أنـه قال كان لي جار نساخ فمات فرايته في المنام في حالة حسنـه فقلت له ما فعل الله بك فقال غفر لي على ما كان مني فقلت له بم كان ذلك فقال كنت إذا كتبت اسم النبي {صلى الله عليه وسلم} صليت عليه {صلى الله عليه وسلم} فغفر لي بذلك وأعطاني ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فأكثروا من الصلاة عليه {صلى الله عليه وسلم} تسليما كثيرا
وأنشدوا
نور النبي علا على الأنوار
فهو الدليل لسبل دار قرار
صلوا عليه لعلكم تنجوا به
يوم الحساب وكشفة الأسرار
صلوا على القمر المنير إذا بدا
فهو الحبيب لربنا الجبار
صلوا على نور تكون بالهدى
فهو الشفيع لصاحب الأوزار
عباد الله ارغبوا يما رغبكم فيما الملك القهار من فضل الصلاة على نبيه محمد المختار ولا تغفلوا عن الصلاة عليه بالليل والنـهار فإن الله ينجيكم بها من عذاب النار ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنـهار
الصلاة على النبي فضيلة جزيلة والصلاة على أصحابه سنة وفضيلة والصلاة على الملائكة قربة ووسيلة صلوا رحمكم الله على النبي الرفيع والنور البديع والحبيب الشفيع
أكرم من ولد وأعز من فقد
وأنشدوا
صلاة رب ماجد وهاب
على النبي الصادق الأواب
صلوا على المختار أنوار الهدى
صلوا عليه معشر الأحباب
} صلوا على النور البهي محمد
صلوا عليه جماعة الأصحاب
457 عدد الصلاة عليه
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن صلى علي عشرا صلى الله عليه مائة مرة ومن صلى علي مائة صلى الله عليه بها ألفا ومن صلى علي الفا حرمـه الله على النار وأدخله الجنة وثبته بالقول الثابت في القبر عند المسألة وجاءت صلاته علي نورا يضيء له الصراط مسيرة خمسمائة
عام وبنى الله له بكل صلاة صلاها علي قصرا في الجنة قل ذلك أو أكثر وأنشدوا
صلوا على المختار من آل هاشم
وخير نبي خصه بالمكارم
ومن بين الرحمن في الذكر فضله
وأوضح نور العدل بعد التظالم
وأرسله الجبار للناس كافة
مبين محض الحل بعد المحارم
فذاك لدين الله حصن وملجأ

وذاك على الأعداء ليث بصارم
عباد الله خففوا عن ظهوركم الذنوب الثقال وفكوا رقابكم من السلاسل والأغلال وارغبوا في نعيم دار الخلد والجلال بصلاتكم على محمد رسول الكبير المتعال
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صلى علي ألف مرة لم يخرج من الدنيا حتى يبشر بالجنة { فارغبوا عباد الله أن تكونوا من أهل الجنان بإدمان الصلاة على محمد رسول الملك الرحمن فعسى الله أن يكفر عنكم ما سلف من الذنوب والعصيان
نعوذ بالله من لسان يابس من الصلاة على محمد وإذا أراد الله بعبد خيرا بل لسانـه بذكره وبالصلاة على محمد حبيبه ونبيه ووليه وصفيه صلى الله عليه
صلواتنا على محمد المبعوث من تهامة الآمر بالمعروف والاستقامة الشفيع لأهل الذنوب في عرصات القيامة
اللهم صل على محمد الزاهد رسول الملك الصمد الواحد صلى الله عليه صلاة دائمة منتهى الآباد طيبة باقية بلا انقطاع ولا نفاد صلاة تنجينا بها من جهنم وبئس المـهاد
وأنشدوا
} صلوا على هذا النبي الأوضح
الهاشمي الأبطحي الأفصح {
} إن الصلاة على الشفيع محمد تبدي الفلاح مع النجاح الأنجح {
} فتكثروا من ذكره أهل النـهى لا تبتغوا بدلا بذكر الأرجح {
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من عسرت عليه حاجة من أمر دينـه أو دنياه فليكثر من الصلاة علي فإن الله يستحي أن يرد عبده في حاجة إذا كان دعاءه بين صلاتين علي صلاة قبل السؤال وصلاة بعد السؤال وهذا والله غاية الجاه والحب لنبينا محمد {صلى الله عليه وسلم}
اللهم صل على محمد صلاة تزلف بها مثواه وتشرف بها عقباه وتبلغه بها يوم القيامة من الشفاعة رضاه ومناه
458 صفة الرسول والثناء عليه
قال بعض السادة في قوله تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } التوبة 128 كأنـه يقول من خيركم نفسا وأطهركم قلبا وأصدقكم قولا وأزكاكم فعلا وأثبتكم أصلا وأوفاكم عهدا وأمكنكم مجدا من أكرمكم طبعا وأحسنكم صنعا وأطيبكم فرعا وأكثركم طاعة وسمعا
من أعلاكم مقاما وأحلاكم كلاما وأوفاكم زماما وأزكاكم سلاما

من أجلكم قدرا وأعظمكم فخرا وأكثركم شكرا وأرفعكم ذكرا وأعلاكم أمرا وأجملكم صبرا وأحسنكم خبرا وأقربكم بشرا من أبعدكم مكانا وأعظمكم شأنا وأرجحكم ميزانا وأولكم إيمانا وأوضحكم بيانا وأفضلكم لسانا وأظهركم سلطانا وأبينكم برهانا
من أرسخكم قدما وأبينكم علما وأوصلكم رحما وأبركم قسما وأبعدكم كرما وأرعاكم ذمما
من أسطعكم نورا وأنوركم سرورا وأجملكم حبورا وأفضلكم حيا ومقبورا
459 صيغة للصلاة
اللهم صل على من انتخبته من أشرف قبيلة وجعلته إليك أكبر وسيلة وجعلت الصلاة عليه أكرم فضيلة وأعليته إلى المرتبة الجليلة وجعلته بينك وبين عبادك وسيلة
اللهم صل عليه صلاة تجعلها بيننا وبين عذابك حجابا وتجعلها لنا إلى كرامتك مثابا وتفتح لنا بها إلى الجنة العالية بابا
اللهم صل على محمد عدد قطر الأمطار وعدد رمال الأودية والقفار وعدد ورق الأشجار وعدد زبد البحار وعدد مياه الأنـهار وعدد مثاقيل الجبال والأحجار وعدد أهل الجنة وأهل النار وعدد الأبرار والفجار وعدد ما يختلج في الليل والنـهار واجعل اللهم صلاتنا عليه حجابا من عذاب دار البوار وسببا لإباحة دار القرار
اللهم صل على محمد النبي المختار وسيد الأبرار وزين المرسلين الأخيار
وأكرم من أظلم عليه الليل وأشرق عليه النـهار أبي القاسم النبي الصادق المختار
اللهم صل عليه عدد من صلى عليه وعدد من لم يصل عليه كما أمرت بالصلاة عليه وصل عليه كما تحب أن يصلي عليه وصل عليه كما ينبغي أن يصلى عليه
اللهم صل على النبي الصادق الأواب وعلى ذريته وعلى جميع القرابة والأصحاب وتوفنا اللهم على سنته واجعلنا من أهل ولايته وانفعنا بهدايته وعنايته وأدخلنا الجنة مع صحابته الأبرار الطيبين الأخيار آمين آمين يا أرحم الراحمين

18مجلس ثاني في قوله تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما }

460 إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم خليلا وموسى كليما ومحمد {صلى الله عليه وسلم} وليا وحبيبا ونبيا وصفيا وذلك أن الله تعالى بدأ بالصلاة عليه وهو الملك العلام وصلت ملائكته عليه وهم الأصفياء الكرام فصلوا بنا معشر الأنام على محمد عليه السلام رسول ذي الجلال والإكرام ينجيكم الله من العذاب الدائم الغرام
واعلموا أنـه ما من عبد مسلم أكثر الصلاة على محمد عليه الصلاة والسلام إلا نور الله قلبه وغفر ذنبه وشرح صدره ويسر أمره فأكثروا من الصلاة لعل الله يجعلكم من أهل ملته ويستعملكم بسنته ويجعله رفيقنا جميعا في جنته فهو المتفضل علينا برحمته
461 في الصلاة عشر كرامات
واعلموا رحمكم الله أن في الصلاة على سيدنا محمد {صلى الله عليه وسلم} عشر كرامات إحداهن صلاة الملك الجبار والثانية شفاعة النبي المختار والثالثة الاقتداء بالملائكة الأبرار والرابعة مخالفة المنافقين والكفار والخامسة محو الخطايا والأوزار والسادسة قضاء الحوائج والأوطار والسابعة تنوير الظواهر والأسرار والثامنة النجاة من عذاب دار البوار والتاسعة دار الراحة والقرار والعاشرة سلام الملك الغفار
أما ولم يقسم الله بحياة أحد إلا بحياة محمد {صلى الله عليه وسلم} وقوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } آل عمران 110 تقدير الآية أنتم خير أمة أخرجت
462 أحاديث في فضل الصلاة
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} } وافيتم سبعين أمة أنتم أكرمـها وأفضلها عند الله { فأخبر الله تعالى أنـه قال { وقولوا للناس حسنا } البقرة 83 يعني محمدا {صلى الله عليه وسلم} فمن صلى على محمد فقد خالف المنافقين والكفار ووافق أمر الجبار وأما محو الخطايا والأوزار
فما روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال { من صلى علي في يوم جمعة مائة مرة غفرت له ذنوب ثمانين سنة }
وقال {صلى الله عليه وسلم} } من صلى علي مرة واحدة أمر الله حافظيه أن لا يكتبا عليه ذنبا ثلاثة أيام
وأما قضاء الحوائج والأوطار
فما روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال { الدعاء بين الصلاتين لا يرد }

وروي أن رجلا قال يا رسول الله أي الدعاء أفضل قال الصلاة علي قال أجعل ثلث عبادتي الصلاة عليك فقال {صلى الله عليه وسلم} إذا هديت قال أجعل ثلثي عبادتي الصلاة عليك فقال {صلى الله عليه وسلم} إذا كفيت قال أجعل جميع عبادتي الصلاة عليك قال من جعل جميع عبادته الصلاة علي قضى الله له جميع حوائج الدنيا والآخرة وهذا كله مع أداء الفرائض
وأما تنوير الظواهر والأسرار
463 الصلاة تنور القلب
فقد روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من أكثر الصلاة علي نور الله قلبه { وذلك أن الذنوب تسود القلوب لأن العبد إذا عمل ذنبا صار نكتة سوداء في قلبه فإذا تمادى على الذنوب نمت تلك النكتة حتى يسود بها القلب كله وإذا رطب الله لسان العبد بالصلاة على محمد {صلى الله عليه وسلم} غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل وزن الجبال فإذا غفرت ذنوبه زال السواد عن قلبه وبدا فيه النور لأن الإسلام لا يتم إلا بالصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} وذلك أنـه لو قال عبد لا أرى الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} واجبة
لكان كفارا ورادا على الله وخرج عن دين الإسلام وزال نور الهدى عن قلبه قال الله تعالى { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } الزمر 22 فهذا بيان واضح من الله
وأنشدوا
} نور القلوب يزيد عند صلاتنا
للهاشمي فنوره لا ينجلي
فضياؤنا من ضوء نور محمد
صلوا على ذاك النبي الأفضل
464 حكاية في كثرة الصلاة على النبي

روي عن عبد الواحد بن زيد أنـه قال خرجت حاجا إلى بيت الله الحرام فصحبني رجل في الطريق كان لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب ولا يأكل ولا يشرب ولا يتطهر ولا ينام ولا يتصرف في شيء إلا أكثر من الصلاة على محمد {صلى الله عليه وسلم} فسألته عن ذلك فقال أحدثك بعجب عجيب خرجت مرة إلى مكة معي والدي فنزلنا منزلا في موضع من منازل الطريق فنمت فإذا أنا بهاتف يهتف بي وهو يقول يا فلان قم فقد أمات الله والدك وقد سود وجهه فانتبهت فزعا مرعوبا مما سمعت فإذا هو راقد وقد غطي وجهه فكشفت الثوب عن وجهه فإذا هو ميت ووجهه أسود فاشتد حزني لذلك وتحيرت في أمره فغلب علي النوم فإذا أنا بأربعة سودان عند رأسه وأربعة عند رجليه بأيديهم أعمدة من حديد من نار وهم يريدون عذابه فبينما أنا أنظر فيما يكون من أمر والدي مع السودان إذا برجل قد جاء فأشرق من نور وجهه الموضع كله الذي كنا فيه وأقبل على السودان فانتهرهم وقال تنحوا عنـه فتنحى السودان عنـه من ساعتهم وغابوا عني فلم أرهم ثم أقبل على والدي فمسح بيده على وجهه فإذا هو أشد بياضا من الثلج والنور قد علا وجهه ثم أقبل علي فقال لي بيض الله وجه أبيك وزال عنـه السواد فقلت له من أنت فجزاك الله عنـه خيرا قال أنا محمد رسول الله فقلت له يا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما كان السبب في مجيئك إليه فقال {صلى الله عليه وسلم} أما والدك فكان مسرفا على نفسه غير أنـه كان يكثر من الصلاة علي فلما نزل بـه ما نزل استغاث بي وأنا غياث لمن أكثر الصلاة علي فقمت من نومي فكشفت الثوب عن وجهه فإذا هو قد ابيض فأخذت في أمره وشرعت في دفنـه فما تركت الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} بعد ذلك
فإذا كانت الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} تورث تنوير الوجه بعد الممات فأولى ان تورث تنوير القلوب في الحياة وذلك أن الله تعالى جعل شخصه {صلى الله عليه وسلم} نورا

وقد سماه في كتابه سراجا منيرا ووصف من اتبع أمره وسنته وأحبه بنور القلب قال الله تعالى { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } الزمر 22 ووصف من خالف دينـه ومن لم يؤمن بـه بظلمة القلب قال تعالى { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } النور 40 فمالكم عباد الله غافلون عن هذه الفضيلة والنعمة الدائمة الجزيلة وأنشدوا
صلوا على نور تزايد فخره
يعلو على الأنوار والألباب
محمد زين الخلق شرقا ومغربا
وخير شفيع ناطق بصواب
وخير حبيب للإله نبينا
وخير رسول عامل بكتاب
أتى الخلق والأصنام تعبد جهرة
وبوأهم إبليس شر مآب
فأنقذ بالنور البهي عباده
وبوأهم بالد ين حسن مآب
فصلوا على خير الخلائق كلهم
لتستوجبوا يا قوم خير ثواب
عباد الله تعاهدوا الصلاة على حبيبنا محمد {صلى الله عليه وسلم} لأن الله تعالى إذا أراد بعبده خيرا يسر لسانـه للصلاة على محمد {صلى الله عليه وسلم} وإذا أراد بعبده شرا حبس لسانـه عن الصلاة على محمد {صلى الله عليه وسلم} فيكون ذلك سببا لسواد وجهه كما أن الصلاة لتنوير القلب
وأما قضاء الحوائج والأوطار
465 الصلاة تحل العقد
فما روي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال } من عسرت عليه حاجة فليكثر من الصلاة علي فإنـها تحل العقد وتكشف الهم والحزن وتكثر الأرزاق { وأنشدوا
} كم بالصلاة عليه فاز من رجل
وكم رأيت بها في الشدة الفرجا {
وأما النجاة من عذاب دار البوار
466 الصراط والصلاة
فما روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } الصلاة علي نور على الصراط { ومن كان على الصراط من أهل نور الإيمان وكثرة الصلاة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رسول الملك الرحمن فلا يكون من أهل الهوان في سموم النيران بل يكون من أهل الأمان في نعيم الجنان وأما دار الراحة والقرار
فما روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من ترك الصلاة علي فقد أخطأ طريق الجنة { فالله الله عباد الله يا إخواني تثبتوا واجتهدوا في الصلاة على خير العباد وفخر البلاد وزين الحشر والمعاد فعسى الله أن يجيرنا من العذاب الذي ليس له انقطاع ولا يرجى له نفاذ

ولا تغفلوا عن الثواب الجزيل والملك الدائم الجليل بالصلاة على النبي الأصيل الذي نعته في التوراة والإنجيل واحمدوا الله الذي فضلكم بالنبي الرؤوف الرحيم الذي جاء بالقرآن الواضح الحكيم المـهيمن القديم من عند الملك العزيز الكريم فلعل مولانا أن يتفضل علينا بجنات النعيم وينجينا من العذاب الأليم في سواء الجحيم مأوى كل كفار أثيم ومنزل كل شيطان رجيم وعدو فاسق فاجر لئيم
467 جهنم والصلاة على النبي
ذكر في بعض الأخبار أنـه إذا كان في يوم القيامة أمر الجبار جل جلاله أن يؤتى بجهنم فإذا جيء بها وكنات من الموقف مسيرة خمسمائة عام ونظرة إلى أهل المعاصي اشتد غضبها وتقلب بعضها على بعض وغلا بعضها على بعض وأخنى بعضها على بعض زفرت زفرة فلا يبقى غل ولا قيد ولا سلسلة ولا حية ولا عقرب إلا ألقت الكل على ظهرها وأكبت الزبانية على وجوههم وانـهزم مالك عليه السلام من بين يديها فعند ذلك لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي ولا صفي إلا جثا على ركبتيه وفر الناس كلهم هاربين ونبينا {صلى الله عليه وسلم} قائم عليه حلة خلقها الله تعالى من قبل قبل أن يخلق الخلق بمائة ألف عام وهو {صلى الله عليه وسلم} يلوح إليها بكمـه ويقول
} كفي عن أمتي كفي عن أمتي فعند ذلك يتعلق العبد المذنب بـه {صلى الله عليه وسلم} وهو يقول يا نبي الله أنقذني من عذاب الله فيقول له {صلى الله عليه وسلم} } ألم أبلغك رسالة ربي فلم عصيت فيقول يا رسول الله غلبت علي شقوتي فيقول {صلى الله عليه وسلم} } لا شقوة على أحد ممن أكثر الصلاة علي فيشفع له عند الله تعالى فإذا رأت جهنم نور وجه المصطفى محمد {صلى الله عليه وسلم} خمدت وكفت
فإذا كانت جهنم أخمدها الجبار من نور وجه النبي المختار فكيف لا تطفئ الصلاة عليه عن صاحبها جميع الخطايا والأوزار وإذا كان نور المصطفى أخمد عظيم النيران فكيف لا توجب الصلاة عليه لصاحبها جزيل الغفران وإذا كان نور وجه محمد النبي {صلى الله عليه وسلم} أخمد سموم الجحيم فكيف لا
تورد الصلاة عليه المقام الكريم والنظر إلى وجه الحكيم العليم وأنشدوا
يا من تمرد في الأيام منـهمكا

صلوا على المصطفى يا أكرم الأمم
صلوا عليه لعل الله يرحمكم
يوم الحساب ويوم الكرب والزحم
إن الصلاة على المختار قارئة
لقلب صاحبها جزءا من الحكم
فهو الشـهيد لأهل الجمع كلهم
وهو الدليل إلى الفردوس والنعم
468 الصلاة بشارة بالجنة
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من صلى علي ألف مرة لم يمت حتى يبشر بالجنة وابخل الناس رجل ذكر عنده محمد {صلى الله عليه وسلم} أو سمع بذكره فلا يصلي عليه
وأكسل الناس من سمع المؤذن فلم يقل مثل ما يقول وأعجز الناس من لم يدع لنفسه دبر كل صلاة
فإذا كان العبد عاجزا لنفسه فهو لغيره أعجز
وأما سلام الرحيم القهار فهو أن كل من كان مصليا على النبي {صلى الله عليه وسلم} فهو من أهل الجنة
سلم عليه ربنا مولانا وهو قوله تعالى { سلام قولا من رب رحيم } يس 58 وقوله تعالى { وتحيتهم فيها سلام } يونس 10 وقوله { ويلقون فيها تحية وسلاما } الفرقان 75 { تحيتهم يوم يلقونـه سلام } الأحزاب 44
469 ما للمصلي عند الله
وروي عن عبد الرحمن بن عوف أنـه قال قال الله تعالى لرسوله محمد {صلى الله عليه وسلم} من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه قال فيسجد لله شكرا
فالعبد يجزي بالسلام على النبي المختار سلام الملك الجبار
وأنشدوا
يا راكبا نحو المدينة قاصدا
بلغ صلاتي للنبي محمد
وقل السلام عليك يا علم الهدى
فهو الدليل إلى الشفيع الأجود
} إن الذي ورث النبوة والهدى فهو الدليل لكل عبد مرشد
صلى عليه الله ما هبت صبا وترنمت ورقا بصوت تغرد
470 نكت في فوائد الصلاة عليه
واعلموا رحمكم الله أن في الصلاة على نبي الهدى محمد {صلى الله عليه وسلم} إشارات جميلة ونكتا كثيرة وذلك أن الله تعالى أجرى الصلاة على النبي الرشيد السيد السديد مجرى شـهادة التوحيد قال تعالى { شـهد الله أنـه لا إله إلا هو والملائكة } آل عمران 18
وهكذا قال رب القريب والبعيد في الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} الصادق الرشيد { إن الله وملائكته يصلون على النبي } الأحزاب 56 إشارة حسنة ونكتة مليحة

قال الله تعالى { فاذكروني أذكركم } البقرة 152 ولم يقل أذكركم عشر مرات وقال تعالى وجل علا { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نـهاكم عنـه فانتهوا } الحشر 7 وقد قال {صلى الله عليه وسلم} } من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا { فكأن الله سبحانـه وتعالى يقول عبدي إذا أثنيت علي مرة أثنيت عليك مرة وإذا أثنيت على حبيبي مرة أثنيت عليك عشرا لأنـه أكرم الخلق علي وأجلهم عندي
ثانية قال الله تبارك وتعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي } الأحزاب 56 وقال في المؤمنين { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور } الأحزاب 43 بصلاتكم على النبي المحبوب
وأنشدوا
} فأكثروا التسليم بعد صلاتكم
للسيد المختار ذاك الأمجد {
} ومن يك ذا بخل شديد بذكره فذاك عن الحق المنير مبعد
471 كاشفة الكرب
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } من عسر عليه شيء فليكثر من الصلاة علي فإنـها تحل العقد وتكشف الكرب { في دار الامتحان فأولى أن تنجي في الآخرة من النيران في الدار الباقية
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال < من صلى علي مائة مرة تزحزحت النار عنـه مسيرة خمسمائة عام > فأكثروا من الصلاة عليه يا أهل ملته
{صلى الله عليه وسلم} صلاة مقرونة بالكمال والحسن والجمال والخير والإفضال
روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } أكثركم علي صلاة أكثركم أزواجا في الجنة { فالله الله يا معشر المؤمنين أكثروا من الصلاة على سيد المرسلين
وخاتم النبيين وارعوا في المقام الأمين والتمتع بالحور العين والنظر إلى وجه مولانا رب العالمين
472 من أكثر الصلاة عليه

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } أكثركم علي صلاة أقربكم مني مجلسا { وفي هذا الحديث إشارة حسنة وهي أن من قرب في الآخرة من النبي نظر إلى وجه العزيز الجبار ومن نظر إلى وجه العزيز الجبار وقرب من النبي المختار زحزح جسمـه عن النار وأسكن دار الراحة والقرار في جنات عدن تجري من تحتها الأنـهار لا يذوقون فيها طعم ال ولا يجدون ضر الأسقام ولا تلحقهم فتور الآلام قد أمنوا من الزوال والانتقال ورضي عنـهم الكبير المتعال سبحانـه وتعالى جل ذلك الجلال
وأنشدوا
} صلى الإله ومن يحف بعرشـه
والطيبون على المبارك أحمد {
} فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوقى ذمة من محمد {
} ولا طلعت شمس النـهار على امرئ تقي نقي كالنبي محمد {
} ولا لاحت الجوزاء شرقا ومغربا
بأطيب من طيب النبي محمد {
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } أكثروا من الصلاة علي فإنـها تطفئ غضب الجبار { فأولى أن تطفئ عن المصلي عليه {صلى الله عليه وسلم} في الدنيا كيد الشيطان الفرار
عباد الله الزموا هذه الفضائل وارغبوا في هذه المنازل وتقربوا إلى الله بهذه الوسائل بالصلاة على النبي المختار من أشرف القبائل الذي أوضح الله بـه الدلائل وجعله إليه أكبر الوسائل وأنشدوا
} حب النبي على الأنام فريضة ولا تنس ذكر الهاشمي الأكرم {
} إن الصلاة على النبي وسيلة فيها النجاة لكل عبد مسلم {
} صلوا على القمر المنير فإنـه
نور تبدى في الغمام المظلم {
} رحم العباد بـه عزيز قادر فالشكر لله العلي المنعم {
473 الصلاة والدعاء
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } إن العبد يسأل الحاجة فلا يصلي علي عقيب سؤاله فترجع الحاجة على سحابة فإذا صلي علي قضيت حاجته واستجيبت دعوته وتفتحت له أبواب السماء { فإذا كانت الصلاة عليه {صلى الله عليه وسلم} تقضي في الدنيا الحاجات فالأولى أن تنجي صاحبها في الآخرة من العذاب والعقوبات وتدخل الجنات العاليات

روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } كل دعاء محجوب دون السماء فإذا جاءت الصلاة علي صعد الدعاء { يا أحبائي والله إذا صعد الدعاء ارتفع البلاء ورضي الإله الأرض والسماء
474 كيف تدعو
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } لا تجعلوني كقدح الراكب فإن الراكب إذا أراد أن ينطلق علق معاليقه وملأ قدحه فإن كانت له حاجة في أن يتوضأ أو يشرب شرب وإلا أهراقه فاجعلوني في وسط الدعاء وفي أوله وفي آخره وإنما معنى الحديث أن يكون الإنسان أبدا لا يفتر عن الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} فإذا أصابته شدة وصلى على محمد عرف صوته ودعاءه فاستجيب له وكشف عنـه الهم والكرب
فيجب على من هو أهل ملة محمد {صلى الله عليه وسلم} أن لا يغفل عن الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم}
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه قال } أكثروا من الصلاة علي فإنـها تهن كيد الشيطان { فأولى أن تدفع عن المصلي عليه آفات الزمان وتحول بينـه وبين عذاب النيران وتوجب له دار الخلد والأمان وجنة النعيم والرضوان وأنشدوا
} امدح نبي الهدى يا أيها الرجل
واذكر فضائله والدمع منـهمل {
} وصل دهرا على المختار مجتهدا تحت الظلام وداجي الليل منسبل {
}
} عساك تحظى بدار لا نفاذ لها نعيمـها دائم والظل والأكل
475 فائدة الصلاة على النبي
توسلوا بالصلاة على النبي الرفيع والحبيب الشفيق يغفر لكم مولاكم ما عملتم من الآثام ويدخلكم برحمته دار الخلد والسلام
توسلوا بالصلاة على النبي
المختار يكن شفيعكم من عذاب دار البوار وينجيكم مولاكم من سموم النار ويدخلكم برحمته جنات تجري من تحتها الأنـهار
توسلوا بالصلاة على النبي الصادق الأواب ينجيكم مولاكم من أليم العذاب ويدخلكم الجنة وحسن المآب توسلوا بالصلاة على النبي الرشيد ينجيكم مولاكم من العذاب الشديد ويدخلكم برحمته النعيم الذي لا يبيد
توسلوا بالصلاة على النبي البر الرؤوف الرحيم يدخلكم مولاكم جنات النعيم وينجيكم برحمته من سموم الجحيم

روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنـه أنـه قال الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} أمحق للذنوب من الماء البارد للنار
والصلاة علي النبي {صلى الله عليه وسلم} أفضل من عتق الرقاب فاسمعوا وعوا يا أولي العقول والألباب
وأنشدوا
تواترت الخيرات شرقا ومغربا
بذكر رسول الله في السر والجهر
فذكرك للمختار فخر ورفعة
وذكرك للمختار من أفضل الذكر
ذكر في بعض الأخبار أنـه إذا كان يوم القيامة وضعت حسنات بعض المؤمنين وسيئاتهم في الميزان فترجح سيئاتهم على حسناتهم فيشفق المؤمنون لذلك فتنزل صحائف بيض من عند الله تبارك وتعالى على حسناتهم فترجح حسناتهم على سيئاتهم فيقول الرب جل جلاله هذه صلاتكم على النبي محمد {صلى الله عليه وسلم} ثقلت بها موازينكم وجعلتها لكم ذخيرة وقربة
فهذا يا إخواني فضل الله العظيم بالصلاة على الرسول الرؤوف الرحيم
476 ثبوت الشفاعة
ومن رحمة النبي {صلى الله عليه وسلم} بأمته ما روي عنـه {صلى الله عليه وسلم} أنـه كان في بعض الأيام جالسا فقرأ هذه الآية { إن تعذبهم فإنـهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } المائدة 118 فبكى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال له يا محمد مم بكاؤك فقال {صلى الله عليه وسلم} } فكرت في أمتي { فقال جبريل يا محمد الله يقرئك السلام ويقول لك أنا أسترضيك في أمتك
يا أحبابي نبيكم عند مولاكم مكين ومولاكم ذو القوة المتين وإنك يا أخي عبد مـهين فهل رأيتم مـهينا يعذب بين مكين ومتين مولاكم عظيم ونبيكم كريم فهل يضيع من يخاف العذاب الأليم بين عظيم وكريم فصلوا عليه كما أمركم مولاكم في القرآن الحكيم
يا أمة
محمد {صلى الله عليه وسلم} مولاكم لطيف ونبيكم سيد شريف وأنت يا مؤمن عبد ضعيف فهل رأيتم ضعيفا يضيع بين لطيف وشريف وأنشدوا
يا إلهي عسى تكون مجيري
بصلاتي على البشير النذير
إنني خائف كئيب حزين
أن أصلي بحر نار السعير
أيها الناس بادروا ثم جدوا
بصلاة على السراج المنير
ذاك خير الأنام جاء بصدق
وكتاب من السميع البصير
فيه أمر وفيه نـهي وفيه
ما يؤدي إلى النعيم الكبير
لا تملوا من الصلاة عليه

سوف تنجوا من حر نار الزفير
} ثم تحظوا بها بدار نعيم
ليس تبلى من عند رب قدير
477 المداومة على الصلاة عليه
واعلموا عباد الله أن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن لا يدع الصلاة على النبي {صلى الله عليه وسلم} حينا ولا وقتا ولا يذكرها في الشدائد ويدعها في الرخاء فيكون كمن يعمل للدنيا دون الآخرة إنما يجب عليك أن تصلي عليه في صلاتك وعند قيامك وقعودك ولباسك وأكلك وك وسائر تصرفاتك فتعود عليك بركتها وتقبل عليك خيراتها وتقضي بذلك حق نفسك وحق نبيك محمد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولا تقدر أن تبلغ حق نبيك أبدا ولو كان لك ألف لسان تصلي بها كلها عليه لأن الله تبارك وتعالى جعله سببا لخلاصك من النار ولمعرفتك بمولاك العزيز الجبار
478 مـهر حواء أم البشر
ذكر في بعض الأخبار أن آدم عليه الصلاة والسلام رفع رأسه فنظر على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال آدم يا رب من هذا الذي كتبت اسمـه مع اسمك فقال الله تعالى يا آدم هو نبيي وصفيي وهو حبيبي ولولاه ما خلقتك ولا خلقت جنة ولا نارا فلما خلق الله سبحانـه حواء نظر آدم إليها فقال يا رب زوجني منـها فقال الله تعالى وما مـهرها يا آدم فقال يا رب ما أعلم قال الله تبارك وتعالى يا آدم صل على محمد عشر مرات فصلى آدم عليه كما أمره الجبار جل جلاله فزوجه الله سبحانـه منـها وكان صداقها الصلاة على محمد المختار مـهرا لأمة الملك الجبار فكيف لا تكون صلاتنا عليه مـهرا للحور العين في دار القرار ومن
دخل دار القرار نجا من عذاب النار لأنـه قال {صلى الله عليه وسلم} } أكثركم علي صلاة أكثركم أزواجا في الجنة
479 إشارات وبشارات
غشارة حسنة
وذلك أن الصلاة من الملك الجبار رحمة ونجاة من عذاب النار لأن الله تعالى إذا صلى على المؤمنين فقد رحمـهم
أخرى

قال الله تعالى { مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط بـه نبات الأرض } يونس 24 وقوله { كأن لم تغن بالأمس } يونس 24 فإذا جاءت الساعة بعذابها وأهوالها ذهب نبات الأرض وتلاشى في جنب العذاب حتى تبقى الأرض كأن لم يكن فيها نبات قط وإذا كان هذا فعل العذاب فرحمة الله أولى وأكثر إذا جاءت تلاشت ذنوب المؤمنين في جنبها كأن لم تكن قط
هذا في رحمة الله الكريم مرة واحدة فكيف في عشر مرات لأن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال { من صلى علي مرة واحدة صلى الله بها عليه عشر مرات { فهذه بشارة حسنة للمؤمنين والمؤمنات بكثرة صلاتهم على سيد السادات وخير البريات
روي عن أبي هريرة رضي الله عنـه أنـه قال ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله تعالى ولم يذكروا النبي {صلى الله عليه وسلم} إلا كان ذلك المجلس عليهم وبالا وحسرة يوم القيامة فتزينوا يا أمته وزينوا مجالسكم بالصلاة على نبيكم {صلى الله عليه وسلم}
480 مكفرات الذنوب
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنـه صعد ذات يوم المنبر فوضع قديمـه في مرقاة من المنبر فقال آمين وقال آمين في الدرج الثاني وقال آمين في الدرج الثالث ثم قال {صلى الله عليه وسلم} جاءني جبريل عليه السلام فقال يا محمد من أدرك أحد والديه أو كلاهما ومات ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله فقلت آمين ثم قال يا محمد من أدرك شـهر رمضان فمات فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قلت آمين ثم قال يا محمد من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله فقلت آمين
روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} المختار } من صلى علي لم يلج النار {
اللهم صل على محمد ما اتصلت عين بنظر وتزخرفت أرض بمطر وحج حاج واعتمر ولبى ونحر وحلق وقصر وطاف بالبيت وقبل الحجر
اللهم صل عليه وعلى آله صلاة لا نفاذ لها ولا انقطاع صلى الله عليه عدد من يصلي عليه وعدد من لم يصل عليه إلى يوم القيامة وصل عليه عدد الذاكرين وغفلة الغافلين واحشرنا وجميع المسلمين في زمرته يوم الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

. قد الوان زاده . قد الوان زاده : قد الوان زاده ، قد الوان زاده




[قد الوان زاده]

نویسنده و منبع | تاریخ انتشار: Tue, 04 Sep 2018 10:42:00 +0000



قد الوان زاده

كتاب : خريدة القصر وجريدة العصر 3

رُدّوا الصِّبا كردّ طرْفِ لحظةٍ ... قد الوان زاده إنّ الصِّبا زمانُه حميدُ
وخلّصوني من تكاليفِ الهوى ... قد الوان زاده إنّ الهوى عذابُه شديدُ
أو لا فنادوا ثم بيعوا مُهجتي ... بنظرةٍ فيمن عسى يَزيدُ
أو فاجمَعوا شيبي وذُلّي في الهوى ... وطول تعذيبي بمن أُريدُ
ما فعلت بالأنفُس البيض الظُّبا ... ما فعلت بنا الظِّباءُ الغيدُ
سنَحْنَ بالوادي فماذا فعلت ... بالأنفُس الأجيادُ والخدودُ
وله من قصيدة:
أسيرُ هوى المحبّةِ ليس يُفْدى ... ومقتولُ التّجنّي لا يُقادُ
ومن قد أمرضته وأتلفته ال ... عيونُ فلا يُفادُ ولا يُعادُ
فقدْتُ الصّبرَ حين وجدْت وجْدي ... وجاد الدّمعُ إذ بخلَتْ سُعادُ
وكنت أخافُ بُعدي يوم قُربي ... فكيف أكون إن قرُب البِعادُ
ديارَهُمُ كساكِ الزّهرُ ثوباً ... وجادَ على معاهدِك العِهادُ
ألا هل لي إلى نجدٍ سبيلٌ ... وأيامي برامةَ هل تُعادُ
أقول وقد تطاول عمرُ ليلي ... أما للّيلِ ويحَكُمُ نفادُ
كأنّ الليلَ دهرٌ ليس يُقضى ... وضوءُ الصُبح موعدُه المَعاد
أعيدوا لي الرّقادَ عسى خيالٌ ... يزورُ الصبّ إن عادَ الرُقادُ
وبيعوني بوصلٍ من حبيي ... وفي سوق الهوانِ عليّ نادوا
فلو أنّ الذي بي من غرامٍ ... يُلاقي الصّخرَ لانفطرَ الجمادُ
وثِقتُ الى التصبّر ثمّ بانوا ... فخان الصّبرُ وانعكس المرادُ
وكان القلبُ يسكنُ في فؤادي ... فضاع القلبُ واختُلِس الفؤادُ
وقالوا قد ضللْت بحبّ سُعدى ... ألا هذا الضّلالُ هو الرّشادُ
وهل يسلو وِدادَهمُ محبٌّ ... له في كل جارحةٍ وِدادُ
وآنفُ من صلاحي في بعادي ... ويُعجبني مع القربِ الفسادُ
وبين الرملِ والأثلاتِ ظبيٌ ... يصيدُ العاشقين ولا يُصادُ
أحمُّ المُقلتيْن غَضيضُ جَفنٍ ... تكِلّ لطرفِه البيضُ الحِدادُ
أقولُ وقد تحجّبَ عن لِحاظي ... حبيٌ بالجَفا عنـه أُذادُ
أراك بمقلتي وبعين قلبي ... لأنّك من جميعهما السّوادُ
لمن وأنا المَلومُ ألومُ فيما ... على نفسي جنيتُ أنا المُفادُ
سعى طرْفي بلا سببٍ لقتلي ... كما لدمِ الحسينِ سعى زِيادُ
وله:
سترَ الغرامُ فهتّكته الأدمُعُ ... والدمعُ يُعلنُ ما تُجنّ الأضلع
وأعار في الأغصان كلّ ةٍ ... نوحاً فرقّ له الُ السُجّعُ
واستنّ برقٌ بالحِجاز فشاقه ... ذاك الوميضُ وأقلقته الأربُعُ
وكذا المشوقُ إذا تذكّر منزلاً ... هاجت بلابلَهُ البُروقُ اللُّمَّعُ
يا قلبُ هل لك في السّلوِّ طَماعةٌ ... أم ما مضى لك من زمان يرجِعُ
أم هل لمن أسرَ التّجني مُنقذٌ ... إنْ أنّ في قيدِ الصّبابةِ موجَعُ
كيف السّبيلُ الى الحجاز ولعلَعٍ ... من بعدِها بعُدَ الحجازُ ولعْلَعُ
أوطارُ شوقٍ في الفؤادِ مقيمةٌ ... وغليلُ حُبٍّ في الحشا لا ينقَعُ
من للمحبّ ترحّلت أحبابُه ... بلِوى العقيق عن العقيق وودّعوا
خذلَتْه أنصارُ التّصبّر في الهوى ... يومَ الفراقِ وساعدته الأدمعُ
قِفْ وقفةً عنّي ببُرقةِ عاقلٍ ... وسلِ الطّلولَ وهل يُجيك بلقَعُ
واستخبرِ الرّسمَ القديمَ وقل له ... أين الكثيبُ وأين ذاك الأجرعُ
بل أين سكّان الحِمى فلئِنْ سرَوا ... عن مُقلتي فلهم بقلبي مربَعُ
أضحت هوادجُهم لدُرِّ رُبوعهم ... صدَفاً وهنّ على الحدائجِ تُرفَعُ
وله:

هل بعد إقرارِ الدموعِ جُحودُ ... غلبَ الكرى وتمكّن التّسهيدُ
يا للرّجالِ لنازح متغرّب ... كثُر الغرامُ عليه وهو وحيدُ
أنا بين حالَيْ مُقتِرٍ ومبذّرٍ ... مُضْنى الفؤاد متيّمٌ معمودُ
صبرٌ ودمعٌ ليس لي بهما يدٌ ... فالصّبرُ يبخلُ والدموعُ تجودُ
أمذكّري تلك العهودَ برامةٍ ... أنَسيتَ ما أهدت إليّ زَرودُ
لا تثْنِ طرفَك عن ثنيّات اللّوى ... فلنا على تلك العهودِ عهودُ
ولقد وقفنا للوداع وضمّنا ... يومٌ بمنعرجِ اللّوى مشـهودُ
جمعاً يفرّقنا الفراقُ ولم يزلْ ... شمْلُ الوداعِ يُبيدُه التّبديدُ
بلّغْ هُديتَ تحيّةً من عاشقٍ ... بالنّفسِ دون لِوى العقيقِ تجودُ
وأقرّ السّلامَ على الكثيبِ وقُلْ له ... هل ماءُ رامةَ بعدَنا مورودُ
يا عاذلَ العُشّاق إنْ هجروا وإنْ ... وصلوا فكلٌ بالجوى مجهودُ
دعهُمْ وما طُبِعوا عليه فإنّهم ... منـهم شقيٌ في الهوى وسعيدُ
وله:
عتابٌ منك مقبولُ ... على العينين محمولُ
ترفّقْ أيه الجاني ... فعقلي فيك معقولُ
ويكفيني من الهِجرا ... نِ تعريضٌ وتهويلُ
ألا يا عاذلَ المشتا ... قِ إنّي عنك مشغولُ
وفي العشّاقِ معذورٌ ... وفي العشّاق معذولُ
أسُلْوانٌ ولي قلبٌ ... له في الحبّ تأويلُ
بمَنْ في خدِّه وردٌ ... وفي عينيه تكحيلُ
وجيشُ الوجدِ منصورٌ ... وجيشُ الصّبرِ مخذولُ
وله:
جفْنُ عيني شفّه الأرَقُ ... وفؤادي حشوهُ الحُرَقُ
من لمشتاقٍ حليفٍ ضنىً ... دمعهُ في الرّكبِ منطلقُ
أنا في ضِدّين نارِ هوىً ... ودموعٍ سُحْبُها دُفَقُ
بي حريقٌ في الفؤاد ولي ... مُقلةٌ إنسانُها غرِقُ
وحبيب غابَ عن نظري ... فدموعي فيه تستبقُ
غاب عن عيني فأرّقني ... فجفوني ليس تنطبقُ
قلت إذ لمَ العواذلُ واص ... طلحوا في اللّوْم واتّفقوا
وفؤادي فيه ذو قلقٍ ... ماعلى العُذّال لو رفَقوا
مذ نأت عنّي منازلُه ... ليس لي خلقٌ بـه أثِقُ
أخوه أبو المعالي ابن مسلم الشّروطي
وكان أصغر من محمود.
أذكره في أوان الصّبا، قد الوان زاده ودكّانـه - في باب النّوبيّ - مجمع الظُرَفاء والأدباء، وهو يعمل شعراً، ويلقّنـه صُنّاع الغِناء.
وتوفي بعد سنة خمس وأربغين، وهو شابّ.
ومن نظمـه:
جرى دمعُه يوم باتوا دَما ... على إثرهم بعَقيق الحِمى
وصاحوا الرّحيل وزمّوا الرِّحالَ ... وساروا ووجدي بهم خيّما
تولّى الفريقُ أوانَ الفِرا ... قِ واقتسموا مـهجتي أسهُما
وعيش علا يومَ صاحوا الرّحي ... ل صارت حلاوتُه علْقَما
وما ضرّ من جرحَتْ مُقلتا ... ه لو بعثَ الوصلَ لي مرهَما
بلا في الهوى وابتلاني الجَوى ... وكان أساس بلائي هُما
وكم لامني فيهمُ العاذلانِ ... فما سمِعت أذني منـهما
وله:
نادى مُنادي البَيْن بالتّرْحالِ ... فلذلك المعنى تغيّر حالي
زُمّتْ ركابُهمُ فلمّا ودّعوا ... رفعوا على الأجمالِ كلّ جَمالِ
فجرت دموعي في خدودٍ خِلتُها ال ... ياقوتَ قد نُثِرت عليه لآلي
وتفرّق الشّملُ المَصونُ وقبلَ ذا ... لم يخطُرِ البيْنُ المُشتُّ ببالي
وله مسمّطة، يغنّى بها:
يا ريمُ كم تجنّىلِمْ قد صددتَ عنّاصِل عاشقاً مُعنّىبالوصلِ ما تهنّا
السّلسبيلُ ريقُوالشّهدُ والرّحيقُوالوردُ والشّقيقُمن وجنتَيْه يُجْنى

حتّامَ يا غزالُذا التّيهُ والدّلالُوالصّدُّ والمَلالُأفنى ولي يَفْنى
عذّبتَني فمـهلالم ترْعَ فيّ إلاما كنتُ قطّ إلاأحسنتُ فيك ظنّا
يا فتنةَ الفتونِيا نُزهةَ العيونِإرحَمْ أخا شُجونِما نال ما تمنّى
يا بدرَ كلِّ بدرِفي نصفِ كلِّ شـهرِيا منْ أطال فكرييا مَن بـه فُتِنّا
لم يرْقَ فيك جَفْنيمن عُظم طولِ حُزنيناحَ الُ عنيفي دوحِه وغنّى
قد عيّروا ولاموامن شفّهُ السَّقامُما ينفَعُ الملامُمنْ في هواك جُنّا
صبٌ بكم عميدُأشواقُه تَزيدُقد شفّه الصّدودُأضحى بكم مُعنّى
فخر الدّين أبو شُجاع بن الدّهان
الفرَضي البغدادي
حبرٌ عالم، وبحر في الفضائل متلاطم، فقيه نبيه، نبيل وجيه.
رأيته ببغداد، وهو شابّ، يتوقد ذكاء وفطنة. وله اليدُ الطّولى في النّجوم وحلّ الزّيجات. وله شر حسن جيّد، وخاطر مجيد، ونفَس في النّظم مديد.
أنشدني لنفسه في قطب الدين بن العبّادي، وكان بينـه وبين البرهان عليّ الغزْنَويّ الواعظ نوع منافرة، وكانت سوقه انكسرت به:
للهِ دَرّ القطبِ من عالِمِ ... طَبٍّ بأدواءِ الورىآسِ
مُذْ ظهرت حُجّتُه في الورى ... قام بـه البُرهانُ للنّاسِ
في عرف أهل بغداد: قد الوان زاده إذا أفلس أحدهم، وأغلق باب دكّانـه، قيل: فلان قام للناس.
وأنشدني لنفسه:
أبو سعيدٍ الحكيمُ حبْرٌ ... قد فاق في علمـه البرايا
إذا رأى الخطّ مستقيماً ... خرّ له قائمَ الزّوايا
وأنشدني لنفسه في ثقة الدولة، أبي الحسن، عليّ بن الدُرَيْني، وقد مرض:
نذَرُ الناسُ يومَ بُرئِك صوماً ... غيرَ أنّي نذرتُه أنا فِطْرا
عالماً أنّ ذلك اليومَ عيدٌ ... لا أرى صومَه وإنْ كان نَذْرا
وجرى حديثه عند الحكيم أوحد الزمان أبي الفرج بن صفيّة فذكر أنّه يعرف من الهندسة طرفاً صالحاً. وأما شعره، ففي غاية الجودة. وأنشد له من قصيدة في جمال الدين محمد بن عليّ بن أبي منصور بالموصل حين سافر إليه:
قابلتُه فانجبرت كسوري ... وكنتُ في مُربّعِ التّعثيرِ
وله في الوزير عون الدين بن هُبَيرةَ، وقد قرِّب حصانـه - ليركب - فجمح، من قصيدة:
وبالأمسِ لما أنْ بدت لطِمِرِّه ... مـهابتُه أضحى من الوحش أنفرا
على أنّه ما زال يغشى بـه الوغى ... ويُوطِيه أطرافَ الوشيجِ مُكسّرا
جوادٌ علت منـه الجوادَ مـهابةٌ ... فأُرعِد حتى كادَ أن يتأطّرا
وما الطِّرفُ عندي بالمَلومِ وخوفُه ... حقيقٌ بـه لما اجتلى منـه قَسْوَرا
وماجَ لأنّ البحر بعضُ صفاتِه ... فساحَ ولاقى من يمينَيْه أبحرا
وله يهجو أعور:
من عجب البحرِ فحدِّثْ بـه ... بفرْدِ عينٍ ولسانَيْنِ
الأمير أبو شُجاع بنُ الطّوابيقي
من باب العامّة ببغداد.
له نظم رائق، وشعر فائق. وهو بالموصل. توفّي سنة تسع وستين.
حكى أبو المعالي بن سلمان الذّهبي: أنّه كان صحبه لما قصد أمير قلعة فنَك، وبات ليلتين لم يدخل. فلما عاد الأمير من الصّيد، دخلها، وأنشده من قصيدة:
يا ناصرَ الدّين سمعاً من فتى علِقَتْ ... يداهُ منك بحبلٍ غيرِ مُنبَتِك
لئن غدوتَ لصيدِ الوحشِ في عُدَدٍ ... من النّيازكِ والبتّارةِ البُتُكِ
لَصِدْتُ منك بلُقياك السّماحةَ وال ... إقدامَ والمجدَ في ثِنيَتيْ حِبا ملِك
وعُدّني مدَحٌ تُلهيك عن غُررٍ ... لو ناجتِ الشمسَ لانحطّت من الفلَكِ
أقِلْ وليّك قولَ الكاشحين له ... يا ويحَه عادَ بالحِرمان من فنَكِ
ولا تكِلهُ الى عذرٍ تنمّقُه ... إذ ما عليه بترك العُذرِ من درَكِ
فحسبُه ليلتا سوء غدا بهما ... نزيلُ مُلكك يا مولاي كالملكِ
وأنشدني أبو المعالي الذّهبي، قال: أنشدني لنفس، يستهدي اً:
مولايَ قد زارني غلامٌ ... ينظُرُ من مُقلتَيْ غزالِ
يَميسُ كالغصن جاذَبْتُه ... في دَوْحِه نسمةُ الشّمالِ

مزّق بالهجرِ ثوبَ عُمْري ... وعادَ يرفوهُ بالوِصالِ
وهْوَ جليسي في صحنِ دارٍ ... من كلّ ما يشتهيه خالِ
وقد تحيّلتُ في طعامٍ ... يُغني أكيلاً عن الخِلال
والير في دارِه قُدورٌ ... فوق الأثافي بين المقالي
قد أحكمت طبخَها طُهاةٌ ... وصُفِّقَ الخمرُ بالزّلالِ
فانعَمْ بها قهوةً حراماً ... لزاهدِ الدّين في الحلالِ
قال الشّاتاني: وكتب إليّ من قصيدة:
الى حسنٍ نحتثّها لُغّباً حسْرَى ... حواملَ من حُرِّ المديحِ له وِقْرا
ومنـها:
تجاوزتَ عن جُرمِ انبساطيَ مرةً ... وعدتَ فعاوِدْ بالنّدى مرةً أرى
ولما سافر الى الموصل، مدح - بديار ربيعةَ وديار بكر - أكابرها، وأشاع أشعاره، وأقام شائرها. وكان له خاطر لأبكار القوافي خاطب غير خاطئ، لكنّما أخمَصُه لذُرا أشرافِها واطئ.
ومن شعره، قوله:
قامت تهزّ قوامَه يومَ النّقا ... فتساقطَتْ خجلاً غصونُ البانِ
وبكت فجاوبَها البكا من مُقلتي ... فتمثّل الإنسانُ في إنساني
ومنـها:
وأحبّكم وأحبّ حبي فيكمُ ... وأُجِلّ قدرَكمُ على إنساني
وإذا نظرتكمُ بعينِ خيانةٍ ... قام الغرامُ بشافعٍ عُريانِ
إنْ لم يخلّصني الوصالُ بجاهه ... سأموتُ تحت عقوبةِ الهِجْرانِ
أصبحتَ تُخرجُني بغير جنايةٍ ... من دارِ إعزازٍ لدارِ هوانِ
كدم الفِصادِ يُراقُ أرذلَ موضعٍ ... أبداً ويخرجُ من أعزِّ مكانِ
قد نسب هذه الأبيات إليه من أنشدَنيها، وكنت أظنّها لغيره.
وله من قصيدة:
زارَ وجُنحُ الظلامِ مسدول ... طيفٌ له في الدُجى تخاييلُ
والليلُ زِنجيُّ ليلِه حدَثٌ ... عليه من شُهْبه أكاليلُ
والبدرُ وسْطَ السّماءِ معترضٌ ... قد أشرقَ العرْضُ منـه والطّول
ومنـها:
أينَ تسيرونَ بالرِّكاب فقد ... ملّ السُرَى حاملٌ ومحمولُ

غزال من عامّة بغداد.
أنشدني لنفسه:
قد هاج ناراً بقلبي في الدُجى وَرْقا ... أنّت ورنّت ولم تلْقَ الذي ألقى
أوصيكِ يا وَرْقُ رِفقاًبالفتى رِفقا ... الصّبُّ بعد فراق الحِبّ ما يبقى
فارس المعروف بطَلّق
ذكر لي بعض أصدقائي من أهل بغداد: أنّه رأى من عقلاء المجانين بها - في زماننا - رجلاً، يقال له طلّق، وأنشدني لنفسه:
لا يغُرّنْك اللباسُ ... ليس في الأثواب ناسُ
همْ وإنْ نالوا الثّريّا ... بُخَلاءٌ وخِساسُ
كم فتى يُدْعى رئيساً ... وهْوَ الخسّة راسُ
ويدٌ تصلُح للقط ... ع تُفَدّى وتُباسُ الحسن بن عبد الواحد الشـهرباني المعروف بابن عجاجة المعلّم.
أنشدت له في ابن رَزين:
قبّح اللهُ باخلاً ليس فيه ... طمعٌ واقعٌ لمن يرتجيه
سِفلةٌ إنْ قصدْتَه يتلقّا ... ك على فرْسخٍ بكبرٍ وتيهِ
أحمقٌ رأسُه إذا فتّشوهُ ... وجدوهُ بضدّ إسمِ أبيه
هذه الأبيات، مضطربة في نفسها لفظاً ومعنى، فإنّ ألف الاسم ألف وصل، وقد قطعه؛ ثم الهجو في غير موضعه.
يوسف بن الدُرِّ البغدادي
أنشدني محمد المولَّد له - وذكر أنّه مات في عُنفوان شبابه بطريق مكّة سنة تسع وأربعين وخمس مئة، وكان ذكيّاً - يهجو بعضم بالعين:
إنّ أبا سعدٍ الممشّي ... زمانَه أنت حين يمشي
مدوّرُ الكعبِ فاتّخذهُ ... لتلِّ غرسٍ وثلِّ عرشِ
لو رمَقت عينُه الثريّا ... أخرجها في بنات نعشِ
ما سمعت بألطف منـها في هذا المعنى.
وأنشدني له من قصيدة، وكأنـه نطق بحالته:
لهفي على أمل فُجِعت بـه ... في عُنفُوان شبيبةِ الأملِ
وأنشدني أبو المعالي الكتبيّ له:
عذرتُك لستَ للمعروف أهلاً ... ولومُك في قصورك عنـه ظلمُ
أتحسَبُني أقدتُ إليك نفسي ... ولي بك أو بما تأتيه علم

ظننتُ بك الجميلَ فخاب ظنّي ... وقال اللهُ بعضُ الظنِّ إثمُ
وأُنشدت له:
تِهْ علينا وتِهْ على الشمسِ حُسناً ... أنت أولى بالوصف منـه وأحرى
أنت بدرٌ يَسري ونحن أُسارا ... ك وأنّى يكون للبدرِ أسْرى
لا وأجفانِك المِراضِ اللواتي ... سِحرُه لانعجامـه ليس يُقْرا
لو رأى وجهَك الخليلُ بعيني ... قال هذا ربّي ولم يتبرّا
أوقعته هذه المبالغة فيما ترى، ونستغفر الله تعالى من مثل هذا القول.
وأنشدني له أيضاً:
ويْحي من المتوجّعين وأخذِهم ... روحي بكثرة قولهم ماذا وما
وانظُر لنفسك قلتُ قد أكثرتمُ ... إنّي نظرتُ فما رأيتُ سوى العمى
وأنشد له:
تنقّل السُقمُ من جِلدي الى جلَدي ... كما تنقّل من جفنيك في جسدي
وزاد ما بي وقلّ الصّبرُ واستعرت ... نارُ الغرام وفتّ الحُزنُ من عضُدي
وما شكوتُ بِلى جسمي الى أحدٍ ... ولا الشّكيّةُ دارتْ قطّ في خلَدي
يسُرّني سوءُ حالي في هواك وإن ... كلّفتَني في الهوى ما لا تنالُ يدي
وأستلذّ الذي ألقاه من ألمٍ ... وإنْ حسسْتُ بوقعِ النارِ في كبِدي
إني على حفظِ سرّي فيك مجتهدٌ ... وهكذا أنت فاحفَظهُ أو اجتهِدِ
كيلا تُحيطَ بنا علماً ضمائرُنا ... ولا يَشيعَ حديثانا الى أحدِ
وأنشد له:
آمري بالصّبر سلِّ ال ... رّوحَ دون الصّبرِ عنكا
فتْكُ أجفانِك بالعُش ... اقِ من سيفك أنكى
عبدُك المرحومُ أضحى ... مستجيراً بكَ مِنكا
نقص في الأصل
إيّاك أن تُدخلَهُ مكةً ... فإنّه يُخرجُها من يدَيْكَ
هذه، وإنْ كانت نادرة معجبة، غيرَ أنّ التّجرّؤ على مخاطبة الله تعالى بمثل هذا القول، يدلّ على اختلال الدّين والعقيدة. ونسأل الله أن يحفظ علينا الاعتقاد الصّحيح.
وأنشدني له بعض أصدقائي - ببغداد - فيمن تزهد:
قالوا تزّهدتَ فازدد ... تَ بالتّزهُّدِ بَرْدا
ألبستَ نفسكَ لِبْداً ... والثّلجُ يُلبِسُ لِبْدا
لكنّه يتندّى ... وأنت لا تتندّى
أبو محمد محمد بن الحسين بن هِلال الدّقاق
من أهل بغداد.
ذكره السّمعاني في الذّيل، وذكر: أنّه لقيه شاباً، متودّداً، كيّساً، وذلك في سنة ستّ وثلاثين. لقِي أسعدَ الميهَنيّ الفقيه، وشدا عليه طرفاً من العلم.
قال: سألته عن مولده، فقال: سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة.
ٍقال: أنشدني لنفسه قوله:
أترى لوعدك آخِرٌ مترقّبٌ ... أم هل يمدّ بنا الى الميعاد
فاليأسُ إحدى الرّاحتين لآمِلٍ ... قد ضمّ راحتَه على ميعاد
وقوله:
لولا لطافةُ عُذرِها لمُتيّمٍ ... بغريبِ ألفاظٍ وحُسنِ تلطّفِ
لتقطّعتْ منـه علائقُ قلبِه ... لولا مِزاجُ عتابها يتعطّفُ
ابن قزمّي البغدادي
أبو المظفّر محمد بن محمد بن الحسين بن خزَمِّي الإسكافي. من أهل بغداد، شيخ من باب الأزَج. كان أيامَ الوزير عليّ بن طِراد.
وكان لي صديق من أهل باب الأزَج، يقال له الكافي أبو الفضل، ووعدني أن يمع بيني وبينـه، فما اتّفق ذلك. وحمل إليّ بخطّه هذه الأبيات:
مدامعُهُ تُغرِقُ ... وأنفاسُه تُحرِقُ
وما ذاك أعجوبةٌ ... كذا كلّ من يعشَقُ
بنفسي شـهيّ الدّلا ... لِ إن مرّ بي يُطرِقُ
فأُغضي له هيبةً ... وقلبي جوى يخفِقُ
بوجهٍ كشمسِ الضُحى ... أساريرُه تبْرُقُ
أكادُ لإشراقِه ... إذا ما بدا أصعَقُ
إلامَ أداري الجوى ... وأمحَضُ مَن يمذُقُ
وأُشفِقُ من لوعة الص ... :دود ولا يُشفِقُ
سِهامُ لِحاظِ الحبي ... بِ في كبِدي تُرشَقُ
وكاتبٌ خطّ العِذا ... ر في خدّه يمشُقُ
وهذه الأبيات:

لي حبيبٌ لانَ عِطْفا ... ليتَه قد لان عَطْفا
إنّ قلبي من هواه ... في حريقٍ ليس يُطْفا
أشتهي تقبيلَ عيني ... ه وصحنِ الخدِّ ألفا
ثمّ ضِعفَ الشّفعِ والوَتْ ... رِ وضِعفَ الضِّعف ضِعْفا
ثم طالعت مجموعاً، فوجدت له فيه هذه الأبيات المقطّعات، فمنـها:
مَن لنَجِيّ الفِكَرِ ... مَن لحليفِ السّهَرِ
منْ للمَشوقِ المستها ... مِ الوالِهِ المُستَهتَرِ
من للجفونِ قرّحت ... بدمعها المنـهمرِ
من لفؤادٍ نارُه ... راميةٌ بالشّرَرِ
واهاً لقلبي من هوىً ... دهاهُ بعد الكِبَرِ
واها له من خاطرٍ ... أسلمني للخطرِ
واهاً له من موردٍ ... سهلٍ عسيرِ المصدِ
أيُظلِمُ القلبُ وقد ... أشرق صبحُ الشّعَرِ
جارَ عليّ الحبّ وال ... حُبّ لئيمُ الظّفَرِ
ومن يذُقْ ما ذُقتُه ... من الغرامِ يعذرِ
سباه ممشوقُ القوا ... مِ بابليّ النّظَرِ
أهيفُ مـهضومُ الحشا ... كالصّارمِ المذكّر
يَبسِمُ عن مفلّجٍ ... مرتّلٍ مؤشّرِ
وشفَتَيْن شفّتا ... كالأرجُوان الأحمرِ
وخاتم الحسن الذي ... عِيلَ بـه مُصطَبَري
يا حبّةَ القلبِ المَشو ... قِ يا سَوادَ البصَرِ
ليَبلُغنّ الحبُ بي ... ما لم يَسِرْ في خبرِ
حتى يقولَ قائلٌ ... كان أبو المظفّرِ
ومن أخرى:
لطفُ الخصورِ المُخطَفَهْ ... والطُرَرُ المُصفّفَهْ
والوجناتُ البضّة ال ... مُشرِقةُ المترّفَهْ
ولينُ أغصانِ القُدو ... دِ اللّدْنةِ المُهَفْهَفهْ
أبقت قلوبَ العاشقي ... نَ صبّةً مختطَفَهْ
فكم مريضٍ مدنَفٍ ... شِفاؤهُ لثمُ الشّفَهْ
ولا يبالي أن يُع ... دّ فعلُه من السّفَهْ
قالوا له الهائمُ لا ... يردعُه من عنّفَهْ
ولا نصيحٌ مُشفِقٌ ... هدّدَهُ وخوفَهْ
والنّفسُ للإنسان إن ... أنصفَ غيرُ منصِفَهْ
يحظى بما قدّمـه ... وهمّه ما خلّفَهْ
وإنّما الدُنيا غرو ... رٌ خدَعٌ مُزَخْرفَهْ
مثلُ حُطامِ الزّرعِ تذْ ... روهُ رياحٌ مُعصِفَهْ
بعدَ أنيقٍ ناضرٍ ... أزهارُه مفوّفَهْ
ومن أخرى:
هاج له ذِكرَ الصّبا ... نسيمُ أنفاسِ الصّبا
وعادهُ عيدُ الجوى ... فبتَ صبّاً وصِبا
ولم يكن بعدَ النُهى ... أولَ ذي شيبٍ صبا
لله ريْعانُ الشّبا ... بِ زائراً ما أعجبا
أودتُه مآربي ... إذ لستُ أعصي أرَبا
ومن أخرى:
يا لجآذرِ العِينِ ... فِتنتي وتَحْييني
ما تزالُ تقتُلُني ... تارةً وتُحييني
والمُنى تقرّبُني ... والحِذارُ يُقصيني
والوصالُ ينشُرُني ... والفراقُ يَطويني
والبِعادُ يُمرِضُني ... والدنوّ يَشْفيني
يكرهُ النّصيحةَ في ... غِلظةٍ وفي لينِ
والمحبّ حالتُه ... حالُ الجانين
والفراقُ أقتلُ من ... وقعِ ألفِ زُوبِين
والحبيُ أحسنُ من ... زهرةِ البساتينِ
وله في الزُهد:
أستغفرُ الله الكريمَ الغفّارْ ... الواسعَ العفوِ الحليمَ السّتّارْ
على هَناتٍ سلَفت وأخطار ... لم يرتكبْها قطّ أهلُ الأخطار
طوبى لمن عقّبَه باستغفارْ ... فإنّ من شرِّ الذّنوبِ الإصرارْ
يُضِرّ بالمذنِبِ أيَّ إضرارْ ... إذ كان يُنسيه العظيمَ الجبّارْ

وهم كما قال العزيزُ القَهّارْ ... فيهم فما أصبرَهُم على النّارْ
سيعلَمون مَنْ له عُقْبى الدّارْ
أبو الفتح بنُ قران
كان في أيّام المُقتفي شيخاً مطبوعاً، مربوعاً يختِضبُ، خليعاً يلعب ويطرَب، في زيّ المتنسّكين، وصبغ المنـهتكين، حلوَ المنادمة والتمسخُر، وقفاً على اللهو والتعثّر.
وسمعت: أنـه تاب مرةً، ولبس الخِرقةَ، ثم عاد عن التّوبة في الحال، وقال:
بَسّي من الزُهدِ بَسّي ... قامت من الزُهْدِ نفسي
متى أراني صَريعاً ... مابين ج... وك...
وسخفُه أسقطه، وحبَطه، وهبَطه.
أحمد بن محمد بن شُميعة
من باب الأزَج.
رأيته ببغداد سنة إحدى وخمسين وخمس مئة في سوق الكتب، واستنشدته، ورأيت له خاطراً مطبوعاً، ورأيت من دأبه نظم قصائد مختلفة الأوزان والرويّ في قصيدة واحدة، يمدح بها الأعيان، ويكتب ذلك بالحمرة والألوان المختلفة.
أنشدني له قصيدة، علق بحفظي منـها هذه الأبيات، وهي:
لا أشتكيها وإن ضَتْ بإسافي ... وإنّما أشكي من طيفه الجافي
ومنـها:
حِقْفٌ لمُعتنِقٍ خمرٌ لُغتبِقٍ ... وردٌ لمنتشقٍ مسكٌ لمُسْتافِ
ومنـها:
همُ الأحبّةُ إلا أنّ عندَهُمُ ... ما في المُعادينَ من خُلْفٍ وإخلافِ
وأنشدني الشيخ أبو المعالي الكتبيّ لابْن شُميعة:
وُدّ أهلِ الزّوراءِ زورٌ فلا يس ... كُنُ ذو خِبرةٍ الى ساكنيها
هي دارُ السلامِ حسْبُ فلا مط ... مَعَ فيها في غير ما قيل فيها
وتوفّي ابن شميعة بعد سنة خمس وخمسين.
وإذا جئتم ثنيّاتِ اللِّوى ... فلِجوا رَبْعَ الحِمى في خطَرِ
وصِفوا شوقي لسُكّان الحِمى ... واذكُروا ما عندكم من خبري
وحنيني نحوَ أيامٍ مضت ... بالغَضى لم أقضِ منـها وطَري
فاتني فيها مُرادي وحلا ... لتمنّي القُرب منـها سهَري
كنتُ أخشى فوقَه قبلَ النّوى ... فرماني حذري في حذري
آهِ وأشواقاً الى من بدّلوا ... صفْوَ عيشي بعدَهُم بالكدَرِ
كلّما اشتقتُ تمنّيتُُهُمُ ... ضاع عمري بالمُنى وا عُمُري
أبو الحسن عليّ بن أبي الفُتوح بن أحمد

ابن بكري الكاتب من الحريم.
والده مستعمل السّقلاطون لدار الخِلافة. وكان هو كاتباً في ديوان المجلس سنين، ثم صرفه الوزير.
فيه فضل وأدب. وهو من طبقات الشَّطْرَنْجيين ببغداد.
أنشدني لنفسه - ببغدادَ - سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، بيتين له في سوداءَ، وهما:
يا مَنْ فؤادي فيه ... مُتيّمٌ ما يزالُ
إنْ كان للّيلِ بدرٌ ... فأنتِ للصُبحِ خلُ
وأنشدني لنفسه يستعيرُ كتاباً ممّنْ ألزم نفسه ألا يُعير أحداً كتاباً:
يا مَنْ أنابَ وتابا ... ألاّ يُعيرَ كتابا
قد رُمْتَ ذاك ولكن ... محبّةُ الشُكْرِ تابى
وأنشدني أيضاً لنفسه أبياتاً، عمِلها ارتجالاً بحماة حين كان بالشّام، وكان على شاطئ النّهر المعروف بالعاصي:
قعَدْتُ على عاصي حماةَ وقد بكت ... نواعيرُه والماء يضحكُ فيه
فهاج لقلبي صبوةً لم أصِبْ لها ... شبيهاً وهل يؤتى لها بشبيهِ
وما زال يهتاجُ الفتى كلّ رنّةٍ ... إذا ما نوىً شطّت بدارِ أبيهِ
وأنشدني لنفسه في بعض الأكابر، وكان بيده بنفسج:
يا من عُلاه على السّماءِ مُطلّةٌ ... وبفضله تتحدّثُ الأمصارُ
إن كان يظهَرُ للبنفسج خجلةٌ ... من طيب نشرِك راح وهْو بَهارُ
وأنشدني لنفسه، وذكر لي أنّها من قصيدة:
أمامكَ أوطارٌ وخلفَك أوطانُ ... فعزمك ما بين البواعثِ حيْرانُ
إذا شمَلت هزّتْك للشّوقِ صبوةٌ ... وإن جنَبَتْ هزّتْك للإلْفِ أشجانُ
وأنشدني لنفسه في الاشتياق، سنةَ إحدى وستّين وخمس مئة، قوله:
الشوقُ ألوانٌ وأوفاهُ ما ... كان الى أهلٍ وجيرانِ
لو قرّب الشّوقُ لإفراطه ... ناء الى ناءٍ لأدناني
وقوله مما نظمـه قديماً بدمشق:

فتى الصوفيّ ما كان امتداحي ... لمثلك أنّني أرجو ثَوابا
ولكني سخِطْتُ على القوافي ... فصيّرْتُ المديحَ لها عِقابا
وقوله في مرأة عجوز، ولِعَتْ بدولابْ الغزْل والغزْلِ:
قد ترك الدولابُ من حبّه ... سِتّ أبي بكرٍ بلا عقلِ
لو كن دولاباً على دِجلةٍ ... يزرعُ زرعَ الهرْفِ والأفْلِ
ما جاز أن تعشَقَهُ هكذا ... محبّة الأولادِ والأهلِ
فكيفَ والدولاب من عتقه ... مكسّرُ الإجلِ والقتلِ
قد سئِمَ الخرّاطُ من مرّه ... إليه واستغنى عن الغزْلِ
وقوله في الأولاد:
أدعو إلهي أنْ يَقي ... من فِتْنَتي في فِتيَتي
فلدى الحياةِ وفي المما ... تِ تقيّتي وبقيّتي
راحوا ثلاثةَ فِتيةٍ ... سمعي فؤادي مُقلَتي
فهُمُ أصاغِرُ عِدّتي ... وهمُ أكابرُ عُدّتي
وقوله، مما يُطرّزُ على سستجه:
أنا في كفّ حاملي ... زينةٌ للأناملِ
أنا في وقفةِ النّوى ... واشتكاءِ البلابِلِ
إن جرَتْ سُحبُ دمعةٍ ... لحبيبٍ مُزايِلِ
صُنتَهُ عن وُشاتِه ... وعُيونِ العواذلِ
وله في تفاحة أُهديت له:
حيّا بتُفّاحةٍ فأحياني ... مواصِلٌ بعدَ طولِ هِجران
كأنّما ريحُها تنفّسُه ... ولونُها وردُ خدِّه القاني
وقوله في قوس البُندُق:
أنا في الكفّ هلالٌ ... وعلى الطّيرِ هلاكُ
حركاتي تترُكُ الطّيْ ... رَ وما فيهِ حراكُ
وقوله في الشّطرنْج:
أحَبُّ دعاباتِ الرّجالِ الى قلبي ... دُعابةُ شِطرَنجٍ أغادي بها صحبي
أُسالمُ فيها ثمّ أغدو محارباً ... فسلْمٌ بلا سِلمٍ وحربٌ بلا حربِ
وقوله في الشطرنج:
إنّما لعبُك بالشط ... رنْجِ للنّفسِ رياضهْ
فاهجُرِ الهُجرَ لديهِ ... لا ترِدْ يوماً حِياضَهْ
وتجنّبْ صاحبَ الجه ... لِ ومَنْ فيه غضاضَهْ
لا تُجالِسْ غيرَ ندْبٍ ... زانَهُ العقلُ وراضَهْ
وقوله من قصيدة، في مدح أمير المؤمنين المستنجد بالله، وقد خرج الى الصّيد:
في حفظِ ربِّك غادياً أو رائحا ... ولك السّلامةُ دانياً أو نازحا
أنّى حللت فروضةٌ مخضرّةٌ ... مما تُفيدُ نوافلاً ومنائحا
لمّا غدوتَ الصّيدَ في ملمومةٍ ... ملأ الفضاءَ قوانساً وسوابحا
جرتِ الظِّبا لك للعداة سوانحاً ... وجرت لأنفسها الظِّباء بوارحا
ما جارحٌ أرسلتَهُ إلا غدا ... في الصّيدِ إمّا قاتلاً أو جارحا
ماضي القوادم كاللّهاذمِ لو بغَى ... سبْقَ الوَميضِ شأى الوميضَ اللائحا
أو كلّ ممشوق رشيقٍ لا ترى ... منـه الوحوشُ إذا رأته منادحا
يجري فلا يدري بوطأته الثّرى ... فتخالُه ريحاًعليه رائحا
متوسّعُ الشِدْقيْنِ ضاق بعدْوِه ... وُسْعُ الفَلاةِ جرى عليها جامحا
أصبحتَ في جِدِّ الحروبِ وهزلِها ... متوحّدَ الإقدامِ فيه ناجحا
فاسْلَمْ أميرَ المؤمنين لأمّةٍ ... أحييتَها عدلاً وفضلاً راجحا
وهو مقيم ببغدادَ، يتولّى بعض الأشغال للخليفة.
تمّ الجزء الأول بعون الله ومنّه من خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الأصفهاني رحمـه الله يتلوه، في الجزِء الثاني، إن شاء الله تعالى باب في محاسن أهل العلم والأدب والفقه والشّعر، وأولهم الشيخ أبو محمد بن الخشّاب النحويّ، والحمد لله وحدَه، وصلواته على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلامـه /بسم الله الرحمن الرحيم

وبه الإعانة باب في ذكر فضائل جماعة من أعيان سواد بغداد و أعمالها شرقيها وغربيها منـهم: السديد أبو نصر محمد بن أحمد بن محمود الفروخي الكاتب الأواني

من قرية يقال لها أواني بدجيل. وهي ذات سوق كبير كبلدة كبيرة.
كاتب بارع، عبارته فصيحة. حاسب صانع، جماعته صحيحة. ناظم، ناثر، عالم، شاعر.
إذا أنشأ وشى، ومن كأسه الفهم انتشى. وإذا حرر حبر، وعن الحسن عبر. وإذا سطر سطا بحسام قلمـه. وإذا ترسل أرسل برهام كلمـه. وإذا نطق فتق ورتق، وكأن نجم الجوزاء بغرر منطقه تمنطق. وإذا سرد درس النثر درس ربع النثرة. وإذا أزهرت زهره ظهر خجل الزهرة. وإذا حلى، حوى القدح المعلى. وإذا نفش فصوص فصوله، هبت قبول قبوله، وإذا بعث كتاباً أتاه رسول رسوله. معرب موجز في نثره. مغرب معجز في شعره.
رسائله متسقة الرسل، وفضائله مغدقة الوبل. ماهر، برهام إبداعه هامر. وحاذق، للضرب باللبن ماذق. عسلي الكلام، أسلي الأقلام، أسدي الإقدام. صوله بالقول، لا بالقوة والحول. من عبارته حميا أوانى عصرت، وألسنة الإطرء على فضله قصرت. غريب في الزمان ليس له ضريب. كلامـه سهل ممتنع بديع بعيد قريب.
فأين أنت من راحه واحتساء أقداحه، وقدح زناده؟ فهلم إلى ناديه وناده، تفز باقتباس أنوار أنفاسه، واختلاس آثار أنقاسه، وتصدر من مورده ريان، وتصبح بالاستفادة منـه جذلان.
كان شيخاً كبيراً، يفوح منسوجه عبهراً وعبيراً، ويلوح ممزوجه بطراز السجع منيراً. وكانت تلمع شيبته نوراً، قد استبدلت من المسك كافوراً.
رتبه الوزير عون الدين بن هبيرة - سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة - في أعماله ب الهمامية و واسط، وأنا نائب الوزير بها - كاتباً معي مستوفياً، فاستسعدت بلقائه وكنت لحقوقه موفياً. فلم يلبث في العمل إلا مدة شـهرين، فأصعد إلى بغداد صفر اليدين. وسمعت أن الوزير رتبه في موضعين، وأدركه حين الحين، بعد أن فارقته بسنتين. روح الله روحه، ونور ضريحه.
أنشدني لنفسه ب الهمامية سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة:
ما لعينٍ، جنت على القلب، ذَنْبُ ... إنّما يٌرسل الّلحاظَ القلبُ
والهوى قائدُ القلوب. فإنْ سلّ ... طَ جيش الغرام، فالقلب نَهْبُ
أحياة بعدَ التّفرُّق يا قل ... ب؟ فأين الهوى؟ وأين الحبُّ؟
كان دعوى ذاك التَّأوُّه للبَيْ ... نِ، ولم ينصدع لشملك شَعبُ
إنَّ موت العشّاق من ألم الفُرْ ... قة والبَيْن، سُنَّة تستحبُّ
وعلاجُ الهوى، عذاب المحبّي ... نَ. ولكنّه عذاب عَذْبَ
زَوِّدِ الَّطرْفَ نظرةً، أو فمُتْ وَجْ ... داً، فهذا الوادي وذاك الّسِربُ
واسألِ الرَّكْب وقفة، فسعى يُنْ ... جِدُك اللّحظُ إن أجاب الرَّكْبُ
واستعنْ بالدّموع، فالدّمع عون ... لك إنْ ساعد المدامع سكبُ
وتبصَّرْ نحوَ العَقيق جُذَيَا ... تٍ على بُعدها تلوح وتخبو
فبذاك الجوّ الممنَّع أوْطا ... ريَ والقلبُ والهوى والصَّحْبُ
وأنشدني لنفسه، وقال سئلت أن أعمل أبياتاً على هذا الاقتراح فعملت. وهي في غاية اللطف والرقة:
يا صاحبَيَّ اسعِداني ... على الَّلَييْلِ الطُّوَّيِلْ
وعلّلاني بَبرد ... من النَّسيم العُلَّيِلْ
ويا حُداةَ المطايا ... رفقاً علي قليل
في هذه الدار قلبي ... رهنٌ بحّبِ غُزَّيِلْ
أسالَ دمعي، وألْوَى ... عنّي بخَدٍّ أُسَيِّلْ
ما زحته، فرماني ... بسهمٍ طَرْفٍ كُحّيِلْ
بُدَيْرُ تٍمٍّ، تراه ... تحتَ اللِثام هُلَّيِلُ
يَميس مثلَ قَضيب ... من فوق رِدْفٍ ثُقَّيِلْ
وله في مدح الوزير عون الدين تاج الملوك، سيد الوزراء، أبي المظفر يحيى، بن محمد، بن هبيرة ظهير أمير المؤمنين، وذلك في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، وأنشدني لنفسه القصيدة بالهمامية:
سرى والليلُ غِربيبْ الإِهابِ ... وفرعُ ظَلامـهِ نامي الخِضابِ
فأذكرني ثغوراً من لآَلٍ ... تَبَسَّمُ عن سُلاف من رُضابِ
هي الأحلام كاذبة الأماني ... فكيف أروم صدقاً من كِذابِ؟

وكيف أحوزِ خّلاً من خَيال ... وأطمَعُ في من سَراب؟
سقى الله العِراقَ وساكنيهِ ... بَواكرَ مُسْبِلٍ داني الرَّبابِ
وخصَّ بذاك ربعاً، حلَّ منـه ... محلَّ الخالِ من خدّ الكَعابِ
به خلّفت قلبي يومَ زُمَّتْ ... على عجل، لفُرقته، رِكابي
فإنْ ظَفِر الزَّمان، بحدّ ظُفْرٍ، ... بقلبي، أو بنابٍ غيرِ نابي،
فكم قد جاء بالعُتْبَى فأغنى ... وأغنى عن مطاوَلة العتاب
إلامَ أبيِت في طمع ويأس، ... وأُصبح بين رَوْح واكتئاب؟
وأقتحم الظَّلامَ بلا دليل، ... وأعتسف البلادَ بلا صِحاب؟
ولي من جود عون الدّين عونٌ ... بـه يَغْنَى المشيب عن الشَّباب
وطَرْفُ رجايَ، عنـه غيرُ مُغْضِ ... وطِرْفُ نَداه عنّي غيرُ كابِ
أقول لمشتكي الأزمان: صَمْتاً، ... فبحرُ نَوالِه طامي العُبابِ
إذا ما البرقُ أخلفَ شائميه ... وضَنَّ بقَطره جَوْنُ السَّحابِ
وأمحلتِ البلاد، وعُدَّ ظُلماً ... على ساري الدُّجَى ظُلْمُ الوِطابِ
وعطِّلت القِداحُ، فعُدْنَ غُفْلاً ... وعُرِّيتِ الأكفّ من الرِّبابِ
وعُطِّل موقد النّيران ليلاً، ... وبات بحرِّ ألْسِنةِ الكِلابِ
وعزَّ الفَصدُ من عَجَف، وأمسى ... قِرى الأضياف أكباد الضِبّاب،
فسمعك للنِّداء إلى طُهاةتُذيل نفائسَ الرُّدُح الرِّحابِ
لَدى ملكٍ منيعِ الجارِ، حامي ال ... ذِمّارِ، معظَّمٍ، سامي القِبابِ
ألا يا عاقرَ البِدَرِ العوالي ... إذا ضَنَّ الجوادُ بعَقْر نابِ،
بدأتَ مؤمّليك بلا سؤال، ... وقابلتَ الوفود بلا حِجابِ.
فما عَذْراءُ من جُون الغَوادي ... تَهادَى في سكون واضطرابِ،
تكاد تَسِحُّ وجهَ الأرض، زحفاً ... عليها، في دُنُوّ واقترابِ
إذا سحَّت مدامعها بكاءً ... تبسَّمَ ضاحكاً زَهَرُ الهِضابِ
كأنَّ على الثَّرَى منـها جُماناً ... تنظمـه الرُّبا نظمَ السِّخابِ،
بِأغزرَ من نَداك إذا توالى ... فأغنى وافِديك عن الطِّلابِ.
وما قاضٍ على المُهَجات ماضٍ ... بأرواح الكُماة إلى ذَهابِ
إذا ما قابلته الشَّمس، أجرت ... بِمَتْنَيْهِ شعاعاً من لُعابِ
تقاسم خلفَه ماءٌ ونار ... أذيبا من صفاء والْتهابِ،
بأمضى من يَراعك يومَ رَوْعتُفَلُّ بـه الكتائب بالكِتابِ.
وما هُصَر أبو شِبلين ضارٍ ... يصول بِمْخَلب وبحدّ نابِ،
له نَحْضُ الفريسةِ حينَ تبدو ... وأعظُمـها لنَسْر أو عُقابِ
ترى جُثَثَ الكُماة لديه صَرْعَى ... معفَّرةَ الجِباه على التُّرابِ
إذا ما غابَ عن غابٍ، أحالت ... عليه من الطَّوَى طُلْسُ الذِّئابِ
فتُصبحُ حوله الأشلاءُ نَهْباً ... مقسَّمة بأكناف الشِّعابِ،
بأثبتَ منك جأشاً في مَقامينوب الرّأي فيه عن الضِّراب.
وما عانِيّةٌ يَهْدِي سَناها ... لَدى الظّلماء ضُلالَ الرِّكاب،
تَنَفَّسُ عن نسيم من عبير، ... وتبسِم عن ثغور من حَبابِ
كأنَّ كؤوسها ماء جَمادٌ ... يَشِّف سَناه عن ذهب مُذابِ،
بأحسنَ منك بِشراً وابتساماً،وأعذبَ من خلائقك العِذابِ.
فكيف ينال شَأْوَك ذو فَخار؟ ... وأين ذُرا العِقاب من العُقاب؟
فَضَلْتَ بني الزَّمان عُلىً ومجداً ... كما فضَلَ الثَّواب على العِقابِ
وزيرٌ، دوَّخَ الأملاك بأساً ... فقِيدَتْ بينَ طوعٍ واغتصابِ
وبَزَّ عزيزهَا، فعَنَتْ إليه، ... ولم تطمَحْ لفَوْت من طِلابِ

وذَلَّلَ للخِلافة كلَّ مولى ... عزيزِ الجارِ، ممنوعِ الجَنابِ
وقاد لها الصِّعابَ مصعّراتٍ، ... وأبعدُ مطلبٍ قَوْدُ الصِّعابِ
أمولانا أجِبْ عبداً، توالت ... سِنُوه بَيْنَ بَيْنٍ واغترابِ
وعاد مُحَلأً عن كلِّ ورد ... أخا ظَمَأ، يُذادُ عن القِرابِ
وأقسم ما جهِلتُ الحزمَ. لكن ... قضاءٌ، حِرت فيه عن الصَّوابِ
وما ينفكّ مدحُ علاك ديني ... وما ينفكّ نَشْرُ نَداك دابي
نـهاري في ثناء مستطاب، ... وليلي في دعاء مستجابِ
وكيف يحُدّ بِرُّك لي ثناءً، ... وقد أربى على حدّ الحسابِ؟
وليس سوى رجائِك، لي ملاذٌ ... يَمُنُّ بأوبة بعد اجتنابِ.
قال ولده المـهذب محمود: هذه القصيدة، نفذها من الموصل، يستأذن في العودة، وكان بعد لخوف.
وله أرجوزة على نظم لفظاتٍ، إذا كتبت بالظاء كانت بمعنى، وإن كتبت بالضاد كانت بمعنى، خدم بها الوزير عون الدين بن هبيرة. كتبها لي - بعد موته - ولده محمود بخطه، وهي:
أفضلُ ما فاه بـه الإِنسانُ ... وخيرُ ما جرى بـه اللسانُ
حمدُ الإله، والصَّلاةُ بعدَهُ ... على النَّبيّ، فَهْيَ خير عُدَّه
محمدٍ وآلِه الأبرارِ ... وصحبه الأفاضل الأخيار.
وكلُّ ما ينظم للإفادَهْ ... فذاك منسوب إلى العبادَهْ
لا سِيَّما في مدح عون الدِّينِ ... مخجلِ كلِ عارضٍ هَتُونِ
مولىً، سمت بفخره جدودُه ... وابتسمت بنصره جدوده
واستأنست بقصده الهَواجِل ... واستوحشت لوفده الهَواجِل
مَنْ حكَّم الآمال في الأموال ... تحكُّمَ الآجال في الرِّجال
ورَدَّ أزْلَ الحادثات دَغْفَلا ... فالدَّهرُ عن أبنائه قد غَفَلا.
وقد نظمت عِدَّة من الكَلِمْ ... في الظّاء والضّاد جميعاً تلتئمْ
لكنّها مختلفاتُ المعنى ... يعرِفها منْ بالعلوم يُعْنَى
فاسمَعْ بُنَيَّ من أبيك سردَها ... وافهمْ هُديِتَ حصرَها وعَدَّها
واشكُرْ لمن وسمتها بخدمتِهْ ... حتّى أتت عاليةً كهمَّتِهْ
وابْدَأْ إذا قرأتَها بالظّاء ... وثنِّ بالضّاد على استواء
تقول: هذا الظَّهْرُ ظهرُ الرَّجُلِ ... والضَّهْر أيضاً قطعة من جبلِ
والقيظُ حَرٌّ في الزّمان ثائرُ ... والقيض في البيضة قشر ظاهرُ
والظَّنُّ في الإِنسان إحدى التُّهَمِ ... والضَّنُّ نعت للبخيل فاعلمِ
والحنظَلُ النّبتُ كثيرٌ معروفْ ... والحنضَلُ الظِّلُّ المديد المألوفْ
والظَّبُّ وصف الرَّجُلِ الهَذّاءِ ... والضَّبُّ معروفٌ لدى البيداء
والمَرَظُ الجوعُ المُضِرُّ فاعلمِ ... والمرضُ الدّاءُ الشّديدُ الألَمِ
وهكذا الحجارةُ الظَّرِيرُ ... والرَّجُل الأعشى هو الضَّرِيرُ
وفي النَّبات ما يُسَمَّى ظَرْبا ... وقد ضربتُ بالحُسام ضَرْبا
وكلّ ذي وجه قبيح ظِدُّ ... والخصمُ في كلّ الأمورِ ضدُّ
ومجمَعُ الحجارةِ الظِرابُ ... والنَّزْوُ في البهائم الضِّرابُ
والضّربة النَّجْلاء تُسْمَى ظَجَّهْ ... وكَثرة الأصوات أيضاً ضَجَّهْ
وزوجة المَرْء هيَ الظَّعِينَه ... والحِقدُ قد يعرف بالضَّعِينَه
وهل يؤوب قارظٌ مفقود؟ ... وقارض بالسِّنّ هل يُفيد؟
وللرِجال والسّباع ظُفُرُ ... والرَّجُلُ القصير أيضاً ضُفُرُ
ثمَّ سوادُ الليل أيضاً ظُلْمَهُ ... والسَّهَرُ المُفْرِط فَهْوَ ضُلْمَهْ

وورمُ الأحشاء يكنَى فِظَّهْ ... والوَرِقُ اللُجَيْنُ أيضاً فِضَّهْ
وكلُّ ما يفسد فَهْوَ ظِرُّ ... والصَّخرةُ الصَّمّاء أيضاً ضّر
والنَّبْتُ ما بين الرِّمال ظعفُ ... والعجزُ في الشّيخ الكبير ضَعْفُ
والجسمُ فيه جلدة وعظمُ ... ومَقْبِضُ القوسِ النّقيّ عَضْمُ
واعلَمْ بأنّ البيظَ ماءُ الفحلِ ... والبيضُ لا يجهله ذو عقلِ
وهكذا يكتب بيظ النَّمْلِ ... بالظَّاء، والبيض بضاد أُمْلِي
والزَّرْبُ حولَ الغَنَم الحَظِيرَهْ ... والقومُ في مجمعهم حَضِيرَهْ
والصَّفحةُ الصَّغيرة الظِّبارَهْ ... والكتب قد جَمَّعْتُها ضُبِارَهْ
وقيل: أصلُ الحافرِ الوظيفُ ... وكلُّ وقف فاسْمُه وضَيِفُ
والنَّصرُ فَهْوَ ظَفَرٌ وظَفْرَهُ ... والجَدْلُ في الشّعور أيضاً ضَفْرَهْ
والغيظُ ما يَعْرِض للإنسان ... والغَيْضُ غيضُ الماء في النُّقصان
والمنطق العَذْبُ الشَّهِيُّ ظَرْفُ ... وناعمُ العيشِ الرَّخِيّ ضَرْف
وعَظَّتِ الحرب إذا ما اشتدَّتْ ... ثُمَّ السِّباع والذِّئاب عضَّتْ
وحرَّم اللهُ الزِّنى وحَظَرا ... وغاب زيد بُرْهَةً وحَضَرا
وجودُ مولانا الوزيرِ ظلُّ ... ينكره من قد عراه ضَلُّ
مَن بات في جِواره وظَلا ... فعن سبيل رشده ما ضَلا
فأعْيُنُ الوَفْدِ إليه ناظِرَهْ ... وأوجهُ الرِّفْدِ إِليه ناضِرَهْ
لا مضمحلٌ جودُه ولا ظجرْ ... ولا أذىّ يفسده ولا ضَجَرْ
قد بات في الفخر بلا نظير ... والصُّفْرُ لا يُعْدَلُ بالنَّضيرِ
وفاظت الأنفس من أعدائه ... وفاض بحر الجود من عطائه
والحظُّ حظّي عند فوز قِدْحِي ... يحُضُّه على استماع مدحي
لا بَرِحَتْ تخدمِهُ الأيامُ ... وترتعي في ظِلّه الأنّامُ
ما سَبَحَتْ بالأنجم الأفلاكُ ... وسَبَّحَتْ في الظُّلَم الأملاكُ
وشرّقت في فَلَكٍ نُجومُ ... واتَّسقت في مسلكٍ رُجومُ
وأنشدني لنفسه ب الهمامية، سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة، في تعريب معنى بيت بالفارسية، وكتب بها إلى الوزير:
قل للوزير، أدام الله دولته: ... يا أعظمَ النّاسِ حظّي كيف يلتبس؟
هذا غلامي وبِرذَوْني على خطر ... من فرط جوعهما ما فيهِما نَفَسُ
وإِنْ تدفَّعَ هذا اليوم بي، فغداً ... يمشي غلامي، ولا يمشي بيَ الفَرَسُ
وسافر إلى بلد، فلم يحصل إلا على نزر يسير، وكان طامعاً بجود كثير، وحاسب نفسه، فوجده بمقدار نفقة الطريق، فقال:
نادَوْا: هَلُمَّ إِلى النَّدَى، فتسابقتْ ... من كلّ ناحيةٍ بنو الآمالِ
ثمَّ اعترتهم للسَّماح ندامةٌ ... وتفكّرٌ في حفظ بيت المالِ
أعطوا محاسبةً، فما زادوا على ... زاد الطريق وأجرة الحمّالِ

الشيخ أبو محمد العكبري عكبرا: قرية مجاورة ل أوانى.
تلمذ له أبي منصور الجواليقي في الأدب، وقضى من فوائده جميع الأرب.
لقيته ب بغداد، في سوق الكتب، عصراً: ينشد لنفسه شعراً، من قصيدة في مدح علي، بن طراد، الزينبي الوزير، يصف الفرس. فاستنشدته، فأنشدني:
وما شازبٌ للعَسجَديّ إذا انتمى ... تُضَمِّرُهُ حَوْلاً غَزِيَّةُ أو زِعْبُ
يطوف بـه الوِلدانُ في كلّ غُدوة ... تعّللُه بالقَعْب، يَتْبَعُه القَعْبُ
طواه الطِّرادُ بالأصائل والضُّحَى ... وقد لحِق الإِطْلانِ واضطمرَ القُصْبُ
فأخلاقه شَغْبٌ، وغايتُهُ نَهْبُ، ... وإِروادُهُ سَكْبٌ، وإِحضارُه صَبُّ
بأسبقَ منـه للمُغالِي، ورُبَّماكبا، وعليٌّ في المكارم لا يكبو

المغالاة: المسابقة في الرَّمي، ويستعمل في غيره استعارةً.

أبو تراب علي بن نصر بن سعد بن محمد الكاتب العكبري ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: ولد ب عكبرا، ونشأ بها. ثم انحدر إلى بغداد، وقرأ الأدب والنحو. ثم انحدر إلى البصرة، وصار كاتب نقيب الطالبيين بها، وأقام مدةً. ثم رجع إلى بغداد في سنة تسعين وأربع مئة، وأقام ب الكرخ وسكنـها، وولي الكتابة لنقيب الطالبيين إلى أن توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وخمس مئة، وكان مولده سنة ثمان وعشرين وأربع مئة، فبلغ عمره تسعين سنة.
قال: أنشدني ولده أبو علي لوالده علي العكبري، وذكر أنـه أنشده لنفسه:
لا يغتررْ مَنْ آمالُه طمَعٌ ... إلى الدَّنايا مُوَفِّراً مالَهْ
فإِنَّ أعماله تورّطه ... حين يراها في الحشر أعمى لَهْ
قال: وأنشدني أبو علي، بن أبي تراب علي، قال: أنشدني والدي لنفسه:
حالي، بحمد الله، حالٍ ِجيدُهُ. ... لكنّه من كلّ حظّ عاطلُ
ما قلتُ للأيّام قولَ معاتب ... فالرِّزق يدفع راحتي ويُماطِلُ
إلاّ وقالت لي مقالةَ واعظٍ: ... ألرِّزقُ مقسومٌ، وحرصُك باطلُ الشيخ أبو المعالي سعد بن علي الوراق الكتبي الحظيري من الحظيرة مجاورة ل عكبرا.
أبو المعالي ذو المعاني، التي هي راحة المعنى العاني؛ وراق، لفظه رق وراق، وكسا غصنـه الأوراق، وهلال معناه الإشراق.
ذو فنون، غضة الأفنان، وعيونٍ، تقر بها عيون الأعيان، ورهونٍ، يستبد بها عند الرهان.
ضاع عرفه، وما ضاع عرفه، وسبق في إنشاء طرفه طرفه، وبخس حظه الزمان فجرعه صرفه صرفه. فهو بيع الكتب على يده متعيش، وعلى القناعة عن غيره منكمش، وعلى الأنس بالعلم بما سواه مستوحش.
ذكيُّ، ذكاء ذكائه تطلع على نشر له في الأدب ذكي. ألمعي، يذيق كل فصيح ببلاغته ألم عي. حظيري، ينال الصادي من حظيرة دره حظ ري. كتبيٌّ، يعرف الكتب وما فيها، والمصنفات ومصنفيها، والمؤلفات ومؤلفيها.
له التصانيف الحسنة، التي اتفقت على إطرائها الألسنة، وثنت إليها من الفضلاء عنانـها الأثنية المستعذبة المستحسنة.
نشر نثره وشي بوشيه، ونجم نظمـه نجم في سماء وعيه، و نقاش الصين سرق من سرقه، وصناع صنعاء مطلقة بانقطاعها في طلقه.
المسك في الطيب دون ذكره، والعنبر معرب عن بره.
وجوده ب العراق بين الطغام، وجود الذهب في معدن الرغام.
جامع الكتاب النفيس، الموسوم ب لمح الملح في التجنيس، ومؤلف كتاب الإعجاز، في الأحاجي والألغاز، وقائل القول المستجاد، والشعر المستفاد.
نظمـه بديع صنيع، وخاطره في إبداعه وإيداعه كل معنى حسن جريٌّ سريع، وشعار شعره المجانسة والمطابقة، والمبالغة في إعطاء معانـه حقه والمحاققة. فشعره مصرع مرصع، معلم بالعلم ملمع. مسهم مفوف وسهمـه مفوق، وعوده رطيب مورق وه مروق، وبحره فياض، ودرعه فضفاض، وضرغامـه للفضل فارس، و فرسه على طرف الفصاحة فارس، سمعت بشائر سيره الحجاز و فارس.
سوق الأدب قائمة بمكانـه في سوق الكتب، وإذا حاورته لا تسمع منـه غير النكت والنخب. قلبه قليب المعنى، ونحره بحره، وصدره مصدره، وسحره سحره، وخاطره غيثه الماطر، وليثه القاهر، وجنانـه من الجنان، فإنـه معدن الغر الحسان، ولسانـه كالسنان، والعضب اليمان، وخطه كنقش الممزج حلو، وكالممزوج المصرف صفو، ومن كل عيب خلو.
رائق الكلام رائعه، وشائع في البلاد ما يطرز بـه وشائعه. عجيب الفن غريبه، غض الفنن رطيبه.
مقطعاته أكثر من قصائده، فإنـه يقع له معنى فينظمـه بيتاً أو بيتين في فرائده.
وقد ألف كل مؤلف طريف، وأودعه كل كلام لطيف، ولا يكون اعتناؤه - أكثر زمانـه - إلا بالجمع والتأليف، وتصريف القول في التصنيف.
ولم يزل مجمع الفضل دكانـه، ومنبع الفضل مكنـه. وكنت أحضر عنده، وأقدح زنده، وأستنشق بانـه ورنده، وهو ينشدني ما ينشيه، ويسرح خاطري فيما يوشيه.
أنشدني لنفسه في وصف العذار، مقطعاتٍ أرق من الاعتذار، غاص على ابتكار معانيها بالافتكار.
فمنـها، قوله من الأبيات العذاريات:
مُدَّ على ماء الشّباب، الَّذي ... بخده، جَسْرٌ من الشَّعْرِ
صار طريقاً لي إلى سَلْوَتي ... وكنت فيه موثَقَ الأَسْرِ
وقوله أيضاً:

إن لم يَنَمْ لك وهْوَ أَمْ ... رَدُ، نامَ وهْوَ مُعَذِّرُ
فالنّومُ يعسُر في النَّها ... ر، وفي الدُّجَى يتيَسَّرُ
قوله، وقد شبه العذار باللجام:
ومُعَذِّرٍ: في خدّه ... وردٌ، وفي فمـه مُدامُ
ما لانَ لي حتَّى تَغَشّ ... ي صبحَ عارِضهِ الظَّلامُ
والمُهْرُ، يجمَحُ تحتَ را ... كِبه، ويعطِفُه اللِجامُ
وقوله:
أحدقت ظلمة العِذار بخَّديْ ... هِ، فزادتْ في حبّه زَفَراتي
قلتُ: ماءُ الحياة في فمـه الآ ... نَ، فطاب الدُّخولُ في الظُّلُمات
وقوله:
قالوا: الْتَحى، فاصْبُ إلى غيره ... قلت لهم: لست إِذَنْ أسلو
لو لم يكن من عسلٍ ريقُه، ... ما دَبَّ في عارضه النّمْلُ
وقوله في المعنى:
قلتُ، وقد أبصرته مقبِلاً ... وقد بدا الشَّعر على الخدِّ:
صعودُ ذا النَّملِ على خدّه ... يشـهَدُ أنَّ الرِّيق من شُهْدِ
وقوله:
ومُهَفْهَفٍ، شبَّهْتُه شمس الضُّحى ... في حسن بهجتها وبُعد مكانِها
قد زاده نقش العِذار محبّةً ... نقشُ الفُصوص يَزيد في أثمانِها
وقوله أيضاً في الخال والعِذار:
شفَّني من سيّدي حَسَنٍ ... خالُ خدّ، زاد في أَلمي
خِلته، إذْ خُطَّ عارضُه، ... نقطةً من عثرة القلمِ
وقوله في مُخْتّطٍ:
يا آمري بالصَّبر عن رَشَأٍ ... قلبي يَحِنّ إلى مَآرِبِهِ
دعني، فصادُ الصَّبرٍ قد قُسمت ... ما بينَ حاجبه وشارِبِهِ
وأنشدني لنفسه أيضاً مقطعات، في معانٍ شتى.
فمنـها، قوله في غلام تحت فمـه شامة صغيرة:
قل لمن عاب شامة لحبيبي ... دُونَ فيه: دَعِ الملامةَ فيهِ
إنّما الشّامة التَّي عِبتَ فيه ... فَصُّ فَيْرُوزَج لخاتم فيهِ
وله في غلام أشقر الشعر:
وأشقر الشَّعرِ، من لطافته ... يجرَحُ لَحْظُ العيونِ خدَّيّه
فإن بدا مَنْ يشُكّ فيه، فلي ... شاهدُ عدلٍ من لون صُدْغَيْهِ
وقوله فيه:
وأشقر الشَّعر، بِتُّ من كَلَفي ... بـه على النّار في محبَّتهِِ
كأنّ صُدْغّيْهِ في احمرارهما ... قد صُبِغا من مُدام وَجْنَتِهِ
وقوله فيه:
ما اشْقَرَّ شعرُ حبيبي، إِنّ وَجْنَتَهُ ... سقته من خمرها صبغاً، ولا خجِلا
وإِنّما لَفحت خدَّيْه من كبِدي ... نارٌ، ودبَّت إلى صُدْغَيْه فاشتعلا
وقوله في غلام أعرج:
قالوا: حبيبُك أعرج، فأجبتُهم: ... حاشاه أن تسطو العيون عليه
ما آدَ من عَرَج به. لكنّما ... قَدَماه لم تنـهَضْ برادِفَتَيْهِ
وقوله في ثقيل الكفل:
يقولون: ما فيه شيء يُحَبُ ... ويعشق،، إلاّ علوّ الكَفَلْ
فقلت: و . . . . يُحِبُّ البكا ... ءَ، للزُّهد في كهف ذاك الجبلْ
وقوله في المعنى هزلاً:
ليس عيباً محبَّتي ... رَشَأَ راجحَ الكَفَلْ
أنا دَأْبي أحِبُّ آ ... كُلُ من أَلْيَةِ الحَمَلْ
ولِزُهْدي أرى عبا ... دةَ ربّي على الجَبَلْ
فدعوني من العِتا ... ب، وكُفُّوا عن العَذَلْ
وقوله في ثقيل الكفل أيضاً:
وَيْلي على ذي كَفَل راجح ... رأيتُه في رَحْبَة المسجدِ
قد وضَع الكَفَّ على كَشْحه ... وسمعُه مصغٍ إلى المُنشدِ
خافَ من الرِّدف على خَصْره ... فقد غدا يُمْسِكه باليدِ
وقوله في غلام بـه جدري:
طاف بِحبِّي ألمٌ ... فزاد فيه حَذَري
وصبَّ ماء الحسن في ... حُلَّة خدّ القمر
فلاحَ فيه حبَبَ ... فقيل: هذا جُدَرِي
وقوله فيه:
ما عابه التَّجديرُ لمّا غدا ... في خدّه بعضاً على بعضِ
وإِنّما غضض تُفّاحَه ... فلاحَ فيه أثر العضِّ
له في غلام ساعٍ:

وساعٍ سريع .. إذا ما عدا، ... لِقلبي سبى، ولِدمعي سَفَكْ
يسابق في الجَرْي ريح الشَّمالِ ... ويَزْرِي على دَوَران الفَلَكْ
له في غلام مغنٍ، بارد الغناء، مليح الوجه:
وشادِنٍ، طال غرامي به، ... كالبدر أو أبهى من البدرِ
غناؤه أبرد من ريقه، ... وريُقه أبرد من شعري
إذا تغنّى لي، ونارُ الهوى ... تُحرقني، يثلجُ في صدري
قوله في قبيح الوجه، مليح الغناء:
مستهجَنُ الشَّخص، له صنعةٌ ... وَفَّتْه أقصى حظّه منّا
كأنَّه شِعريَ في طبعه ... ليس يحليه سوى المعنى
وقوله أيضاً:
يا غزالاً . . منع الأَجْ ... فانَ أَنْ تطعَمَ غُمْضا
أنا أرضي فيك أَنْ يُص ... بحَ خدّي لك أرضى
وقوله في الطيف:
طَيْفُ خَيال هاجري، ... أَلَمَّ بي، وما وَقَفْ
وافقني على الكرى، ... ثُمَّ نفاه وانصرفْ
وقوله:
بدرُ تِمامٍ، وغصن بانِ ... اجتمعا منـه في مكانِ
يا موقدَ النّار في فؤادي ... سوادُ قلبي من الدُّخَان
دعني أُمَتِّعْ لِحاظَ عيني ... من ورد خدَّيْك بالعِيانِ
وقوله:
وغزالٍ مُخْطَفِ الخَصْ ... رِ، له رِدفٌ ثقيلُ
فاز من كان له من ... هُ إلى الوصل سبيلُ
بينَ قلبي وَتَجِنِّي ... هِ إِذَنْ شرحٌ طويلُ
وقوله:
بنفسي مَنْ غدا يَعْجِ ... زُ عن إِدراكه الفهمُ
غزال، كادَ للرِّقَّ ... ة أَنْ يجرَحَه الوهمُ
وقوله:
ومستحسَنٍ، أصبحتَ أهذي بذكره ... وأمسيت في شغل من الوجد شاغل
وعارضني من سحر عينيه جِنَّةٌ ... فقَّيدني من صُدْغه بسلاسلِ
وقوله:
وبيضاءَ، مصقولةِ العارضَيْنِ ... تَصيد بسهم اللّحاظ القلوبا
بدت قمراً، ورنت جُؤْذَراً، ... ومالت قضيباً، وولَّت كَثِيبا
وقوله في مخضوبة الكف:
وذات كفٍّ، قد خضَّرته، ... تَسبِق في الوهم كلَّ نَعْتِ
كأنّه في البياض علمي ... قد اختبا في سوادَ بَخْتي
وقوله:
يا من تغافل عنّي ... وشفَّني بالتَّجَنِّي
إِن كنتُ أعجِز عن بَ ... ثِّ بعض لوعة حُزني،
فاسمَعْ حديثي من الدَّمْ ... ع، فَهْوَ أفصح منّي
وقوله:
يا غزالاً، فاترَ النَّظَرِ ... يا شبيهَ الشَّمس والقمر
كيف يَخْفَى ما أُكتِّمـه، ... وزفيري صاحبُ الخبرِ؟
وقوله:
يقول: لي حين وافى: ... قد نِلْتَ ما ترتجيهِ
فما لقلبك قد جا ... ءَ خفقة تعتريهِ؟
فقلتُ: وصلك عُرسٌ، ... والقلب يرقُص فيه
وقوله:
إذا ما تذكّرتُ مَنْ حسنُهُ ... يَكِلّ لسانيَ عن نعتهِ
تناول قِرطاس خدّي البُكا ... وطالعَ بالحال في وقتهِ
وقوله:
تركتك، فامْضِ إلى مَنْ تُحِبُّ ... ففعُلك برَّدَ حَرَّ الجَوى
وقَبَّحَك الغدرُ في ناظري ... وغُودر عُودُ الهوى قد ذَوَى
فصِرت أراك بعين السُّلُوُ ... وكنت أراك بعين الهوى
وقوله:
لست أذُمّ الفراق دهري، ... كيف وقد نِلْت منـه سُولي؟
قبَّلْته في الوَداع ألفاً ... وقد عزَمنا على الرَّحيلِ
وقوله:
وقالوا: قد بكيتَ دماً ودمعاً، ... وقد أولاك بعدَ العُسر يُسرا
فقلت: لفرحتي برضاه عنّي ... نثرت عليه ياقوتاً ودُرّا
وقوله:
قيل لي: قد صار مبتذَلاً ... مَنْ حماه الصَّوْنُ في صِغَرِهْ
كُفَّ عنـه النّاسَ. قلتُ لهم ... قولَ مَنْ يُجرى على أثرِهْ:
لا أذودُ الطَّيْرَ عن شجرٍ ... قد بَلَوْتُ المُرَّ من ثَمَرِهْ
وقوله:
واهاً على طيب ليَالٍ، مضت ... بالوصل، حتَّى فطِن الهجرُ

ما كان أحلى العيشَ في ظلّها ... كأنّما كانت هي العمرُ
وقوله، وهو مما يكتب على المراوح:
بَدا يروِّح جسمي ... لمّا رأى ما أُلاقي
وما ينفّس كربي ... إلاّ نسيمُ التَّلاقي
وقوله:
كُفَّ، يا عاذلي، فعَذلُك يُغري ... زادَ وَجْدي، وقَلَّ في الحّب صبري
أنا أهوى سُعدى وتُنحل جسمي، ... وأُحِّب الدُّنيا وتَقْرِض عمري
وأنشدني لنفسه أبياتاً في الشيب، منـها قوله:
بدا الشَّيب في فَوْدِي، فأقصَرَ باطلي ... وأيقنت قطعاً بالمصير إلى قبري
أتطمَعُ في تسويد صُحْفي يدُ الصِّبا، ... وقد بيَّضَت كفّ النُّهَى حُسْبَةَ العمرِ؟
وقوله:
صبح مشيبي بدا، وفارقني ... ليلُ شبابي، فصِحت: واقَلَقِي
وصِرت أبكي دماً عليه، ولا ... بُدَّ لصبح المشيب من شَفَقِ
وقوله:
بِأَبِي مودِّعةً لوصلي، إذْ بي عارضي بعدَ الشَّباب قَتِيرُ
كالطَّيْف، يطرُقُ في الظّلام إذا دجا ... وله إذا لاح الصَّباح نُفورُ
ومما أنشدني له في أغراض مختلفة، قوله:
نَقَصُوهَ حظَّهُ حسداً ... لكمال في خلائقه
وعلوُّ النَّجم، أورثه ... صِغرَاً في عين رامقهِ
وقوله:
لا غَرْوَ إِن أَثرى الجهولُ على ... نقص، وأَعدم كلُّ ذي فهمِ
إِنَّ اليدَ اليُسرى، وتفضُلُها ال ... يُمْنَى، تفوز بمُعْلَم الكُمِّ
وقوله:
أرى ذا النَّدَى والطَّوْل يغتاله الرَّدَى ... ويبقى الَّذي ما فيه طَوْلٌ ولا مَنُّ
كما الورد . . يبدو في الغصون وينقضي ... سريعاً، ويبقى الشَّوْك ما بَقِيَ الغصنُ
وقوله:
كن ناقصاً تُثْرِ، فإِنّ الغِنَى ... يُحْرَمُهُ الكاملُ في فهمـهِ
فالبدرُ يحوي من نجوم الدُّجَى ... في النّقص ما يعدَمُ في تِمّهِ
وقوله:
يقولون: لا فقرٌ يدوم ولا غنى، ... ولا كُربة إلا سيتبعها كشفُ
ولست أرى كَربي وفَقري بمنقضٍ ... كأنّي على هذين وحدَهُما وقفُ
وقوله:
لا تَحْقِرِنَّ وَضِعاً ... يُزري بصدرٍ شريفِ
فرُبَّما خُفِض اسمٌ ... عالٍ بحرفٍ ضعيفِ
وقوله، يخاطب بعض الصدور، وقد استخدم غلاماً عيب به:
لمّا أضفتَ إليك نجل مسرّة ... حاربتَ مجدك بالحُنُوّ عليهِ
وبه انخفضت، وكان قدرُك عالياً، ... فِعْلَ المضاف بما أُضِيف إليهِ
وقوله:
تعلّمن منـه العلم، ثمَّ اطرَّحته ... وأوليته بعدَ الوِصال له هَجْرا
وهل يقتني الأَصَ في النّاس حازم ... إذا هو من أجوافها أخَذ الدُّرّا؟
وقوله، يمدح الوزير عون الدين:
بدأ الوزير بجوده متفضّلاً ... فنطقت فيه بأحسن الآدابِ
والرَّوض ليس بضاحك عن ثَغْره ... إلا إذا روّاه صَوْبُ سَحابِ
وقوله، يقيم عذراً لمن بخل عليه بجائزة شعره:
لم يحبِسِ المولى الأجلّ نَوالَهُ ... بُخْلاً عليَّ، ولم أكن بالسّاخطِ
لكنّني أنشدت شعراً بارداً ... والبردُ يَقْبِض كلَّ كفٍّ باسطِ
وقوله:
أَصِخْ لنظمي، ففيه معنىً ... بلا شبيه ولا نظيرِ
وقد بدا في ركيك لفظي ... كعالم فاضل فقيرِ
وقوله، وقد طلب من بعض الرؤساء كاغداً، فأعطاه نصف ما سأله، ووعده بالباقي:
أعطيتني نصف الَّذي أملَّتْهُ ... من كاغَد، ووعَدتني بِسواهُ
ورجَعتَ تأخُذه إليك تقاضياً ... منّي، وذاك الوعد لست أراه
كالشّهر: يُعطي البدر من تَمامـه، ... ويعودُ يأخُذ منـه ما أعطاه
وقوله فيه:
مدَحت الأجَلَّ، وأمّلت في ... ه إِنفاذَ دَسْت من الكاغَدِ
فنفَّذ لي النِّصفَ ممّا طلَبْ ... تُ بعدَ تردُّديَ الزّائد
فأفنيته في اقتضائي له، ... ومرَّ مديحي على البارد
وقوله:

سَمَحت ببعض الَّذي أرتجي ... وألقيت حبلي على غاربي
وإتمامُ نافلةِ المكرُما ... ت، بعدَ الشُّروع، من الواجب
وقوله في ناعورة:
رُبَّ ناعورةٍ . . كأَنَّ حبيباً ... فارقَتْه، فقد غدت تحكيني
أبداً هكذا تدور وتبكي ... بدموع تجري، وفَرْطِ حنينِ
وقوله في اللغز:
وأهيف القَدّ، نحيف الشَّوَى ... معتدل، لم يَحْوِ معناه وَصْفْ
وهْوَ، إذا أنت تأمّلته ... بفكرة، اسم وفعل وحَرْفْ
أراد بـه الألف، فهو اسم إذا أعرب، وفعل إذا بني، وحرف بذاته.
وقوله في قبور أهل البيت، عليهم السلام:
إِنّ ب الطَّفّ و الغَرِيّ و سامَرّ ... ا وطُوسٍ و يَثْرِبٍ والحَرِيمِ
لقبوراً لآل أحمدَ، لا زا ... لَ مُواليهِمُ بدار النَّعيمِ
ومما أنشدني له في الهجاء والذم، قوله:
ما كان بخلك بالنَّوال مؤثّراً ... فيكون هجوي فيك باستحقاق
لكنّني أبصرت عِرضك أسوداً ... متميزِّقاً، فقَدَحْتُ في حُرّاق
وقوله:
منَع احتقار محمّد عن نفسهذَمِيّهِ، وهْوَ كما علِمْت خبيثُ
والليثُ: يُنشب مِخْلَبي في جلده ... ظُفُراً، ويُفلت من يدي البُرغوثُ
وقوله:
قال: ألم تعلَمْ بلؤمي؟ فلِمْ ... كسوتَ عِرضي حُلَلَ المدحِ؟
قلت: أُرَبِّيك لسيف الهِجا ... كما يُرَبَّى الكَبْشُ للذَّبْحِ
وقوله:
ومُذْ صَحَّ لي جوده بالهِجا ... تَبَّيْنتُ أَنَّ مديحي هَوَسْ
كذا الفّصُّ: ما بانَ لي خطُّه، ... ولا حسنُ معناه، حتّى انعكَسْ
وقوله:
هجوتك، إِذْ قطَعت البِرَّ عنّي ... وكنت أحوك فيك المدح حَوْكا
كذاك الأرضُ: تزرَعُها فتزكو، ... وتقطَعُ زرعها فتجيء شوكا
وقوله:
بغربيّ بغدادٍ صديقٌ مذمَّمٌ ... كرامتُه للأصدقاء التَّمَلُّقُ
تبسَّمَ لي من بعدِ غِلٍّ كأنّه ... ذُبالةُ مصباح تُضيء وتُحرِقُ
وقوله:
نصر علينا زاد في تِيِههِ ... وهجوُنا ينقُصُ عن مجدهِ
والظُّفْرُ إِنْ أسرف في طوله ... يُرَدّ بالقصّ إلى حدّهِ
وقوله:
فلا تحتقرْ نصرَ الذَّميمَ، فإِنّه ... يَزيِد لفَرْط الثِّقْل منـه على الوصفِ
فرُمّانةُ القَبّانِ، يُحْقَرُ قدرُها، ... وتُخرِج عندَ الوزنِ أكثر من أَلْفِ
وقوله:
كم تَدَّعي كرمَ الجدو ... دِ، وأنت تَحْرِمُ مَنْ شكَرْ؟
وعلى فساد الأصل مِنْ ... كَ، يَدُلُّني عدمُ الثَّمَرْ
وأنشدني لنفسه أيضاً في الهزل:
قال قليبي، وقد حَظِيت بمن ... شَقٍِيتُ في حبّها مَدى العُمُرِ:
قد اسكنتَنِي لَظَى. فقلت: كما ... عبدتَها دونَ خالق البشرِ
وصُمْتَ عن غيرها، وكنتَ تقو ... مُ الليلَ في حبّها إلى السَّحَرِ
فاصبِرْ على قُبح ما جنيتَ، فلم ... تَظْلِمْك إذْ خلَّدَتْك في سَقَرِ
وأنشدني لنفسه:
ترَحَّلْتُ عن أرض الحَظِيرة، هارباً ... من العشق، حتّى كادت النَّفْس تَزْهَقُ
وأفلستُ، حتّى إنّ جِلْفاً مُغَفَّلاً ... خلا بالّذي أهواه: يَزني ويفسُقُ
فلا أنا في بغدادَ روّيتُ غُلَّةً، ... ولا ثَمَّ واصلتُ الَّذي أتعشّقُ
وأنشدني لنفسه في بعض عمال السواد أبياتاً، أعطى فيها صنعة التجنيس حقها، وهي:
وما اسْودَّ فَوْدُك حتى نزلتَ ... من المقتفي في سواد الفؤادِ
ورَدَّك ناظرَه في السَّوا ... دِ، إذْ كنتَ ناظره في السَّوادِ
ولمّا أراد اختبار الرِّجا ... لِ، أَلْفَى مرادك فوقَ المراد
وأعارني ما جمعه ثانياً من أشعاره ورسائله، وسح سحائب خاطره ووابله، فنظمت لكتابي هذا في سخابه، منخب ما سخابه؛ وختمته بعد ذلك بقصدتين نظمـهما في الإمام المستنجد بالله يوسف، بن المقتفي لأمر الله.

فأما منظوماته: قال أبو المعالي، سعد، بن علي، بن قاسم، الحظيري في صاحب المخزن زعيم الدين، أبي الفضل، يحيى، بن جعفر يمدحه ويهنئه بالحج:
لقد برَّ حَجٌّ وحَجَّ بَرُّ ... وضَمَّ بحرَ العِراقِ بَرُّ
عاد الزَّعيمُ الكريم يَطْوِي ... أرضاً، لها من تُقاه نَشْرُ
صدر، نفى العجزَ عنـه قلبٌ ... ثَبْتٌ، له همَّة وصبرُ
إذا حبا واحتبى بنادٍ، ... تقول: بحر طَما، وبدرُ
غَوْثٌ لمستصرِخ، وغيث ... إِن لم يكن في السّماء قَطْرُ
يا مَنْ ضُروبُ الورى غُثاءٌ، ... وخُلقُه للجميع بحرُ
أنت الّذي ديِنُه لَباب ... يبقَى، ودُنياه منـه قشرُ
قد طُلْتَ فَرعاً، وطِبْتَ عَرْفاً ... وأصلُ علياك مستقرُّ
فاقْنَ لِما لا يَبيِدُ ممّا ... يَبيِدً ذُخراً، فالخيرُ ذُخْرُ
إِن قلت شعراً، ففيه شَرْع ... والفكرُ في المستحيل كفرُ
لكِن سَجاياك لُحْنَ غُرّاً ... حقيقةً، لا كما تغُرُّ
فصاغها منطقي عُقوداً ... فوقَ جُيوب العلى تُزَرُّ
تُضْحي لنَحْر الوليّ حَليْاً ... وَهْيَ لنَحْر العدوّ نَحْرُ
كأنّما الشَّخص منك فَصّ ... من المعالي عليه سطرُ
والشِّعر كالسَّمْع منـه، يُقْرَا ... بالسَّمْع، والطّبع فيه شكرُ
ولست فيما أحوك إلا ... حاكٍ، فمالي عليه أجرُ
هذا. على أنَّ لي زماناً ... ما دارَ لي في القَريض فكرُ
لأنَّه يستبيحُ منّي ... حِمىً، له في العَفاف سترُ
وتسترقّ الأطّماع منّي ... حُرّاً، ولا يُسْتَرَقُّ حُرُّ
فاستوجب الشُّكر. رُبَّ بَرٍّ ... على جميع الورى مُبِرُّ
قلَّدني منـه اِبتداءً ... فاقتادني، والكريمُ غِرُّ
وزففّت دُونَه القوافي ... وشَفَّ وزن، وضاق بحرُ
لكنْ خلَعْتُ العِذار حبّاً ... وكان لي في القصور عذرُ
وكتب إلى ولد أخيه في صدر مكاتبة، وقد عاد إلى بلده، عند غرق بغداد في ربيع الأول سنة أربع وخمسين وخمس مئة:
أصابت العينُ مثلَ عيني ... فصابتِ العينُ مثلَ عينِ
مَنْ يرتشي في خلاص عيني. ... من أسر دمعي خلاص عيني.
بَلَّ رِداء البكاء وِردي ... وفي الحشا للرَّدَى رُدَيْني
زَمَّ زمانٌ نِياقَ بَيْن ... فَرَّقَ ما بينَه وبيني
وصالَ فِرْعَوْنُ صَرْفِ دهر ... والصّبرُ عوني، ففَرَّ عوني
لانَ لنا غيلةً، ووافَى ... من الرَّزايا بكلّ لونِ
ودانَ، فالعيش فيه دانٍ، ... ثمَّ انثنى طالباً بدَيْنِ
أدالَني اللهُ من زمانٍ ... جانٍ، جَهامِ الغَمام، جَوْنِ
وكتب إليه أيضاً:
ظهرت، يا بَيْنُ، في الكَميِنِ ... وكنت من قبلُ في الكُمونِ
سار الذَّي سرَّ بالتَّداني ... ولم يكن ذاك في الظُّنونِ
حالَ التَّقالي دونَ التَّلاقي ... فالقوم في مصرع الحُسَيْنِ
كنّا من الدَّهر في أمانٍ ... نرى الأَماني على اليقينِ
فبشَّرَ الماء حين وافَى ... قرائن الوصل من قَرينِ
طَرا، ولكن طغى مَعِينٌ ... ولا مُعِينٌ على مَعِينِ
يا وَلَدي البَرُّ أيُّ بحر ... مَدَّ فألقاك جوفَ نُونِ
واهاً لأِيّامِنا الخَوالي ... منك، الحَوالي بك العُيُونِ
زالت، فهدّت قُوىً، وأجرتْ ... منّا عُيوناً من العُيُونِ
وقال على لسان بعض أصدقائه،يهنئ صاحباً للخليفة، جعله أميراً:
سماءُ الفضل مُفْهَقةُ النَّشاصِ ... وأرضُ العدل مشرِقة العِراص

بدولة سيّدِ الثَّقَلْينِ طُرّاً ... إِمامِ العصر، مُدركِ كلِّ قاصِ
أتته خِلافة الدُّنيا انقياداً ... مسلِّمةً له، لا عن تعاص
وقد طلَعت خصائصُه، وكانت ... تطالع قبلَ ذلك من خَصاصِ
وصار خليفةَ لله فينا، ... وأنت بـه شديد الاختصاصِ
فأعطاك الإِمارةَ مستحقاً ... مَزيدَ القدر منـه بلا انتقاصِ
وبأسُك يا أخا الفضل المُرَجَّى ... يُعيد الملكَ ممتنع الصَّياصي
وقد مُلِّكت قاصيةَ الأَماني ... ولاتَ لها المَدى حينَ المناصِ
فتى الفِتيان هذا اليومَ كنّا ... نرجِّي، فاصْغِ سمعاً لاقتصاصي
أرى الأيامَ تأخُذ في انتقاصي ... مشرِّدةً، فهل لك في اقتناصي؟
لَعَلَّ فضائلي تبدو لِراء ... وعَلَّ الحظَّ يُسعِد بالخلاصِ
وفضلي لم يزل يَجْني خُمولي ... عليه، وقد رجوتك للقِصاصِ
فنّوِهْ بي، وخُذْ مدحي رخيصاً ... وليس على سواك من الرِّخاصِ
وأما القصيدتان، فإحداهما أنشأها وقد بويع المستنجد بالله يوم الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مئة، واتفق ذلك اليوم ثالث عشر آذار عند الاعتدال الربيعي. ولما تولى، أخذ القاضي ابن المرخم وجماعة من أصحاب أبيه، اتهمـهم بخيانة، وتولى عقد البيعة له أستاذ الدار أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، فذكر الحال:
بيعةٌ: شَدُّ عَقْدِها لا يُحَلُّ، ... وانقيادٌ لغيرها لا يَحِلُّ
سفَرت شمسُها، وقد أسفر الصُّبْ ... حُ، فَحلَّ الضِيّاء حيثُ تَحِلُّ
لم يَفِلْ رأيُ فَأْلِها، ولقد جا ... ءَ بعَضْب ماضي الشَّبا لا يُفَلُّ
جاء تاريخها لخمس وخمسي ... ن وخمس من المِئِينَ يدلُّ
إِنّه عَقْدُ بيعة، كُلَّما دا ... رَ عليه الزّمانُ لا يَضْمَحِلُّ
عدّد ليس ضربه فيه إِنْ كُرِّ ... رَ مما يُحيله أو يَحُلُّ
أَحَدِيّ الأيّام، وَهْوَ دليل ... أنّه أوحد الأنام الأجَلُّ
ثانيَ الشَّهر من ربيع، وفي أَوَّ ... ل فصل الرَّبيع، فالفصلُ فصلُ
وربيع فَأْلٌ بأنّ ربيعاً ... دهره كلُّه، وأَنْ ليس مَحْلُ
واعتدالُ الرَّبيعِ مبدأُ عدلٍ ... يقصُرُ الليل عندَه ويَقِلُّ
ويطول النَّهار، والطُّولُ طَوْل ... من يديه، ما فيه مَطْلٌ مُطِلُّ
ليس في هذه الخِلافة من بع ... دُ خلافٌ يُخشى، ولا كان قبلُ
ولقد صحّح التَّفاؤلُ فيها ... وغدا الحكم وَهْوَ حزم وفصل
فَرَج، جاء من أبيه، فَجلَّى ... جَلَلاَ، دِقُّه على المُلك جِلُّ
خَبَّ فيه خَبٌّ، فخاب رجاء، ... وخبا جمرُ كيدِه وَهْوَ جَزْلُ
للإمام المستنجد المَلِكِ العا ... دل، والكالِئِ الّذي لا يَكِلُّ
همّةٌ: تستقلُّ ما حوتِ الدَّنْ ... يا، وبالدِّين والعلى تستقلُّ
ذا إمامٌ، بالعدل قام، فما يح ... كُمُ إلا بالعدل، والفضلُ فضلُ
فالمُوالي لأمره، والمُوَلِّي ... عنـه: يُقْلَى هذا، وذاك يقلُّ
قام بالأمر، ثمَّ قوَّم قوماً ... لن يُقالُوا ذنباً، وإنْ هُمْ قَلُّوا
قرن العقل بينـهم، وقضى فص ... لاً بأنْ لا فضلٌ قرانٌ وعقلُ
حِفظ الآلُ الآل إلا لَعِين ... آل ألا يعِزَّ منـه الإِلُّ
كان شرّاً قضاؤه وعدولاً ... فاقتضى أن يهان شرعٌ وعدلُ
كم غليلٍ على غُلول بكَفَّيْ ... هِ، شفَاهُ فَكٌّ لها أو غَلُّ
هاشِمي، هاشم الأَكارم يُحْسِي ... ك بسَجْل من النَّوالَيْنِ، سَجْلُ

صُنت شعري، إذٍْ صدقه مستحيلٌ ... وحرامُ انتحالِه مُسْتَحَلُّ
ثمّ أفصحت عن عُقود لآَلٍ ... يتحلّى فيها إِمام يُجَلُّ
ملِك، راح بالجمال مُحَلّىً ... وله في ذَرا الجلال محلُّ
ملك، يُسْتهالُ فَرْطُ سُطاه ... وحِباهُ إذا احتبى يَستهلُّ
يا إِمامَ الزَّمان مثلُك مَنْ قا ... مَ بحقّ التَّقوى، ومالَكَ مِثلُ
فاحفَظِ الله في الرَّعيّة، يحفَظْ ... ك، فإنَّ السُّلطان في الأرض ظِلُّ
واخْشَ فيما أَزَلَّه من زَوال ... وتيقَّنْ أَنَّ المُزيِلَ المُزِلُّ
وامرُؤٌ حلَّ قلبَهُ الغِلُّ، فاجعَلْ ... قلبَهُ الغُلَّ؛ إِنّه لك حِلُّ
لم تَمِلْ حينَ قُمتَ بالحقّ فيها ... فتَمَلَّ النُّعمى التّي لا تُمَلُّ
والقصيدة الثانية: ما قالها أيضاً فيه، ويذكر حال خلعٍ أفاضها على أصحابه، وأخذه ل ابن المرخم، ويذكر بعض من توقف من الملوك عن البيعة:
عُلى هكذا، لا زال جَدُّك عاليا ... ولا ينتهي حتَّى ينال التَّناهيا
وما المرءُ إِلا في الدَّناءة سائم ... إِذا لم يكن في مُرْتَقَى المجد ساميا
يرى باديَ الدُّنيا أخو اللُبّ بائداً ... ويعرِف غاياتِ الأمور مَباديا
فيُصبح منـه الطَّبع للشّرع دائناً ... ويلمَحُ منـه العقلُ ما غاب دانيا
ركِبت مَطا الدُّنيا. فإنْ كنتَ رائضاً ... نجوتَ، وإلا كنت بالأرض راضيا
وما هيّ إلا منزل لمسافر ... فَقِلْ ساعةً فيه، وفارِقْه قاليا
وما يقنعنّ النّفسَ سائر ما حوت ... فإن قنَعَت ببعضه كان كافيا
وما العمرُ إِلا ساعةٌ ثمّ تنقضي ... فطُوبى لمن أضحى إلى الخير ساعيا
وما الحُرُّ إلا مَنْ إذا حاز فانياً ... نفى غَيَّه عنـه، وحاول باقيا
ومَنْ لم يكن عن سُنَّة الشَّرع حائداً ... وسار بتوحيد المُهَيْمِنِ حاديا،
فقد فاز من جنّات مَحْياه راقياً ... وجاز إلى جنّات أُخراه راقيا
وأنت، أميرَ المؤمنين، امرُؤٌ سمت ... بـه الهِمّة القُصوى، ولم يكُ وانيا
طَمَحْت إلى الدُّنيا. فلمّا ملكتَها، ... سمَوْتَ إلى الأُخرى، فأصبحت حاويا
ملأت الورى عدلاً، فعدَّلت مائلاً ... وفرَّقت مالاً، واسْتَمَلْتَ مماليا
غدوت بحكم العدل في النّاس قاضياً ... ورُحت بـه حقَّ الخِلافة قاضيا
بعدلِك ألبست النّهارَ نـهاره ... وقلَّدت أجيادَ الليالي لآَلِيا
فأصبح وجه الدَّهر بالزَّهْر حالياً ... ويا طالما قد كان من ذاك خاليا
فإنْ كنت بالمعروف أصبحت هائماً ... فإنَّ نَداك بالحَيا ظلَّ هاميا
وسَيْبُك مورود، ترى الكلَّ حائماً ... عليه، وما نلقى لمغزاه حاميا
إذا ما طما سيلُ المظالم سائلاً، ... ترقَيت عن مَهْواه، بالعدل ساميا
وإِمّا رأيت الخَطب قد جَدَّ هائلاً ... غدوت بـه من الشَّجاعة لاهيا
وأيّ عدوّ غادرَ الدَّهرَ غادراً، ... عدوتَ له، مُدّارِئاً، لا مُدارِيا
طرأت على الدُّنيا بأيمنِ طائر ... وطرَّيْت بالِيها، فبوركت طاريا
وما زِلت نحوَ الشَّرع باللطف داعياً ... تروِّع بالإِبعاد من عادَ عاديا
وها قد أرى أَنْ ليس في الأرض جائر ... وليس عليه سيلُ أمرِك جاريا
ولم تعف إِذْ عفّيت مَنْ كان ظالِماً ... فأصبح نبت العدل في الأرض عافيا
وثَبَّتَّ في دَسْت الوزارة أهله ... وزيراً لأحوال الرَّعايا مراعيا
إذا الملْك أشفى من سَقامٍ صحيحه ... فإنَّ لديه من تلافٍ تلافيا

خصائصُه لم تلق ملقى خَصاصة ... بِوادي بَوادِيها، فلم تَعْدُ واديا
أبوك الّذي أحيا، ليُحيي من العلى ... مَواتاً، فألفاه وزيراً مُواتيا
على ملك الدُّنيا وَقَفْت مطامِعي ... وفي مدحه أمسيتُ أقفو القوافيا
أَعُوم بِحارَ الشّعر، للدُّرّ صائداً ... شواردَه، فَأنثني عنـه صاديا
وأعجز عن آيات معناه تالياً ... ولو أَنّني أَغدو ل سَحْبانَ تاليا
على أَنّني قد كنت حرّمن مدّةً ... مَواردَه، حتّى قرأت فَتاويا
بعدل إِمام، يقصُر الوصفُ دونَه، ... ويرخُص غاليه وإن كان غاليا
فإن شملتني من عطاياه نعمةٌ، ... تروّح لي بالاً، وتُنعش باليا
أبانَ ضياءُ الشُّكر لي عن مديحه ... مَعانيَ، تَبني لي لديه المَعاليا
وقد تمنَحُ الشَّمس الهَباء خَوافياً ... فيرقَى، وتبدي منـه ما كان خافيا
و مستنجداً بالله ظلَّ إِمامُنا ... فما ضَلَّ، بل أضحى إلى الحقّ هاديا
عظيم المزايا، يبتني المجد عالياً ... كريم السَّجايا، يشتري الحمد غاليا
له عزمةٌ، كالهُنْدُوانيّ ماضياً ... ورأيٌ، إلى رِيّ الهدى ليس ظاميا
إمام هدى زاكٍ. فمن جاء جانباً ... لغير ثمارِ حبّه، جارَ جانيا
ومَن جاءه يوماً على الملك صائلاً ... غدا في غَداة الهُلْك للنّار صاليا
لقد قام بالحقّ الذي كان قاعداً ... وأورى زِناداً للهدى متواريا
وردَّ مُعار المال، حتّى لقد غدت ... خزائنـه من العواري عواريا
فصار وليّاً للقلوب محبّةً ... وكان على أجسادها قبلُ واليا
وأولى مواليه ملابس عزّة ... وكان لِما يولي الموالي مواليا
سَرَوْا مَلْبَسَ الحُزنِ الّذي كان شاملاً ... وسُرُّوا، وأضحوا يُظهرون التَّهانيا
أرى خِلَعاً، جاءت على إِثْر بيعة ... لخير إِمام يجعَلُ الرَّوْعَ باديا
لِيَهْنَ مواليه عطاءً أَزَلَّهُ، ... أزال بـه حسّادهم والأعاديا
وكم مائنٍ في العَقد، أشبه مانياً ... فما نال منـه من أمان أمانيا
عدا عادياً في الشَّرع، للشَّرّ واعياً ... وفي كل ما لن يُرضيَ الله غاويا
يَبيت لِما يهوَى على النّاس قاضياً ... ويُصبح في الدُّنيا عن الدّين قاصيا
فلمّا انجلت تلك الغيَابة، وانجلت ... مَخاريقُه، أضحى عن الأرض جاليا
ولم يُلْفِ لمّا أَنْ رأيناه حانياً ... عليه امْرَءاً من سائر الناس حانيا
وكم سُنَّةٍ كانت على الملك سُبَّةً ... وقد كان، لولاها، من العار عاريا
وكم شائرٍ شُهْدَ الممالك غِيلَةً ... شَرى شَريْها، وضَلَّ إِذْ ظَلَّ شاريا
ولم يَكُ للخيرات في الملك باغياً ... ولكنْ عدا في باغِ دنياه باغيا
وعمّا قليلٍ يُصبح الأمر واهياً ... عليه، ويُمسي طَوْدُ علياه هاويا
ويجعله خُلف الخِلافة عِبرةً ... لمن قد حكاه في المَساوي مُساويا
وتغدو ملوك الأرض طوعَ خليفة ... شَفاها شِفاهاً حين قال مُناديا:
ألا كلُّ ما لا يقتضي الشّرع فعله ... فليس بـه أَمري مدى الدَّهر ماضيا.
فأصبح هذا القول في النّاس فاشياً ... وراح لأَدواء الرَّعِيَّة شافيا
فلا زال هذا الملك في النّاس دائماً ... ونَحرُ الّذي يَشْناهُ بالسّيف داميا
وأثبت من رسائله ما استملحته لما استلمحته، ولقطت من درر لفظه وما لفظه وخزنت من درون مزنـه إذ لحظته.
فمنـها، من خطبة له في هذا المجموع، وهي:

كنت، أيها الحبر البحر، والوالد البر، حين اقتدحت سقط زندي لشائم بروقه، وافتتحت سفط زبدي لشام سحيقه، استحسنته مذهباً، واستخشنته مركباً، وسألتني إتحافك برويته، وإسعافك بروايته، فانصببت في قالب غرضك، وأصبت قلب غرضك.
ومن أخرى، جواباً عن كتاب: وصل كتاب فلان، أطال الله فروع دوحة مآثره، وأطاب ينبوع فسحة سرائره، ووارى نار نفسه، وأورى نور قدسه، وأحيا قلبه بورد الذكر، وحيا لبه بورد الفكر؛ وقرأت فصوله، وفهمت محصوله، من أبكار معانٍ زفت إلى غير كفو، وبرود وشيٍ أفيضت على جسد نضو.
ولقد أذاقني بحلو خطابه، مر عتابه، وقد انشرح صدري، لشرح عذري، فتلقه مجملاً، تكن بقبوله مجملاً.
إني مذ صرف بوجهي نحو الحقيقة، وقصد بي قصد الطريقة، فحدقت لقراءة سورةٍ تشـهدها، وحققت استقراء صورةٍ تحمدها، ونار المجاهدة بعد في تصفي سبائك خلاصي، حتى أرى مسالك خلاصي بإخلاصي. ولقد كابدت من أول قرين، عدة سنين، ما بيض سود ذوائبي، وغيض مورد ذنائبي، حتى أذن في طلاقه، فأذن بانطلاقه. هي بخط من يضن بخطه، ويظن بـه صحة ضبطه.
ومن أخرى إلى زاهد: كتابي إلى فلان، مد الله في مدد عمره، وأمده بمدد نصره، وأيد عزمـه، وسدد سهمـه، ورزقه عن الدنيا سلوةً، وبالمولى خلوةً، وصفى من شبه الشبه خلاص اعتقاده، وأضفى على شخص مجاهدته دلاص استعداده، ب محمد خلاصة الوجود، وخالصة المعبود.
فلانٌ قصدني مسلماً، ولما استودع من التحية مسلماً، وعرفني كونـه بالقلعة متزهداً، وللقلعة متزوداً، وبمطلب الاعتزال قائلاً، ولمذهب الاعتزال قالياً. كنت ذكرت له تجردي للحق، وتفردي عن الخلق، حتى أدركت من علمـه ما في طاقة البشر، وأطمعني الشوق في الذوق والنظر، متى ارتفع عن النظراء والأشباه، واقتنع بالنضار لا الأشباه، زهد في الأعراض الذاهبة، ورغب في الأغراض الواجبة.
فاعتزل - يا أخي - كل مشغلة، فعزلة المرء عزٌّ له، والخلطة مذلة، والمخلط مدله، والشواغل عن المقصود، للشوى غلٌّ وقيود. ولا يرد ذلك الحمى، إلا من احتمى، وماتت دواعى نزاعه، وعوادى طباعه، وطمع في جوار سلطانـه، وطعم من ثمار جنانـه.
وإن أردت البقا، فعليك بالتقى، فسر مع اسكندر الدين، واسكن دار الطين.
رأيت الثقيل - لكثافته - يهرب هوياً، والخفيف - للطافته - يطلب رقياً. وليس من استبقى أطمار الحرمة، واستسقى أمطار الرحمة، وخنست شياطين جوارحه، الكائدة استسلاماً، وحبست سلاطين جوارحه، الصائدة أثاماً - كم كرع في حياض المنى صادياً، ورتع في رياض الهوى متمادياً، واستبهمت جواد مذهبه، وانحسمت مواد مواهبه. فليس الوصول بهلك الأولاد، بل بفك الأقياد، ولا بترك ثراء الأموال، بل بسفك الآمال، ولا بإتلاف المرء جسده، بل ب تلافيه، فليس من أخرب مسجده، كمن تلافيه.
فكم من يأسو الكليم، بقصة موسى الكليم، ويبرئ الهيم، بحديث إبراهيم. فإن موسى سار بأهله، وسر بفعله: غدا بنفسه مستقلاً، وراح لشخصه مستقلاً. ولما جمع رطب الطرب، رجع إلى النسب والنشب. هاجرهم لشانـه، وما جاهرهم بلسانـه، وقصد العود، ووعد العود، وجنى رطب الشجر، وجنى طلب النظر، واعترف بضعفه عن كنـه الأمر، واغترف بكفه من وجه البحر، ولم يودع في وطاب، من ماء شرعه إلا وطاب.
وإبراهيم - عليه السلام، أمر بذبح ولده في المنام. فلما حقق عزمـه، وفوق سهمـه، قيل له: غير مرامك، وعبر منامك. فهذا البلاء، وإلا فذا لذا فداء. وأنزل كبشاً، ملئ كبساً، فجمع الهم، وفرق اللحم.
كم لهذا المعنى من أمثال، وعلى طريقه من أميال. والحق لا يشتبه، فانتبه أنت به، واشتر قطع الجواهر الرابحة سوماً، بقطع الهواجر اللافحة صوماً، واجعل قيام قلائل الليالي، قيم قلائد اللآلي.
فمن فعل ذلك، وسلك هذه المسالك، فقد رأب شعبه، ورب شعبه، وشفع في القيامة لمن شفع وتره، ورفع بالكرامة من رفع وتره.
إن العمر ذاهب نافق، وذهب نافق، وغنيمة تغل وتستغل، وغنيمة تستقل وتستحل. فخذ لنفسك منـه أودع، واحفظ الوديعة لمن أودع.
ومن أخرى إلى صديق ب واسط: وصل
كتابٌ راقَ ألفاظاً ومعنىً ... وساقَ إليَّ إِحساناً وحُسْنا
فكان عرائسَ الأفكار تُجْلَى ... وكان غرائسَ الأفكار تُجْنَى

استرجع الحسن العازب، وأطلع الأمن الغارب، ورفع من المجد ما هوى، ورقع من الجد ما وهى. لم أكن لأهدي حشف النخل، وحثالة النحل، إلى هجر الفضل العريق، ومغنى المعنى الدقيق.
ومن أخرى إلى صديق ب واسط: وصل كتاب فلان، أطال الله مديد بقائه، وأدام مشيد علائه، وأمن مخافة لأوائه، وقمع كافة أعدائه - ففضضته عن مثل لطائم العطر ذكاءً، ونظائم الدر استجلاءً، وريق النحل استحلاءً، وريق الوبل صفاءً، فأطلع من البهجة ما غرب، واسترجع من المـهجة ما عزب. ومنذ انحدر بـه سفينـه، وترحل عنـه قطينـه، ما قام لنا نادٍ إلا بذكره، ولا حام منا صادٍ إلا على بحره.
ومن أخرى إلى ولد أخيه: أوجب لبنات الصدر اً، ولثبات الصبر نقصاً وللسكون تفلتاً، وللعيون تلفتاً، إلى من سلب النزوع عنـه النزاع إليه، وأوجب الحنين نحو التحنن عليه. فإن كان صنوي مصدر نسبه جسماً، وصفوي بورد أدبه علماً، فأنا أحق بمصاقبته جواراً، وأرق في مصاحبته حواراً. وعمر الله أندية الأدب، بصائب قوله، وغمر أودية الأرب، بصوب طوله، ووفقه لفعل ما يجب، وأرانا فيه ما نحب، ما مكنته من النـهوض عن أرضي، ولا سمح كلي بفراق بعضي. وقد كاتبته بكلمات ينزر عددها، ويغزر مددها، لتشير إلى العلم صنائع شوقه، وتثير من الجهل بضائع سوقه، وتعزف عما أسفر ليل الأسفار، إلى قراءة صبح الإسفار، ويقايس بـه نفائس ثمار الأدب، وخسائس أحجار الذهب.
ومن أخرى إليه: وصل كتاب فلان، فكان لصبري منـهجاً، ولصدري مبهجاً، وللسعود مجدداً، وللجدود مسعداً، وللنفوس من شكال الوحشة مخلصاً، وللنفيس من إشكال العجمة ملخصاً. وكنت أرتقب عوده المقترب، فحالت المقادير، دون التقادير، وجاء المكتوب، بغير المحسوب، وأرجو أن تأتي العاقبة بالعافية، فتغنى بـه الأطلال العافية. ولولا اشتهار جنوح الأمر، وانتشار جناح العذر، لقلت: قطعه الفضول عن الفضل، ومنعه العدول عن العذل، واقتنع ببياض بلح النخيل، عن رياض ملح الخليل، ومكابرة الأجباس، عن مكاثرة الأجناس، وأنا أخفض له الجناح، وأرفع عنـه الجناح. فإذا شرب من العلم فوق طوقه، وشب عمره عن طوقه، واتسق درون سخابه، وفهق درون سحابه، وأعادته محبة التربة، ومحنة الغربة، إلى منبت غرسه، ومبيت عرسه، أرخى عزالي مزاده، وأرجى بلاوه بلاده.
انتقش من شوك العجز في قدم تقدمك، وانتعش بالعلم قبل أن يحال بين لوحك وقلمك. ولم أجرك بسوط السوق، في شوط الشوق، لكوني ممن يعتقد خمود عزمك، لكن ليغدو إذكائي لضرمك، مقاوماً، لريح من يروح لك لائماً، فيقوم المنشط، حذاء المثبط.
ومن أخرى إليه:
كتابي، وعندي وحشةٌ لك فادِحَهْ ... ونارُ اشتياق في فؤاديَ قادحَهْ
فنُحْتُ على ضَنّ بقربك في النَّوى ... فها أَدمعي بعد ارتحالك سافِحَهْ
ورائحة البِرّ الّذي فيك والتُّقَى ... غدت بك عنّي، فلتكن بك رائِحَهْ
لتعبَقَ بالعلم الذَّي اشتقت عَرْفَه ... وتفْغِم مَنْ وافاك يطلُب رائِحَهْ
فبلّغك الله الذَّي أنت أهُله ... ولا بَرِحَتْ منك الفضائل رابِحَهْ
كتابي، والأشواق إليه دائمة، والآماق عليه دامية، والهموم على الجوانح جوانح، والجوارح فيها جوارح، فبر الله رداء الردى عن منكبي إلي، وأفاض من قربه سابغ علي، شكرت الباريء دقت حكمته، وجلت قدرته، على ما أنعم بـه عليه من سابغ ثياب السلامة، وسائغ الكرامة.
ومن أخرى إليه: كتاب فلان، أحيا الله موات أرضه بجاري ماء علمـه، وضوأ ظلمات بلاده بساري ضياء نجمـه، وكسر بجلاده سوق سوق البدعة القائمة، وجبر بجداله عظم عظمة الشرعة السالمة، فهدى أبكار معانٍ سنية الألطاف، وأهدى ثمار بيان حسنة القطاف، بألفاظ تنقع الغليل، وتنفع العليل، ويهيج بهيج منثورها، بلابل بلابل مسحورها؛ ونشر من مطاوي التلف موتى أشواق، وقدح ولكن في حراق، فأعاده الله واضح الأسرة، وأعاد بـه نازح المسرة. كم نصيب مرفوض، من نصاب مفروض، ألعين إليه ممتدة، وعن سواه مرتدة، لا زال موفق العزم، مفوق السهم.
ومن أخرى إلى الحكيم المغربي: وصل كتاب فلان، أطال الله فرع عود عمره، وأطاب عرف عود ذكره، وحلى جيد الزمان بفرائد فوائده، وحلأ تهذيبه الإنسان عن مصايد مكايده، ما استخرجت أسفار، وخرجت أسفار.

وجدته أحلى من اللقاء بعد البين، والنجاء من يد الحين. وكأن أنواء بنانـه حاكت وشي الربيع، وأنوار بيانـه حاكت الروض الصنيع. والاستيحاش لبعد حضرته، أذوى عودي بعد خضرته. ولولا ارتقاب العين، اقتراب البين، لأخفقت وعود الجلد، وخفقت بنود الكمد، سيما وكتبه التي تسقي عللاً، وتشفي عللاً، يوردها إرسالاً، فترد علينا أرسالاً. لكن أحال القلب عن حاله، وأماله عن آماله، قوله إن النزوع يحارب النزاع، والقنوع يجاذب القناع. أو ما يعلم - أعاد الله بـه شمل الأنس جميعاً، وأزال بلقائه وحشة الحس سريعاً - أن الذي مرى أخلافه، واستمرأ خلافه، وأذهب ذهبه ونقاره، واستعذب صخبه ونقاره، وقد طعم بعد حلو العيش أمره، وبرم بما أبرم حبله وأمره، وعلم أنـه أغاض مذنباً، وأغاظ مذنباً؟ والزمان يثقف المتأود، ويثاقف المؤيد. وهبه جنى وما أجنى، وبرى وما أبرا، وأكفأ وما أكفا، وأشفى وما شفى، وحلى وما حلا، وعفى وما عفا، وسلى وما سلا، ومل وما ملا، واشتف حتى اشتفى، وكف حتى انكفا .. أليس لأجله هاجرت إلى البلاد، وهاجرت مثل بغداد، مجمع سرورك، وموضع سريرك، ومطلع نجمك، وموقع سهمك، ودائرة نقطتك، وبيت شرفك، وليت أسفك، التي هي الروضة والحديقة، والدنيا على الحقيقة؟ سيما وقد ارتفع بها صوتك، واتسع صيتك، وعرفك الأماثل، واعترف بفضلك المماثل، وقد كاد جناحك يريش، ومعاشك يعيش. لكنك هربت من صرف الأيام، وطلبت صرف المدام. وهيهات لك وجه الخلاص، وأنى ولات حين مناص؟ والسماء ألجأتك إلى الصريفة، والحمى أحوجتك إلى القطيفة، وقد صحت الأدواء، وصحت السماء. وبغداد عقد أنت واسطته، وعقدٌ أنت رابطته، ومفرق فضلك تاجه، ومشرق مثلك سراجه، والعيش ها هنا أرغد، والعود إلينا أحمد. ومن أنت قائلٌ بفضله، وقائلٌ في ظله فعلمٌ معروف، وله علم ومعروف، وسيكفيك ويكفيك، ويجزل لك ولا يجزيك.
ومن أخرى إلى والد هذا المويد، يستعطفه له: كتابي إلى فلان، أطال الله له طول البقاء، وأدام عليه ديم النعماء، وجعل مراده وفق المراد، واستسعاده بطاعته فوق الاستسعاد، وأفلته من حبس الحس، ولفته إلى قدس النفس، وأراه ما واراه من وجوده، وأورى له ما وراه من عدله وجوده، عن أشواق تحالفت علي فما تخالفت، وأتواق أضعفت القوى حين تضاعفت، إلى الاستئناس بروائه الروي البهجة، والاقتباس من رأيه الوري الحجة، والتروح بنسيم شمائله، والتلمح لكريم شمائله. فلو سلكت سبيل وصفها لضللت في سهوب الإسهاب، ولو أقمت عماد ذكرها لأطلت أطناب الإطناب.
ولقد امتد إليه سبب نكيري، واحتد عليه لهب ضميري، كيف سمح بنتيجة عمره، وسبب بقاء ذكره، وقطع غصنـه وقد أثمر، ومنع مزنـه وقد أمطر، حين أشرق كوكبه الدري، واتسق عقده الدري، من الذي استرق قلبك واسترقه، وعرف منبعك فاستحقه؟ نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الرجوع بعد الطلوع.
فبدار بدار، إلى القمر حين الإبدار. فالتلافي بالتلاقي غرةٌ تقتبل، وغرةٌ تهتبل. والعبارة تضيق عن البث، ضيق المصدور عن النفث. وما أظنك تقف على هذه النبذة فتقف، أو تقرأ هذه الأحرف فتنحرف.
ومن أخرى: وصل كتاب الأخ، أطاب الله الدعاء في سحرة تهجده، وأطار غراب الرياء عن شجرة تعبده، وجعل سهام عزائمـه صائبة الرمي، وغمام مكارمـه صائبة الأتي، وأسرح طرف طرفه في حلبات أزهار العرفان، وأسرج قنديل إيمانـه في قبلة قلبه بأنوار الإيقان، وجمع بيننا في مستقر رحمته، ب محمد وعترته.
ولولا أن القلوب تتلافى بعد المزار بقرب التذكار، وتتلاقى بعد البعد في سرار الأسرار، لما استقر بي بلد غربة، وما استفزني شوق الصحبة. واستيحاش العين لشخصه المبهج اللقاء، يضرم نار الشوق المزعج في الأحشاء. والمسؤول إتحافي بمكاتباته الحالية الطلى، وعقار مخاطباته الحلوة الطلا.
ومن أخرى: وطأ الله أكناف ممالك المجد، وأوطأه أكتاف مسالك الحمد، وربط أسباب بقائه بامتداد الدهر، ونقط كتاب ثنائه بمداد الشكر.
أكون لما يعرض من خدمـه، كأحد خدمـه. فإن شرح لي سوانح أغراضه، وصرح لي عن لوائح إيماضه، سلكت سبيل التحصيل، وتركت مضل التأميل، واجتهدت بقدر الوسع والإمكان، واعتمدت على مساعدة الزمان.
ومن أخرى إلى ولد أخيه:

كتابي إلى فلان، أبان الله نقشة نفسه بكل معلوم، وأبان عن عين عقله كل موهوم، وشحا لسوغ أعماله فم القبول ومحا من لوح خياله رقم المعلول، وقد مسني من خبل الشوق إليه مس، وغشيني للبس ثوب الوحشة لبس، مستصرخاً بالتداني من خطب الفراق ومستروحاً إلى الأماني من كرب الأشواق، لا أجد نشراً من طي الأسف، ولا نشرةً من طيف اللهف. لكن أترجى بعد سيره مسار كتاب منـه صادر، يتضمن سائر أخبار السائر، لا تعلل بورود وروده، وأعل من ورد موروده، فيبل غليلي، ويبل عليلي.
وكنت بقربه برهةً من الدهر، في نزهة من الزهر، حتى غار القدر فأغار، ونكث من الحبل ما أغار، ونقد علي المغير المنجد، وبكى علي الغائر المنجد. وليس بناجٍ من علقته ضوابثه، وطرقته حوادثه، وعين التجربة تستشف كدره في الصفاء، وتستشرف إلى عذره حين الوفاء. والآن، فسبيله السكون حتى تركد أكداره، والخمول حتى يخمد شراره، حارساً لطرة دينـه من الانحراف، حافظاً لقطرة علمـه من الجفاف.
ومن أخرى إليه: وصل كتاب الوالد، حرس الله واديه، وأخرس أعاديه، وجعل نبراس ذكره عالي المنار، وأساس قدره راسي القرار، وآيات محامده متلوة السور، وغايات مقاصده مجلوة الصور، بعد أن كان عقاب العقاب يطير إليه جناحه، وارتقاب الكتاب يطور بـه جناحه، فأصبح سفور صبحه، سفير صلحه، وراح نسيم راحه، ما حي عظيم اجتراحه، وأبدى من العذر فائح مسكة سحيقه، وأدنى من الصبر نازح مسكة سحيقه.
وقد كان لظلالي متفيأً، ولأطلالي متبوئاً، مستقبلاً مصلى الأتقياء، و مستقبلاً مصلي العلماء، راقياً لواعج الإرادة، وراقياً معارج السعادة. أذكى مقادح إشعاله، لتبدو ذكاء ذكائه، و والى مصالح أشغاله، ليعلو لواء لألائه. لكن، صل للقدر حسامٌ صل صله، وعقد للحذر حزامٌ جل حله، ونكث مفتول قطيع سيره، فبعث مقتول فظيع سيره، ليشتد بالمنع همـه، ويستد في القطع عزمـه. شعر: " وحب شيئاً إلى الإنسان ما منعا " . فلا تيأس من قرب عوده، وإن يبس رطيب عوده. فالدهر يجيء ويمر، والعيش يحلو ويمر، وحبل كل مرء ينكث ويمر. ووصيتي إليه إذكاء دراري علمـه متى انطفت، وإرساء جواري عزمـه وإن طفت، حتى تسكت هواتف القضاء، وتسكن عواصف الابتلاء، ويطيب جو الزمان، ويصوب نوء الإمكان، ويعود موسى عزمـه، إلى ثدي أمـه. فإذا قوي عظمـه، وروي كرمـه، أصبح نبي قومـه، إلى ثدي أمـه. فإذا قوي عظمـه، وروي كرمـه، أصبح نبي قومـه، وأيقظ كلاً من نومـه، وأمسى إلى الإيمان بالغيب داعياً، ولغنم شعيب الغيب راعياً. فاعرف هذه الأمور، وتفهم منطق الطيور.
ومن أخرى إليه: كتابي إلى فلان، والشوق قد استحوذ على الجلد، واستنفد قوى الجلد، طبع الله في شمع سمعه، نقوش فصوص صنعه، ورفع عن قليب قلبه حجاب تراب طبعه، وناجاه بأسرار كنـه ملكوته الصادعة النور، وأراه أسرار وجه ملكه الساطعة الظهور.
ووصلني كتابه فكان لنور الأحداق، كنور الحداق، وفي ناظر العين، كناضر العين، وشفى قلباً أشفى على التلف تلافيه، ورقى سليماً للهف بما تلافيه، من طيب أخباره السارة الأوصاف، الدارة الأخلاف، واحتبائه بثوب العافية والعفاف، وارتوائه من سلاف أكرم الأسلاف. فإن لقح ناجم طلعه انعقد أرطاباً، وإن وضح طالع نجمـه اتقد شـهاباً.
ومن أخرى إلى بعض العارفين: كتابي إلى معين الدين، ومعين طريق السالكين، وعلامة دهره، وعلامة سعادة أهل عصره، جعله الله لقلبه واجداً، وعلى نفسه واجداً، أشرح فيه ما أطوي من مصافاته وإيثاره، وأنشر من صفاته وآثاره، لإجرائنا جواد الإرادة، في جواد السعادة، واهتبالنا غرة دهره الهجود، واقتبالنا غرة فجر الوجود، وهو الأمر تدر أخلافه، ويدرأ خلافه، وإن كان قبلي في قبلة السبق مصلياً، وكنت على أثره مصلياً، وأصبح علم علمـه في الناس منشوراً، وأمسى علم علمي مزوراً عنـه لا مزوراً، والله المرشد إلى صوب الصواب، والمسعد بثوب الثواب، لأصد عن صدى الحق صدأه، ولأحد عن بلوغ أمله فيه ملأه، والسلام.
ومن أخرى تعزية:

عوضه الله على عظيم مصابه، عميم ثوابه. إن لكل أجل كتاباً، ولكل عمل ثواباً، والإنسان رهن أيامٍ تطرقه نوائبها، وهدف أحكامٍ ترشقه صوائبها، وتزعجه عن استقراره، وتنـهجه سبيل قراره، ليستعد لتزود معاده، ويستجد مركباً من أعواده، وهو كطير حبس في قفص بدنـه، وبوعد عن وطنـه، ونثر له حسنات تقواه، وأرسل من خشبات تقواه، ليرفع طائراً، أو يرجع إلى معاده آخراً. فإن أسف على جنة هواه مثل حائراً، أو أخلد إلى أرض دنياه عدل جائراً، وصائد الشيطان قد نثر أنواع حبوب الأطماع ليوثقه بحبله، وستر أشراك ضروب الإشراك ليوبقه بختله. فإن تم صيده، فهو صيده. وإن تذكر قصده، وتبصر رشده، ونزع عن غوايته، ونزع إلى هدايته، استبصر بغروره، واستنصر بنوره، واستقل ما حوى فيه، واستقل بخوافيه، ومالك رقه لشدة رأفته، وفرط مخافته، أرسل مذكرات النوائب، ومنفرات المصائب، يناديه بلسان الحال، لا ببيان المقال: ما يتهيأ لك ها هنا عش، ولا يتهنأ لك عيش، فعد إلى وطنك الوطي، وسيدك الحفي. وإياك أن يكون حاصل حوصلتك، حب حب عاجلتك، فيثقلك عن النـهوض، وينقلك إلى الحضيض. وهذه أمثال لأمثالنا ضربت، واللبيب من تنبه واعتبر، وسلك سبيل من عبر، وتزود التقوى، واستعد للمثوى. فالدنيا قنطرة للجائز، ومقطرة للعاجز، ومركب للعاقل، وملعب للغافل.
وحين وصلني خبر فقيدتك المتردية بالخفر، المتردية في الحفر، أقض مضجعي، وفض مدمعي. ولولا أني في عقابيل نوائب آلمت حين ألمت، وارتهنت ذمة الصبر وما أذمت، لكنت أنا الوافد إليك، والوارد عوض كتابي عليك.
ومن أخرى: كتابي إلى فلان، أدام الله في معارج السيادة ارتقاءه، وأدام في معارج السعادة بقاءه، عن سلامةٍ حالية الجيد، جالبة المزيد، متهدلة الأغصان، معتدلة الزمان، لما نتداوله من تلاوة ذكره، ونتناوله من حلاوة شكره، ولما لاح لواء ولائه، وفاح نشر الثناء من أثنائه، فعم الداني والقاصي، وعم الدين والعاصي.
ومن أخرى: وصل كتاب فلان، أطال الله له البقاء، طول يده بالعطاء، وأدام له القدرة، وبه القدوة، وإليه انصراف الآمال، وعليه اعتكاف الإقبال، ما أشرق طرس بذكره، ونطق بشكره، وجلا منىً، وحلا جنىً. وفضضته عن لآليء در، ولألاء بدر، وسلاف خمر، وائتلاف شذر. له في كل فصلٍ بديع، فصل ربيع، يفوح قداحه، ويلوح مصباحه، وتجول قداحه، وتجود أقداحه. زاهر البهار، باهر الأزهار. قد اشتمل سواد الخط فيه، على بياض الحظ لمعتفيه، فروى دائم عهوده، ديم العهاد، وأروى حائم موروده، العذب البراد، وأبقى موارده عذاباً، وألفى معانده عذاباً، ما سمج وصف شحيح، وسجم كف سحيح.
ووصل البر الذي أولاه ووالاه، والإنعام الذي ابتدأه وثناه، فتلقيته بيد الفائز بقمره، العاجز عن شكره. وكنت أعتقده ديناً مقترضاً، حتى جرى سيله فطم على القري، وخرج على مقابلته بالذكر القري، وإنما الوهاد إذا رضعت أخلاف الجود، بعد إخلاف الجود، ورصعت بلآلئ القطر منـها أقطار الجيد، تفتقت أزهارها عن الأكمام، وأشرقت أقمارها من الظلام، فاستفرغت طاقات الدهر، طاقات الشكر، وكان ظهور أثر الندى، حقيقة شكر الندى.
ومن أخرى: وصل كتاب فلان، وقفه الله على منـهاج ثوابه، ووفقه لاستخراج كتابه، فكان كالزهر، أضحكه بكاء الغمام، أو الدر، أمسكه بقاء النظام، أو الذهب ذهب غشـه صفاءً، فأعرب عن النسب انتماءً، أو سواد الحرق، على الفضة الحرق. لا، بل بنفسج غض، على الجيد الغض، فسرق اللحظ من الخط الحظ، وسبق إلى القلب موشي اللفظ، لأنـه طلع قمرياً، وسجع قمرياً، فأذهب حراً، وجلب حراً.
إن الدنيا عاريةٌ في نظر البصير، عارية في يد الخبير. فما لاق فيها لاقٍ لها، وما راق لديها إلا راقٍ عليها. ومن كان فيها على أوفاز، علا أو فاز.
ومن أخرى: وصل كتاب فلان، ملأه الله تعالى بملاءة عمره، وأملاه في إضاءة فجره، ودرأ عنـه شر ما ذرأ، وأبر بقدره على من برأ، فراق ما حاكه من الحبر، في البصر والسمع، وأراق ما حكاه من الخبر، مصون الدمع.
ومن أخرى:

وصل كتاب سيدنا، أرغد الله عيش الأسرة والخدم، بنضرة أيامـه، وأنجد جيش العسرة والعدم، بنضرة إنعامـه، ما فرع شجرة خلافٍ شعباً، وأوقع شجار خلاف شغباً. ولما أخذ الوداد برمته، وجبذ الفؤاد بأزمته، رحل ولم يرحل مثاله، واستقل وقل أمثاله، وسكن وما سكن خاطري من القلق، وهدأ وما أهدأ الإشفاق من الحرق.
ومن أخرى إلى ابن أخيه، يحثه على ال بزوجته: ما دجا حبر، وداجى حبر، وأمح منـهج ظلام، وانمحى نـهج ظلام.
ومنـها: وصار كمين الوجد مكيناً، وحنين الغرام جنوناً، ووشيك العذر مستبعداً، والقلب بين الجوانح إليك جانح، وجوارحه لملتمسك جوارح. فاسترسل قلمـه في لقمـه، ورقم وصف قرمـه، وحاكى ما حاك في الخلد، وكنى عما نكأ في الجلد.
ووصل كتابك الشريف الموضع، اللطيف الموقع، فانتطق بشارة بشارةٍ، ونطق بإفصاح إشارة، فسروت قناعه فأقنعني بالمسرة، وقرأت عنوانـه فملأ العين قرة، وأزال بلطف نقشـه ونفسه، من الطرف وحشة حسه. ولما طرأ عاد الشوق طرياً، ومرى شأن الدمع فوجده مرياً. وكان كالماء الفرات، أو كلم ابن الفرات، وقمت له إجلالاً، وقلت ارتجالاً:
وفى إِليَّ وفاءا ... منك الكتاب وَفاءا
فشفّ قلبيَ، حتّى ... أشفى، وكان الشِّفاءا
يا غائباً كان يروي ... صَدَى العُيون رُواءا
لَقىً تركتَ اصطباري ... يرومُ منك لِقاءا
" وأعذبت عنك - لا عذب قليبك - لا أعذب قلبك " ، فقلت: يتبع راية آرائه، ويقع في هوة أهوائه، ورأي الفطرة فطير وخيم، وحجر الشريعة حجرٌ لكل طبعٍ وخيم. فمن مري خلفها غذوا، وأمر خلفها عدوا.
وكنت حين طلبت سر هذا الأمر، وركبت ظهر هذا البحر، جعلت الإيمان أميني، والقرآن قريني، والشريعة ذريعتي، والسنة جنتي، مستمراً على أمرها، ومستمرئاً جنى مرها، حتى انفتحت لي مغالقها، واتضحت لعيني طرائقها، وأحدقت بي حدائقها.
والفقه غرس ربما حنظل شجره، ودرس ربما درس أثره. والسنة ألجأتك إلى خبط الميس، والأئمة خيرٌ من قيس.
ولنشرح لك حقيقة الخلاف، في المسألة الدائرة بين الأطراف: فإن الشافعي، شافي عي، بل أحمد، الذي أنت له أحمد: التفت عن الدنيا سالياً، ونظر نظراً عالياً، ومن سلا سلم، ومن علا علم، فقال: المقصود من هذا الوجود، الاشتغال بعبادة المعبود، والإقبال على النكاح يشغل، فالتخلي للعبادة أفضل. وذاك حين تسكن نوازع الشـهوة، وتمكن منافع الخلوة. وأما النعمان فأنعم النظر، وأحكم المرر، ونظر محيطاً، وأفتى محتاطاً.
ومن تخلى لنوافل الشرع، نوى فل الجمع. ومن أذهب الفرض للنافلة، ووهب الأرض للناقلة، فقد عند، وما عبد. يسكن من الطبع ما يرى مائراً، ويمكن من الشرع ما طرأ ماطراً. ومتى أرى ظل الهوى، أضل إراءة الهدى. ويرق لمن ملك رقه، ويوفي كل ذي حق حقه، فيضرب في نوافل العبادة بسهم، ويضرب عن وجه غرض النكاح بسهم، ويكون له في كل مشروع، بالقلب شعورٌ وبالقالب شروع، ويدق كل باب، ويذوق كل لباب، اتباعاً لقول الرب الواحد: " يا بني. لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ " . وآداب الأنبياء، دأب الأولياء، وأقوالهم، أقوى لهم.
النفوس إذا التحف صاحبها بأخلاق من أخلاق، أو فاق في أفعال على غير وفاق، أو رفض من الشرع ما رفض، وعرض بما هو له غرض، أو سرق طبعه ذميم الأخلاق، ممن ليس له خلاق، وأخلاق السوء من القرناء، أعدى من الثؤباء، وليس بين الأعداء، شيء من الإعداء؛ فشفاؤك إشفاؤها، وجلاؤك جلاؤها. فعاد الحكيم إلى النفس، واتخذ من الطب ومنـهاجا وقانونا، وقال: الحكمة في سمك الماء، كهي في سمك السماء، والنفس كالشخص، في الصحة والنقص.
فاجعل العقل إماماً، وقدمـه أماماً، وفوض إليه التأمير، والسكنى في التامور.
من ند عن الكمال ندم، ومن عد من الجهال عدم. فأخلد بخلدك إلى الخلد، واستعد لورود هذا العد.
وإن عدت إلى عادية عادتك، واعتددت بغادية غادتك، وإن اتسع لك المجال، وامتنع منك المحال، تخلصت زبدتك عن المخض، وخلصت إلى الحق المحض، وأطفت بملكٍ لا يبلى.
فإن أعادك إلى حبسك فلحكمته، وإن أرادك لنفع جنسك فلرحمته. وخذها طويلةً غير قصيرة، ومشورةً كالشـهد مشورة، وعليك السلام، وأفضل التحية والإكرام.
وتوفي أبو المعالي الكتبي ب بغداد في سنة ثمان وستين وخمس مئة.

ابن الريفية

من أهل الراذان.
كان من رؤسائها. قعد بـه الزمان، وحاربه الحدثان، فقصد الأمير دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد، وكان لا يهب إلا وقت سكره، فأنشده قصيدةً.
منـها:
فلم يبقَ، يا تاجَ الملوكِ، وسيلةٌ ... يَمُتُّ بها ذو حاجة وَهْوَ مُضْطَرُّ
سِوى الخمرِ أَنْ أضحى لَدَيْك منارُها ... فوا سَوْأتا إِن قيلَ: شافِعُه الخمرُ
وحاشا وكَلا أَنْ يقالَ: ابنُ مَزْيَدٍ ... كريمٌ إذا ما هَزَّ أعطافَهُ السُّكْرُ

المـهند أبو البركات بن بصيلة المزرفي من أهل عصري.
ذو خاطر كالمـهند الطرير، وعبارةٍ ذكية كالعبير. من ضامـه منظومـه لن يجار، ومن ثار بمنثوره لا يجد القرار.
إذا شبب ونسب أطرب، وإذا عتب واستعطف استعتب، وإذا مدح وأطرى أعجز وأعجب، وإذا ذم وهجا ثلب وأغضب.
هو من كتاب الرؤساء، ورؤساء الشعر.
كيف يسمي أبوه بصيلة، وقد أجنى بولده عسيلة؟ سألت أبا المعالي الكتبي عنـه، سنة سبع وخمسين وخمس مئة، فذكر: أنـه حين عرفه ب العراق عارق العطلة ونكد العيشة، وشام ب الشام وديار بكر برق المعيشة. رحل مشيماً، وأبل بسفره مغيماً. وها هو الآن كاتب بلدة كذا مستقيم الجاه، في نعمة الله.
وأنشدني من شعره ما نقلته من مجموعه.
فمن ذلك له من قصيدة في الغزل:
فَرْعاءُ. بالطُّول قد خُصَّت ذَوائبُها ... حُسناً، كما خَطْوُها قد خُصَّ بالقِصَرِ
إذا تمشّت، لتقضي حاجةً عرَضَت، ... تمحو الذَّوائبُ ما بالأرض من اَثَرَ
وله:
أذاب قلبي بدرُ تِمٍّ، له ... أَلحاظ رِئم وقَوام القَضيبْ
في خدّه وردٌ، وفي رِيقه ... شُهْدٌ، وفي النَّكْهَة للصَّبّ طيبْ
يلحَظُني شَزْراً إذا جئتُه ... لأنَّه يعلَمُ أَنّي مُرِيبْ
وله:
أَفدي الذَّي زارني وَهْناً، وقد هجَعَت ... عينُ الغيور، ونام الحاسدُ الحَنِقُ
فبِتُّ أَلْثِمُ كفَّيْهِ، وأُكبِرُهُ ... عن قُبلة الخدّ، حتّى قوَّض الغَسَقُ
وله يصف الروض:
الرَّوضُ بينَ متوَّجٍ ومُكَلَّلِ ... والماءُ بين مُكَفَّرٍ ومُصَنْدَلِ
فانظُرْ إلى الوَسْمِيّ كيف كسا الثَّرَى ... ثوباً، يطرِّزُهُ مَعيِنُ الجدول
تلحَظْ جِنانَ الخُلد في الدُّنيا، بلا ... شكّ، وتَرْنُ نزهةَ المتأمِّلِ
فكأنَّ غَيْدانَ البَنَفْسَجِ عاشقٌ، ... بالصَّدّ والهجرِ المُبَرِّجِ قد بُلِي
وكأنَّ زهرتَه بقيّةُ عضَّةٍ ... في خدّ رئِم ذي دلال أكحلِ
والنَّرْجِسُ الغَضُّ الشَّهِيُّ، كأنّه ... حَدَقٌ . . أصابت بالصَّبابة مَقْتَلِي
مالي وللآرام؟ قبّح حسنـها ... حالي، وغالت بالجمال تجمُّلِي
وتركنني غَرَضَ الرُّماةِ مُقَسّماً ... بينَ الوُشاةِ وبينَ عذلِ العُذَّلِ
هذا البيت مطابق مجانس، وقد وقع اختياري عليه وما يتلوه.
وله في الاستجداء استزادة:
خليفةَ الله، إِمامَ الهدى ... رِقاعُنا لِمْ حُبِست عنّا؟
إِن أنت لم تَقضِ بها حاجةً ... لنا، فلِمْ تأخُذُها مِنّا؟
وله في الذم:
اعتدلَ النّاس في النَّذالةِ والجه ... ل وضاقت مسالكُ السّالِكْ
فمن جحيم إلى لَظَى سَفَرٍ ... ونحن من هالك إلى مالِك
وله:
كمالُ الدِّين نقصُ الدِّيِ ... نِ لا شَكٌّ ولا كذِبُ
لئيمٌ. خانَهُ حسَبٌ، ... ولم ينـهَضْ بـه أدبُ
تراه يفور من غيظ ... على الرّاجي ويلتهبُ
ويَهْوَى أَنّ آمِلهَ ... بكفّ الحَتْف مُسْتَلَبُ
فلا دامت له الدُّنيا، ... ولا رقَدت له النُّوَبُ
لو قال: " فلا انتبهت له الدنيا " ، كان أحسن في المطابقة.
وله أيضاً:
إذا ما قَنَعنا باليسير، ولم يصل ... هنيئاً، قَنَعنا بالنَّزاهة والفقرِ

وحاشا أبا الفَيّاض ممّا يَشيِنُه ... يقول: نَصيحٌ غَشَّهُ، وَهْوَ لا يدري
وسألت عنـه ب الموصل سنة سبعين وخمس مئة، فقيل لي: إنـه صاحب دارا ونديمـه، ويواظب عمله ويديمـه.

دبيس المدائني من المدائن.
ضرير، بالأدب بصير. لقيته، واستنشدته أشعاره. وهي في غاية الرقة، بعيدة عن التعسف وارتكاب المشقة.
لما توفي ثقة الدولة بن الدريني، سنة تسع وأربعين وخمس مئة، رثاه بقصيدةٍ، أنشدني منـها من حضر العزاء، وهو عز الدين البروجردي، قال: سمعته ينشد:
قد قلت للرَّجُل المُوَلَّى غسلَهُ ... هَلاّ أطاع، وكنت من نُصَحائِهِ
جَنِّبْهُ ماءَك، ثُمَّ غَسِّلْهُ بما ... تُجْريه عينُ المجدِ عندَ بكائِهِ
وَأَزِلْ أفاوِيهَ الحَنُوطِ وطِيبَهُ ... عنـه، وَحِنّطْهُ بطِيب ثَنائِهِ
ومُرِ الكِرامَ الكاتبينَ بحَمْله ... أَوَ ما تراهم وُقَّفاً بإزائِهِ
لا تُوهِ أَعناق الرِّجال بحمله ... يكفي الَّذي فيهِنَّ من نَعْمائِهِ
وأنشدني مجد الدولة، أبو غالب، بن الحصين، من قصيدةٍ، سمعه ينشدها في الوزير، يصف الحرب:
وفي قدود الرِّماح السُّمْر منعَطَف ... وفي خدود السُّرَيْجِيّات توريدُ
تغنّتِ البِيض، فاهتزَّ القَنا طرباً ... مثلَ اهتزازِك إِذْ يدعو بك الجودُ القاضي أبو حامد بن الأشتري من المدائن.
ذكر الأمير ابن الصيفي: أنـه كان من معيدي المدرسة النظامية ب بغداد. من فضلاء أصحاب الشافعي.
وكان له صديق من باب النوبي: يجتمعان كل ليلة عند ضوء المنار المنصوب، يتحادثان. فإن رفع المنار الذي يشعل، يفترقان.
قال: أنشدني لنفسه في المنار:
رِكابُ أدلَّة، كالسَّطْر حالا ... قوائمـه مخالفة كلالا
لكلّ مطيّةٍ منـها ثلاثٌ ... وما عرَفَت قوائمُها كَلالا
إذا ميِطت عمائمُهم أناخُوا ... وإِنْ نِيطت بهم ثُرْنَ اشتعالا
مواقفُ للعتاب لنا حِذاهم ... نواعدهنَّ هَجراً أو وِصالا
فيسكُنً صاحبي، وهُمُ وقوفٌ، ... ويقلَقُ كلَّما عزَمُوا ارتحالا المعلم أبو الأزهر الضحاك، بن سلمان، بن سالم، بن وهابة، المرئي. من أهل المحول.
قال السمعاني في تاريخه المذيل: شيخ صالح. له حظ من اللغة والعربية. يعلم الصبيان ب المحول. وله يد باسطة في الشعر.
وأورد مما أنشده لنفسه قوله:
ما أنعم الله على عبده ... بنعمة، أوفَى من العافِيَهْ
وكلُّ مَنْ عُوفيَ في جسمـه ... فإنّه في عيشة راضيه
والمالُ حلوٌ حَسنٌ جيّدٌ ... على الفتى، لكِنَّه عاريه
وأسعدُ العالم بالمال، مَنْ ... أدّاه للآخرة الباقيه
ما أحسنَ الدُّنيا ولكنّها ... مَعْ حسنـها غادرةٌ فانيه
وقوله:
هَبُوا الطَّيفَ ب الزَّوْراء ليس يزورُ ... فما لنجوم الليل ليس تغورُ؟
تطاولَ بعدَ الظّاعنينَ. وطالما ... قضينا بـه الأوطارَ، وَهْوَ قَصِيرُ
فإِن يُمْسِ طَرْفي ليس تَرْقَا جفونُهُ ... فيا رُبَّما أمسيتُ وَهْوَ قريرُ
لياليَ يُلهيني وأُلهيهِ أَغيدٌ ... أَغَنُّ غَضيضُ المقلتين غريرُ
هذا، ما اخترته. أبو القاسم عبد الغني بن محمد بن عبد الغني بن محمد بن حنيفة الباجسري رجل فاضل، صالح، متميز. من تناء بعقوبا، من أعمال طريق خراسان ب بغداد.
توفي بها في شعبان، سنة إحدى وثلاثين وخمسة مئة.
قال محمد بن ناصر، الحافظ البغدادي: ولي منـه إجازة بجميع رواياته، وسمعت عليه أيضاً.
أنشدني عبد الغني الباجسري لنفسه قوله:
إِنْ تحاولْ علم ما أُضْمِره ... من صفاء لك، أو من دَخَلِ
فاعبِرْهُ منك، واعلم أَنَّه ... لك عندي مثلُ ما عندَك لي
وقوله:
لا تَكُ ما بينَ الورى معلِناً ... بالأمر، إلا بعدَ إِبرامِهِ
فمن وَهِي أمرٍ وإِفسادِه ... إعلانُه من قبل إِحكامِهِ
وقوله:

لو كفى الله شرَّ أهلِ زماني ... مثلَما كُلَّ خيرِهم قد كفاني،
سِيَّما منـهم الّذي كنتُ أرجو ... ه من الأَصفياء والخُلاّنِ،
عشتُ في غِبطة وفي خفضِ عيشٍ ... آمناً من طوارق الحدثانِ
فإِلى الله أشتكي جورَ دهر ... زائدِ السُّوء ناقصِ الإِحسانِ
ويروى:
فإِلى الله أشتكيهم، وأرجو ... ه يُعافي منـهم بما قد بلاني
وبه أَستعين، إِذْ كلُّ راجٍ ... عونَ غيرِ الإِله غيرُ مُعانِ

أبو علي الحسين بن جعفر بن الحسين الضرير البندنيجي الأديب المعروف ب ابن الهمذاني. من شعراء الدولة القائمية والمقتدية.
نقلت من كتاب تكملة الذيل ل ابن الهمذاني من مدائحه في القائم بأمر الله من قصيدة، يهنئه فيها بعوده إلى دار الخلافة بعد ما تم الذي تم من البساسيري، وبعد أمير المؤمنين إلى الحديثة، وعوده في أيام طغرل بك سنة إحدى وخمسين وأربع مئة.
منـها:
أقام ثِقافه الإسلام لمّا ... تأوَّد، إذْ بأمر الله قاما
وعاد العدل، بعد بِلىً، قَشيباً ... به، والدِّيِنُ مقتبلاً غلاما.
ولمّا أَنْ طغت عُصَبٌ، وطاشت ... حلومٌ . . أورثت لهم ضِراما
وقادهم القضاء إلى عُتُّلٍ ... زَنيِمٍ، قاد للفِتن السَّواما
أتاح الله ركن الدّين لطفاً ... وتأييداً، فأخزى من أَلاما
وأردى العبدَ، لا جادت يداه ... سوى النّيرانِ تضطرمُ اضطراما
وأتعسَ جَدَّه، وَأدال منـه، ... وأقعصه وقد جَدَّ انـهزاما
ومنـها:
أميرَ المؤمنين رِضى وغَفْراً ... لعارضِ نَبْوَةٍ طرَقَت لِماما
فإنّ الله أبلاك امتحاناً ... كما أبلى النَّبييّن الكراما
صَفِيّ الله آدمُ إذْ عصاه ... فأهبطه إلى الأرض انتقاما
غوى، ثمّ اجتباه، فتاب هَدْيا ... عليه، وعاضَهُ نِعماً جِساما
وإِبراهيمُ لمّا راغَ ضرباً ... على أصنامـهم، فغدت حُطاما
وقال: ابْنُوا عليه، وحرِّقوه ... وقال لناره: كوني سلاما
وأَيُّوبُ ابتلاه بطول ضُرٍّ ... وألبسه المذلَّةَ والسَّقاما
فناداه، فأنعمَ مستجيباً ... له، وأتمَّ نعمته تماما
ويوسُفُ حين كادَ بنو أبيه ... له كيداً، وما اجتنبوا الأَثاما
فملَّكه، وجاء بهم إليه ... كما جاؤوك طوعاً أو رَغاما
ولَمَّ الله شملَهُمُ جميعاً ... كذلك لَمَّ شعبكم انتظاما
فأمسى الشَّمل ملتئماً جميعاً ... وزادَ ب عُدَّة الدِّين التئاما
وليّ العهد، والملك المُرَجَّى ... لتقويم الهدى أَنَّى استقاما
فبورك للرَّعيَّة فيه مولىً، ... ودُمتَ إمامـها أبداً، وداما
لقد قرَّت بأوبته عيونٌ ... تجافت، منذُ زايَلَ، أن تناما
وأسفرت الخِلافة بعدَ يأس ... وحالَ قطوبُ دولتِها ابتساما
فلا عَدِمَتْكُما ما لاحَ نجمٌ ... تَحُوطانِ الشّريعةَ والأَناما
ولا زالت يمينُ الله تُهدي ... لعزّكما السّعادة والدَّواما
وله من قصيدة، يهنئه بفتح بلاد الروم على يد ألب أرسلان سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة:
عندَك يرجى العفوُ عن مذنبٍ ... أسلمـه للحَتْف عُدوانُهُ
ومن أياديك بحورِ العلى ... كلُّ مُدِّلٍ عزَّ سلطانُهُ
هذا ابنُ داوودَ الَّذي قد سمت ... فوقَ نجوم الأُفق تيجانُهُ
باسمك يسطو حين يلقى العدا ... فتَفْرِسُ الأملاكَ فُرسانُهُ
أرهفتَه سيفاً صقيلاً، بـه ... ينقتل الكفرُ وأوثانُهُ
واصطلم الأعداء، واستهدمت ... دعائم الكفر وأديانُهُ

تَبّاً لكلب الرُّوم إذْ غَرَّه ... تزاحمُ الجيش وصُلبانُهُ
آلى يميناً أن ينالَ العلى ... فانعكست بالخِزي أَيمانُهُ
ويلُ أمِّهِ في الأَسر، مستعبِراً ... يندَمُ إذْ منَاه شيطانُهُ
لم يُغنِ عنـه الجمعُ شيئاً، كما ... لم يُغنِ ذاك الجمعَ شجعانُهُ
وسوف تلقى مصرُ من بعدها ... هولاً، يُشيب الطّفلَ لُقيانُهُ
لا بُدَّ للقائم من أن تُرَى ... منشورةً في الغرب عِقبانُهُ
يملِكها شرقاً وغرباً، على ... رُغْم العدا، والله مِعوانُهُ
وعُدَّة الدِّين الإِمام الَّذي ... أهَّله للأمر رَحمانُهُ
خِلافة بالدَّهر مقرونة ... لا تنقضي ما لاح كيَوانُهُ
فدامَ للأمَّة، يرعاهُمُ ... موفَّقاً في العدل رُعيانُهُ
وله من قصيدة في تهنئته بإقامة الخطبة ب الحرمين سنة أربع وستين وأربع مئة:
بحبل القائم المـهدي اعتصمنا ... فما نخشى نوائبَه الصِّعابا
براه الله غيثاً للبرايا ... وغوثاً يَدْرَؤوُن بـه العذابا
وقد خضعَت لهيبته البوادي ... وقد مدَّت، لخَشيته، الرِّقابا
ألم تَرَ للمغارب كيف عاذت ... بمِلَّته، لدعوته انقلابا؟
وأَنَّ منابر الحَرَمَيْنِ أَنَّتْ ... لخطبة من تملّكها اغتصابا
فلا زالت يمين الله تهدي ... لدولته السَّعادة والغِلابا
وله يهنئ الإمام المقتدي بالخلافة، ويعزيه عن القائم، سنة سبع وستين وأربع مئة، من قصيدة:
ولما انتهت ب القائم الطُّهْر مُدَّةٌ ... مقدَّرة، كالشمس حانَ أفولُها
تسربلتَها أندى الخلائف راحةً ... وأجدرَ مَنْ أفضى إليه وصولُها
وقمتَ بأمر الله، مقتدياً به، ... فقرَّت عيونٌ، نال منـها هُمولُها
لِيَهْنِ نفوساً، أمَّلَتْك، تيقُّناً ... بنيل العلى والفخر فيما تُنيلُها
بجودك يستسقَى من المَحْل، كلَّما ... أَرَبَّتْ بأَقطار البلاد مُحولُها
فلا يحسَبِ المغرورُ في مِصْرَ أَنَّه ... ستَعصِمُه منك الفَيافِي وطُولُها
فلو بكتاب رُعْتَهُ، لا كَتيبةٍ، ... لَخَرَّتْ رواسي مِصْرَ، أو غارَ نِيلُها
وله من قصيدة في بهاء الدولة، منصور، بن دبيس، بن علي، بن مزيد، الأسدي، والد صدقة، يهنئه بإفضاء الإمارة إليه، بعد وفاة والده في شوال سنة أربع وسبعين وأربع مئة، في أيام ملك شاه:
جزى الله سلطانَ الملوك سحائباً ... من الرَّوح، تحبوه النّعيمَ، وتُزلِفُ
جزاءً بما أبقت لنا مَكرُماتُه ... هًماماً، بـه تُزْهَى نِزار و خِنْدِفُ
ولولاك، يا منصور، لم يُلْفَ بعدَه ... مُجيرٌ على خَطْب، ولا مُتَنَصَّفُ
لَئِنْ شرُفت أرض بمَلْك، لقد غدت ... بك العُرب والدُّنيا معاً تتشرَّفُ
فِدى لك مَن يبغي العلى وَهْوَ باخلٌ ... ويطلُب غاياتِ المَدى وَهْوَ مُقْرِفُ
إِذا هُزَّ للمعروف، مال بعِطفه ... إلى اللُؤم طبعٌ في الدَّنايا مُلَفَّفُ
إليك بهاءَ الدَّولة اعتسفتْ بنا ... أَمانٍ، لغير المجد لا تتعسَّفُ
بقِيت لنا، ما حنَّتِ النِّيبُ، قاهراً ... عِداك، وما ضمَّ الحَجِيجَ المُعَرَّفُ
وله في مدح الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي رحمـه الله - قصيدة، منـها:
لتفخرِ الشّريعة كيف شاءت ... ب إِبراهيمَ إذْ يَشفي السِّقاما
أعاد بهديه الإسلامَ غَضّاً ... وأنشر من معالمـه الرِّماما
به اتّضح الهدى والدِّينُ فينا ... وكان الحقُّ أعوجَ فاستقاما
إِذا نصر الجدال، رأيت منـه ... لساناً، يفضَح العَضْبَ الحُساما
فأمَا في الدُّروس إِذا تلاها، ... فموجُ البحر يلتطم الْتِطاما

وله من تهنئة للوزير أبي شجاع بالوزارة، سنة ست وسبعين وأربع مئة:
هنيئاً لك المنصِبُ الأرفعُ ... ولا زِلت بالملك تستمتعُ
وَمَّلأَك الله ما فَوَّضَتْ ... هُ إليك الخِلافةُ، لا يُنْزَعُ
مقام، يشُقّ على الحاسدينَ، ... رٍقابُ الملوك له تخضَعُ
وأَعظِمْ بـه شرفاً باذخاً ... إلى مستقرّ الهدى يشفَعُ
أتتك الوزارة مشتاقةً ... إليك، وأنفُ العلى أجدعُ
أبَتْ أن تُقيم على ظالمم ... على المَكْرُمات، فتستشفعُ
ومنـها:
فلولاكها كافلاً إِنّه ... تقلّدها ماجدٌ أَرْوَعُ
بصَيرٌ بتثقيف أيّامـها ... أمينٌ إِذا خانَ مستودَعُ
وتحسَبُ سَحْبانَ في دَسْته ... و قُسّاً إذا احتشد المجمع
وبين الجوانح من معشر ... غَليلٌ، بحَرّ الرَّدى ينقَعُ
وهيهات يروى صَداهم بها ... وقد عزَّ دونَهم المَكْرَعُ
أناسٌ ربيعُهُمُ مُجدب ... وأنتم ربيعٌ لهم مُمْرِعُ
وباعُهُمُ في العلى ضيّقٌ ... وباعُك في المجد مستوسعُ
لَشَتّانَ بينكما في القياس ... وهل يستوي النَّبْعُ والخِرْوَعُ
وبيتُك من فارس دوحةٌ ... بِدَرّ المكارم تسترضعُ
مَعالٍ من الله موهوبةٌ ... وما وهَب الله لا يخلعُ
وكم قال ذو أدب، أمحلت ... مُناه: متى يُخصب المرتعُ؟
فبّلغه الله آماله ... بما طبّقت مُزنة تَهْمَعُ
كفَلْتَ الرَّعيَّة من دهرها ... فلستَ لنائبه تخشَعُ
ويُمناك باليُمن تَغْشَى البلاد ... أَماناً، ويا طالَما رُوِّعُوا
وأحيا بك المقتدي أُمّةً ... يحرّمـها كَلأ مُسبَعُ
وما اختار للأمر إلا فتىً ... إليه قلوب الورى تَنْزِعُ
فلا أعدم الله إحسانَه ... رعاياه، ما أشرقَ المَطْلَعِ
وله في سيف الدولة، صدقة، بن منصور، بن علي، بن مزيد من قصيدة، يذكرها فيها فعله يوم آمد، في الوقعة بين شرف الدولة، مسلم، بن قريش و فخر الدولة، بن جهير. وكان سيف الدولة حاضراً، فوقف كرمـه على فك الأسرى من بني عقيل، واستنقاذهم، وإغناء فقرائهم، وإعطاء عفاتهم:
إنا نحن وافينا فِناءَ ابنِ مَزْيَد ... توالت لنا سُحبُ النَّدَى وانسكابُها
فِناءٌ يَفِيْ المعتفونَ إلى الغِنى ... بنائله، حتّى يرجَّى ثوابُها
يُجير إذا جار الزَّمانُ وريبُه ... ويُجْدِي إذا الأَنواءُ ضَنَّ سَحابُها
إذا ورد العافون مَغْناه، صادفوا ... بحور عطاياه يَعُبّ عُبابُها
تكاد مَقاريه، سروراً وبهجةً ... بِضيفانـه، تسعى إليهم قِبابُها
وتُمسي لهم في جِيد كلّ متوَّج ... صنائعُ، لم يَخْطِر ببالٍ حسابُها
ويغشى الوغى واليومُ بالنَّقع مُسْدِفٌ ... وللحرب نارٌ لا يبوخ شِهابُها
كيوم عُقَيْل والرِّماحُ شواجرٌ ... وبِيضُ الظُّبَى يُرْدي الكُماةَ ضِرابُها
غَداةَ غدت للتُّرك في الحيّ وقعة ... أباحت حِمى دارٍ عزيزٍ جَنابُها
فأُقسِمُ لولا نخوة مَزْيَدِيَّةٌ ... لباتت على حكم السِّباء كَعابُها
ولكنّ سيفَ الدّولة ابنّ بهائِها ... حَمَى عِرضَها والتُّرك تَحْرَقُ نابُها
تناشده الأرحامَ والنَّقْعُ ثائرٌ ... ولا يحفَظُ الأرحامَ إلاّ لُبابُها
وكم ذاد عنـها المَزْيَدِيُّونَ بالقَنا ... سُيوفَ العدا من حيثُ غَصَّ ُها
عشيةَ لاذتْ بالفرار من الظُّبَى ... وذلّت سباع، طالما عزَّ غابُها

وجاست خلالَ المَوْصِل الخيلُ عَنْوَةً ... وعاثت بأسلاب الأسود ذِئابُها
ولولا عوالي نورِ دولةِ خِنْدِف ... لمَا انجاب عن تلك الشُّموس ضبَابُها
فلا زال منكم يا بني مَزْيَدٍ لها ... مُجيرٌ، إليه في الأمور مَآبُها
إذا نابَها خَطْبٌ، فأنتم مَلاذها ... وإنْ رابَها جَدْب، فأنتم رَبابُها.
وله يمدح الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، رضي الله عنـه، من قصيدة، ويذكر المدرسة النظامية ب بغداد، ويصفها:
وهذا سيّدُ الوزراء، لمّا ... رآه يَجِلُّ عن نيل المُنِيلِ،
بنى للعلم داراً، واصطفاه ... لها، فسمت، وعزّت عن بَدِيلِ
نـهنّيه بها، والدّارُ أَولى ... وأجدرُ أن تُهَنَّأَ بالنَّزِيلِ
مشيّدة، تَتِيهُ على اللَّيالي ... بأعجبِ منظرٍ حَسَنٍ جميلِ
يكاد يحُكُّ مَنِكْبُها الثُّرَيّا ... بفَرْعٍ مدهشِ الرّائي طويلِ
ويفخَرُ سيلُ دجلةَ حين أمست ... له جاراً على كلّ السُّيولِ
يقبّلُ حافَتَيْها الموجُ حبّاً ... لها، كمقبّلٍ خدَّيْ خليلِ
تولاّها، فأغرب في بناها ... ذكيُّ القلب ذو رأيٍ أصيلِ
وله في ألب قرا البكجي أمير التركمان، وقد قال له: سوغك نظام الملك خراجك. قال: لأنني مدحته. قال: فامدحني، حتى أفعل معك مثل ذلك. فمدحه بقصيدة، ذكر فيها الوقعة التي كانت بينـه وبين خفاجة وكسره لها:
ألب قرا البكجي الفارس البطل ال ... مُغْني بجود يديهِ كلَّ مرتادِ
الذّائذُ، الضّاربُ الهاماتِ، مخترماً ... في الرَّوْع آجالَ أبطالٍ وآسادِ
حامي الذِّمار، عزيزُ الجار، همَّتُه ... إِمّا لكَبْت عدوٍّ، أو لإِحمادِ
يغشى الحروبَ بنفس غير وانية ... عن الطِّعان، وقلبٍ غير مُنْآدِ
سهلُ الخليقة، ميمون النَّقيبة، مَرْ ... هُوبُ العزيمةِ، لا باغٍ، ولا عادِ
سطا، فأشبه في إقدامـه ملكاً ... وربمَّا ساد آباءٌ بأولاد
يا خيرَ مَنْ ساد عزّاً في بني بكج ... سامٍ إلى خير آباء وأجدادِ
إِنّ الخليفةَ مُذْ أدناك منتصراً ... أدناك مستيقناً منكم بإنجادِ
نِداءَ ذي العرش موسى حين أرسله ... في آل فِرْعَوْنَ يدعوهم بإرشادِ
أوحى إليهِ: أَنِ اضرِبْ بالعصا، فَهَوَوْا ... في إثمـهم، وأراهم صدقَ ميعادِ
واختارك الله للأَعراب مثلَ عصا ... موسى لِيَفْلِقَهم ضرباً على الهادي
لمَا عبرت إلى غربيّ دجلةَ في ... جيش من التُّرك سيراً غير إِرْوادِ
من خيل سلغرَ، لا زالت كتائبهم ... في الحرب منصورةً، مرهومةَ الوادي
طارت خَفاجةُ في البَيْداء طائشةً ... خوفاً، تَقاذَفُ من شِعْب إلى وادِ
فاستقدمت للوَغَى كعب وإخوتها ... بنو كِلاب بإبراق وإرعادِ
والأشقياء بنو حرب و خِضْرِمة ... و بُحْتُر ورجال غير أوغاد
حتّى إذا ما التقى الجمعانِ في رَهَج ... أقبلتَ تَخْلِطُ أعناقاً بأجياد
أغرقتهم في بِحار من دمائِهِمُ ... كأنَّ أرضَهمُ جاشت بفِرْصادِ
أتيت منـهم ربيعاً في ديارهِمُ ... فالطّيرُ ترتَعُ في خِصْب من الزّادِ
وبات يُثني عليك المادحونَ بما ... أبليتَ ما بين إِتهام وإِنجادِ
وسار ذكرك في الآفاق منتشراً ... ذِكراً يغنّي بـه الغِرِّيدُ والشّادي
فاشكر هنيئاً مَرِيئاً ما خُصِصتَ بـه ... عند الخليفة من شكر وإرفادِ
وله في أبي سعد، عبد الواحد، بن أحمد، بن الحصين صاحب المخزن في الدولة المقتدية، عند عوده من الحج، من قصيدة، منـها:

وعلَّلْت قلباً بارتقاب مبّشِرٍ ... يبّشِر أَنَّ الرَّكْبَ في البِيد مُعْرِقُ
فلمّا بدا وجهُ ابنِ أحمدَ، كبّرت ... رجالٌ، إلى لُقيانـه تتشوَّقُ
وأُفحمت عن بثّ اشتياقي مسرّةً ... وشاهدُ حالي عن ضميريَ ينطِقُ
فظَلْتُ أقوتُ النَّفسَ ألفاظَه التّي ... شَفَتْ كِبداً، للبَيْن كادت تَمَزَّقُ
وأَلْثِمُ أَخفافَ المَطِيّ التَّي خَدَتْ ... وأرضاً غدت فيها مَطاياه تُعنقُ
فلا روضُ ذاك الأُنس فيها مصوِّحٌ،ولا بُرْدُه ما حنَّت النِّيبُ مُخْلِقُ
لَئِنْ كنت أوحشتَ العِراقَ، لقد غدا ... ل مَكَّةَ أُنس في القلوب معشَقُ
ونالت بها منك المُنَى، إذ دخَلْتَها ... ورُحتَ وواديها بفضلك يَنْطِقُ
وأبدى لك البيت الحرام بشاشةً ... بها أَرَجٌ، من طِيب نَشْرِك، يعبَقُ
ولَمَّا استلمتَ الرّ؟ُكنَ، زاد بهاؤه ... وكاد، بما مسَّتْه يُمناك، يورقُ
ولو نطَقت أعلام مكّةَ لاَنْتَشتْ ... بما عِلمتْ، تُثني عليك وتصدُقُ
وقضَّيْتَ ما قضَّيتَ في كلّ موقف ... وحجُّك مبرورٌ، وأنت موفَّق
ودونَ الَّذي تخشى، ولا مَسَّكَ الرَّدى، ... دعاءٌ، بأعناق السَّماء معلَّقُ
يَبيت وجيِدُ الليلِ منـه مُمَسَّكٌ ... ويُضحي ونَحرُ الصُّبحِ منـه مُخَلَّقُ
وأورده السمعاني في كتابه الموسوم ب المذيل، وأثنى عليه، وأسند إليه ما روي له عنـه من شعره في نظام الملك:
فلو أَنَّ يحيى كان يحيا، وجعفراً ... وفَضْلاً لقالوا: عندك الفضل موجودُ
أسأتَ إليهم حينَ أخملت ذكرهم ... بفعلٍ لَدَيْه بِيضُ أفعالهم سُودُ
وله فيه:
عَمَّ معروفك غرباً، مثلَما ... عَمَّ شرقاً، وكذا الشّمس تَعُمّ
بأَيادٍ، ملأت كلّ يد، ... فانثنى يُثني عليه كلُّ فَمْ
خُلِقت يُمناك يُمناً للورى ... والمعالي والعَوالي والقلمْ
وله في المدح:
تواضعَ لمّا أَنْ تغلغل رفعةً ... وعُظماً، ومن مجد العظيم التَّواضُعُ
ترى عُصَب الأملاك حولَ سريره ... وكلٌّ له في نخوة العزِّ خاضعُ

أبو سعيد عقيل بن جعفر بن أحمد بن جعفر الهمذاني من أهل البندنيجين. من عصبة الشاعر السابق ذكره. وكان أحد الفضلاء المقدمين. وكان قيماً بصناعة الشعر والأدب، عالماً بالعروض والقوافي.
روى السمعاني عن محمد، بن علي، بن جعفر، بن الحسين، البندنيجي أنـه قال: سمعت والدي يقول: سمعت عم والدي يقول: أتاني أبي في المنام، وقال لي: هل لك في أن تمصرع وأتمم، أو أمصرع وتتمم؟ فقلت:لا، بل أمصرع وتتمم. فقال لي: يا عيار هربت من القافية، ولكن قل.
فقلت:
هل عندَكم رحمةٌ يرجو عواطفَها
فقال:
صَبٌّ، تشكَّت إلى الشَّكوى جَوارحُهُ
فقلت:
أغلقتُم كلَّ باب عن مسرَّته
فقال:
وفي يدَيْ ظبيِكم كانت مَفاتِحُهُ
فقلت:
ما أمسكتْ قلبه، إذْ لم يَطِرْ جزعاً
فقال:
من فَرْط بَرْح الجَوَى إلا جَوانحُهُ باب في ذكر فضائل جماعة من أعيان الحلة والكوفة وهيت والأنبار ملوك العرب وأمراؤها بنو مزيد الأسديون النازلون بالحلة السيفية على الفرات

كانوا ملجأ اللاجين، وثمال الراجين، وموئل المعتفين، وكنف المستضعفين. تشد إليهم رحال الآمال، وتنفق عندهم فضائل الرجال، ويفوح في أرجائهم أرج الرجا، وتطيب بند نداهم أندية الفضلاء. لا يلفي في ذراهم البائس بؤس الباس، وكم قصم بجودهم الفقير فقار الفقر والإفلاس. بشرهم للمرتجي بشير، وملكهم للاجيء وأثرهم في الخيرات أثير، والحديث عن كرمـهم كثير. ليوث الوغى، وغيوث الندى، وغياث الورى. سلكوا محجة الهدى والحجا، وأودعوا قلوب عداهم الشجن والشجا، وأحشاء حاسدهم بحسك الحسد قريحة، ونفوس مواليهم ومواليهم بدولتهم مستريحة. وما زال ذيل نم سابغاً، ومشرب دولتهم سائغاً، وأمورهم مستقيمة، والجدود عندهم مقيمة، إلى أن قتل صدقة، وأظلمت أيامـه المشرقة، وانتقلت الإمارة إلى دبيس ابنـه، وإن أمر الإمارة على أساس أبيه لم يبنـه، فتارةً يقيم وتارةً يخرج، ومرةً يمر وآونةً يدرج.
ولقد بارز المسترشد بالله مراراً بالمحاربة، فهزم وكيلكيل المحاربه.
وما برحت دولتهم تنقص، وظلهم يقلص، إلى أن اضمحلت إلى زماننا هذا بالكليه، أعاذنا الله من مثل هذه البلية، فلقد كانوا ذوي الهمم العلية.
ومنازلهم ب الحلة حلت، وبعدما كانت مصونة أحلت، وعقود سعودهم حلت.
وما كانوا يعتمدون قول الشعر، إلا لحادثة على سبيل الندر. وسأذكرهم على الترتيب، وأقدم الأب البعيد على الأب القريب، وأسأل التوفيق من الله السميع المجيب: بهاء الدولة أبو كامل، منصور، بن دبيس، نور الدولة الأسدي، أبي الفتح والد سيف الدولة صدقة، من الطبقة الأولى.
توفي أبوه أبو الأغر دبيس سنة أربع وأربع مئة.
كان منصور منصوراً في الأمور، مقصوراً زمامـه على إيواء طالب القرى المقرور، مخاطباً لدفع الخطوب، مجانباً عند لقاء زائري جنابه القطوب.
فارس البيداء وشجاعها، وليث الهيجاء وشجاعها، ومجند العساكر وجماعها، دأبه لقاء الكتائب وقراعها. توفرت له الطاعة من العرب، وتوسلت إلى القرب منـه بالقرب.
وبينـه وبين شرف الدولة، مسلم، بن قريش مكاتبات، ومخاطبات ومجاوبات، سأورد منـها ما وقع إلي عند ذكر شرف الدولة.
وأذكر ها هنا مقطعات من أشعاره، إبقاءً لجميل آثاره. فعزائمـه: بها الدولة استقامت، وعيون الحادثات عنـها نامت.
له من قصيدة، يفتخر:
أولئك قومي: إِنْ أعُدَّ الّذي لهم ... أُكَرَّمْ، وإنْ أفخَرْ بهم لا اُكَذَّبِ
هُمُ ملجأ الجاني إذا كان خائفاً ... ومأوى الضَّرِيكِ والفقيرِ المُعَصَّبِ
بِطاءٌ عن الفحشاء لا يحضُرونـها ... سِراعٌ إلى داعي الصَّباح المثَوِّبِ
مَناعِيشُ للمولى، مَساميحُ بالقِرى ... مَصالِيتُ تحتَ العارضِ المتلهِّبِ
وجَدت أبي فيهم وخالي كِلَيْهِما ... يُطاع ويُؤتَى أمرُه وَهْوَ مُحْتَبِ
فلم أتعمّلْ للسِّيادة فيهِمُ ... ولكن أتتني وادعاً غير مُتْعَبِ
وقرأت في المذيل ل ابن الهمذاني: أنـه أقام بقرب الحريم الطاهري، فعاشر الأذكياء من شارع دار الرقيق، وخرج بمقامـه في الحضر عن عادة البادية.
ومن شعره:
فإِنْ أنا لم أَحمِل عظيماً، ولك أَقُدْ ... لُهاماً، ولم أصبر على فعل معظمِ
ولم أُجِرِ الجاني وأمنع حَوْزَهُ ... غَداةَ أنادى للفخار فأنتمي
وله:
رعت مَنْبِتَ الضُّمْران من أَيْمَنَ الحِمَى ... إلى السِّدر من ذات الأَجارع فالوَهْدِ
نعم، وسقى الله الحِمَى كلَّ مُزنةٍ ... مـهدَّلةِ الأَطْباءِ صادقةِ الرَّعْدِ
وحنّت إلى بغدادَ والغَوْرُ دُونَها ... ألا ليت شعري أينَ بغدادُ من نَجْدِ؟
وذكرَّني سعداً وأيّامَهُ الأُلى ... مضين. ألا واحَرَّ قلبي على سعد
وقرأت في ذيل السمعاني، يقول: قرأت في كتاب سر السرور: الأمير منصور شعره مما يرتاح له الطبع السليم، ويهتز بـه القلب السقيم، اهتزاز الغصن القويم بعليل النسيم، نحو قوله:
ما لا مِني فيك أعدائي وعُذّالي ... إلا لغفلتهم عنّي وعن حالي
لا طيَّب الله لي عيشاً أفوزُ بـه ... إنْ دَبَّ سكرُ سُلّوٍ منك في بالي
وقوله:

ولمّا رأيتكِ صَرّاعةً ... ترين الخِداعَ مقالاً جميلا
تسلّيتُ عنكِ بمن لا أُريِدُ ... فدَبَّ السُّلُوُّ قليلاً قليلا
وله، قرأته من مجموع:
يوم لنا ب النِّيل مختصَرُ ... ولكلّ يومِ لذاذةٍ قِصَرُ
والسُفنُ تجري في الفُرات بنا ... والماءُ منخفِضٌ ومنحدرُ
وكأنّما أمواجُه عُكَنٌ ... وكأنَّما أَسراره سُرّرُ
قرأت في الذيل ل ابن الهمذاني: أنـه توفي بهاء الدولة، منصور ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأرع مئة، وكانت إمارته بعد أبيه صدقة خمس سنين.
وله في صاحبٍ، يكنى أبا مالك:
فإن كان أودى خِدنُنا ونديمنا ... أبو مالك، فالنّائباتُ تنوبُ
فكلُّ ابنِ أُنثى لا مَحالةَ ميّتٌ ... وفي كل حيّ للمَنُون نصيبُ
ولو رَدَّ حزنٌ أو بكاءٌ لهالك ... بكَيناه ما هبّت صَباً وجَنُوبُ
سيف الدولة أبو الحسن صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي ملك العرب، من الطبقة الثانية.
كان جليل القدر، جميل الذكر، جزيل الوفر للوفد، مجداً في حراسة قانون المجد.
له دار الضيافة التي ينفق عليها الأموال الألوف، ويردها ويصدر عنـها الضيوف.
المعروف، بإسداء المعروف، وإغاثة الملهوف. من دخل بلده أمن مما كان يخافه، ودرت - لرجائه بجوده - أخلافه.
ولقد كان بلد الحلة في أيامـه حصناً حصيناً، وحمىً من الحوادث مصوناً، وحوزته لأنواع الخير حائزة، وأصحابه بطوالع السعد فائزة. محط رحل الأمل، ومخط الخطي والأسل، وغاب الليوث، وسحائب الغيوث، وسماء النجوم، ومنزل الحجاج القروم، وفلك الملك، وملك النسك، وسلك اللؤلؤ المنضود، ومسلك الآلاء والسعود، ومبرك البركات، ومناخ الخيرات.
وصدقة أكرم بـه بحراً نازلاً على الفرات، مبرأ الساحة من الآفات وكان يلتجئ إليه الجاني العظيم الشان، على الخليفة والسلطان، فلا تطرقه طوارق الحدثان، ويقيم عمره في ظله تحت رفده آمن السرب، مشتغلاً بلذاته عن الأكل والشرب، واللهو واللعب.
وكان شديد المحافظة على من يستجيره، كثير الحراسة لمن يجيره. ولم يزل معروفاً بالوفاء يشيد أساسه، حتى بذل في الحفاظ والوفاء راسه.
استجاره سرخاب الديلمي الساوي فأجاره، فأشعل الشر ناره، وفرق في الآفاق شراره. وطلبه السلطان محمد، بن ملك شاه مراراً فما أجابه، ورام من السلطان العفو عنـه فما أصابه. وما زال يلح والسلطان يلح، إلى أن تبدل الحرب عن الصلح، وعبر السلطان إليه محارباً.
ولما التقى الصفان، لقي صدقة في القتلى لقىً جانباً، وأقطعت حينئذٍ بلاد الحلة، وأبدلت العزة بالذلة، وذلك في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة فيما أظن.
ثم استقام بعد حينٍ أمر دبيس ولده، فعاد وافر الحرمة إلى بلده.
قال السمعاني: قرأت في كتاب سر السرور: لما خلع سرخاب ربقة طاعة السلطان، والتجأ إلى صدقة، وأجاره، كتب إلى السلطان يستعطفه على لسانـه:
هَبْنِي كما زعَم الواشونَ، ولا زَعَمُوا، ... أذنبتُ، حاشايَ، مُذْ زلَّتْ بِيَ القدمُ
وهَبْك ضاق عليك العفو عن جُرُم ... لم أَجْنِهِ، أيَيقُ العفو والكرمُ؟
ما أنصفتْنِيَ في حكم الهوى أُذُنٌ ... تُصغي لواشٍ، وفي عذري . . بها صَمَمُ
وقرأت في مجموعٍ هذين البيتين منسوبين إلى أبي سعد بن المطلب، والصحيح أنـه كتبه صدقة.
ومن لطيف محاضرته أنـه استقبلته بغتةً هرةٌ، وثبت إلى أعطافه، وخدشت عرنينـه، فقال أظنـه متمثلاً:
أما إنَّه لو كان غيرك أرقلت ... إليه القَنا بالرّاعفات اللَهاذِمِ
وكان صدقة صديق الصادق، ولا تنفق عنده بضاعة المنافق، حسن الخلائق للخلائق.
يهتز للشعراء اهتزاز الاعتزاز، ويخص الشاعر المجيد من جوده بالاختصاص والامتياز، ويؤمنـه مدة عمره من طارق الإعواز.
يقبل على الشعراء، ويمدهم بحسن الإصغاء، وجزيل العطاء. لا يخيب قصد قاصده من ذوي القصائد، ويبلغ آمليه أغراضهم والمقاصد.
ولكل ذي فضيلة على طبقته في دستوره اسم، بأن يطلق له من خزانته رسم.

سمعت مجد العرب العامري يقول: حكي لي أنـه كان شاعر شريف من مداح بهاء الدولة، منصور والد صدقة، وله عليه رسم قدره كل سنة مئة دينار وثوب أطلس وعمامة قصب وحصان. فلما توفي بهاء الدولة، جاء الشاعر، و وقف على طريق صدقة وهو راجع عن الصيد، وأنشد متمثلاً بهذه الأبيات، وهي في الحماسة:
لا تَقْرَبَنَّ الدَّهْرَ آلَ مُطَرِّفٍ ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما
قومٌ: رِباطُ الخيلِ بينَ بُيوتِهم ... وأَسِنَّة زُرق تُخَلْنَ نُجوما
ومخرَّقٌ عنـه القميصُ، تَخالُهُ ... بين البُيوت من الحياء سقيما
حتّى إذا رفع اللِواء، رأيتَه ... تحتَ اللِواء على الخَميس زَعيما
فعرفه صدقة وقال: أنت الشريف؟ قال: أنا هو. قال: فأنشد في حالنا هذه شعراً. فأنشد أبياتاً، من جملتها:
نزَلتُ بهم يوماً وراوُوقُهم يَشِي، ... ومِرْجَلُهم يَغْلي، وشادِيهِمُ يشدو
وعندَهُمُ ما صرّع الخيل بالقَنا، ... وما خَطِف البازي، وما قنَص الفَهْدُ
فأمر بأن يضاعف رسمـه، واستحضر في الوقت مئتي دينار إمامية من خزائنـه وثوبين وعامتين وفرسين، وقال: ارجع إلى وطنك، لأني أعلم أن خلفك من لا يعذرك.
وفضائل سيف الدولة أكثر من أن تحصى، وفي ذكرها يستقصى.
الأمير أبو الأغر دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي لقب ب سيف الدولة. من الطبقة الثالثة.
أكرم بالأغر أبي الأغر دبيس، أثبت في الهيجاء وأرزن في الوقار من أبي قبيس. أشجع من قيس، وفارس بني عبس. أسد أسدي، وضيغم مزيدي.
طلب المزيد، ورام العز الجديد، ولم يرضَ بمنصب والده، وما ورثه من قديم المجد وتالده، فخرج على الإمام المسترشد نوباً، فانـهزم ووالى هربا، وتفرق من نجا منأيدي سبا. ثم قضت بينـهما تصاريف الزمن، فتارةً إثارة فتن وإبداء إحن، وطوراً رفع ما حل من محن، بهدنة على دخن، إلى أن استشـهد المسترشد، وظن أنـه من بعده يخلد، فقتله السلطان مسعود صبراً بعد قتل الإمام بشـهر ب المراغة. وذلك يوم الأربعاء، الرابع عشر من ذي الحجة، سنة تسع وعشرين وخمس مئة.
قال الأمير أبو الفوارس بن الصيفي التميمي المعروف بن حيص بيص يشير إليهما، وكان الخليفة و دبيس أشقرين:
تعنّفُني في شُرب كأسي ضلالةً ... أَقِلّي، فبينَ الأحمرَيْنِ هِلالُ
وما حالة في الدّهر إلا ستنقضي ... ويعقُبُها بعدَ البقاء زوالُ
فكُرِي علَيَّ الكأس، يا مَيُّ، واعلمي ... بأنّ تصاريفَ الحياة خَيالُ
وكان دبيس ينشد كثيراً هذين البيتين:
إِنَّ اللياليَ منَاهلٌ ... تُطوَى وتبسط بينَها الأَعمارُ
فقِصارُهُنَّ مع الهموم طويلةٌ ... وطِوالُهنَّ مع السُّرور قِصارُ
قال السمعاني في تاريخه: قرأت في كتاب الوشاح: كتب بدران بن صدقة إلى دبيس وإخوته:
ألا، قُلْ ل منصور، وقُلْ ل مسيّب ... وقُلْ ل دُبَيْس: إنَّني لَغريبُ
هنيئاً لكم ماء الفُرات وطِيبُه ... إذا لم يكن لي في الفُرات نصيبُ
فأجابه دبيس:
أَلا قُلْ ل بدرانَ الّذي حنَّ نازعاً ... إلي أرضه، والحُرُّ ليس يَخيبُ
تمتَّعْ بأيّام السُّرور، فإنَّما ... عِذارُ الأَماني بالهموم مشيبُ
ولله في تلك الحوادث حكمة ... وللأرض من كأس الكرام نصيبُ
قال: وقرأت في الوشاح: أنشدني أبو الفتوح السرخسي، أنشدني دبيس لنفسه:
حبُّ عليّ بن أبي طالبٍ ... للنّاس مِقياس ومِعيارُ
يُخرج ما في أصلهم، مثلَما ... تُخرِج غِشَّ الذَّهبِ النّارُ
قال السمعاني: أبو الفتوح السرخسي لم يكتب وفاته.
الأمير منصور بن صدقة بن منصور الأسدي من الطبقة الثالثة.

كان خرج على أمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي، مع أخيه، ولم يستقم أمرهما. وجارت عليه صروف لياليه، وأسر منصور المسكين، وحبس إلى أن أتاه اليقين. ولحق دبيس ب سنجر في خراسان، لعله يلقى من جانب السلطان، ما يعود منـه بإصلاح الشان. فأكرمـه سنجر، ثم أجلسه ب مرو الروذ شبه محبوس، وخصه بمكان بالنعمة مأنوس، ثم أطلقه ورده إلى بلده، بعد أن أثقل ظهره برفده وصفده.
قرأت في كتاب السمعاني: ذكر صديقنا أبو العلاء القاضي في كتاب سر السرور: أنشد ملك العرب دبيس بن صدقة لأخيه منصور:
إنْ غاض دمعُك والرِّكابُ تساقُ ... مع ما بقلبك، فَهْوَ منك نِفاقُ
لا تَحِبسَنْ ماءَ الجفون، فإنّه ... مُغزٍ، وظاهرُ عَذْلِه إِشفاقُ.
لو حُمِّل العُذّالُ أَعباءَ الهوى ... أو جُرِّعوا غُصَصَ الملام وذاقوا،
لتَيَقَّنُوا أَنَّ الجبالَ مُطاقَةٌ ... والعذل في المحبوب ليس يطاقُ
شمس الدولة بدران بن صدقه بن منصور الأسدي أبو النجم شمس العلى، وبدر الندي والندى. ف بدران، لحسن منظره وطيب مخبره بدران، ولعلمـه وجوده بحران.
تغرب بعد أن نكب والده، وتفرقت في البلاد مقاصده. فكان برهةً ب الشام، يشيم بارقة السعادة من الأيام، وآونةً ورد بلاد مصر، فأولاده كانوا بها إلى هذا العصر، وعادوا بأجمعهم إلى مدينة السلام، وظهر عليه أثر الإعدام، وتوفي ب مصر سنة ثلاثين وخمس مئة.
وله شعر، ماله - من جودته - سعر. يتيمة، ما لها قيمة.
له في أبيه صدقة، أو صدقة، بن دبيس، بن صدقة:
ولمّا التقى الجمعانِ، والنَّقْعُ ثائرٌ، ... حسِبت الدُّجَى غطّاهُمُ بجَناحهِ
وكشَّفَ عنـهم سُدفةَ النَّقْع في الورى ... أبو حسَن بسُمره وصِفاحهِ
فلم يَسْتَضُوا إلاّ ببرق سيوفه ... ولم يهتدوا إلا بشُهْب رِماحهِ
وله:
لا والَّذي قصد الحجيج على ... بُزْل وما يقطَعْنَ من جَدَدِ
لا كنت بالرّاضي بمنقصة ... يوماً، وإلا لست من أَسَدِ
لأَقَلْقِلَنَّ العِيسَ داميةَ ال ... أَخفافِ من بلد إلى بلدِ
إِمّا يقال: سعى فأحرزها، ... أو أن يقالَ: مضى ولم يَعُدِ
وله:
وغَرِيرةٍ، قالت ونحن على مِنَىوالليلُ أنجمُه الشَّوابِك مِيلُ :
زعَم العواذل أَنْ مَلِلْت وِصالنا ... والصَّبرُ منك على الجفاء دليلُ.
فأجبتُها، ومدامعي منـهلَّة، ... والقلب في أسر الهوى مكبول:
كذَبَ الوُشاةُ عليَّ فيما شنَّعُوا. ... غيري يَمَلُّ، وغيرُكِ المملولُ
وله ب مصر، وقد ذكر المغني المعروف ب الكميت:
اشْرَبِ اليومَ من عُقارٍ كُمَيْتِ ... واسْقِنِيها على غناء الكُمَيْتِ
ثمَّ سَقِّ النَّدِيم حتّى تراه ... وَهْوَ حيّ، من الكُمَيْت، كمَيْتِ
وله:
يا راكِبَيْنِ من الشَّآ ... م إلى العِراق: تَحسَّسا لي
إِن جئتما حِلَلَ الكرا ... مِ، ومركزَ الأَسَلِ الطِّوالِ
قولا لها، بعدَ السَّلا ... مِ، وقبلَ تصفيفِ الرِّحالِ:
ما لي أرى السَّعْدِيَّ عن ... جيش الفتى المُضَريّ خالِ؟
والقُبَّة البيضاء في ... نقص، وكانت في كمالِ؟
يا صدق لو صدقوا رِجا ... لُك مثلَ صدقِك في القتالِ
أو يَحمِلون على اليمي ... ن كما حَمَلْت على الشِّمالِ
دامت لهم بك دولةٌ ... تسعى لها هممُ الرِّجالِ
عربيّة بدويّة ... تسمو على طول الليالي
لكنّهم لمّا رأوا ... يومَ الوَغَى وَقْعَ العوالي
فَرُّوا وما كَرُّوا، فتَبّ ... اً للعبيد وللمَوالي
وله أيضاً:
فواعَجَبا كيف اهتدى الطَّيْف في الدُّجَى ... إلى مضجَع لم يبقَ فيه سِوى الجَنْبِ؟
وله أيضاً:
وصغيرةٍ عُلِّقتُها ... كانت من الفِتَن الكِبار

كالبدر، إلا أنَّها ... تبقى على ضوء النَّهار
وله في تشبيه القمر، وقد انكسف:
وليلةٍ بِتُّها أُسَقَّى ... حمراءَ صِرْفاً كالأُرجُوان
وانكسف البدرُ، فَهْوَ يحكي ... في الأُفْق مَرْآةَ هِنُدْوُاني
وله:
لي صاحبٌ ذو خِلال، قد غَنِيت بـه ... عن الورى، وَهْوَ بي عمّا ذكرتُ غني
إن قلت: لا، قال: لا، مثلي، وقلتُ: نعَمْ، ... يَقُلْ: نعَمْ، أو أكُنْ في حادثٍ يكُنِ
وله:
ولائمٍ لامَني جهلاً، فقلت له والقلبُ في حَرَق والطَّرْف في غَرَقِ :
يا لائمي كيف يسلو مَنْ تُقَلِّبُهُ ... أيدي السَّقامِ، وتَثْنِيهِ يَدُ الأَرَقِ؟
أما ورَبِّ المَطايا الواجفات ضحىً ... تَؤُمُّ بَكَّةَ بين الوَخْدِ والعَنَقِ
لا زُلْتُ عن حبّ مَيّ ما حَييِت، وما ... زال الصبَّابةُ والأشجانُ من خُلُقي
وله:
مَنْ عَذِيري مِن صاحب سَيّئِ العِش ... رَةِ، لا يهتدي لأمرٍ مُسَدَّدْ؟
كخُيوط الميزانِ، في كل وقت ... ليس ينفكّ دائماً يتعَقَّدْ
وله:
إنّي من الشّاكرينَ، لكن ... بغير راءِ، فكن ذكيّا
وإنّني مبغض معادٍ ... لكلّ من لم يُرِدْ عَليِّا
ظَلْتُ ل آل النَّبيّ عبداً ... ومن مُعاديِهِمُ بَرِيّا
وله:
قال العواذلُ: لا تُوَا ... صِلْهُ، فقلت لهم: رُوَيْدا
قالوا: احجُبُوه عن السَّواد ... دِ. أيحجُبوه عن السُّوَيْدا

غيرهم من الحلة والنيل والكوفة وأعمالها الأجل أبو الغنائم حبشي بن محمد الملقب بشرف الدين من الحلة.
كان أجل الكتاب قدراً، وإذا عدوا نجوماً عد بدراً.
سمعت أبا البدر الكاتب الواسطي، وكان معي في عمل الوزير كاتباً: أن حبشياً كان ناظر واسط، غير ناظر فيها إلى قاسط. قال: و هو أكتب من رأيته، وأملأ ضرعٍ في الكرم مريته. وخدمته ب واسط مدة، وصادفت ظلاله بالنعم ممتدة. وما رأيت أحداً أوضح بهجةً، وأفصح لهجة، وأكثر منـه بشراً للقاء العافي، و أرشد الناس إلى طريق المعروف الخافي. كهف الخائف، ولهف العائف.
وسمعت مجد العرب العامري يترحم عليه، وإذا جرى ذكره تحدر دمع عينيه، ويقول: ما رأيت في الدنيا أجود منـه يداً، وأعم منـه ندىً، وأحسن منـه رأياً، وأشمل منـه عطايا، وأشعر منـه بالشعر، وأعرف منـه بالقيمة لأهله والسعر.
وله ديوان، كأنـه بستان.
وزر لصاحب ماردين: تمرتاش، ومـهد له ملكه تمـهيد الفراش.
ثم وزر في الشام ل زنكي، وصار يشبه ملكه الجنة ويحكي، إلى أن أدركته على الملا حدة الملاحدة وفتكت به، ومضى لسبيله شـهيداً إلى منقلبه.
وقال: حلي بتمائمـه في الحلة، سامي المنزل والمحلة. وكان أبوه وزير صدقة ملك العرب، وربي حبشي في دولته وفاز منـها بكمال الأدب.
أنشدني العامري، قال: أنشدني حبشي الوزير لنفسه رباعيه:
عيناي أباحتا لعينيك دمي ... حتى قدِمتْ على الرَّدَى بي قَدَمي
بالشُّكر كما قيل دوامُ النِّعَمِأعطاك غنى حسنك، فارحَمْ عَدَمي
وأنشدني له:
هجرتكمُ إِن كنت أضمرت هجركمْ ... وسافرت عنكمْ إِن رجَعت إلى السَّفَرْ
وإن خطَرت بالنَّفس صحبةُ غيرِكم ... فلا بَرِحَتْ محمولةً بي على الخطَرْ
وأنشدني لنفسه:
أطعتُ العلى في هجر ليلى، وإِنّني ... لأَضُمِرُ منـها مثلَ ما يُضمر الزَّنْدُ
قريبةُ عهد، لم يكن من رجالها ... سِوايَ من العشّاق قبلٌ ولا بعدُ
رأيتُ فراق النَّفْس أهونَ لوعةً ... عليَّ من الفعل الَّذي يكرَهُ المجدُ
وله أيضاً رباعية:
الرَّوضُ غدا نسيمـه وَهْوَ عليلْ ... والوُرْقُ شفَتْ بنطقها كلَّ غَليلْ
قم فاغتنم الفُرصة، فالمكث قليلْ ... ما أغبَنَ من يسلب عنـه التَّحصيل

وأنشدني الشريف قطب الدين، محمد، بن الأقساسي، الكوفي ب بغداد، في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني المـهذب، أبو القاسم، علي، بن محمد ب الموصل، في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمس مئة، ل حبشي، بن أبي طالب، ابن حبشي:
ما لي على صَرْف الزَّما ... نِ ورَيْبِه، يا صاحِ، أمرُ
لو كان ذلك، لم يَبِتْ ... خلفَ الثَّرى والتُّرْبِ حصرُ
واغتاله مع ذلك ال ... قَدّ الرَّشيقِ الغَضِّ عُمرُ
لكنَّ ليلَ صبَابتي ... مُذْ بانَ لا يتلوه فجرُ
ابن العودي النيلي أبو المعالي، سالم، بن علي، بن سلمان، بن علي، بن العودي، التغلبي.
شاب شبت له نار الذكاء، وكأنما شاب لنظمـه صرف الصهباء، بصافي الماء، ونثر فيه شؤبوب الفصاحة، يسقي من ينشد شعره راح الراحة.
وردت واسطاً سنة خمسين وخمس مئة، فذكر لي أنـه كان بها للاسترفاد، وقام في بعض الأيام ينشد خادم الخليفة فاتناً فسبقه غيره إلى الإنشاد، فقعد ولم يعد إليه، وسلم على رفده وعليه، وصمم عزم الرحيل، إلى وطنـه ب النيل.
ولقيته بعد ذلك سنة أربع وخمسين ب الهمامية.
أنشدني القاضي عبد المنعم، بن مقبل، الواسطي له:
هُمُ أقعدوني في الهوى وأقاموا ... وأبلوا جُفوني بالسُّهاد وناموا
وهُمْ تركوني للعتاب دَرِيئةً ... أُؤَنَّبُ في حُبِّيهِمُ وأُلامُ
ولو أنصفوا في قسمة الحبّ بينَنا ... لَهامُوا، كما بي صَبْوَةٌ وهُيامُ
ولكنَّهمْ لمّا استدرّ لنا الهوى، ... كُرمْتُ بحفظي للوداد، ولاموا
ولمّا تنادَوْا للرَّحيل، وقوِّضت ... لِبَنْهِمِ ب الأَبْرَقَيْنِ خِيامُ،
رَميت بطَرْفي نحوَهم متأمِّلاً ... وفي القلب منّي لوعةٌ وضِرامُ
وعُدت وبي ممّا أُجِنُّ صَبابةٌ ... لها بينَ أَثناءِ الضُّلوع كِلامُ
إذا هاج بي وَجْدٌ وشوق، كأنَّما ... نضمَّن أعشارَ الفؤاد سهامُ
ولائمةٍ في الحبّ، قلت لها: اقْصِري ... فمثليَ لا يُسلي هواه ملامُ
أأسلو الهوى بعدَ المشيِب، ولم يزل ... يصاحبني مُذْ كنت وَهْوَ غُلام؟
ولمّا جزَعنا الرَّملَ، رملَ عُنَيْزَةٍ ... وناحت بأعلى الدَّوْحتين حَمامُ،
صبوتَ اشتياقاً، ثمَّ قلت لصاحبي: ... ألا إِنّما نَوحُ الحَمام حِمامُ
تجهَّزْ لبَيْنٍ، أو تَسَلَّ عن الهوى، ... فما لَكَ من ليلى الغَداةَ لمِامُ
وكيف تُرَجّي النَّيْلَ عندَ بخيلةٍ ... تُرام الثُّرَيّا، وَهْيَ ليس تُرامُ
مُهَفْهَفَةُ الأعطافِ: أَمّا جَبينُها ... فصبحٌ، وأَمّا فَرعُها فظلامُ
فيا ليت لي منـها بلوغاً إلى المُنَى ... حلالاً، فإنْ لم يُقْضَ لي فحرامُ
وأنشدني الشريف قطب الدين، أبو يعلى، محمد، بن علي، ابن حمزة ب بغداد، في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني الربيب الأقساسي، أبو المعالي، بن العودي لنفسه، ب الكوفة، في منزلي، مستهل صفر سنة خمسين وخمس مئة:
ما حبَست الكتابَ عنك لهجر ... لا، ولا كان عبدُكم ذا تَجافِ
غيرَ أَنَّ الزَّمانَ يُحْدث للمَرْ ... ءِ أموراً، تُنْسيه كلَّ مُصافِ
شِيَمٌ، مَرَّتِ الليالي عليها، ... والليالي قليلةُ الإِنصافِ
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه في التغزل بامرأة:
أبى القلب إِلا أمَّ فضلٍ وإن غدت ... تعدّ من النّصف الأخير لدِاتُها
لقد زادها عندي المشيبُ مَلاحةً ... وإن رغم الواشي وساء عُداتها
فإن غيَّرت منـها الليالي، ففي الحشا ... لها حَرَق، ما تنطقي زَفَراتها
فما نال الدَّهر حتّى تكاملت ... كمالاً، وأعيا الواصفين صفاتها
سَبَتْني بفَرْع فاحم، وبمُقْلَة ... لها لَحَظات . . ما تُفَكُّ عُناتُها

وثغرٍ . . زهت فيه ثَنايا، كأنّها ... حصى بَرَدٍ، يَشْفي الصَّدَى رَشَفاتُها.
ولمّا التقينا بَعْدَ بُعْدٍ من النَّوَى ... وقد حانَ منّي للسَّلام الْتفاتُها،
رأيت عليها للجمال بقيَّةً، ... فعاد لنفسي في الهوى نَشَواتُها
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
يقولون: لو دارَيْتَ قلبك، لارْعَوى ... بسُلوانـه عن حبّ ليلى وعن جُمْلِ
قال: وأنشدني له:
يؤرّقني في واسط كلَّ ليلةٍ ... وَساوِسُ همٍّ من نَوىً وفِراقِ
فيا للهوى هل راحمٌ لمُتَيَّمٍ ... يُعَلُّ بكأس للفراق دِهاقِ؟
خليليّ هل ما فات يُرجَى؟ وهل لنا ... على النَّأْي من بَعد الفراق تَلاقِ؟
فإن كنتُ أبدي سلوة عن هواكمُ ... فإنّ صَباباتي بكم لَبَواقِي
ألا، يا اتٍ على نـهر سالم ... سلِمتِ، ووقّاكِ التَّفُّرقَ واقِ
تعالَيْنَ نُبدي النَّوْحَ، كلٌّ بشَجْوه ... فإِنّ اكتتامَ الوَجْد غيرُ مُطاقِ
على أَنّ وَجْدي غيرُ وَجْدك في الهوى ... فدمعيَ مُهراقٌ، ودمعكِ راقي
وما كنت أدري، بعدَ ما كان بينَنا ... من الوصل، أَنّي للفراق مُلاقِ
فها أنتِ قد هيَّجْتِ لي حرق الجَوى ... وأبديتِ مكنون الهوى لوفاقي
وأسهرتِني بالنَّوْح، حتّى كأنّما ... سقاكِ بكاسات التَّفُّرق ساقِ
فلا تحسبي أَنّي نزّعت عن الهوى، ... وكيف نزوعي عنـه بَعد وَثاقي؟
ولكنَّني أخفيتُ ما بي من الهوى ... لِكَيْ لا يرى الواشونَ ما أنا لاقِ
ابن جيا الكاتب هو جمال الدولة، شرف الكتاب، محمد. من أهل الحلة السيفية ب العراق. ومسكنـه بغداد.
مجمعٌ ب العراق على بلاغته، مبدع للأعناق أطواق براعته. قد اتفق أهل العراق اليوم أنـه ليس له نظير في الترسل، وأن روضه نضير في الفضل صافي المنـهل. يستعان بـه في الإنشاء، ويستبان منـه أسلوب البلغاء. وهو صناعة عراقية في الكتابة، وصياغة بغدادية في الرسالة. ولعدم أهل هذه الصناعة هناك عدم مثله، وعظم محله. لكنـه تحت الحظ الناقص، مخصوص بحرفة ذوي الفضل والخصائص.
اشتغاله باستغلال ملكه، وانتهاج مسلك الخمول والانتظام في سلكه. يعمل مسودات لمسودي العمال، وينشئ بما يقترح عليه مكاتبات في سائر الأحوال.
وله مراسلات حسنة، ومبتكرات مستملحة مستحسنة. وله نظم بديع، وفهم في إدراك المعاني سريع.
وهو إلى حين كتبي هذا الجزء، سنة إحدى وسبعين وخمس مئة، ب بغداد مقيم، وخاطره صحيح وحظه سقيم.
ومن جملة شعره ما كتبه إلى سعد الدين المنشيء في أيام السلطان مسعود، بن محمد:
هنِّئت في اليوم المَطِيرِ ... بالرّاح والعيش النَّضيرِ
ومُنحت بالعزّ الَّذي ... يُعدي على صَرْف الدُّهورِ
فاشرَبْ كُؤوساً، كالنُّجو ... م، تُديرُها أيدي البدورِ
من كلّ أهيفَ، فاترِ ال ... أَلْحاظِ، كالظَّبي الغَرِيرِ
يحكي الظَّلامَ بشَعره ... والصُّبحَ بالوجه المُنيرِ
فانعَمْ به، متيقّنا ... إِحمادَ عاقبةِ الأمورِ
فكبيرُ عفوِ الرَّبّ، مَوْ ... قُوفٌ على الذَّنْب الكبيرِ
واسلَمْ على طول الزَّما ... ن لكلّ ذي أمل قصيرِ
تُفني زمانَك كلَّه ... بالعزم منك وبالسُّرورِ
ما بين حفظٍ للثُّغو ... رِ وبين رَشْفٍ للثُّغورِ
ول ابن جيا في مدح الأمير أبي الهيج، بن ورام، الكردي، الجاواني:
سرى مَوْهِناً طَيْفُ الخَيال المؤرِّقِ ... فهاج الهوى من مغرم القلب شَيِّقِ
تخطَّى إلينا من بعيد، وبينَنا ... مَهامِهُ مَوْماةٍ من الأرض سَمْلَقِ
يجوب خُدارِيّاً، كأنَّ نُجومَه ... ذُبالٌ، يُذَكَّى في زُجاج مُعَلَّقِ

أتى مضجعي، والرَّكبُ حولي كأنَّهم ... سُكارى، تساقَوْا من سُلاف مُعتَّقِ
فخيَّل لي طيفُ البخيلة أَنّها ... أَلَمَّتْ برَحْلِي في الظَّلام المروّق
فأرَّقَني إِلمْامُها بي، ولم يكن ... سِوى حُلُم من هائم القلب موثَقِ
أِسيرِ صبَاباتٍ، تعرَّقن لحمَه ... وأمسكن من أنفاسه بالمُخَنَّقِ
إذا ما شكا العشّاقُ وجداً مبِّرحاً ... فكلُّ الذي يشكونـه بعضُ ما لَقِي
على أنّه لولا الرَّجاءُ لِأَوْبَة ... تقرِّبُني من وصل سُعْداه ما بَقِي
نظرت، ولي إنسانُ عينٍ غزيرةٍ، ... متى يَمْرِها بَرْحُ الصبَّابة يَغْرَقِ،
إلى عَلَم من دار سُعْدَى، فشاقني، ... ومن يَرَ آثارَ الأحبّة يَشْتَقِ
فظَلْتُ كأنّي واقفاً عندَ رسمـها طَعينٌ بمذروب الشَّباة مُذَلَّقِ
وقد كنت من قبل التَّفَرُّق باكياً، ... لِعلمي بما لاقيت بعدَ التَّفرُّقِ
وهل نافعي، والبعدُ بيني وبينَها، ... إِجالةُ دمع المُقلة المترقرقِ؟
وأشعثَ، مثلِ السَّيف، قد مَنَّهُ السُّرَى ... وقطعُ الفيافي مُهْرَقاً بعدَ مُهْرَقِ،
من القوم، مغلوب، تَميل برأسه ... شُفافاتُ أَعجاز النُّعاس المرنِّقِ،
طَردت الكَرى عنـه بمدح أخي العُلَىأبي الهَيْج ذي المجد التَّلِيد المُعَرَّقِ
حُسام الجُيوش، عزّ دولة هاشم، ... حليف السَّماح والنَّدَى المتدفِّقِ
فتى مجدُه ينمي بـه خيرُ والد ... إلى شرف فوقَ السَّماء محلِّقِ
على وجهه نورُ الهدى، وبكفّه ... مفاتيحُ بابِ المبهم المتغلِّقِ
إذا انفرجت أبوابُه، خِلْت أنَّها ... تفرَّج عن وجه من البدر مُشرقِ
وإن ضاق أمر بالرِّجال، توجَّهَتْ ... عزائكه، فاستوسعت كلَّ ضيِّقِ
ترى مالَه نَهْبَ العُفاة، وعِرضَهُ ... يطاعن عنـه بالقَنا كلُّ فَيْلَقِ
جَمُوع لأشتات المحامد، كاسب ... لها أبداً من شمل مال مفرَّقِ
سعَى وهْوَ في حدّ الحَداثة، حدّه ... له في مساعي كلّ سعي مشقَّقِ
تلوح على أَعطافه سِمَةُ العلى ... كبرق الحَيا في عارض متألِقِ
من النَّفَر الغُرّ الأُلى عمَّتِ الورى ... صنائعُهم في كلّ غرب ومشرقِ
إذا فخَروا لم يفخَروا بأُشابةٍ ... ولا نسبٍ في صالحي القوم مُلْصَقِ
هم الْهامةُ العُلْيا. ومن يُجْرِ غيرَهُمْ ... إلى غاية في حَلْبَة المجد، يُسْبَقِ
إذا ما هضابُ المجد سدّ طلوعها ... ولم يَرْقَها من سائر النّاس مُرْتَقِ،
توقَّلَ عبد الله فيها، ولم يكن ... يزاحمـه فيها امْرُؤٌ غيرُ أحمقِ
صفا لك، يا ابنَ الحارثِ القَيْلِ، في العلى ... مَشاربُ وِردٍ صفوُها لم يُرَنَّقِ
متى رُمتُ في استغراق وصفك حَدَّه، ... أبى العجز إلا أن يقول ليَ: ارفُقِِ
فلست، وإِنْ أسهبتُ في القول، بالغاً ... مَداه بنَعْتٍ أو بتحريرِ منطقِ
إلا إنّ أثوابَ المكارم فيكُمُ ... بَواقٍ على أحسابكم لم تُخَرَّقِ
يجدّدُها إيمانكم، ويَزِيدُها ... بَقاكم، على تجديدها، فضلَ رَوْنَقِ
لك الخُلُقُ المحمودُ من غير كلفة، ... وما خُلُقُ الإنسانِ مثلَ التَّخَلُّقِ
إذا ما نَداك الغَمْرُ نابَ عن الحَيا ... غَنِينا بـه عن ساكب الغيث مُغْدِقِ

فما مدحُكم ممّا أُعاب بقوله ... إذا أفسد الأقوالَ بعضُ التَّمَلُّقِ
ولكنْ بقول الحقّ أغربت فيكُمُ، ... ومن يَتَوَخَّ الحَقَّ، بالحَقِّ ينطِقِ
فإِن نِلْتُ ما أمَّلْتُه من وَلائكمْ ... ومدحِكُمُ، يا ابنَ الكرام، فأَخْلِقِ
وما دونَ ما أبغي حجابٌ يصُدُّني ... برّدٍ ولا بابٍ عن الخير مُغْلَقِ
إذا أنا أحرزت المودَّةَ منكُمُ، ... فحسبي بها، إذْ كنتُ عينَ الموفَّقِ
سعيد بن مكي النيلي من أهل النيل.
كان مغالياً في التشيع، حالياً بالتورع، غالياً في المذهب، عالياً في الأدب، معلماً في المكتب، مقدماً في التعصب.
ثم أسن حتى جاوز الهرم، وذهب بصره وعاد وجوده شبيه العدم، وأناف على التسعين. وآخر عهدي بـه في درب صالح ب بغداد سنة اثنتين وستين وخمس مئة، ثم سمعت أنـه لحق بالأولين.
أنشدني له ابن أخته عمر الواسطي الصفار ب بغداد، قال: أنشدني خالي سعيد بن مكي لنفسه، من كلمة له:
ما بالُ مَغاني الحِمَى لشخصك أطلالْ؟ ... قد طال وقوفي بها، وبَثّي قد طالْ
الرَّبْع دثور، ودِمْنَتاه قِفار ... والرَّبْع مُحيل، بعد الأَوانس بطال
عفته دَبُور وشَمْأَل وجَنُوب ... مع مَرِّ مُلِّثٍ مُرخي العَزالِي مِحْلال
يا صاحِ قِفاً باللِّوى نسأل رسماً ... قد حالَ، لَعلَّ الرُّسوم تُنْبِي عن حالْ
مُذْ طارَ شجا بالفراق قلب حزين ... بالبَيْن، وأقصى بالبعد صاحبة الخال
ما شَفَّ فؤادي إلا نَعيب غُرابٍ ... بالبَيْن يُنادي، قد صار يضرِب بالفال
تمشي تتهادَى وقد ثَناها دَلّ ... من فَرْط حياها تخفي رنين الخَلخْال
وله من قصيدة، يذكر فيها أهل البيت عليهم السلام:
قمرٌ أقام قيامتي بقَوامـهِ ... لِم لا يجودُ لمُهْجَتي بِذمامـهِ
ملّكتُه قلبي، فأتلف مُهْجَتي ... بجمال بهجته وحسن قَوامـهِ
وبناظر غَنِجٍ وطَرْف أحور ... يُصمي القلوبَ، إذا رنا، بسِهامـهِ
وكأنَّ خطَّ عِذاره في حسنـه ... شمس تجلَّت وَهْيَ تحتَ لِثامـهِ
ويَكاد من ترف، لدقَّة خَصْره، ... ينقَدُّ عندَ قعودِه وقيامـهِ
وكأنَّه من خمرة ممزوجة ... بالرِّسْل عندَ رِضَاعِه وفِطامـهِ
ومنـها في مدح أهل البيت عليهم السلام:
دَعْ يا سعيدُ هواك، واستمسِكْ بمَنْ ... تسعَدْ بهم، وتراح من آثامـهِ
ب محمَّد، وب حَيْدَر، وب فاطمٍ ... وبوُلدهم عقدوا الولا بتمامـهِ
قومٌ، يُسَرُّ ولِيُّهم في بعثه، ... ويَعَضُّ ظالمُهم على إبهامـهِ
وترى وَلِيٌّ وَليِّهمْ، وكتابُه ... بيمينـه، والنُّورُ من قُدّامـهِ
يَسقيه من حوض النَّبِيّ محمّد ... كأساً بها يَشفي غَليلَ أُوامـهِ
بيدَيْ أمير المؤمنين، وحَسْبُ مَنْ ... يُسقَى بـه كأساً بكفّ إِمامـهِ
ذاك الَّذي لولاه ما اتَّضحت لنا ... سُبُلُ الهدى في غَوْره وشَآمِهِ
عَبَد الإِلهَ، وغيرُه من جهله ... ما زال معتكفاً على أَصنامـهِ
ما آصف يوماً، وشمعون الصَّفا ... مع يُوشَعٍ في العلم مثلَ غلامـهِ
من ها هنا دخل في المغالاة، وخرج عن المصافاة، فقبضنا اليد عن كتب الباقي، ووردنا القدح على الساقي. وما أحسن التوالي، وأقبح التغالي القائد أبو عبد الله محمد بن خليفة السنبسي سمعت أنـه كان من شعراء سيف الدولة، صدقة، بن منصور، بن دبيس، وكان يحسن إليه. فلما قتل صدقة، مدح دبيساً ولده، فلم يحسن إليه.
فوافى بغداد في الأيام المسترشدية، ومدح الوزير جلال الدين، أبا علي، بن صدقة، فأحسن إليه، وأجزل له العطاء.
ومات ب بغداد.

وكان مسبوك النقد، جيد الشعر، سديد البديهة، شديد العارضة. تتفق له أبيات نادرة، ما يوجد مثلها.
فمنـها، من قصيدة بيتان، وهما:
فرُحْنا، وقد رَوَّى السَّلامُ قلوبَنا ... ولم يَجْرِ مِنّا في خُروق المَسامعِ
ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بينَنا ... من السِّرّ لولا ضَجرةٌ في المدامعِ
وهذان البيتان البديعان، من كلمة له في سيف الدولة، صدقة، بن منصور، المزيدي، الأسدي، وأولها:
لِمَنْ طَلَلٌ بين النَّقا فالأَجارعِ ... مُحيِل، كسَحْق اليَمْنَة المُتَتايعِ؟
ومنـها:
وعهدي بـه والحَيُّ لم يتَحمَّلُوا ... أو انسَ غِيدٍ كالنُّجوم الطَّوالعِ
من اللاءِ لم يعرِفن، مُذْ كُنَّ صِبْيَةً ... مع الليل، فَتْلاً غيرَ فَتْل المَقانعِ
ومنـها:
نَبَذْت لهنَّ الصَّوتَ منّي، وقد جرى كَرَى النَّوْمِ ما بينَ الجُفون الهواجعِ
فأقبلن، يسحَبْنَ الذُّيولَ على الوَجَى، ... إِلَيَّ، كأمثال الهِجان النَّوازعِ
يُزَجِيّنَ مِكسالاً، يكادُ حديثُها ... يَزِلُّ بحِلْم الزّاهد المتواضعِ
مليحة ما تحتَ الثِيّاب، كأنَّها ... صَفيحةُ نَصْل في حَرِيرَة بائعِ
إذا خطَرت بين النِّساء، تأوَّدت ... برِدْف كدِعْص الأجرع المُتَتابعِ
فَأبْثَثْتُها شوقي وما كنت واجداً ... فراحت وسِرّي عندَها غيرُ شائعِ
ومَنْ يَنْسَ لا أنسَى عِشيّةَ بَيْنِنا ... ونحن عِجال بين غادٍ وراجعِ
وقد سلَّمت بالطَّرْف منـها، ولم يكن ... من النُّطق إِلاّ رَجْعُنا بالأصابعِ
وبعدها البيتان:
فرحُنْا، وقد رَوَّى السَّلام قلوبنا ... ولم يَجْرِ مِنّا في خُروق المسامعِ
ولم يعلَمِ الواشونَ ما كان بينَنا ... من السِّرّ لولا ضَجْرَةٌ في المدامعِ
انظر، هل ترى مثل هذين البيتين في القصيدة، بل في جمع شعره؟ وقوله: " لولا ضجرة في المدامع " ، ما سبق إليه. وهو في غاية الحسن واللطافة.
ومنـها:
فإنْ تَكُ بانَتْ بَيْنَ لا مُتَعَتِّبٍ ... فيرضَى، ولا ذو الوُدّ منـها بطامعِ،
فإِنّي لأَهْواها، وإِنْ حالَ دونَها ... سَوادُ رَغامٍ البَرْزَخ المتاوقعِ
وأُقسِم لولا سيفُ دولة هاشمٍ ... ونشري لِما أولاه بينَ المجامعِ،
لَقَرَّبُت رَحْلي عامداً فأتيتُها ... وإِن كان إِلمامي بها غيرَ نافعِ
ومنـها في المدح، وقد أحسن أيضاً:
إذا جئتَه، لم تلقَ من دون بابِه ... حجاباً، ولم تدخُلْ إليه بشافعِ
كماء الفُرات الجَمّ، أعرض وِردُه ... لكلّ أُناس، فَهْوَ سهلُ الشّرائعِ
إذا سار في أرض العدوّ، تباشرت ... بأرجائها غُبْرُ الضِّباع الخوامعِ
فتتبَعُه من كلّ فَجّ، فتهتدي ... طوائفها بالخافقات اللوامعِ
فيُرمِلُ نِسواناً، ويُيْتِمُ صِبْيَةً، ... ويجنُبُ في الأَغلال مَنْ لم يُطاوعِ
على أَنّه في السَّلْم عندَ سؤاله ... أَغَضُّ وأحيا من ذوات البَراقعِ
ومنـها:
فما نِيلُ مِصر، والفُراتُ، ونِيلُهُ ... ودَجْلَةُ في نَيْسانَ ذاتُ الرَّواضعِ،
تَرُدُّ لها الزّابانِ من كلّ مَنْطَفٍ ... ذَوائبَ أعناقِ السُّيُول الدَّوافعِ،
بأسرعَ من يُمْناه فضلَ أَناملٍوأجرى نَدىً من سيله المتعِ
إِليك ابنَ منصور تخطّت بنا الفَلا ... سفائنُ بَرٍّ غيرُ ذات بَضائعِ
سِوى الحمدِ. إِنَّ الحمدَ أبقى على الفتى ... من المال، والأموالُ مثلُ الودائعِ
وله من قصيدة في عميد الدولة، ابن جهير وزير الإمام المستظهر بالله، أولها:
أمَنازلَ الأحباب بينَ مَنازلِ ... فالرَّبْوَتَيْنِ إلى الشَّرَى من كافلِ
ومنـها:
ولقد جزِعت من الفراق وبَيْنِهِ ... جَزَعَ العليلِ من السَّقام القاتلِ

تتلو، وتتبَعُها، الحُداة، كأنّها ... قَزَعٌ تقطَّعَ من جَهامٍ حافلِ
فوقفت أنظُرها، وقد رُفِعت لنا، ... نظرَ الغريقِ إلى سواد السّاحلِ
وتعرَّضت، لِتَشُوقَنا، مَعنيَّة ... كالظَّبْي أفلت من شِراك الحابلِ
هيفاء . . ألْحَفَها الشَّباب رِداءَه ... كالغصن ذي الورقِ الرَّطيبِ المائلِ
تهتزُّ بين قلائد وخَلاخل ... وتَميس بين مَجاسد وغَلائلِ
وتقول: إنّ لقاءنا في قابلٍ، ... والنَّفسُ مولعة بحبّ العاجلِ
ومضت، فأضمرها البِعادُ، فلم تكن ... خُطُواتُها إِلا كَفْيءٍ زائلِ
ومنـها في المخلص:
يشكو معاندةَ الخطوبِ، ويرتجي ... عدلَ الزَّمانِ من الوزير العادلِ
وله من قصيدة في مـهذب الدولة، السعيد، بن أبي الجبر ملك البطيحة يطلب فيها شبارة:
خَلِّياني من شقوة الادلاجِ ... وأصْبَحانِي قبل اصطخابِ الدَّجاجِ
من كُمَيْت، ذابت، فلم يبقَ منـها ... غيرُ نُور مستوقَدٍ كالسِّراجِ
عتَّقتْها المَجُوس من عهد شِيثٍ ... بُرهةً بينَ مِخْدَعٍ وسِياجِ
فبدت من حِجالها، وَهْيَ تسمو ... كالمصابيح في بطون الزُّجاجِ
واقْتُلاها عنّي بمَزْج، فإِنّي ... لا أرى شُربَها بغير مِزاجِ
يتهادَى بها إِلَيَّ غَضيضُ ال ... طَّرْف ما بينَ خُرَّد كالنِّعاجِ
من بنات القصور، يَمشين رَهْواً ... بين وَشْي الحرير والدِّيباجِ
وذَراني من النُّهوض مع الرُّكْ ... بانِ والعَوْدِ بالقِلاص النَّواجي
ووقوفي على مَعاهدَ غُبْرٍ ... ليس فيها لِعائج من مَعاجِ
إِنَّما بِغْيَتِي مصاحبة الصَّهْ ... باءِ مَعْ كلِّ أبلجٍ فَرّاجِ
ومنـها في المخلص:
كامل في الصِّفات مثل كمال ال ... دِّينِ غَوْثِ الورى ولَيْثِ الهِياجِ
ومنـها:
أيُّها الخاطبُ الَّذي بعَث المَهْ ... رَ إلينا، والنَّقْدَ، قبلَ الزَّواجِ
قد زَفَفْنا إليك بِكراً لَقُوحاً ... غيرَ ما فارِكٍ، ولا مِخْداجِ
حُرَّةً، لم تلِدْ جَنيناً، ولم تَنْ ... مُ قديماً من نُطفة أَمشاجِ
غيرَ أَنّي إِخالُها، وَهْيَ حَمْلٌ، ... لَقِحَتْ من نَداك قبلَ النَّتاجِ
فاشْرِ منـها النِّكاحَ طِلْقاً، فإنّي ... بِعتُه منك بيعةَ المحتاجِ
بَسُبوحٍ دَهْماءَ، مُسْحنَةِ البط ... نِ، خَرُوجٍ من كَبَّة الأمواجِ
كالظَّلِيم المُغِّذِ، في الماء تبدو ... من لباس الظَّلْماء في دُوّاجِ
شَخْتَة القَدِّ، من خِفاف الشَّبابِي ... ر المَقاصير، أو طِوال الوراجي
الوراجي: جمع أرجية، وهي من سفن البطائح.
بارزات أضلاعها فَهْيَ كُثْرٌ ... مُدْمَجاتٌ في قوَّة واعوجاجِ
سيرُها دائباً على الظَّهر، لا يشْ ... كو قَراها من كدحة وانشجاجِ
يلتقي جَرْيَةَ الفُراتِ فيُردي ... سيرُها كلَّ مُقْرِب هِمْلاجِ
بلِسان مثلِ السِّنان طويلٍ ... طاعنٍ من حَشاه في الأَثباجِ
ورِقاقٍ عُقْفٍ، كأجنحة الطِّيْ ... ر إِذا رفرفتْ على الأَبراجِ
داجياتٍ، حُدْب الظُّهور، فإِنّي ... أبداً في هواك غير مُداجِ
فتراها تمُرُّ في الماء كالسَّهْ ... مِ إِذا قصَّرَتْ نِقالُ الرَّماجِ
ومنـها:
واغتنمْ فُرصة الزَّمان بنفعي ... فالليالي سريعة الاِنْدِراجِ
وَلْيَكُنْ ذاك عن قريب، فإِنّي ... كلَّ يوم في رجفة وانزعاجِ
وله في صفة الراح:
وكأسٍ كمثل فَتِيق الضِّرام ... تُميِت الهموم، وتُحيي السُّرورا

تُشَبُّ لِشَرْبٍ على مَرْقَب ... فتُعشي النَّديمَ، وتُغْشِي المديرا
إذا شابَها شاربٌ مُعْتِمٌ ... ظننت بيُمْناه نجماً منيرا
أنشدنيها ب البصرة زين الدين، ابن الأزرق.
وله يصف روضاً، من قصيدة، أولها:
يا راقداً، قد نفَى عن جَفْنـه الأَرَقا، ... قُمْ للصَّبُوح، فهذا الصُّبح قد طَفِقا
واشرَبْ على روضة، جازَ النَّسيمُ بها ... ليلاً، فأصبح من أَنفاسها عَبِقا
فما يَمُرّ، إذا ما مَرَّ مبتكِراً، ... إِلا وأَرَّج من أنفاسه الطُّرُقا
كأنّما نشَر العطّارُ عَيْبَتَهُ ... فيها سُحَيْراً مع الإِصباحِ إِذْ فُتِقا
كأنّما السُّحْبُ تَهْواها، فقد نظَمت ... من لؤلؤ الطَّلّ في أوراقها حَلَقا
ووكلت حولَها من نورها حرساً ... يظَلُ يرقُبُها، لا تَطْرِفُ الحَدَقا
صُفْرُ الحماليق، لا تنفكّ ناظرةً ... وليس تنطقُ إِنْ ذو ناظر نطَقا
كأنّما الكَرْمُ في أرجائها خِيَمٌ ... من سُنْدُس، ضُرِبت مسطورةً نَسَقا
تبدي لنا من حواشيها، إذا كشَطت ... هُوجُ العواصِف عن قُضبانـها الوَرَقا
مثل التَّنابيلِ من حام قد اتَّخَذُوا ... خوفاً من السَّبْي في أيديِهِمُ دَرَقا
وأنشدني أيضاً للسنبسي في صفة الخمر، وقد أحسن:
فكأنّها والكأسُ تحت سُلافِها ... شَرَرٌ، على نار، على حُرّاقِ
وكأنَّ أفواهَ الزُّجاج، وقد بدا ... منـها المُدامُ، مدامعُ العشّاقِ
ومنـها في صفة الإبريق:
جُليت علينا في مراكزِ محكَمٍ ... بغَلائلٍ مُلْسِ المُتُونِ رِقاق
أنشدنيها أبو المعالي الذهبي، رحمـه الله تعالى.
ومنـها، وهو أول الأبيات على الترتيب:
ولَرُبَّ ديرٍ، قد قصَدنا نحوَهُ ... في فِتْيَة، ناءٍ عن الأسواقِ
فطرَقْت بابَهُمُ، فقال كبيرهُمْ: ... أهلاً بزائرنا وبالطُّرّاقِ
ومضى بمغِوَلِه، فغاب هُنَيْهَةً ... في مُخْدَع ناءٍ وَرا أَغلاقِ
وأتى بها بِكراً، تخالُ حَبابَها ... فوقَ الدِّنان نواظرَ الأحداقِ
حمراءَ، تَخْضِب في الظَّلام إذا بدت ... في كفّ شاربها، يمينَ السّاقي
لم تُغْلَ في قِدر، فيَكْمَدَ لونُها، ... قبلَ انتهاكِ العصر، بالإِحراقِ
فكأنَها، والكأس تحتَ سُلافها ... شَرَرٌ، على نار، على حُرّاق
ومنـها في صفة الأباريق:
جُليت علينا في مراكز محكَم ... بغَلائلٍ مُلْسِ المُتون رِقاقِ
وكأنّ أفواه الزُّجاج، وقد بدا ... منـها المُدامُ، مدامعُ العشّاقِ
فكأنَّها بين الحضور حمائمٌ ... حُمرُ الصُّدور لوامع الأَطواقِ
قلت: اسْقِني منـها بكأسٍ قَرْقَفاً ... صهباءَ لاحقةَ الشّعاع، دِهاقِ
وخُذِ الَّذي نعطيك غيرَ مُماكسٍ ... يا عمُّ من ذهب ومن أَعْلاقِ
فأبى عَليَّ، وقال: كلاّ، والّذي ... أهوى عبادَه مع الخَلاّقِ
لا شَمَّ مَفْرِقَ رأسِهما ذو مَعْطِسٍ ... إلا بكَثرةِ رغبةٍ وصَداقِ
ومنـها في صفة الخمار، وسومـه:
فتعالت الأصوات فيما بينَنا ... حتّى أخَذْنا في مِرا وشِقاقِ
أدنو، فيبعد في الكلام بسَوْمِهِ ... عنّي، فما ألقاه عندَ وِفاقي
فكأنّما درَسَ الخِلافَ وحكمَهُ ... للشّافِعيّ على أبي إسحاقِ
وله في المديح:
فواللهِ ما حدَّثتُ نفسي بمدحة ... لذِي كرم، إلا خطَرت بباليا
ولا سِرْتُ في وجه، لأِسأل حاجة ... أُسَرُّ بها، إلا جعَلْتك فاليا
وإِنّي لَراجٍ أن أنالَ بك العلى ... وأبلُغَ من دهري ومنك الأمانيا
وأنشدت له في الخمر:

أقول لصاحب، نبَّهْتُ وَهْناً، ... ونومُ العين أكثرُه غِرارُ:
لَعلَّك أَنْ تعلِّلَنا بخمرٍ، ... فأيّامُ الشُّرور بها قِصارُ
فقامَ يذودُ باقي النَّوم عنـه، ... وفي أجفانِ مُقْلَتِه انكسارُ
وعاد بها، كماء التِّبْر، صِرفاً ... على أَرجائها زَبَدٌ صِغارُ
فلم أرَ قبلَ منظرِه لُجَيْناً ... رقيقَ السَّبْكِ، أخلصه النُّضارُ
فما أدري، وقد فكّرتُ فيها، ... أنارٌ في الزُّجاجة؟ أَمْ عُقارُ؟
لِكُلّهِما ضياءٌ واشتعالٌ ... تطايرَ عن جوانبه الشَّرار
سِوى أَنّي وجدت لها نسيماً ... كنَشْر الرَّوض، باكرَه القِطارُ
وله:
ولمّا تنادَى الحيُّ بالبَيْن غُدوةً، ... أقام فَريقٌ، واستقلَّ فَريقُ
تَلفَّتُّ إِثْرَ الظُّعْنِ حتّى جهِلته ... فإِنسانُ عيني بالدُّموع غريقُ
فيا مَنْ لِعَيْنٍ لا تَزالُ كأنَّما ... عليها غِشاء للدُّموع رقيقُ
إذا البَيْنُ أدماها بأيدي سِفاره ... تحدَّر منـها لؤلؤ وعَقيقُ
وله:
فَسِيحُ نواحي الصَّدر، ثَبْتٌ جَنانُه ... إذا الخيلُ من وقع الرِّماح اقشعرَّتِ
جميل المُحَيّا والفِعَال، كأنّما ... تمنَّتْه أُمُّ المجد لمّا تَمَنَّتِ
وأنشدني شيخنا عبد الرحيم بن الأخوة قال: أنشدني القائد أبو عبد الله، محمد، بن خليفة، السنبسي لنفسه:
وخمّارةٍ من بناتالمَجُسِ لا تطعَمُ النّومَ إلاّ غِرارا
طرَقْت على عجل، والنُّجو ... مُ في الجوّ معترضاتٌ حَيارَى
وقد برد الليل، فاستخرجت ... لنا في الظَّلام من الدَّنّ نارا
وله:
لم أنسَ، يومَ رحيلِ الحيّ، موقِفَنا ... ب ذي الأراك وذيلُ الدّمعِ مجرورُ
وقد لها كلُّ ذي حاجٍ بحاجته ... عنّا، فمُنْتَزِجٌ ناءٍ، ومنظورُ
كم قد عزَمت على تَركي محبَّتكم ... يا أُمَّ عَمْروٍ، فتأباه المقاديرُ
وله في النسيب:
يَعشي العُيونَ ضياءُ بهجتِها ... تحتَ الظَّلامِ، ودُونَها السِّتْرُ
وإذا تكلّمنا، ترى بَرَداً ... شَنَباً، تَرقرقُ فوقَه خمرُ
قَصُرتْ عن الأَبواع خطوتها ... عندَ القيامِ، فقَدْرُها فِترُ
وإذا مشت، مالت روادفُها ... بقَوامـها، وتململ الخَصْرُ
فجبينُها بدرٌ، ومَبْسِمُها ... فجرٌ، وحشوُ جُفونِها سحرُ
فكأنّما كُسيت تَرائبُها ... زَهَراً، تَوَقَّد بينَه جمرُ
قامت تودِّعُني، وما علِمت ... أَنَّ الوَداع لمِيتتي قَدْرُ
وأنشدني مجد الدولة، أبو غالب، عبد الواحد، بن الحصين قال: أنشدني والدي مسعود، بن عبد الواحد، رحمـه الله تعالى، للسنبسي من قصيدة في سيف الدولة، صدقة، أولها:
قم فاسقنيها على صوت النَّواعيرِ ... حمراءَ، تُشرق في ظلماءِ دَيْجُورِ
كانت سِراجَ أناسٍ، يهتدون بها ... في أوَّل الدَّهر قبلَ النّارِ والنُّورِ
فأصبحت، بعدَما أفنى ذُبالتَها ... مَرُّ النَّسيمِ وتَكرارُ الأعاصيرِ،
في الكأس تُرْعَدُ من ضُعف ومن كِبَر ... كأنَّها قَبَسٌ في كفّ مقرورِ
فالظِّلُّ منتشرٌ، والطَّلُّ منتثِرٌ ... ما بينَ آسٍ ورَيْحانٍ ومنثورِ
ونَرجِس خَضِل، تحكي نواظرُه ... أحداقَ تِبْر على أجفان كافورِ
ما بينَ نَيْلَوْفَرٍ، تحكي تَمائمـهُ ... زُرقَ الأَسِنَّة في لون وتقديرِ
مغرورق، كرُؤوس البطّ مُتْلِعَةً ... أعناقَها، وهُمُ مِيلُ المناقيرِ
كأنّما نَشْرُها في كلّ باكرةٍ ... مِسكٌ تضوَّعَ، أو ذِكرُ ابنِ منصورِ
أبو عبد الله أحمد بن عمار الحسيني الكوفي مجد الشرف.

كتب لي ولده شمس الشرف، عمار نسب والده، وهو: أبو عبد الله، أحمد، بن عمار، بن أحمد، بن عمار، بن المسلم، بن أبي محمد، بن أبي الحسن محمد، بن عبيد الله، بن علي، بن عبيد الله، بن علي، ابن عبيد الله، بن الحسين، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب - عليهم السلام.
وذكر: أنـه توفي ب بغداد سنة سبع وعشرين وخمس مئة، وعمره اثنتان وخمسون سنة.
علوي، نجم سعده في النظم علوي. وشريف شرى في سوق الأدب، فضله بكد النفس والنصب. شرفت همته، وظرفت شيمته، ولطف لنظم رقيق الشعر ذهنـه، ولم يملك في مضمار القريض رهنـه.
مجد الشرف، مجيد لإنشاء الطرف. موفي كافٍ، خاطره صافٍ، ولفظه شافٍ، وفضله غير خافٍ. في حظه قانع، وفي شعره صانع، ومن الخطأ في نظمـه مانع، فكأن كلامـه ثمر يانع.
كل شعره مجنس، لا كشعر غيره بالركة والعجمة مدنس. فهو بصنعته وقوة معناه مقدس، بنيانـه على الفضل د مؤسس.
ف ابن عمار، لمودات القلوب بانٍ ومعمار. نبتت في أفنان أدبه أثمار، وتطلعت من مشرق فضله لقصائده أقمار، وستنقضي - إلى أن يسمح الدهر بمثله - حقب وأعمار.
أغر، له الكلم الغر. حر، له النظم الحر، السهل الممتنع الحلو المر، كأنـه الياقوت والدر.
أنشدني الشيخ المؤدب المقرئ أبو إسحاق، إبراهيم، بن المبارك، البغدادي بها، في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمس مئة - وكان راوية الشعراء، يتوب عنـهم في الإنشاد بين يدي الكبراء - ل ابن عمار قصيدةً ألفيةً، أبياتها تشبه طلساً رومية. وكنت نظمت على روي الألف، وسمته أن ينشدها عني عند بعض ذوي الشرف، فتذكر ابن عمار وقال: ورد بغداد في الأيام المسترشدية، ومدح جلال الدين بن صدقة بتلك القصيدة المعنوية، ورويتها عنـه إنشاداً بحضرة الوزير: وهي:
خَلِّه، تُنْضِ ليلَهُ الأَنْضاءُ ... فعَساه يَشفي جَواه الخُوَاءُ
ويُبِيد البَيْداء والعِيسَ. إِنّي ... مُشفقٌ أَنْ تُبيدَه البَيْداءُ
فقد استنجدتْ حَياه رُبا نَجْ ... د، وشامت بُروقه شَيْماء
وثَنَت نحوَه الثَّنِيَّةُ قلباً ... قُلَّباً، تستخفُّهُ الأَهواءُ
عاطفاتٍ إليه أَعطافَها، شَوْ ... قاً، كما تَلْفِتُ الطُّلَى الأَطلاءُ
دِمَنٌ دامَ لي بها اللهوُ حِيناً ... وصَفا لي فيها الهوى والهواءُ
وأَسرْت السَّرّاءَ فيها بقلب ... أَسَرَتْه من بَعدِها الضَّراءُ
فسقت عهدَها العِهادُ، ورَوَّت ... منـه تلك النَّواديَ الأَنداءُ
وأَربَّتْ على الرُّبا من ثَراها ... ثَرَّةٌ، للرِّياض منـها ثَراءُ
يستجمُّ الجُمام منـها إذا ما ... نَزَح المُقْلَةَ البَكِيَّ البكاءُ
زمنٌ، كان لي عن الهَمّ هَمّ ... بالتَّصابي، وبالغَواني غَناءُ
ناضرٌ. كُلَّما تعطَّفتِ الأَع ... طافُ منـه، تثنَّتِ الأَثْناءُ
وإِذا هَزَّت الكَعابُ كِعابَ ال ... خَطِّ، سَلَّتْ ظُبَى السَّيوفِ الظِّباءُ
في رياض، راضت خِلالَ جَلالَ ال ... دِّينِ أرواحهنَّ والصَّهْباءُ
شِيَمٌ، شامَها النَّسيمُ، فرَقَّت ... وجَفَتْ عن سموّها الأسماءُ
شابَ بالعُرْف عَرْفَهُنَّ، وقِدْماً ... خامر الخمرَ في الزُّجاجة ماءُ
ملك، خاطبَ الخُطوب برمز ... خَطُبَتْ من شِياته الفصحاءُ
وأمالَ الآمالَ عن كلّ حَيّ ... بعدَ أَنْ لم يكن لحَيّ رجاءُ
أَلْمَعِيٌّ، لو شامَ لامعَ أمر ... لأَرَتْه غروبَه الآراءُ
مُعرض العِرض عن عتاب، إِذا لم ... يَرُعِ الأروعَ الهِجانَ الهِجاءُ
لك من وجهه وكفَّيْه ماءا ... نِ: فهذا حَياً، وهذا حَياءُ
روَّض الأرضَ والنَّدِيَّ نَداه ... واعتفته الأَحياءُ والأَحياءُ

بِيَدٍ، أيّدت من الدَّهر ما انآ ... دَ، وكانت له اليدُ البيضاءُ
ويَراع، راعَ الذَّوابلَ بأساً ... ورعى المجدَ حين قلَّ الرِّعاءُ
كلَّما صلَّ، صالَ منـه بِصّلٍ ... لا يُرَى للرُّقَى إليه ارتقاءُ
وإذا ماجَ ثُمَّ مَجَّ لُعاباً ... كان منـه الشِّفاءُ والاشقاءُ
فعليه للسّائلين صِلاتٌ ... وعليه للصّائلينَ صِلاءُ
قد أصابوا لَدَيْه صَوْباً وصاباً ... فيهما راحةٌ لهم وعناءُ
ورَّثَته هَدْيَ الجدودِ جدودٌ ... ورَّثَتها آباءَها الآباءُ
معشرٌ، عاشروا الزَّمانَ ووَلَّوْا ... وعليه رِيٌّ بهم ورُواءُ
لو يُجارونَ جاريَ الغيثِ في الجو ... د، لمَا ناوَأَتْهُمُ الأَنواءُ
أنت صُنت العِراق إِذْ عَرَقَتْهُ ... بيَدَيْها مُلِمَّةٌ دَهْياءُ
وأَمامَ الإِمامِ قِدْماً تقدَّمْ ... تَ وأقدمتَ حينَ حانَ اللِقاءُ
بجِنانٍ، ما حَلَّ جَنْبَيْ جَبانٍ، ... واعتزامٍ، للموت فيه اعتزاءُ
أعربت عنـه يَعْرُب و قُرَيْش ... واصطفته الملوكُ والخُلَفاءُ
باسطاً في ذرّا البسيطة جيشاً ... جاشَ منـه صدرُ الفَضاءِ الفَضاءُ
نقع الجوَّ من جَواه بنَقْع ... نافسته على السًّموّ السَّماءُ
لم يَرِمْ عاريَ العَراء إلى أن ... نُشِرت منـه في مَلاهُ المُلاءُ
كاد مَنْ كاده يَصُوب بِصَوْبٍ ... قَطْرُ أقطارِ دِيِمَتَيْه الدِّماءُ
يا أخا الجودِ والسَّماحِ، نِداءً ... فوقَ سَمْعِيهِ من نَداك نِداءُ
رائقاً، لا يُرِيقُ فيكم دمَ الأَمْ ... والِ، حتّى تحيا بـه العَليْاءُ
كلَّما هزَّه السَّماحُ، تثنَّى ... بين أثنائه عليه الثَّناءُ
مِن فتىً، فاتَ أقوم القوم بالقَوْ ... لِ، ودانت لفضله الفضلاءُ
حاز صَفْوَ الصّفات، فالعِلمُ منـه ... عَلَمٌ، والذَّكاء فيه ذُكاءُ
لكُمُ منـه ذِمَّة اللهِ. إِنَّ ال ... حمدَ والذَّمَّ من سِواه سَواءُ
مستقلٌّ للمال، لا يَجْتَدِيه ... إِنَّما همَّةُ العليِّ العَلاءُ
همّةٌ نالَها، الثُّرَيّا علوّاً ... واستوى عندَه الثَّرى والثَّراءُ
لم يَطُلْها طَوْلُ السَّحاب، ولا جا ... زَتْ بمجرى أفلاكِها الجَوْزاءُ
همَّةٌ، نازعت إليك، وفي ذا ... كَ دليلٌ بأنّها عَلْياءُ
عزَفَت عن بني الزَّمان، ورامَتْ ... ك، فهم داؤها، وأنت الدَّواءُ
كُلَّ يومٍ يؤُمُّها منك جودٌ ... أحقرُ الجودِ عندَه الإِجداءُ
أمطرَ العِزَّ ناشئاً ومَلِيئاً ... واستوى المالُ عنده والماءُ
تستميلُ الآمالُ عِطْفَيْه عَطْفاً ... ويهُزُّ الرَّجاءَ منـه الرَّجاءُ
أنا ذاك الدّاني البعيدُ مقاماً ... ومقالاً إِن أُفحِم الخُطَباءُ
لا أرى الشِّعرَ لي شِعاراً إذا ما ا ... أخَذّتْهُ دَأباً لها الأدباءُ
هو عندي نقصٌ وإن كان فضلاً ... وكثيرٌ من البحور الغُثاءُ
وإذا أحكم الرِّجالُ مقالاً ... حكمت لي بسبقه الحكماءُ
وقليلُ النَّوالِ عندي كثيرٌ ... وهِباتُ الدُّنيا لَدَيَّ هَباءُ
وإذا كنتَ أنت ذُخريَ للأي ... امِ، هانت في عينيَ الأشياءُ
وجدير أَنّي أنالُ بك المج ... دَ، فما للغنى لَدَيَّ غَناءُ

ويميناً ألا مددتُ يميناً ... ما دجا الليلُ، واستنار الضّياءُ
غيرَ أنّي أغارُ للمجد أنْ لا ... تُدرِكَ المالَ غارةٌ شَعْواءُ
وإذا القصدُ أخطأَ ابن عليّ ... فعلى الشّعر والعُفاةِ العَفاءُ
هذه القصيدة، من حقها أن تكتب بسويداء القلوب على بياض الأحداق، وقد أحدقت بها حدائق من التجنيس و التطبيق و الترصيع أحسن إحداق. ما يخلو بيت من تجنيس ومعنى نفيس، تخجل من نسجها صناع تونسة و تنيس. بكر مالها كفء فرضيت بالتعنيس. وعلى الحقيقة، لم أر كهذه الحديقة، ولم أسمع قبلها، في صنعتها مثلها، فهي غراء، عذراء حسناء، بل روضة غناء، أو غانية رعناء، خدرها الحياء. فلله درون جالب درها، وحالب درها وأنشدني الشريف أبو القاسم، علي، بن محمد، بن يحيى، بن عمر، الزيدي، الحسيني، الكوفي ب بغداد، في ديوان الوزير عون الدين، بن هبيرة، ثامن عشر صفر سنة ست وخمسين وخمس مئة، ل ابن عمار الكوفي:
وشادِنٍ، في الشّرب قد اُشرِبت ... وَجْنَتُه ما مَجَّ راوُوقُهُ
ما شُبِهّت يوماً أبارِيقُهُ ... بريِقه، إلا أبى رِيقُهُ
وقال لي الشريف الجليل: وله في عمك العزيز، رحمـه الله تعالى، قصيدة، منـها:
إذا هاجه الأعداء، أو هزَّه النَّدَى ... فأيُّ حَيا نادٍ، وحيَّة وادِ
وله في التجنيس، من قصيدة:
في جَحْفَل متعاضد متعاقد ... في قَسْطَل متراكب متراكمِ
ورأى العلى بلحاظ عاشٍ عاشقٍ ... ورمى العدا بشُوّاظ غاشٍ غاشمِ
وله:
يدٌ، لو تُباريها الرِّياحُ لغاية ... لَبَذَّ نسيمَ العاصفاتِ وَئيدُها
إذا ما غَوادي المُزنِ أخلف جَوْدُها ... وصوَّحَ نبتُ الأرضِ، أخلف جُودُها
ومنـها:
كتائبُ، لكنَّ الرَّزايا نِبالُها. ... كواكبُ، لكنّ العطايا سُعودُها
وله:
محمّد و دُبَيْس أوْرَيا لهما ... زَنْدَ المَنوُنِ، ونَقْعُ الليلِ معتكرُ
برأي هذا وغيبُ الخَطْب مشتبه ... وبأسِ ذاك وغاب الخَطِّ مشتجرُ
غدا عليهم وفي قلب الوَغَى غَرَرٌ ... وراح عنـهم وفي وجه العلى غُرَرُ
ولقيت ولده ب بغداد، في سنة تسع وخمسين وخمس مئة، وهو شمس الشرف، عمار، بن أحمد، بن عمار، وهو كهل، فروى لي عن والده ما سبق ذكره، وأنشدني ما نظمـه والده في مدح عمي العزيز، رحمـه الله تعالى، وكتبه لي بخطه:
إليك، فما خَطْبِي بهَيْن من الأَمْرِ ... وعنك، فما فتكي ببِدْع من الإِمْرِ
لَبِئْسَ الفتى مَن يردَعُ البؤسُ بأسَهُ ... وغَمْرُ الرِّجال مَنْ يبيت على غِمْرِ
ألست حصَبْتَ القلب يومَ مُحَصَّبٍ ... وأوطأته ب الجَمْرَتَيْنِ على الجمرِ
شنَنْت عليه ب الغُوَيْر إِغارةً ... سنَنْت بها سَبْيَ النُّفوسِ إلى الحشرِ
وثنَّيْت في يوم الثَّنِيِّ بنظرة ... ثَنَت حِلمـه لولا التَّمَسُّكُ بالصَّبْرِ
حوادث، تُسليني عن الهجر والنَّوَى ... وأبرحُ شيءٍ ما جنته يدُ الهجرِ
شكور على النُّعْمى، صبور على البَلا، ... ذلول على الحسنى، جموح على القسرِ
وعُدْنا إلى القُربى، وعُذْنا من القِلى، ... وعُجْنا عن العُتبى، ومِلْنا إلى العُذرِ
وما أنا بالسّالي الجَمُوحِ على الهوى ... ولا أنا بالغالي الطَّمُوحِ إلى الوِزْرِ
ومثليَ مَن هبَّتْ بـه أَرْيَحِيَّة ... إلى اللهو، لكنّي أَغارُ على الفخرِ
ولا أقتضي بردَ الرُّضاب، وإِنْ ورى ... شُواظَ الثَّنايا الغُرِّ في قلبيَ الغِرِّ
ولي في ظُبَيّات العَقِيق وحسنِها ... مآربُ أُخرى غيرُ نُكْدٍ ولا نُكْرِ
تذكّرني ألحاظُها وقُدودُها ... عِناقَ الصِّفاحِ البِيضِ والأَسَل السُّمْرِ
وتُلهمني ألفاظُها وعُقودها ... بنظم القوافي في معاليك والشّعرِ

إليك عزيزَ الدِّينِ قسراً تعَسَّفت ... بنا البِيدَ أَنْضاءٌ مِراحٌ على الضَّمْرِ
مردَّدة بين الجَدِيل و شَدْقَمٍ ... كرائم يبدي سرّها كرم النَّجْرِ
تطيرُ بأيدٍ، في الفضاء، خوافقٍ ... كما خفَقَت في الجوّ قادمِتا نَسْرِ
مَرَقْنَ بنا من أرض كُوفانَ بُدَّناً ... خِفافاً، تَبارَى في الأَزِمَّة والضَّفْرِ
ورُحْنَ عن الزَّوْراء زُوراً نَوافراً ... كما مَرَّتِ النَّكْباء بالبلد القَفْرِ
ونكَّبْنَ أعلام العِراق ضَوارباً ... بأخفافها ما بينَ شِجْنَةَ والقصرِ
تلاعب أيديها كَلالاً، كأنَّها ... كواسرُ طيرٍ، رائحات إلى وَكزِ
تَتَبَّعُ آثار المكارم، مثلَما ... تَتَبَّعُ رُوّادُ الحَيا أثَرَ القَطْرِ
إلى أن أنَخْناها بعَرْصَة ماجدٍ ... أخي يَقَظات، لا ينامُ على وِتْرِ
طليقِ الغنى والوجه والكفّ والنَّدَى ... رَحيبِ الحِمى والحِلم والباع والصَّدْرِ
وَصُولٍ قَطُوعٍ، باسمٍ باسرٍ، نَدٍ ... صَليبٍ، مُبيحٍ مانعٍ، سَهِلٍ وَعْرِ
رقيقِ حواشي الحِلم، يعدو على الغِنى ... إذا ما سألناه، ويُعدِي على الفَقرِ
بكيدٍ خفّيٍ، حُوَّلِ الرّأيِ قلَّبٍ ... يروح على سرّ، ويغدو على جهرِ
وخَطْبٍ كجري السَّيْل، نَهْنَهْت غَرْبَه ... بعزمي، وأسبابُ القضاء بـه تجري
دعوت له وُدَّ الأخِلاّء مرّةً ... وبأسَ الكُماة الصِّيد والعَدَد الدَّثْرِ
فلمّا أبى نصري الزَّمان وأهلُه ... دعوت، على رُغْم الزَّمانِ، أبا نصرِ
دعوت فتى، لم يُسْلمِ الدَّهْرَ جارَه ... ولا رمَقَ الأضيافَ بالنّظر الشَّزْرِ
ولا حكَمت في قلبه سَوْرَة الهوى ... ولا رنّحت من عِطْفه نشوة الكِبرِ
يروح ويغدو عند الجارُ آمناً ... وتُمسي خطوبُ الدَّهر منـه على ذُعْرِ
إذا انقبضت فوقَ اليَراعِ بَنانُه ... أرتك انبساطَ الجُودِ في سَعَة الوَفْرِ
بَنانٌ. إذا جالت على الطَّرس، خِلْتَها ... بُحوراً ومُزناً جُدْنَ بالدُّرّ والدَّرِّ
وما أنت إلا الشَّمسُ، تبسطُ نورَهانـهاراً، وتُلقيه ظلاماً على البدر
وكم ليَ في عَلْياك غُرَّة مدحة ... تَكَشَّفُ عن أوضاحها بُهَمُ الفكرِ
غرائب. لو يُلْقَى الظَّلامُ بذكرها، ... لأَغنت قوافيها عن الأنجم الزُّهْرِ
ولو فُصِّلت بالدُّرّ غُرُّ عقودِها ... وخُيِّرْت، لاخترت القَريض إلى الدُّرِ
ومثليَ من أهدى لمثلك مثلَها ... فإِنّي رأيتُ الحمد أنْفَسَ للذُّخْرِ
وأنشدني أيضاً لوالده، رحمـه الله تعالى، في عمي الصدر والشـهيد عزيز الدين رحمـه الله تعالى:
إِلامَ تَلَقّانا النَّوَى بعِنادِ؟ ... وترمي الليالي قُربنا بِبِعادِ؟
وحَتّامَ يَقضي البينُ فيَّ مرادَه ... وتمنَعُني الأيّامُ كلَّ مُرادِ؟
وما أشتكي إلا فراقَك، إِنَّه ... وَهَى جَلَدي عنـه وقلَّ جِلادي
ومثلُك مَن يَشْجَى الخليلُ ببَيْنِه ... وأكثرُ إخوانِ الزَّمان أعادي
وأنت الفتى كلُّ الفتى، لا مضيِّعٌ ... لعهد، ولا ناسٍ لحفظ وِدادِ
ولا شامخٌ إن زادك الدَّهرُ رتبةً ... ولا ضاربٌ دونَ النَّدَى بسِدادِ
كريمٌ وأخلاقُ الزَّمانِ لئيمةٌ ... رَوِيٌّ وأخلافُ الغَمامِ صوادي
وإن هاجك الأعداءُ، أو هزَّك النَّدَى ... فأيّ حَيا نادٍ، وحَيَّةِ وادِ
وأنشدني أيضاً لوالده، كتبها إلى عمي العزيز: عز الدين، أحمد، بن حامد يستهدي منـه فرساً، فنفذ له فرساً، يساوي خمسين ديناراً:

يا مَنْ ترى الغيب فينا أَلْمَعِيَّتُهُ ... فالبعدُ في وَهْمـه أدنى من الكَثَبِ
أما رأيت يدَ الدَّهْماء قاصرةً ... قد ناوشتْها فنالتها يدُ العَطَبِ
كأنّما يَدُها، عن رجلها خلَف، ... فكلَّما أقدمت، عادت على العَقِبِ
فما تَسير ببَرْحٍ غيرِ منقلِب ... فسيرُها راجع في كلّ منقَلَبِ
حتّى إذا هملجتْ بالقوم خيلُهُمُ ... عدلت عجزاً إلى التَّقريب والخَبَبِ
سارت بهم أنجم تنقضُّ مسرعةً ... وسار تحتيَ ليل العاشق الوَصبِ
فجُدْ بأشـهبَ، مثلِ النّجم مُتَّقداً ... أو أشقرٍ، كأُوار النّار، ملتهبِ
أو أحمرٍ، كارعٍ في ماء غُرَّته ... كأنَّ كُمْتَتَهُ الإحراقُ في الذَّهَبِ
يبدو فيَكسِفُ من أنوار شُهْبِهِمُ ... والشَّمسُ إِن طلَعت غطَّت على الشُّهُبِ
مُجَنَّسٍ، مُعْلَمِ الجَدَّيْنِ، مفترع ... عالي المَناسِب بين التُّرْك و العربِ
لا خالصٍ عربيٍّ في أَرُومَتِهِ ... ولا بليدٍ، لئيمِ النَّجْرِ، مُؤْتَشِبِ
قد أخلصته بنو ذُهْل، وهذَّبه ... أبناءُ ساسانَ، فاستولى على الأدبِ
تظَلُّ في حسنـه الأبصارُ حائرةً ... فليس ينفكّ من عُجْب ومن عَجبِ
يَزِين راكبه يوماً ومـهديه ... كالرّوض يُثني على الأَنواء والسُّحًبِ
هذا الجوادُ، الَّذي مَنَّ الجواد به، ... فافخَرْ بما شئت من مجد ومن حسبِ
وأنشدني لوالده أيضاً في مرثية الوزير السميرمي، وهو علي، بن أحمد، والاستطراد بمدح عمي العزيز، أحمد، بن حامد رحمـه الله تعالى:
لقد هدَّ ركن الأرض فَقْدُ ابن أحمدٍ ... وهيهاتَ ما خَلقٌ عليها بخالدِ
وما تُخْلف الأيّامُ مثلَ ابن أحمد ... على النّاس، إلا أن يكونَ ابن حامد
وهَبْنِيَ طال الدَّهرُ واعتضتُ غيرَه ... أليس من المعروف نشرُ المحامدِ
وأنشدني أيضاً لوالده، في التجنيس:
قالوا: نرى قوتة مصفَّرة، ... وما دَرَوْا ما بك يا قُوتَهْ
قد كنت بالأمس لنا دُرَّةً ... فصِرتِ فينا اليومَ ياقُوتَهْ
أنتِ حياةُ القلب، بل قُوتُه ... فكيف يسلو عنكِ يا قُوتَهْ
وأنشدني لوالده أيضاً:
ورُبَّ إِشارةٍ عُدَّت كلاماً ... وصوتٍ لا يُعَدّ من الكلامِ
وأنشدني له أيضاً:
لَئِن بسَطَ الزَّمانُ يَدَيْ لئيمٍ ... فصبراً للذَّي صنَعَ الزَّمانُ
فكم في الأرض من عبدٍ هَجِينٍ ... يقبِّل كفَّه حُرٌّ هِجانُ
وقد يعلو على الرّأس الذُّنابى ... كما يعلو على النّار الدُّخَانُ
وأنشدني لوالده أيضاً:
لَئِن غدوتُ مقيماً في رُبوعكمُ ... وقد دعتني رُبوعُ المجد والشَّرَفِ
فالماءُ في حجر، والتِّبْرُ في تُرُب، ... والبدرُ في سَدَف، والدُّرُّ في صَدَفِ
وله:
ولقد نظَرت إلى الزَّمان بمُقْلَة ... نظري إلى أهل الزَّمان قَذاتُها
وعجِبت من أكل الحوادث للورى ... وهمُ بنو الدُّنيا، وهُنَّ بناتُها
تنشو جُسومُهمُ بلحم أخيهِمُ ... مثل الرِّئال: غِذاؤها أخواتها
أبو العز نصر بن محمد بن مبادر النحوي النيلي ذكره السمعاني وقال: كان شيخاً فاضلاً، عارفاً بالنحو واللغة.
وأنشدني لنفسه على باب داره ب النيل:
هل الوَجدُ إلا أن ترى العين منزلا ... تحمَّملَ عنـه أهلُه فتبدَّلا؟
عَقَلْنا بـه غُزْرَ الدُّموعِ، وطالما ... عهِدناه للغِيد الأَوانس مُعْقِلا
إذا نحن أَلمْمَنْا له، انبعث الجَوى ... يحمّلنا داءً من الهمّ مُعْضِلا
أقول لمسلوب الجَلادة، لم يَقُلْ: ... خلا قلبُه من لاعج الشَّوْق، أولا:
أظُنّك لو أشرفت ب النِّيل مائلا ... على سُبُل، أضحى بها الدّمع مُسْبَلا

وآنست من آثار آل مُعَيَّة ... معاهدَ، كانت للمكارم منزلا،
لأَلْفيتَ ما بين الجوانح والحَشا ... فؤاداً، بأسباب الغرام موكَّلا
وغاديتَ يوماً بالكآبة أَيْوَماً، ... وساريتَ ليلاً بالصَّبابة أَلْيَلا
ألا أيُّها اللاحي على ما أُجِنُّه ... هل أنْتَ مُعيِرِي ناظراً متأمِّلا؟
أُريك محلاً، ما أحاطت رُبوعُه ... من القوم إلا مُفْضِلاً أو مُفَضَّلا
من الفاطميّين الَّذينَ وَلاؤهم ... عُراً لذوي التَّقْوى، نَجاءً ومَوْئِلا
إلى الحسن، بن المصطفى طوَّحَتْ بهم ... عُلىً، شرُفت من أن تقاس بها عُلَى
ابن الشريف الجليل أبو القاسم، علي، بن محمد، بن يحيى بن عمر، الزيدي، الحسيني، الكوفي.
شيخ طويل، شريف جليل، نبيه نبيل.
كأن نظمـه نسيم عليل، أو تسنيم وسلسبيل. أرق عبارةً من عبرة من أرقه الشوق، وأحسن حليةً من جيد ورقاء حلاها الطوق.
وفد على الديوان العزيز في صفر، سنة ست وخمسين وخمس مئة، يخاطب على ملك له قد انتزع، ورسمٍ له قد قطع.
وكنا نجتمع في دار المولى الوزير عون الدين بن هبيرة كل غدوة، وننتظر إذنـه للخواص في اللقاء، وجلوسه لأهل الفضل وأبناء الرجاء. فاستأنس الشريف بمحاورتي، استئناسي بمحاورته، وأتحفني من رقيق عبارته، بيتين له في عمي العزيز رحمـه الله، في نكبته. وهما:
بني حامد إن جارَ دهرٌ أو اعتدى ... عليكم، فكم للدّهر عندكمُ وِتْرُ
أجرتم عليه مَنْ أخافت صُروفُه ... فأصبح يستقضيكُمُ وله العذرُ
وذكر بعد ذلك أيادي عمي ونعماه، وما أولاه إليه وأسداه. ورق لفضلي وضياعه، وأشفق من اتضاعه، فذكرت له التفات الوزير إلي، وتحدثت بإنعامـه علي. لولاه ذل أهل الفضل، وعز أولو الجهل، فهو الناقد البصير، العارف الخبير. عاش الفضلاء في ذراه، فيا ضيعة ذوي الأدب وأولي الحسب لولاه. رمقهم بعين القبول فحفظ رمقهم، وإن كان مقامـهم - لولاه - ب العراق عرقهم، وخذل أهل الباطل بنصرة الحق وفرق فرقهم.
ولم يزل الشريف الجليل لي جليساً، يهدي إلي من أعلاقه نفيساً، إلى أن نجز توقيعاً بما توقعه، واستخلص ملكه ورجعه. فركب إلى الكوفة مطا التنوفة.
وعاد في سنة سبع وخمسين وخمس مئة إلى الوزير متظلماً، شاكياً متألماً، وأنشده - وأنا حاضر - قصيدةً مقتصدة في أسلوبها، مستجيراً بـه من الليالي وخطوبها، فيها بيتان جعلهما لتلك الكلمة مقطعاً، ما ألطفهما معاً وهما:
أجِرْني على الدَّهرِ فيما بقي ... بَقِيتَ. فما قد مضى، قد مضى
فلست أُبالي بسُخط الزَّمانِ ... وأنت تراني بعين الرِّضَى
فاهتز الوزير لها اهتزاز مثله، وأثنى على الشريف وفضله، ووعده بقضاء شغله. ووددت لو أن لي مكنةً، أو أملك على إجازته وإجارته منةَ، فأتقلد له منةً.
ثم أخذت القصيدة، فاخترت منـها هذه الأبيات:
أَمَا والقَنا شُرَّعاً، والظُّبَى ... تجور وقد حُكِّمت في الطُّلَى
وشُعثِ النَّواصي، إذا ما طلَعْنَ ... عوابسَ، قُلْتَ ذِئاب الفلا
وتقصُرُ عنـهنَّ هُوج الرِّياح ... إذا ما اصطخَبْنَ وطال المَدَى
عليها المَساعيرُ من هاشم ... تَخالُهم الأُسْدَ أُسْدَ الشَّرَى
لقد خصَّك الله بالمَأْثُرا ... تِ دُونَ البَرِيَّة لمّا برا
فأعطاك، وَهْوَ الجزيلُ العطا ... ءِ، لمّا رآك جزيلَ العطا
وقابلتَ إِحسانَه محسناً، ... فنِلْتَ المُنَى، وأنلتَ المُنَى
ومنـها:
وكفُّك في الجود فوقَ الغَمامِ ... وأرضُك في الفخر فوقَ السَّما
ومنـها:
أما والعُلَى قَسَماً صادقاً ... لقد أنجبتْ بك أُمُّ العلى
هُمَاماٌ، إذا صالَ صلَّ الحديدُ، ... وإن قال أسمعَ صُمَّ القَنا
ومنـها:
فتىً، يُرخصُ النَّفْسَ يومَ الهِياجِ ... ويَشري الثَّناءَ إذا ما غلا
أخو السَّيف والضّيف، من تَدْعُهُ ... ليومِ النِّزالِ ويومِ القِرَى

عظيمٌ، يهونُ عليه العظيمُ ... مُرَجّىً يصدقُ فيه الرَّجا
تقلَّد بالمجد قبلَ النِّجاد، ... وقبلَ بلوغِ الأَشُدِّ استوى
ومنـها:
أيا واهبَ الكُومِ تحتَ الرِّحا ... لِ، والمُقْرباتِ عليها الحِلَى
سَوامي النَّواظر، قُبّ البطون، ... قِصار المُتون، طِوال الخُطا
ومُعطي السَّوابغِ موضونةً ... تَرَقْرَقُ مثلَ مُتونِ الأَضا
إلى كلّ مجدولةٍ كالعِنا ... نِ، رَيّا الرَّوادفِ، ظَمْأَى الحَشا
تُرِيك القَضِيبَ إذا ما بدت ... تَميسُ دلالاً، وحِقْفَ النَّقا
ومنـها، في صفة القصيدة:
إذا ما تغنَّى رُواة الثَّناءِ ... بها، وسرى نَشْرُها في المَلا
تأَرَّجَ منـها رِداءُ النَّسِي ... م طيباً، ورقّت حواشي الصَّبا
وبعدهما البيتان اللذان سبق ذكرهما.
وأنشد له الشريف قطب الدين، بن الأقساسي ابن أخته، رحمـه الله تعالى:
حَبَتْهُ نِجادَ السَّيف قبلَ التَّمائمِ ... فشبَّ عميداً بالعلى والمكارمِ
ضَرُوباً إذا حادَ الدَّنِيُّ عن الرَّدَى ... رَكُوباً لأَثْباج الأمور العظائمِ
مُطِلاً على الأعداء، أكثرُ هَمِّه ... وُلُوجُ الثَّنايا واطِّلاعُ المَخارمِ
ومَنْ طلَب العلياءَ، كلَّفَ هَمَّهُ ... صدورَ العَوالي، أو شِفارَ الصَّوارمِ
وخاض الدًُّجَى، ما تَمَّ فيه سِنانُه، ... وقلقل أعناقَ المَطِّيِ الرَّواسمِ
إذا ما بناها النّيّ غِبَّ كَلالِها ... قصوراً، رماها من سُراه بهادِمِ
ومنـها:
من القوم، يَنْهَلُّ النَّدَى من أكُفّهم ... إذا بخِلت بالقَطْر غُزْرُ الغَمائم
وإن شمَّرُوا في ساحة الحرب، جَدَّعُوا ... بأسيافهم، رُعباً، أُنُوفَ المَظالمِ
فما جارُهم في يوم حرب بمُسْلَمٍ ... ولا مالُهم في يومِ سلَمْ بسالمِ
أُولئك قومي، طأطَؤُوا كلَّ شامخ ... إلى المجد، واعلَوْلَوْا على كلّ ناجمِ
إذا لبِسوا الزَّغْفَ الدِّلاصِ، حسِبتَهم ... أسودَ عَرِينٍ في جلودِ أَراقمِ
ومنـها:
وقوم رموني عن قِسِيّ ضَغائنٍ ... بأَسْهُمِ أحقادٍ وأَيْدٍ كَوالمِ
إذا ما رأوني، قطَّعوا اللحظَ، وانثنَوْا ... من الغيظ، فاعتاضُوا بعضّ الأباهِمِ
لهم عَلَمٌ يومَ النَّدَى غيرُ خافق ... وأَطلالُ مجدٍ دارساتُ المَعالمِ
وموقدُ نارٍ لا تُضيء لطارق، ... وبرقُ سَماحٍ لا يلوحُ لشائمِ
ولما أصلد زند رجائه، وأصلى جمر برحائه، وتبدد سلكه، ولم يعد ملكه، سافر إلى مصر، كأنما ساقه القدر بها إلى القبر. لكنـه عاش فيها مديدةً قفي ظل الكرامة، وانتقل إلى دار الخلد والبقاء والسلامة.
الشريف الجليل الكامل أبو نزار، عبد الله، بن محمد، بن يحيى، بن عمر، الزيدي، الحسيني الكوفي.
هو أخو الشريف أبي القاسم. وكان كاسمـه كاملاً، عالماً ، فاضلاً.
أنشدني الشريف قطب الدين، محمد، بن الأقساسي، العلوي، الكوفي ب بغداد، سنة سبع وخمسين وخمس مئة، ل الشريف الكامل، أبي نزار رحمـه الله، مما نظمـه عند كونـه ب الجبل في أيام السلطان مغيث الدين، محمود، بن محمد، بن ملك شاه، وهو:
وأرَّقَني بالدَّوْح نَوْحُ ةٍ ... مفجَّعَةٍ محزونةٍ، بهَدِيلِها
تذكّرني داراً ب هَمْدانِ ناعطٍ ... تَقِرُّ بعيني وقفةٌ بطُلولها
وقال رفيقي يومَ جُزْنا ب سَحْنَة ... وكان يرِجّي العَوْدَ عندَ وصولِها:
أما آنَ للرَّكْب المُغذِّيِن أَنْ تَنِي ... قَلائصُهم من نَصِهّا وذَميِلها؟
أرى الأَرضَ قد بُدِّلتُ ضَيْقاً بِفيحها ... وبالوعر من بَطْحائها وسُهولها
واللُكَناءِ الغُتْمِ من فصحائها ... وبالدُّلْبِ من رُمّانـها ونخيلها

وأنشدني أيضاً الشريف ابن الأقساسي ل الشريف أبي نزار:
قَوِّض خِيامى عن ديار الهُونِ ... فلست ممن يرتضي بالدُّونِ
واشدُدْ على ظهر الهَجِين رَحْلَه ... فقد شكاني غاربُ الهَجيِنِ
وقرِّبَنْ من الحِصان زُلْفَةً ... فالحُصْنُ أولى بي من الحُصونِ
فإِنْ أنا قصّرتُ عن شَأْو العلى ... فلا أقلَّتْ صارمي يمَيني
ولا أهَلَّتْ بالسُّعود أنجمُي ... ولا أهَلَّتْ بالسُّعود أنجمي
إِن لم أَنُطْ بالمأثُرات همَّتي ... حتَّى أَحِلَّ رتبةً تُرضيني،
فهمَّتي لا ترتضي لي بعلى ... لأنّها ترى المَعالي دُوني
أحكامَ دهري. ما أراك تُنْصِفي ... قدَّمْتِ غيري وتؤخّريني
أنكرتِ منّي ما عَرَفتِ منـهمُ ... ستعرِفيني حينَ تَسْبُرِيني
لانُوا، فنالُوا ما بَغَوْا بلينـهم، ... وكنت لا أرضَى على بلِينِ
إِنّي، وإِنْ هان الكِرامُ، باخلٌ ... بماءِ وجهٍ وافرٍ مصونِ
على تصاريفِ الليالي شَرِسٌ ... لم تَزُلِ النَّخْوَةُ من عِرنيني
إنّيَ من قوم، إذا ما ذُكروا ... خَرَّ جميعُ النّاس للجَبِينِ
يُسجَدُ للمولود منـهم هيبةً ... ويوضع التّاجُ على الجَنيِنِ
من دَوْحَة ميمونة، طاهرة ال ... أَعراق، تُؤتي الأُكْلَ كلَّ حينِ
محمّد جدّي. وقُربي في العلى ... من النَّبيّ المصطفى يَكفيني
وكان من ذي العرش، جَلَّ ذِكرُه، ... كقابِ قوسِ العَينِ، أو من دُونِ
والمرتضَى أبي. وحسبي عقلة ... موصولة بالأَنْزَع البَطِينِ
وأنشدني له أيضاً:
أُنظُرْ إلى الرَّشَأ الغَرِير وَقِدّهِ ... وسوادِ طُرَّتِه وحمرةِ خدّهِ
رَشأٌ، تكامل دَلُّه ودَلالُه، ... كالبدر أشرق طالعاً في سعدهِ
ألقَى الظّلام على الضّياء فزانـه ... والشيء يحسُنُ أَنْ يقاسَ بضدّهِ
لم أدرِ حينَ بدا، وبهجةُ خِدِّهِ ... تُوفِي على لهب المُدامِ وحَدّهِ،
هل خدُّهُ متجسّمٌ في كأسه؟ ... أم كأسُه متجسّمٌ في خدّهِ؟
لم يُبق من بُرْد الجمال بقيَّة ... للمكتسي فَضَلاتِه من بَعدِه
قال: وكان قد خرج يوماً إلى أراضي خفان للصيد، فأمسى وقد أوغل في البرية، فعدل إلى جانب ونزل، وأمر أصحابه فأوقدوا النار، وشووا لحم الصيد، ليأكلوه، فارتفعت نارهم لقوم من عرينة، فوافوها، فأضافهم، وسألهم عن مقصدهم، فذكروا أنـهم سفرٌ يمتارون، فحملهم معه إلى الكوفة، ورفدهم، وقال في ذلك:
ومُدْلجِينّ مَقاوي، لا دليلَ لهم ... إلى مكان القِرى شيءٌ سِوى ناري
باتت تُضيءُ، وباتُوا عامدينَ لها، ... وإِنّما رُفِعت للمُدْلِجِ السّاري
لمّا أناخُوا بها، وَلَّى سُغُوبُهُمُ ... وبُدِّلوا بعدَ إعسارٍ بإيسارِ
وأنشدني له أيضاً من قصيدته السينية السنية، التي هي في الذم على من هجاهم أمر من المنية، وفوت الأمنية، يعرض بسادات بني من الكوفة و الحلة. وهي في فنـها مطبوعة، باللطف مشفوعة، مطلعها:
نادى عقيلُ بأعلنِ الجَرْسِ: ... كم ذا يلينُ لِلامسٍ لَمْسِي
مَنْ ذا يُناكحني، فينكحُنِي؟ ... وَيْلاهُ من . . . ومن . . .؟
ومخلّصي من كلّ بائقة ... سَمْجِ الخلائق ناقصِ الحِسِّ
وله أَبٌّ. لو جاز بيعُ أَبٍ، ... لتركته في حُجرة النَّخْسِ
مَلآْنُ من أكل الحرام، فما ... للخير في ناديه من حسِّ
والشَّيخ عزّ الدِّين حجَّتُهُ ... ضاعت ضَياعَ الشَّمعِ في الشَّمسِ

قلَعَ الرَّواسيَ من عَشيرته ... حرصاً على التَّحويل والغرسِ
وفتى المُعَمَّرِ لا يجود لمَنْ ... يرجو نَدَى كفَّيْه بالفَلْسِ
يعني نقيب الطالبيين، والد النقيب الآن.
ولهِ خُوَانٌ، ما عليه من ال ... إِدامِ غيرُ الخَلِّ والدِّبْسِ
والشَّنْفقيّ، ثَكِلْت طلعته، ... في غاية الإِدبار والنَّحْسِ
هو النقيب العمري ب سوراء.
فكأنَّه، في لبس مِمْطَرِه ... والعِمَّةِ الصَّفراءِ كالوَرْسِ،
شيخُ الْمَثِيبة في اليهود، وما ... بين النَّصارى موضع القَسِّ
وفتى مُعَيَّةَ لو بَصُرتَ بـه ... لوجدتَه ذئباً من الطُّلْسِ
هو الشريف أبو منصور بن معية، وزير دبيس المزيدي.
هو في التَّذلُّل من سَلُولَ، وفي ال ... أَطماع والغارات من عَبْسِ
متفنِّنٌ في الخُبث منـه، فما ... كذَب الَّذي سمّاه بالنِّمْسِ
والأَنكدُ المشؤومُ طلعتُه ... أدهى من الضًّرَبان في الضّرِسِ
وأبو الحسين فكلُّه مَلَقٌ ... مَبْنَى عقيدتهِ بلا أُسِّ
هو جال الدين، بن عز الدين بن أبي نزار.
فكأنَّه دارٌ مجصَّصَةٌ، ... بيضاءُ، خاليةٌ من الإِنسِ
وأنشدني له في جارية، كانت تسكن في جوار الجامع، بديها:
نشَدْتُكِ يا جارةَ الجامعِ ... أهَلْ من قِرىً للفتى القانعِ؟
بعيشِكِ لا تَحْرِميهِ القِرى، ... فما دُونَ وصلكِ من مانعِ
وَعَدْتِ ثلاثاً فأخْلَفْتِها، ... وحاشاكِ من موعد رابعِ
يجوز الخلاف لرَبِّ الخلاف، ... فما العُذرُ للسّامع الطّائعِ؟
الشريف علم الدين بن الأقساسي من الكوفة.
أبو محمد، الحسن، بن علي، بن حمزة أبي الحسين، بن أبي يعلى محمد، بن أبي القاسم الحسن، بن كمال الشرف أبي الحسن محمد، بن الحسن بن محمد، بن علي، بن محمد، بن يحيى، بن الحسين، بن زيد، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب - عليهم السلام.
استكتبت هذا النسب من أخيه الأكبر قطب الدين، أبي يعلى، محمد، بن الأقساسي. وكانا قد وصلا، في سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، من الكوفة إلى ديوان الخلافة، يسألان إعادة الأملاك التي أخذت.
وسمعت ابن الأقساسي الأصغر، وهو كهل، ينشد الوزير عون الدين بن هبيرة، غير مرة، من قصائده التي نظم فيه.
وهو شاعر مجيد، حسن الأسلوب، متين النظم، سليم المغزى، قويم اللفظ والمعنى. ينطق شعره بحسبه، وشرف نسبه، وتعبر ألفاظه عن غزارة علمـه وكمال أدبه.
وللشريف أبي محمد، بن الأقساسي، العلوي، الكوفي يرثي الإمام المستنجد بالله، ويهنىء الإمام المستضيء بالله بالخلافة:
رُزءٌ، تعاظمَ عن حدّ وعن أَمَدِ ... كادت تزول له الأفلاك من زُؤُدِ
عمَّ الورى، فوَهَى حِلمُ الحليم به، ... وظلَّ مستضعَفاً عنـه أخو الجَلَدِ
ومارَتِ الأرضُ، إِعظاماً لموقعه، ... مَوْراً غدا راجفاً بالسَّهْل والجَلَدِ
وأضحت الشَّمسُ منـه وَهْيَ كاسفةٌ ... كأنّما طَرْفها مُغْضٍ على رمدِ
بيومِ أعظمِ خلقِ اللهِ منزلةً، ... وخيرِ منفردٍ، بالعزّ مُتَّحِدِ
من الرِّعان التّي لولا شوامخُها ... ما كان للأرض من صدف ولا وَتِدِ
القائمين بأمر الله، دَأْبُهُمُ ... حياطةُ الدّين، كالحاني على الولدِ
الآخذين من الأيّام ما احتكموا ... والنّائلي أَمَداً يُغنيك عن أَمَدِ
هم الأئمَّةُ، ما إنْ زال مدحُهمُ ... دَأْبي، وحبُّهمُ ديني ومعتَقَدي
آهاً لِداعي الرَّدَى، لو أَمَّ عَقْوَتَه ... في جَحْفَل حَرِجِ الأحشاء محتشدِ،
له وَجِيفٌ على الثَّرْيا، يُظَلِّلُها ... بمثلها من صَفِيق النَّقْع منعقدِ،
إِذَنْ لَلاَقى طِعاناً دُونَ بِغْيتِهِ ... مُواشِكاً، وضِراباً هاتِكَ الزَّرَدِ

وكلَّ ذِمْرٍ غَداةَ الرَّوْع تُعْظِمـه ... إذا تنكَّر للأقران عن أسد
يرى الحِمام حياةً في مُنازَلة ... بينَ الرِّقاق المَواضي والقَنا القِصَدِ
لكنّه القَدَرُ الحتمُ الَّذي خَنَعَت ... له الملوك أُولوا الأَعدادِ والعُدَدِ
فإِنْ تعاظمَ رُزْءاً يومُ مصرعهِ ... فقد أتانا من النُّعمى بأيّ غدِ
وما نقولُ، وقد قامت سعادتُه ... لنا عن الوالد المحمود بالوَلَدِ؟
المستضيء الَّذي قد قام معتمداً ... على إِبالته بالواحد الصَّمَدِ
هو الإمام الَّذي مَدَّت لبيعته ... قلوبُنا طاعةً من قبلِ مِدّ يَدِ
مؤَيَّدٌ، ملَكَ الأهواءَ، فَهْيَ له ... تسعَى إليه، إذا نادَى، على جَدَدِ
صحَّت عزائم أهل الأرض، واجتمعت ... على إِمامته في القُرب والبُعُدِ
فما يقوم له داعٍ على بلد ... إلا وقد سبقته طاعة البلدِ
وكيف لا تمِلكُ الدُّنيا، وأنت لها ... يا ابن الخلائفِ مثلُ الرُّوحِ في الجسدِ
فقُم بها، يا أميرَ المؤمنينَ، ونَلْ ... ما شئتَ، وابْقَ على الأيّامِ والأَبَدِ
وله فيه من قصيدة، يهنئه بالخلافة، ويطلب الشريف:
تبسَّمَ الدَّهرُ عن ثَغْر الرِّضَى جَذِلا ... طَلْقاً، وأهدى إلينا السُّول والأَمَلا
فقم لنفرحَ، وأعلم أَنَّ فرحتَنا ... ما قام يوماً بها أمرٌ ولا عَدَلا
وجاءنا بالأمَاني غَضَّةً جُدُداً ... بِيضاً، وجادَ بها من بعدِ أَنْ مَطَلا
وقام معتذراً ممّا أَلَمَّ بـه ... يُبدي حياءً، ويُخفي تارةً خَجَلا
وأقبل الجودُ والإحسانُ في طرب ... بادٍ، وقد نَبُها من بعدِ ما خَمَلا
واهتزّت الأرضُ، واخضرَّت هَوامدُها ... وأصبح الرَّوضُ فيها نابهاً خَضِلا
واستبشر المجدُ والعلياء، فابتهجا ... حُسناً، وقد حَلِيا من بعدِما عَطِلا
وحالَ لونُ الليالي فَهْيَ مشرقةٌ ... كأنَّما صِبغُها المعهود قد نَصَلا
وأقشع الظُّلمُ عنّا والظَّلامُ، كما ... وَلَّى جَهامٌ، حَدَتْه الرِّيحُ فانجفلا
ب المستضيء بأمر الله إِنّ بـه ... تُجلى الخطوب إذا ما ليلها اتَّصلا
الكاشف الكُرَب الجُلَّى وقد عظُمت ... والفاعل الفعلَ في الأيّام ما فُعِلا
خليفة، قيَّدَ الأَلحاظ يومَ بدا ... إلى مُنير، يضمّ البدر قد كمَلا
أي: قيد نوره الألحظا عن النظر إليه.
كأنّما قابل الرّاؤون غُرَّتَه ... شمساً، بدت طلعةً تستوقف المُقَلا
يَوَدُّ مَنْ غاب عن مرهوب موقفه ... لو أنّه بالثَّرَى من تُربه اكتحلا
ثَرىً، ترى بثُغور النّاس كلهِمُ ممّا تقبّله أفواهُهم بلَلا
مَدَّت إليه قلوب النّاس طاعتها ... قبلَ الأَكُفّ، ومَدَّتْها له نَفَلا
إلى يدٍ سَبْطَةٍ بالجود، مُنعِمةٍ ... تُعطي، فيخجَلُ منـها الغيثُ إن هطَلا
وما سمِعنا بغيث قبلَ نائلِه ... جادَ البلادَ، فأحيا السَّهلَ والجبلا
سيلٌ، طما، فوُجوهُ الأرضِ سائرُها ... قَرارةٌ، ما علا منـها وما سَفَلا
وكيف يَسْقِي حَيا الأمطارِ حيث سقى ... حَياه، أو يصِلُ المَغْنَى الَّذي وصَلا؟
أم كيف يُحسن وصلاً كل مقتدر ... له، وقد غمرَ الأقطارَ والمِلَلا؟
أدنى وإن كان لا أدنى نوافله ... يستغرقُ القولَ، أو يستنفدُ المَثَلا
قد بثَّ عدلاً وجوداً، يُوضحانِ لنا ... قصورَ مَن جادَ في الأزمان، أو عدَلا
نكاد نظلِمُ ما يأتيه من حسَن ... بقولنا: زاد عمّن كان، أو فضَلا
وأبلج من بني العبّاس أوسعَنا ... جوداً، زَوَى وصفُه التَّشبيبَ والغَزَلا

فكلَّما خطَرت في خاطر كِلفٍ ... حسناءُ، حايدَ عنـها الشِّعرَ، فانعزلا
وكلَّما جاوز المنطيقُ غايته ... في القول، أيقن بالتَّقصير، فانخزلا
معظَّم، جازت الأهواءُ دولتَه، ... وأوضحت، لاِنقيادِ الأنفُس، السُّبُلا
فالأرض تعنو ومَن فيها لطاعته ... وكلُّ جودٍ، يُلبّيه، وما حملا
لو استطاعت أقاصيها، إِذَنْ جمعت ... لوطئه خدَّها فخراً إذا انتعلا
يسنتشق التُّرْبَ ملذوذاً لعَقْوَتِه ... كأنَّما فُتَّ فيه المسكُ أو قُتِلا
إليك يا خيرَ مَنْ مُدَّت إِليه يَدٌ، ... يداً، لها شرف في مدّها وعُلَى
رأك باسطها الأَوْلَى بدعوته ... حقّاً، فلم يَأْلُ إِذْ ناداك أو سألا
قد جُدتَ بالمال من قبلِ السُّؤال بلا ... مَنٍ، فسنَّ عليه الفخر والحُلَلا
مَلابسٌ، تُبهجُ الدُّنيا، وسابغُها ... عليه يبقى جديدَ الفخرِ لا سَمَلا
تظَلّ تعلو على الأعناق، من شرف ... بها، ويسمو إليه الطَّرْف إِنْ رَفَلا
من الحِسان اللواتي لا يفوزُ بها ... إِلا الأفاضلُ، من جَدْواك، والنُّبَلا
ودُمْ، نـهنّيك بالنًّعمى التّي سبغت ... على الورى، وتَلَقَّ العيشَ مقتبلا
فأنت للأرض ممَّنْ فاتَها بدلٌ، ... فلا رأتْ منك يا خيرَ الورى بدلا
وله مما أنشدني أخوه الشريف قطب الدين، أبو يعلى، بن الأقساسي رحمـهما الله تعالى:
جاد الزمان، فلولا ما ابتدأتَ بـه ... كنّا حِسبنا الَّذي جاؤوا هو الكرمُ
حتّى أتيتَ بمعنى غيرِ مُنْتَحَلٍ ... في الجود، لم يأتهِ عُربٌ ولا عجَمُ
لولا اقتفاؤك فيما جئتَ من كرم ... لمَا علِمنا المعاني كيف تنتظم
ابن الناقة الكوفي أبو العباس، أحمد، بن يحيى، بن أحمد، بن زيد، بن الناقة. من أصحاب الحديث العالي. من أهل الكوفة. عاش من بعد سنة خمسين وخمس مئة.
وله شعر، قرأته من تاريخ السمعاني بخطه، قال: أنشدنا لنفسه ب الكوفة:
إِذا ما انتسبت إلى دِرْهَم ... فأنت المعظَّمُ بينَ الورى
وإِمّا فخَرتْ على معشرفبالمال إِن وهو علم العلم وعلامة الدهر، وذكاء الذكاء وذكي النشر. كنا نظمأ إلى سماع نظمـه، ونؤثر تيمم مشرعه من يمـه، إلى أن سمعنا مجد العرب، العامري يقول لقيته ب الأنبار في عنفوان شبابي، ولا يمكن أن يلحق أحد بطبقته. وأنشد لنفسه
أظما، وغُدرانُ المَواردِ جَمَّةٌ ... حولي، وأسغَبُ، والمطاعمُ دوُني
وأعافُ أدوانَ الرِّجالِ، فإِنّه ... لا يرتضي بالدُّون غيرُ الدُّونِ
لا الفقرُ يَخفِضُ من تسامي ناظري ... فيَغُضُّ منـه، ولا الغِنَى يُطغيني
هذا البيت، أنشدنيه ب بغداد الرئيس أبو الفتح، نصر الله، ابن أبي الفضل، بن الخازن.
وأنشدني الأديب مفلح، بن علي، وذكر أنـه مطلع هذه القصيدة:
وهواكِ حِلفةَ مغرمٍ مفتونِ ... وجفاك أصدق حالف ويمينِ
َلأُكَلِفَنَّ الوجدَ نقضَ جوانحي ... وأُكَلِّفَنَّ الدَّمعَ نفضَ جُفوني
ول أبي سعيد، أحمد، بن واثق، الأنباري، وقد أبدع فيهما:
شكَرَتْك عنّي كلُّ قافية ... تختالُ بينَ المدحِ والغَزَلِ
فلقد ملأتَ بكلّ عارفة ... كفَّ الرِّجاءِ وناظرَ الأمَلِ
وله:
إِما ترى غَرْبي سِجالاً في الصِّبا ... فِرشاؤها بيد العقاب متينُ
ولقد أُفلُّ الخَطْبَ وَهْوَ مُصَمِّم ... وأُلِينَ عِطفَ الدَّهرِ وَهْوَ حَرُونُ
بمُسَلَّطِ السَّطَوات، حيثُ دعوته ... خفَّتْ بـه العَزَماتُ وَهْوَ حَرُونُ
عرَّفْتَني عِزَّ الغِنى، فكأنَّني ... لم أدرِ ذُلَّ الفقر كيف يكونُ
وله:
وقد زعَمُوا أَنّي وعدت بزَوْرة ... من الطَّيْف تأتي والصَّباحَ على قَدْرِ

فقلت لهم: ما ذاك إلا بأَنْ نمى ... إلى علم لَيْلَى أَنَّ لَيْلِي بلا فجرِ
وله:
في كلّ مضطَرَب، للمرء مكتَسَبٌ ... وللمطالب بابٌ غيرُ مسدودِ
ومنـها:
جاورتُه، فازدريتُ الليثَ ممتنعاً ... ببأسه، وذمَمْتُ الغيثَ في الجودِ
خلائقٌ منـه، ما تنفكُّ طيّبةً، ... إِنَّ الخلائقَ عُنوانُ المواليدِ
وأنشدني الرئيس أبو القاسم، عبد الله، بن علي، بن ياسر، الأنباري قال: أنشدني ابن واثق لنفسه:
يُهدي الكَرى لعيون النّاس ليلُهمُ ... والليلُ يَنْفي الكَرى عنّي ويطرُدُهُ
إذا سُهادُ جُفوني باتَ يَبْعَثُه ... إلَيَّ ليلي، فقل لي كيف أرقُدُهُ؟
وأنشدني له:
لو كان غيرُ رُضابِه خمري ... يا عاذِلي لصحوتُ من سُكري
أبو طاهر بن أبي الصقر الأنباري من الطبقة الأولى في العصر: شيخ من أصحاب الحديث. روى عنـه الحافظ أبو الفضل، بن ناصر. ومات سنة ست وسبعين وأربع مئة.
وله:
نفسُ، كوني ذات خوفٍ ... واتِّقاءٍ واجتناب
لا تظُنّي النّاسَ ناساً ... أَيُّ أُسْدٍ في الثَّيابِ
أبو نصر مواهب بن يحيى بن المقلد الربعي الهيتي فاضل فقيه، نبيل نبيه، معروف وجيه.
ذكره السمعاني في تاريخه، وقال: كتب عنـه رفيقنا أبو القاسم الدمشقي أبياتاً من شعره وقت انحداره إلى بغداد، ورواها لنا، وهي:
إذا ما هبَّ هِيتَ النَّسِيمُ ... تذكَّر مغرم بكمُ يَهيمُ
وإنْ برقٌ تألَّق من ذَراها ... تجدَّد عندَه العهدُ القديمُ
على مَنْ ب الفُرات أقام، منّي ... سلامٌ، ما تلألأت النُّجومُ
وما فارقتُها لِقِلىّ، ولكنْ ... تأَوَّبَني بها الزَّمنُ الغَشُومُ
ولم أطلُب بها عِوَضاً، ولكنْ ... إذا عُدِم الكَلا رُعِي الهَشيِمُ
سقى الله الفُراتَ وساكنيه ... وطيبَ ثَراه وَبْلاً لا يَرِيمُ
وحيّا حَيَّ بِسطامِ بْنِ قَيس ... ففي أبياته قلبي مقيمُ
أَحِنُّ إلى التّي أَصْمَت فؤادي ... فأَصبحَ والغرامُ له غَرِيمُ
رمتني من لواحظها بسهم ... أُصيبَ بـه من لقلب الصَّميمُ
فما أنا، ما حَيِيتُ، لها بسالٍ ... ولا في التُّرْب إذْ عظمي رَميمُ
الأديب أبو الفرج محمد بن الحسين بن خليل الهيتي لقيته بباب دكان أبي المعالي الكتبي، في سنة خمسين وخمس مئة، وكان كهلاً، للثناء أهلاً. وذكر أنـه أكثر من خمسة وعشرين ألف بيت، وأنـه صنف مقاماتٍ. واستنبطته، فوجدت فيه أدباً وفضلا، وأنشدني مما نظمـه أبياتاً، ومما نثره فصلا.
أنشدني لنفسه من قصيدة:
أمُغْرىً بالمَلال، دَعِ المًلالا ... فمَنْ يُدِمِ السُّرَى يَجِدِ الكَلالا
وإن تَكُ غيرَ مَنّانٍ بوصل ... فزُرْ بخَيالك الدَّنِفَ الخَيالا
وله:
وحُرِمْتُ طِيبَ العيش يومَ سرت بهم ... خيلُ الصُّدورِ بنِيَّة الهجرِ
ولبِست ثوبَ تجلُّدي زمناً ... خوفَ الوُشاةِ، فخانني صبري
وله:
يا راقداً أَسهرَ لي مُقلةً ... عزيزةً عندي وأبكاها
ما آنَ للهِجْرانِ أن ينقضي ... من مُهجةٍ هجرُك أضناها
إِن كنت لا ترحَمُني، فارتقبْ ... ،يا قاتلي، في قتليَ، الله
وله:
إِذَنْ عَوِّضِي حُسنَ الثَّناء وأَجْمِلي ... فذاك لَعَمْرِي فُرصةُ المتعوّضِ
وجُودي بموجود، فإنَّ قُصَارَهُ ... إلى اَجَل يُفضي إليَّ وينقضي
أبو الخير المبارك بن نصر بن مسافر الحديثي أورده السمعاني في تاريخه، وقال: شيخ من أهل الحديثة. له معرفة بالأدب واللغة. ويقول الشعر. ورد علينا بغداد، وأنشدني لنفسه من قصيدة:
أنارَ نـهارُ الشَّيب ليلَ شبابي ... وطيَّرَ بازيُّ المشيبِ غُرابي
وزايَلَني شَرْخُ الشَّباب وطِيبُه، ... وطاوعتُ عُذّال، وقلَّ عتابي

ومنـها:
فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ بغادة ... منعَّمةٍ، غَرْثَى الوِشاحِ، كَعابِ
أَناةٍ، يُضيءُ البيتَ لألاءُ وجهِها ... ولو سترت من دونـه بنِقابِ
لها جِيدُ أَدْماءِ المُقَبَّلِ مُغْزِلٍ ... ووجهٌ كبدر التَّمِّ غيرُ مَعابِ
فيا لكَ لهواً في عَفاف لَهَوْتُه ... ولم تُدنس الفحشاءُ طِيبَ ثيابي
ويا رُبَّ خَرْقٍ قد قطَعْتُ نِياطَه ... بوَغْلٍ جِيادٍ أو بِنَصِّ رِكابِ
وما شِبْت من عمر طويل، فهذه ... سِنِيَّ، وهذا إن شككتَ حسابي
ولكنْ رماني الدَّهرُ منـه بأَسْهُم ... شقَقْنَ فؤادي قبل شَقِّ إِهابي
فقلتُ، وقد أَصْمَيْنَ رَشْقاً مَقاتلي: ... أَهذاك دابُ النّائباتِ ودابي؟
قال: وتوفي في شعبان سنة ثلاثين وخمس مئة، بعد أن كتبت عنـه الأبيات بيسير.
ابن زكرويه الأنباري هو الحسن، بن محمد، بن زكرويه. من شعراء الأيام المقتدية.
قرأت في ذيل التاريخ ل ابن الهمذاني، في حوادث سنة ثمانين وأربع مئة، ل ابن زكرويه، الأنباري، يمدح نظام الملك، ويهنئه عند عوده في السنة المذكورة من زيارة المشـهدين ب الكوفة و الحائر على ساكنيهما السلام، قصيدة، منـها:
زُرتَ المَشاهدَ زورةً مشـهورةً ... أرضت مَضاجعَ مَنْ بها مدفونُ
فكأنّك الغيثُ استمدَّ بتُرْبها ... وكأنّها بك روضةٌ ومَعِينُ
فازت قِداحُك بالثَّواب، وأنجحت ... ولك الإِلهُ على النَّجاح ضَمينُ
وله في هذه السنة، وقد خلع الإمام المقتدي على السلطان ملك شاه، وتوجه للإمامة:
هنيئاً للإمامة ما أرتنا ... من الآيات في السُّوَر الفِصاحِ
وحسبُ جلالِ دولِتها جلالاً ... وشائحُ هذه الرُّتَبِ الفِساحِ
لقد توَّجْتَ مَفْرِقه بتاج ... يُقيم على الزَّمان بلا بَراحِ
فحلَّ نـهايةَ الشَّرَف المُعَلَّى ... ومازجَ صفوةَ الفخر الصُّراحِ
وقرأت في مجموع شعراء عميد الدولة، أبي منصور، محمد، بن محمد، بن جهير فيه، ويهنئه بالعود إلى الوزارة:
أبى الله إلا أن يُعِينَ بك الهدى ... وإنْ رُغم الحُسّادُ أو كرِه العِدا
سعدت، عميدَ الدَّوْلَتينِ، بأَوبة ... إلى رتبة، مَدَّتْ إلى يدك اليدا
ولو لم تكن موعودةً بك، غالَها ال ... لإِراقُ، وأبلاخا الحنينُ وأكمدا
فدُونَكَها مسرورةً بك، أقبلت ... تَهادَى جلالاً لا يُبارَى وسوددا
وها هيَ قد ألقتْ مَقاليدَ أمرِها ... إلى أمرك الأعلى، هَوىً وتَوَدُّدا
وكم كُلِّفتْ عنك السُّلُوَّ، فزادها اشْ ... تِياقاً، وأذكى وجدَها فتوَقَّدا
ومنـها:
ولمّا تبدَّت همّة تَغْلِبِيَّة، ... وعزم أقام الحادثات وأقعدا،
تشوّفتِ الأخبار عنك، مَشُوقةً ... إليك اشتياقَ الرَّوْضِ حَنَّ إلى النَّدَى
ومادت ب زَوْراء العِراقِ مَخاوِفٌ ... إذا ما رآها الثّابتُ الجَأْشِ عَرَّدا
فلو لم تَصِلْها عائداً، لم تَجِدْ بها ... سريعاً إلى الدّاعي ولا متأيّدا
قدِمتَ عليها، مستهّلاً بنائل ... نفى بنَدِاه جَدْبَها المتوقّدا
أبو الحسن علي بن جد الهيتي رحمـه الله.
له في مدح الإمام المستضيء بأمر الله، ويصف هيت، ويشكو أهلها، ويذمـهم:
مَنازلُ هِيتٍ لا يوافقُها العدلُ ... إذا عدَل السُّلطانُ، جار بها الأهلُ
وما هيَ إلا بلدةٌ جاهليّة ... أَمَرَّت على مَرّ الزَّمانِ فما تحلو
تجمَّع أهلوها على الخُلْف والجَفا ... وبينَهما أخذُ الحرائبِ والقتلُ
قلوبُهمُ من جَنْدَلٍ وصفائحٍ ... خُلِقن، وما في العالمين لهم شَكْلُ
وأَيمانُهمْ غدرٌ إذا حلفوا بها، ... وقولُهمُ نُكْرٌ، ووعدُهُمُ مَطْلُ

وإِن عُوتبوا فالعتبُ فيهم مضيَّعٌ ... وإِن عُذِلوا يوماً فما ينفَعُ العَذْلُ
أرى شيمتي تأبى بلادي وأهلَها ... فيا ليتَ أَنّا لم يكن بينَنا وصلُ
وأُقسِمُ لولا بِنتُ عمٍّ شفيقةٌ ... إذا غِبتْ عنـها، نالها منـهم ثِقْلُ،
لأَبْعدتُ أسفاري، وفارقتُ منزلي، ... ولم يَثْنِني كَرْمٌ بأرضي ولا نخلُ
وخُذْ بيميني، إِنّنا شَرُّ جَِبْلَةٍ ... وما إِنْ لنا دِينٌ يَزينُ ولا عقلُ
خُلِقنا بلا حِلم، ولا علمَ عندَنا، ... وإِنّا أناسٌ قد أضَرَّ بنا الجهلُ
ولولا أميرُ المؤمنينَ وحلمُهُ ... لَحَلَّ بنا من قبحِ أفعالِنا نكْلُ
ولكنّه عمَّ البَرايا بعدله ... فأمسى له في كلّ مَكْرُمَة فعلُ
وأحيا بـه الأرضَ المَواتَ، وقد غدا ... لكلّ أَخي عُدو بأرجائها أُكْلُ
وإنَّ الإِمامَ المستضيءَ فتى العلى ... هو الرُّكنُ للإسلام والفرعُ والأصلُ
إِمامٌ، بـه دَسْتُ الخِلافة مُشرقٌ ... أضاءت بـه الآفاقُ والمُدْنُ والسُّبْلُ
مطيعٌ لأمر الله في الجهر والخَفا ... سميعٌ إذا ناداه عانٍ بـه كَبْلُ
تواضع للرَّحْمن خوفاً وخَشيةً ... وتابعَ ما قال النَّبِيُّونَ من قبلُ
حمى حَوْزَة الإسلامِ من كلّ ظالم ... فلا ناصرٌ يُجْبَى بأرض ولا جَفْلُ
هو العَلَمُ الفردُ الَّذي يُقْتَدى بـه ... إذا اختلف الأقوامُ في الأمر أو ضَلُّوا
وقد سار فينا سِيرةً عُمَرِيَّةً ... فأربى على كِسرى، فسيرتُه عدلُ
وفاق على كلّ البَرِيَّة فعلُه ... فليس له فيهم نظيرٌ ولا مِثلُ
جَبَرْتَ البَرايا يا ابنَ عمِّ محمَّد ... وسِرت بإِنصاف كما سارت الرُّسْلُ
وكنتَ على الإسلام وجهاً مُبارَكاً ... وأضحى بأرضٍ أنت مالكها الوَبْلُ
الرئيس أبو علي يحيى بن محمد بن الشاطر الأنباري أنباريٌّ: أنبأ رائيه، أنـه عز في زمانـه من يباريه. إن باراه سحبان، قال: سبحان باريه.
مقصد مقصده سليم، ومنـهجه قويم. مقطع كأنـه مقطع ديوان المعاني، بل ناظم لعقود هي قلائد المعالي لا الغواني.
أسلوبه مطلوب، بالأرواح مسلوب. ومذهبه محبوب، بالقلوب منـهوب. معناه شائق، ولفظه رائق، ونظمـه فائق، ولفظه بالمعنى لائق.
أنشدني الرئيس أبو القاسم، عبد الله، بن علي، بن أبي ياسر، الأنباري، في الديوان العزيز - مجده الله - ب بغداد، في شـهور سنة سبع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني ابن الشاطر لنفسه، وهي كلمة خالية من النقط غير معجمة، مطرزة بالحكم حالية معلمة، سلمت من التكلف، وخلصت من التعسف، لا يتفق لأحد مثلها في فنـها، وسلامتها وحسنـها. وهي:
صارِمْ ملولاً كَدِراً وُدًّهُ ... ودُمْ لأهل الوُدِّ ما دامُوا
وأَعطِ أموالَك سُؤّالَها ... ولو لَحى الحُسّادُ أو لامُوا
وحَصِّل الحمدَ. ألا، كلُّ ماحُصِّل إلاّ الحمدَ، إِعدامُ
السُّؤدَدُ المالُ، ولولاه ما ... رامَ أُولُو الأحوالِ ما رامُوا
أولادُ حَوّاءَ وِهادٌ، ولو ... سادُوا، وأهلُ العلمِ أَعلامُ
ما أمدح المرءَ، ولم أَدرِ ما ... أسرارُه، واللهُ علاّمُ
ما مَسَّ حُرَّ الأصلِ عارٌ، ولو ... علاه أَسْمالٌ وأَهْدامُ
كم صارمٍ، محمُله دارسٌ ... وهو حُسامُ الحدّ صَمْصامُ
كم وَرِعٍ، حَسَّر أَكمامَه ... للمكر، وَهْوَ الصّادُ واللام
وأنشدني له:
إذا ما ألَمَّتْ شِدَّة، فاصطبِرْ لها ... فخيرُ سلاحِ المرء في الشِّدَّة الصَّبْرُ
وإِنّي لأَستحيي من الله أَنْ أُرَى ... إلى غيره أشكو وإِنْ مَسَّني الضُّرُّ

عسى فَرَجٌ بـه الله. إِنَّه ... له كلَّ يوم في خَلِيقته أمرُ
قال: وتوفي رجل من بلده، فكتب على تربته:
يا واقفين بنا، ألم تتَيقَّنُوا ... أَنَّ الحِمامَ بكم علينا قادمُ؟
لا تستغرُّوا بالحياة، فإِنَّكم ... تبنونَ، والموتُ المفرِّقُ هادمُ
لو تَنزِلونَ بشِعبنا، لَعَرَفْتُمُ ... أَنَّ المفرِّطَ في التَّزَوُّد نادمُ
ساوَى الرَّدَى ما بينَنا، فأحَلَّنا ... حيثُ المُخَدَّمُ واحدٌ والخادمُ
الأديب أبو المظفر مفلح بن علي بن يحيى بن عباد الأنباري من شعراء الدولة المستنجدية. وقد مدح المقتفي أيضاً، رحمـه الله تعالى.
ذكر أنـه من كلاب، بن ربيعة، بن عامر، بن صعصعة، بن معاوية، بن بكر، بن هوازن.
وكان خصيصاً بالوزير عون الدين، بن هبيرة: يصلي بـه في السفر والحضر، ويتولى له أخذ الزكاة من غنم الخالدية، وهو عامل المنثر، وأكثر شعره فيه.
فلما توفي الوزير، ونكب جماعته، رقي عنـه أنـه نظم شعراً يعرض فيه ببعض الصدور، فأخذ وحبس في حبس الجرائم، وعوقب مراراً، وأخرج ميتاً بعد سنة من حبسه يوم الاثنين ثاني عشر شعبان سنة إحدى وستين وخمس مئة.
كان أديباً فصيح اللهجة، مليح العبارة، يتبادى في إنشاده وإيراده، ويسلك أسلوب العرب.
ذكر أنـه كان معلماً للأدب قبل اختصاصه بالوزير.
فمما أنشدنيه لنفسه، من قصيدة يمدح فيها الوزير عون الدين، سمعته ينشد الوزير ثانياً سنة سبع وخمسين وخمس مئة:
أثَغْرُكِ ثغرُ الأُقْحُوانةِ، أم دُرّ؟ُ؟ ... وأَرْيٌ بفِيكِ الباردِ العَذْبِ، أم خمرُ؟
وصبحٌ بدا في جنْح ليلِ ذَوائبٍ، ... أمِ الشَّمسُ من تحت السِّجاف، أمِ البدرُ؟
وماذا الَّذي أدمى صحيفةَ خدِّها؟ ... أَلَحِظْي بها، أم دَبَّ من فوقِها الذَّرُّ؟
وما أثَرٌ فوقَ التَّرائبِ بَيِّنٌ؟ ... أَلِعقد لَمّا جال من فوقها إِثْرُ؟
أَناة من البِيض العِفاف، نِجارُها ... من العُرب يَنْمِيها غَزِيَّةُ أو عَمْروُ
إذا الحَضَريّاتُ النَّواعمُ أشرقتبهِنّ وقد مِسْنَ الرُّصافةُ والحَسْرُ،
سَنَحْنَ لنا ما بينَ فَيْدَ و حاجِر ... ظِباءَ نَقاً، يُزْهَى بها الضّالُ والسِّدْرُ
يَمِسْنَ كأغصان من البان هَزَّها ... نسيمُ الصَّباحِ فَهْيَ مَجّاجةٌ خُضْرُ
تقسَّم قلبي ب العُذَيْب وبانِهِ ... كواعبُ، لا نـهيٌ عليها ولا أمرُ
فلا أجرَ إلا في مُعاناة هَجرها ... ولا وِزْرَ إلاّ في الَّذي ضَمَّت الأزْرَ
ومنـها:
ومَرْت، كظهر التُّرْس، زِيَزْاء مَجْهَل ... تَتِيهُ به، من دَرْس أعلامِها، السَّفْرُ
ومنـها:
وليل، عَطَطْنا ثوبَه بقَلائص ... هِجانٍ، يُنَزِيّها التَّحَلْحُلُ والزَّجْرُ
إذا انقضَّ فيه النّجمُ، آنسَ قلبُه ... من الفجر قُرباً، فاستطارَ بـه الذُّعْرُ
أكان له بالفجر أقربُ نسبةٍ ... فصالَ عليه؟ أم له عندَه وِتْرُ؟
فلمّا نَزَلْ نَفْرِي حُشاشةَ قلبِه ... إذا ما خلا قفرٌ يعارضُنا قفرُ
إِلى أنْ سمت خيلُ الصَّباحِ، فكشَفت ... أَدانيه عن قُطر، ورِيعَ لها قُطرُ
كأنَّ ابيِضاضَ الفجرِ في أُخْرَياته ... مواهبُ يَحْيى، أو خلائقُه الزُّهْرُ
فتى، أَنْشَرَ العلياءَ من بعدِ موتِها ... فعادَ لها من بعدِ ما طُوِيت نَشْرُ
وجدَّد أيّاماً من العدل أخلقت ... فعادَ لها من بعدِ نسيانـها ذِكرُ
بطلعته تَثْني الخطوبُ نواكصاً، ... وتستبشرُ الدُّنيا، ويستنزلُ القَطْرُ
أغَرُّ، تخالُ البِشرَ في قَسَماته ... وَمِيضَ حُسامٍ راق قي مَتْنـه أَثْرُ
وأعنقَ في سُبْل العلى وأخافَها ... فمسلكها صعبٌ على غيره وَعْرُ
ومنـها:

يجودُ بما تَحوِي يداه لوَفْده ... ويطلُبُ منـهم أن يُقامَ له العذرُ
وما وَفَرت يوماً مَحامدُ سيّدٍ ... من النّاس حتى لا يكونَ له وَفْرُ
ومنـها:
يَزِيدُ على كُثْر الوفودِ سماحةً ... فتىً، عُذرُه قُلٌّ، وأنعُمـه كُثْرُ
يَبِيتُ، إذا ما نامَ ماليءُ بطنِه، ... أخا هِمَم يَسْري وصَيْقَلُها الفكرُ
لإِعمالِ رأيٍ صائبٍ غيرِ فائلٍ ... فيُفْتَحُ فتح، أو يُسَدّ بـه ثَغْرُ.
وإِمّا نَحَتْ أبناءُ فارِسَ أرضَنا ... كتائبَ للهيجاء ضاق بها البَرُّ،
رماهم بآسادٍ، مَعاقلُها القَنا، ... وأَغيالُها البِيضُ اليَمانِيَةُ البُتْرُ
نَضاهُنَّ بِيضاً، أخلصتها قُيُونـها ... صِقالاً، وشِيمت وَهْيَ من عَلَق حُمْرُ
إذا ذمَّها قومٌ، لسوء صنيعِها ... بهم، فسِباعُ الوحشِ تَحْمَدُ والنَّسْرُ
وكانت طُلوعَ الشّمس بِيضاً وجوهُهم ... فما غَرَبَتْ إلا وأوجُههم صُفْرُ
فما انتظمت أشتاتُ عدل تفرَّقت ... إلى أن غدوا قَسْراً ونظمـهمُ نثرُ
وما ابيضَّ وجهُ الحقّ بعدَ اسوِدادِه ... فأشرق، حتّى احمرَّتِ البِيضُ والسُّمْرُ
وما صحَّتِ العلياءُ بعد اعتلالِها ... حَنانَيْكَ حتّى صارَ في الزَّمنِ الكسرُ
وما افترَّ ثَغْرُ الدِّين بعدَ بكائه ... إلى أن بكى من وجه أعدائه ثَغْرُ
وما مَلأَت أيدي الوفودِ رغائباً ... يمينُك إلا وَهْيَ ممّا حوت صِفرُ
أرى البحرَ ذا مَدٍّ وجزرٍ يَشِينُه ... فلِلّهِ بحرٌ لا يكونُ له جَزْرُ
فتىً، لو أصاب السَّدَّ صائبُ عَزْمِه ... دَحَاه، فلم يمنَع حديدٌ ولا قِطرُ
إذا ما جرى في حَلْبَة الفخر مُعْنِقٌ ... جريتَ الهُوَيْنَى واقفاً ولك الفخرُ
فكان لك الباعُ الطَّويلُ إلى العلى ... بأيسرِ ما تسعى، وكان له شِبرُ
وأنشدني له من قصيدة فيه:
سُقم أجفانِك، والسِّحرُ الَّذي ... صحَّ منـها، زادَ شَجْوِي وسَقامي
وفُتورُ العين، لمّا نظرت ... عَرَضاً، زادَ فتوراً في عِظامي
سارَ قلبي معها إذْ وَدَّعَت ... فعليها وعلى قلبي سلامي
ظَلَم الكاعبَ مَنْ قال لها، ... وَهْيَ بَرْدُ العيش: يا بدرَ التَّمامِ
كالَّذي قاسَ نَدَى يحيى، وقد ... شَمَلَ الخَلْقَ، بمُنْهَلِّ الغَمامِ
ملك. لوا هُداه في الورى ... خَبَط النّاسُ عَشاءً في ظلامِ
وأنشدني له قصيدة، نظمـها فيه، وأنشده إياها في شوال سنة سبع وخمسين وخمس مئة. وهي:
أُخادعُ نفسيَ عن دارها ... وقد عرفتْ بعدَ إِنكارِها
مخافةَ ذِكر النَّوَى فَجْأَةً ... فيَبْهَضُها حَمْلُ آصارِها
مضى الشَّكُّ، فاعترفي باليقين ... وعينَك سحّي بمِدرارها
فقد غلَبت سابقاتُ الدُّموع ... وجاشت غَواربُ تَيّارِها
فذَرْها، تَبُحْ بهَناتٍ لها ... وتُبْدِ لهم بعضَ أسرارِها
أَأُبْدي التَّجَلُّدَ من بعدِ ما ... رأيتُ مَعالمَ آثارِها؟
وما إِنْ أَرَى إِرَماً ماثلاً ... بها غيرَ موقدِ أحجارِها
وأقنَعُ بالعَرْف من بانِها ... وسَوْفٍ، وبالسَّوْف من غارِها
وقوليَ: يا سعدُ عَلِّلْ بها، ... وزِدْنيَ من طِيب أخبارِها
ومَنْ لي بغفلة حُرّاسِها؟ ... ومَنْ لي بهَجْعَة سُمّارِها؟
إذا ما بدت بينَ أَتْرابِها ... ويَعْقِدْنَ مُنْحَلَّ أَزْرارِها،
بدت شمسَ صحوٍ، سَنا نورِها ... رقيبٌ على هتك أَستارِها
كأنَّ لَطِيمةَ مِسكٍ، غدت ... تقلّبُها يدُ عَطّارِها

كأنَّ بِفيها، بُعَيْدَ المنام، ... خَلِيَّةَ شُهْدٍ لمُشتارِها
فيا عجبا من قُوَى قلبِها ... ومن ضَعفِ مَعْقِدِ زُنّارِها
تَحِلُّ ب فَيْد، وكم للنّوَى ... تقاضي الخطوبَ على ثارِها
وجاور أهلك أهل العِراق ... وشَتّانَ دارُك من دارِها
تقضَّى الشّبابُ وأَيّامُه ... وقلبي مُعَنّىً بتَذْكارِها
وإِنّي لأَرْجو، على نَأْيِها ... وما فاتَ من رَجْع أَسمارِها،
أَمُرُّ طليقاً بوادي الحِمى ... وترمُقُ ناري سَنا نارِها.
وكم من طروبٍ ب نجد. وما ... جَنَى من جَناها وأشجارِها،
ولا شمَّ نفحة جَثْجاثِها، ... ولا راقَه حسنُ أزهارِها،
فكيف بمَنْ قد قضَت نفسُه ... بأَرْبُعِها بعضَ أوطارِها؟
وكيف بمَنْ لم يَزَلْ قومُه ... حُماةَ رُباها وأَغوارِها؟
يظُنُّ الهَزار بأرض العِراق ... مُجاوبَ صوتِ خشنشارِها
قَمارِي النَّخيلِ وأَطيارُه ... يرنّحُها بَرْدُ أسحارِها
كأنَّ البلابلَ شَرْبٌ، حَسَتْ ... دِهاقاً بكاساتِ خَمّارِها
إذا لم تكن زينب في زَرُودَ ... فلا سُقِيَتْ صَوْبَ أَقطارِها
ولا عَمَرتْ أربُعٌ بالحِمى ... إذا فارقتُ أمُّ عمّارِها.
ويَهْماءَ، ليس بها مَعْلَمٌ، ... يَتِيهُ الدَّليلُ بسُفّارِها
تجاوزتُها، ومعي فِتيةٌ ... تُراعي النُّجومَ بأَبصارِها،
على ناجياتٍ، كمثل القِسِّيِ، ... يباشرُها طول تَسْيارِها
تُسابقُ فُرّاطَ كُدْرِيّهِا ... فتحسو بقيَّة أسآرِها
تُخالُ، وقد طال إِسآدُنا ... بها سُجَّداً فوقَ أكوارِها،
حَنايا، ونحن لها أسهمٌ ... و نجدٌ رَمِيَّةُ أوتارِها
فآضت وجوهٌ كمثل الوَذِيلِ، ... تُحاكي الحُلُوكةَ من قارِها
فآوت إلى ظِلّ مأوى الضَّرِيكِ ... وحطَّتْ بـه ثِقْلَ أَوزارِها

باب في ذكر محاسن أهل واسط و البصرة وما يتخللها ويجاورهما من البلاد والنواحي واسط أبو الحسن محمد بن علي بن أبي الصقر الشافعي الواسطي كان من شعراء الدولة القائمية و المقتدية و المستظهرية. وكان من شـهود واسط وأعيانـها. عاش تسعين سنةً، إلا شـهوراً.
قرأت في الذيل ل ابن الهمذاني: أنـه توفي ب واسط يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وأربع مئة. ومولده ذو الحجة سنة تسع وأربع مئة. وكان الرجل الذي لا يرى مثله في كمال فضله، وبلاغته، وحسن خطه، وجودة شعره.
وله أبيات، قالها قبل موته. إن حصل رويها ضاداً معجمة، أو صاداً غير معجمة، لم يستحل معناها. وهي:
خليلي الَّذي يُحصي عليَّ محاسني ... فأكرِمْ بذاك الخِلِّ من ماجد مَحْضِ محصِ
وإن لامَه في خُلَّتي ذو عداوة ... فأَجْدِرْ بـه في ذلك الوقتِ أن يُغضِي يَعْصِي
يَزيدُ على الأيّام حفظَ مَودَّةٍ ... بـه أَمِنت، والحمدُ لله، من نقضٍ نقصِ
ومن شعره القديم، وهو مما يتغنى به، قوله:
وحُرمةِ الوُدِّ مالي عنكمُ عِوَضُ ... لأنَّني ليس لي في غيركم غَرَضُ
أشتاقُكم وبوُدّي أن يواصلَني ... لكم خَيالٌ، ولكن لست أغتمضُ
وقد شرَطْتُ على قوم صحِبتُهُمُ ... بأنَّ قلبي لكم من دونـهم، ورَضُوا
ومن حديثي بكم، قالوا: بـه مرض، ... فقلت: لا زال عنّي ذلك المرضُ
وله مما يكتب على فص عقيقٍ أحمر:
ما كان قبلَ بكائي، يومَ بَيْنِكمُ، ... فَصِّي عَقيقاً، ولا دمعي استحال دما
وإِنَّما من دُموعي الآن حمرتُه ... فانظُرْ إلى لونـه والدَّمعِ كيف هُما
وله في فص أصفر:

أظُنُّ بفَصّي، حينَ زاد اصفرارُه ... وعوداً لها بالوصل، طال انتظارُهُ
وإن تَكُ هذي حاله، فَهْيَ حالتي ... بوعد حبيب عَزَّ منـه مَزارُهُ
وله في فص أزرق:
أبدى الحبيبُ تغيُّراً وتنكُّراً ... من خاتمي وعليه فَصُّ أَزْرَقُ
قلت: التَّفاؤلُ منـه في تصحيفه ... عَلِيّ لوعدٍ منك، يوماً، أُرْزَقُ
وله:
عليك بحسن الصَّبْرِ في كلّ ما يَطْرا ... وقِفْ وِقفةَ المظلومِ، وانتظرِ الدَّهْرا
وإن لم تنَلْ، في هذه الليلة، المُنَى ... سريعاً، فبِتْها، وانتظرْ ليلةً أُخرى
فلو أَنَّ في النَّاس امرَأَيْنِ، تَمَنَّيا ... جميعاً مُنىً، لم تَعْدُ مَنْ أحسن الصَّبرا
وله مرثية:
كفانيَ إنذاراً وفاةُ قرِيني ... فكيف الّذي في السِّنّ أصبح دُوني؟
فكيف تراني أصحَب الدَّهرَ آمناً ... إذا هو أضحى فيك غيرَ أمينِ؟
وكنت أُناجي اللهَ، جَلَّ جلالُه، ... بأَنْ فيك مكروهَ القضاءِ يَقيني
فبلبلتِ الأقدار قلبي، وولَّدت ... وساوسَ، أخشى أن تبلبلَ دِيني
وإنَّك لم تبلُغْ من العمر غايةً ... تكون بها في النّائبات مُعيني
فليت المَنايا نفَّستْ من خِناقها ... إلى أَمَد، أرجوه فيك، وحِينِ
لئن صان منك الدَّمع حالاً تغيَّرَتْ ... ففائضُ دمعي فيك غير مصونِ
ويأمُرني بالصَّبر عنك ذوو الحِجا، ... فقلت لهم: من ذا المقالِ دًعُوني
فلي لَهْفُ مغصوبٍ، وحَيرةُ مُكْرَهٍ ... وأنفاسُ مكروب، ووَجْدُ حزينِ
فلا قلت يوماً للكآبة: أَقْصِري، ... ولا لجُفوني: دمعَ عينِك صُوني
وأستذنبُ الأيّامُ فيك جهالةً، ... وكم أهلكتْ من أُمَّة وقرينِ
هو الموتُ، لم يَحْفِلْ بصاحبِ معقلٍ ... ولم يخشَ من حِصن عليه حصينِ
ولا فاتَه سارٍ، يواصلُ سيرَه ... على ظهر سُرْحُوبٍ ومَتْنِ أَمُونِ
وإِن تَكُ هذي الأرضُ غيرَكَ تبتغي ... كريماً، فما ترضَى إذَنْ بدفينِ
عليك سلام. كم إليك جوارحٌ ... تَحِنُّ، ولكن ما لها كحنيني
هذا ما علقته من كتاب التاريخ ل ابن الهمذاني.
وأنشدني الشيخ أبو المجد، الواعظ، الواسطي بها، سلخ رمضان سنة أربع وخمسين وخمس مئة، قال: أنشدني الشيخ أبو الحسن، بن أبي الصقر لنفسه، زعم أنـه قصد نظام الملك، فمنعه البواب، فكتب إليه:
لِلهِ دَرُّك إِنَّ دارَك جنَّةٌ ... لكِنَّ خلفَ البابِ منـها مالكا
هذا نظامُ الملك ضدُّ المقتضى ... إذْ كان يَرْوِي عن جَهَنَّمَ ذالِكا
أنعِمْ بتيسير الحجاب، فإِنَّني ... لاقيتُ أنواعَ النَّكالِ هُنالِكا
مالي أُصادفُ بابَ دارِك جفوةً ... وأنا غنيٌّ، راغبٌ عن مالكا؟
فأذن له نظام الملك، وقال: إذا كنت غنياً عن مالنا، فانكفئ فقال: كلانا شافعي المذهب، وقد جئتك لمذهبك لا لذهبك.
وأنشدني له بعض الشـهود المشايخ، وهو الصائن، بن الأعلاقي ب واسط، وقد لقيته:
بعدَ ثمان وثمانينا ... في مسكني قد صرت مسكينا
لا أسمَعُ الصَّوتَ، ولا أُثْبِت الش ... خْصَ، فلا بُلّغِتُ تسعينا
ويرحَمُ اللهُ تعالى امْرَءاً ... يسمَعُ قولي، قالَ: آمينا
وقد استجيب دعاؤه، حيث توفي - رحمـه الله تعالى - قبل أن يتم التسعين.
وأنشدني له أيضاً، يعتذر عن ترك القيام لأصدقائه لكبره:
علَّة، سُمِيّت ثمانين عاماً، ... منعتني للأصدقاءِ القياما
فإِذا عُمِّرُوا تمـهَّدَ عذري ... عندَهم بالَّذي ذكرتُ، وقاما
وله في العذار:
عِذارُ الحبيب على خدّه ... طِرازٌ، وزَيْنُ اللباسِ الطِّرازُ
أرَدتُ سلوكاً إلى هجره، ... فسَدَّ طريقي، فما لي مَجازُ
وله:

إذا ما مَرَّ يومٌ بعدَ يومٍ، ... ووجهي ماؤُه فيه مَصُونُ،
وقُوتي قُرْصَتانِ إلى ثلاث ... بها مِلْحٌ يكونُ ولا يكونُ،
وسِرْ بِي آمنِ، وأنا مُعَافىً، ... وليس عَلَيَّ في الدُّنيا دُيونُ،
فما أَشكو الزَّمان، فإنْ شكوتُ ال ... زَّمانَ، فإِنّه منّي جُنونُ.
وله:
أَسُوق نفسي بعصاً في يدي ... تُبصرُ قُدّاميَ، لا خلفي
يا رَبِّ. حتّى الشَّيخُ في سَوْقه ... مخالفُ العادةِ والعُرفِ
وله في تفاحة حمراء:
أَهدى لقلبي قمَرٌ، ... طالَ إليه قَرَمي،
تُفّاحةً، أُحيي بها ... قلبي وكفّي وفمي
فلستُ أدري، إذْ بدت ... ولونُها كالعَنْدَمِ،
مِن نَفَسي تورَّدت؟ ... أم حَمَلَتْ وِزْرَ دمي؟
وله:
لا تعجبَنَّ من الزَّما ... نِ، فهكذا قد كانَ يفعَلْ
ما راسَ فيه سِفْلَةٌ ... إلا أصارَ الرَّأسَ أسفلْ
فانظُرْ إلى النُّظّار في ... ه آخِراً من بعدِ أوَّلْ
مَنْ ليس من أهل الرِّئا ... سة، للرِّئاسة قد تأهَّلْ
لا تَغْبِطَنَّ مُقَدَّماً ... تأخيرُهُ أَولى وأَجملْ
منْ ليس ذا أهلٍ، فلي ... س على ولايته مُعَوَّلْ
كمُؤَمَّرِ النَّيْرُوز، يَن ... ظُرُ بعضَ يوم ثُمَّ يُعْزَلْ
وله:
واللهِ، لولا بولةٌ ... تُحرِقُني وقتَ السَّحَرْ
لمّا علِمتُ أَنَّ لي ... ما بينَ فَخْذَيَّ ذَكَرْ
وأخبرني الشيخ كثير بن سماليق إجازةً، قال: أنشدني ابن أبي الصقر لنفسه، ب بغداد:
مَنْ قال: لِي جاهٌ، ولي حِشمةٌ، ... ولي قبولٌ عندَ مولانا،
ولم يَعُدْ ذاك بنفع على ... صديقه، لا كانَ ما كانا
هذان البيتان، أوردهما أبو سعد، السمعاني في المذيل عن كثير، عنـه، وأنا لي إجازة من كثير، وسمعت عليه الحديث أيضاً.
وذكر ابن السمعاني في المذيل: أنـه أنشده عبد السميع العباسي قال: أنشدني ابن أبي الصقر لنفسه:
كلُّ أمر، إذا تفكّرت فيه ... وتأمَّلْته، رأيت طريفا
كنتُ أَمشي على اثنتينِ قويّاً ... صرتُ أَمشي على ثلاثٍ ضعيفا
وله:
كلُّ رزقٍ، ترجوه من مرزوقِ، ... يعتريهِ ضربٌ من التَّعويقِ
وأنا قائلٌ، وأستغفرُ الل ... هَ، مقالَ المجازِ لا التَّحقيقِ:
لست أرضى من فعلِ إبليسَ شيئاً ... غيرَ تركِ السُّجودِ للمخلوقِ
وله:
أبَداً ما يقاسُ بالكلب إلاّ ال ... بُخَلاءُ الأراذلُ السُّفَهاءُ
ومتى قلت: أنت كلبٌ؟ فللكل ... بِ وفاءٌ، وليس فيك وفاءُ
وله - وقد دخل على سيف الدولة، صدقة واسطاً في سنة ست وتسعين وأربع مئة، وظفر بأعدائه، منـهم القيصري، وعفا عنـهم - فقال فيه، ودخل إليه وسنـه سبع وثمانون سنة، وأنشده:
ظفَّرَ اللهُ بالعُداة الأميرا ... مثلَما ظفَّرَ البشيرَ النَّذيرا
يومَ بَدْرٍ، فإِنّه كان يوماً ... قَمْطَريراً على عداه عسيرا
أيُّها المنعمُ الّذي واسط تَس ... كُرُ إِنعامَه عليه الكثيرا
حين وافيتَها بفِتيانِ صِدقٍ ... لا يولُّونَ في اللقاء الظُّهورا
طال للقيصريّ غَمٌّ بعفوٍ ... عنـه، لم يرجُهُ، وكان قصيرا
ولقد قال ناصحوه ب بَغْدا ... دَ وفيها يأوِي حريماً وسُورا:
إنْ أردت الأمانَ من سيفِ سيفِ ال ... دَّوْلةِ اسكَنْ ب الجامِعَيْنِ و سُورا
يا بني مَزْيَدٍ، لأِيّامِنا دُم ... تُمْ شموساً، ولليالي بدورا
يا بني مَزْيَدٍ غُيوثاً بَقِيتُمْ ... ولُيوثَ الثَّرَى أميراً أميرا

وكتب إلى نظام الملك عند وقوع الفتنة ب بغداد، وقصد العامة سوق المدرسة النظامية، وقتل جماعة. وكان السبب في ذلك أن أبا نصر، بن القشيري لما جلس للوعظ في المدرسة النظامية، كثر أتباعه من الأشعرية، وأزرى على غيرهم، وأدت إلى الفتنة من العوام، فنسب نظام الملك ما جرى إلى الوزير فخر الدولة، ابن جهير، في سنة سبعين وأربع مئة:
يا نِظامَ المُلك قد خَ ... لَّ ب بغدادَ النِّظامُ
وابنُك القاطنُ فيها ... مُستهانٌ مستضامُ
وبها أودى له قَب ... لاً غلام وغلامُ
والّذي منـهم تَبَقَّى ... سالماً، فيه سِهامُ
يا قوام الدِّين لم يَب ... قَ ب بغداد مقامُ
عظُم الخَطْبُ، وللحر ... ب اتّصالٌ ودوامُ.
فمتى لم يَحْسِمِ الّدا ... ءَ بكفَّيْك الحُسامُ،
ويكفَّ القوم في بغ ... دادَ فتكٌ وانتقامُ،
فعلى مدرسةٍ في ... ها، ومَنْ فيها، السَّلامُ.
وكتب إلى الوزير أبي شجاع - رحمـه الله - قصيدةً، يمدحه فيها، ويطلب شيئاً من شعره، يقول فيها:
يا ماجداً، لو رُمْتُ مدحَ سِواه لم ... أَقْدِر على بيتٍ ولا مِصراعِ
أُمْنُنْ عليَّ بشعرك الدُّرِّ الّذي ... شعرُ الرَّضيّ له من الأَتباعِ
فأجابه الوزير:
لو كنتُ أرضَى ما جمعت شَتِيتَه ... لَضَمِنت معرضه على الأَسماعِ
لكنّ شعري شبه شَوْهاءَ اتَّقَتْ ... عيباً لها، فتستّرت بِقناعِ
ومن قصيدة له في مدح عميد الدولة، ابن جهير، يطالب برسمـه على الديوان، ويعرض ب ابن يعيش:
يا مَن نلوذُ الزَّمان بظلّه ... أبداً، ونطرُدُ باسمـه إِبليسا
رسمي على الدِّيوان حُوشِيَ قدرُه ... أن يُسْتَقَلَّ وأن يكون خسيسا
وعليَّ آخُذ شَطره من واسط ... دَيناً، أُؤَدِّي عينـه محروسا
وإذا شكا الدَّيْنَ الأديبُ، فإِنّه ... لم يَشْكُ إلا حظَّه المنحوسا
والكلُّ في بغدادَ آكِلُهُ، وكم ... فرَّغت في بغدادَ كيساً كيسا
ولَكم رفَعتُ لأجله من قِصَّة، ... أنفَدْتُ فيها كاغداً ونفوسا
وبه توقّعُ لي، وكم مستخدماً ... يَدَهُ لَثَمْتُ، وحاجباً، ورئيسا
قد صار إطلاقاً على ابن يعيش،لا ... ذاقَ الرَّدَى حتّى يقرَّ تعيسا
فكأنَّما ابنُ يعيشَ صار لأِكله ... مالَ الخليفة مستبيحاً سُوسا
وكأنّه، كَدّاً، حمارُ عُزَيْرَ لا، ... وتلقُّفاً للمال، حَيَّةُ موسى
فأنا على وَجَل، لأجل إِحالتي، ... لو أَنّها كانت عليه فلوسا
صَيِّرْ لك العمّالَ أقلاماً، إذا هست ... تخدمتَها، طأطاتَ منـها الرُّوسا
وأنشدني الشيخ الفقيه العالم هبة الله، بن يحيى، بن الحسن، البوقي، الشافعي ل ابن أبي الصقر، روايةً عنـه، كتبه إلى قادم من بغداد:
من هدايا بغدادَ في ألف حِلٍّ ... أنت، إلا من باقَتَيْ كِبْريتِ
إنَّه عندَ ربَّة البيتِ، ممّا ... ليس منـه بُدٌّ، كشُرب الفَتيتِ
وأنشدني القاضي يحيى، بن هبة الله، بن فضل الله، بن محمد ب بغداد في الديوان، سنة ستين وخمس مئة، قال: أنشدني والدي القاضي هبة الله قاضي الغراف ل أبي الحسن، بن أبي الصقر لما أخذ العكاز بيده عند الكبر:
لو حُوِّلَتْ هذي عصايَ، الَّتي ... أحمِلُها في الكفّ، ثُعبانا
تَلَقَّفُ الأَعداءَ، مثلَ الَّذي ... في مثلها من قبلُ قد كانا،
كرِهتُ حَمْلِيها، ولو أَنَّني ... صرتُ بها موسى بن عِمْرانا
وأنشدني له بالإسناد، فيها أيضاً:
صرتُ لمّا كِبْرتُ ثُمَّ تعكَّزْ ... تُ، وما بي شيخوخةٌ، من حَراكِ
كجِدارٍ واهٍ، أراد انقضاضاً ... فتلافاه أهلُه بسِماكِ
وله أيضاً فيها:

مرض، صيّر اسمـه الكبراثا ... قد أعاد الرِّجلينِ منّ؟ي ثلاثا
وَهْوَ داء، له دواءٌ: يُسَمَّى ... في الكَنانيش كلِّها القبراثا
وبهذا الدُّعاءِ كم قد شفى الل ... هُ مريضاً منـه إليه استغاثا
وذكر أيضاً القاضي رضي الدين، هبة الله، بن فضل الله، بن محمد، النحاس، وكتبه بخطه، قال: أنشدني خالي أبو الحسن، محمد، بن علي، بن أبي الصقر، قال: كنت إذا ترقيت إلى سن، أعمل أبياتاً. فلما بلغت الستين، قلت:
بعدَ سِتّينَ وسِتٍّ ... كلَّما زِدتُ، نَقَصْتُ
أيُّ فخرٍ في حياة ... بَعناءِ؟ لَيْتَ مِتُّ
ولما بلغ السبعين، قال:
إِنَّ ابنَ سبعينَ عاماً ... ما بينَ سَبْعينِ يمشي
للصُّبح منـه غَداء ... وللعَشاء تَعَشِّي
ولما بلغ الثمانين، قال:
وقائلةٍ، لما عَمَرْتُ وصارَ لي ... ثمانونَ حَوْلاً: عِشْ كذا وابْقَ واسْلَمِ
ودُمْ، وانتشقْ رَوْحَ الحياةِ، فإِنَّه ... لأَطَيبُ من بيتٍ ب صَعْدَةَ مُظلِمِ
فما لم تكن كَلاًّ على ابْنٍ وغيرِه ... فلا تَكُ في الدُّنيا كثيرَ التَّبَرُّمِ.
فقلتُ لها: عذري لَدَيْكِ مُمَهَّدٌ ... ببيت زُهَيْرٍ، فاعلَمي وتعلَّمي:
سئِمتُ تكاليفَ الحياةِ. ومَنْ يَعِشْ ... ثمانينَ حَوْلاً، لا أبالَكَ، يَسْأَمِ
وذكر القاضي يحيى عن والده: أنـه كتب ابن أبي الصقر إلى والده رقعة، يعرضها على مـهذب الدولة، سعيد، بن أبي الجبر على يدي، فيها:
يموتُ ولا تدري ويحيا ولا تدري ... مُؤَمِّلُكَ الدّاعي لك ابنُ أبي الصَّقْرِ
وما لم تَزُرْ داري، وأنت ب واسِطٍ ... لِتُبْصِرَني مُضْنىً بها، لم تَزُرْ قبري
فإِن أنت لم تُصلِحْ أموري ملاحظاً ... فسَلْ للأمير النّافذِ الأمر في أمري
وخاطبْ كمال الدِّينِ فيَّ، فإِنَّ في ... يد ابن أبي الجبر السَّعيد أرى جبري
قال: فوصله مذهب الدولة بصلة سنيةٍ، وعمره حينئذٍ ست وثمانون سنة.
قال: ووجدت بخط خالي من شعره لغزاً، لم يفسره. فكتبت من ذلك ب البصرة إلى الأمير حسام الدولة أبي الغيث سنة تسع وثلاثين وخمس مئة، فكتب جوابها: فمن ذلك قول ابن أبي الصقر:
وأيُ شيءٍ طولُه عَرضُه ... أضحى له عندَك مقدارُ؟
دلَّ عليه حسنُ طبعٍ له، ... ففيه للعالم أوطارُ
تُمسكه الكفّ، ولا تشتكي ... منـه احتراقاً، وبه نارُ
وجواب الأمير أبي الغيث البصري، رحمـه الله تعالى:
يا مَنْ أتانا مُلغِزاً فكرَهُ ... لِلُّغْز يستفتي ويمتارُ
أَلْغَزْتَ في الّدينار، فامتَرْ بـه ... إِنْ كنتَ مَنْ للعلم يمتار
ومن ذلك قول ابن أبي الصقر:
ما ذو عيونٍ سُودٍ مفتَّحةٍ ... أصمُّ أعمى إذا لَقِي بطلا؟
تَبْيَضُّ تلك العيونُ منـه، إذا اس ... تكَدَّهُ مَنْ يسومُه العملا
وما قضى منـه حاجةً أحدٌ ... إلا ومِن بعد ذلك اغتسلا
وبطشُه كلّ؟ُه بفردِ يَدٍ ... وفردِ رجلٍ، كُفِيتَ كلَّ بَلا
وجواب الأمير أبي الغيث:
يا مَن أتى مُلْغِزاً ليُعجِزَنا ... وأعملَ الفكرَ منـه والحِيَلا
وزفَّ من نظم ِ طُرفَاً ... لم يلقَ خَلْقٌ لحسنـها مثَلا
وما درى أَنَّ سحرَ فطنتِه ... إذا رأى نفثَ سورتي بَطَلا
عيَّن في لُغْزه على حَجَر الرِّ ... جْل، فأعيا، ولم يَرُزْ بَطَلا
وقول ابن أبي الصقر عفا الله عنـه:
وما شيءٌ له رأسٌ وسنُّ ... وفي أسنانـه قَلَحٌ ونَتْنُ؟
وقد كُسِيَ البياضَ، وليس فيما ... يُلابسُهَ دِبيقيٌّ وقُطنُ
يُعَرِّيهِ ويَنْظِمـهُ لأجلِ الث ... ياب، فمنـه تَمَّ لهنَّ حسنُ
يُقَلقَلُ منـه سنٌّ بعدَ سنٍّ، ... ولا يبكي لذاك، ولا يَئِنُّ

وما هو عنبرٌ، وبه دَعاهُ ... ذوو فهمٍ كما لَهُمُ يَعِنُّ؟
وجواب أبي الغيث:
ألا يا أيُّها الحَبْرُ المُوافِي ... بألغازِ لها في الحسن فَنُّ
ظننتَ بأنَّ خالَك ليس يُلْفَى ... له نِدٌّ، وليس كما يُظَنُّ
له زمنٌ مضى، ولنا زمانٌ ... وكلٌّ في صِناعته مُرِنٌّ
برأس الثُّوم والأسنان منـه ... عَنَيْتَ، فخُذْ وقلبُك مطمئنُّ
فهاتِ اللُغْزَ ممتحناً، فقلبي ... إلى ما صاغَه منـه يَحِنُّ
وقوله:
ومستعملٍ متساوي العملْ ... يضافُ إلى ما عليه اشتملْ
ترى العينُ ما بينَ أعماله ... وما تتفاضل قدراً جَلَلْ
إذا ما استقرَّت بـه بُقعةٌ ... من الأرض، حاصرها وارتحلْ
ويأكلُ بالعَشْر والرّاحتينِ ... ويَخْرَى لموضعه ما أكَلْ
وجواب الأمير أبي الغيث رحمـه الله:
أيا مَنْ على حذقِه يَتَّكِلْ ... إذا غامضٌ في العَوِيص اشتكلْ
أتيتَ بلُغزٍ عسيرٍ، فما ... يكادُ يَبيِّنُه مَنْ عَقَلْ
بقالب لَبْنٍ له قد عني ... تَ. أحسنتَ لمّا ضرَبْتَ المَثَلْ
وقوله:
ما ذاتُ أَنفاسٍ يصعِّدها، بها ... يبدو ويظهَرُ ما تُجِنّ وتستُرُ؟
معسولة، تُردي النُّفوسَ، ضئيلة ... ممشوقة، بقَوامـها مُسْتَهْتَرُ
مالت إلى حكم السَّفاهِ، ولم تَمِلْ ... نحوَ البلاغةِ، وَهْيَ لا تتصوَّرُ
تبدي، بحال تأمُّلٍ في نفسها، ... عيناً تغمِّضُها، وأُخرى تُبصرُ
وجواب أبي الغيث:
يا مَن غدا بذكائه ملِكاً على ... أدباء أهلِ زمانِه يتبختَرُ
وإذا رآه المُلغزونَ، بدا له ... كبراؤهم، فاستعظموه وقصَّروا
للزَّرْ بَطانةِ قد عنيتَ، وإِنَّها ... لَغريبةٌ، معروفةٌ لا تُنكَرُ
كم من يدٍ طَلَّتْ، وكم رأسٍ رمتْ ... بيد السَّفيهِ، وكم جَناحٍ تَكْسِرُ
ولقد أجَدْتَ لها القَريضَ، وأعجزت ... فيها صفاتُك كلَّ حَبْرٍ يشعُرُ
وقوله:
ما ذاتُ رأسٍ وفمٍ واسعٍ ... بغير أَضراسٍ وأسنانِ؟
لا تلقُطُ الحَبَّ، ومِنقارُها ... أطولُ من مِنقارِ حَصّانيّ
كأنَّها الهُدهُدُ، مِنقارُها ... فيه كتابٌ من سَلَيْمانِ
ترضَعُ كالطّفل، ولو أَنّها ... مضى لها عُمرٌ وعُمرانِ
لا تكتُمُ السِّرَّ، وسِرُّ الَّذي ... يُودعُها السِّرَّ كإِعلانِ
والجواب عنـه ل أبي الغيث:
قَريضُك المـهدى لنا لُغْزُهُ ... لم يَخْلُ من حسن وإحسانِ
لو رامَ حَسّانُ جواباً له، ... قَصَّرَ عنـه نظم حَسّانِ
عَنَيْتَ فيه غيرَ مستشعِرٍأَنْ يعتريها فهمُ إِنسانِ
مِحْجَمَةً، تُرْضِعُ حَجّامَها ... بالمَصّ شَخْباً من دمٍ قانِ
وقوله:
وما نائمٌ مُلْقىً، إذا ما أقمتَه ... بَلَلْتَ بأطراف الأصابع راسَهُ؟
يَصُبُّ، إذا استعملتَه، فضلَ مائِه ... ويعتادُ من بعد الفَراغِ نُعاسَهُ
يحبُّ، إذا ما كان صُلْباً مدوَّراً ... طويلاً غليظاً، مِلكَه والْتِماسَهُ
ويُمسي ويُضحي في الأنام مسوَّداً ... نرجِّي نَداهُ، أو نُخَوَّفُ باسَهُ
وجواب أبي الغيث:
لقد جئتَنا ، يا مَنْ أجاد قياسَهُ، ... فخافَ ذَوُو الآداب في اللُغْز باسَهُ
يُقِرّ؟ُ له الرُّمْحُ الأَصَمُّ إذا جرى ... على الطِّرْس حتّى لا تُطيقُ مِراسَهُ
وقوله:
ومحبوس لضرب بعدَ ضرب ... تكرَّرَ منـه، راعَ بـه القلوبا
إذا أحرجتَه بعدَ احتياط ... عليه باليمين ترى عجيبا
ترى فعلاً، يشُدُّ عليه منـه ... حَنيفٌ مسلمٌ وَرِعٌ، صليبا
وجواب الأمير أبي الغيث على غير وزنـه:

أيا مَنْ إذا اللُغْزُ كان السَّقا ... مَ، أضحى له بذكاءٍ طبيبا
عنيتَ بمحبوسك المِبْضَعَ ال ... ذي يَفْصِدُ العِرقَ لفظاً غريبا
وذاك الصَّليب الَّذي قد عَنَيْ ... تَ، شَدُّ العصابة، فاخْشَ المجيبا
وقوله:
وشيء له بطنٌ ورأسٌ ومَخْرَجٌ ... ووجهٌ، تراه العينُ أبيضَ أحمرا
يُحَلَّى ببِيضٍ كالدَّراهم، وجهُهُ ... فيجعَلُها مثلَ الدّ؟َنانيرِ أصفرا
وجوابه:
أيا مُلغزاً في نظمـه أعجزَ الورى ... وأخجلَ مَنْ جاراه في الفضل إذْ جرى
تأمّلت في التَّنُّور والخبز فِضّة ... أتيتَ بها، ما البدر أبْهَى وأنورا
ومن ذلك قوله:
وأُنثى لها ذَكَرٌ، قَلَّما ... تغافلَ عن وطئها أو وَنَى
وليس يُحَدُّ، إذا ما علا ... عليها وجهراً بها قد زَنى
ومنـه ومن غيره، بالذُّكو ... رِ قد صَيَّرَتْ حَمْلَها دَيْدَنا
ومن شأنـها أَنَّها قد تُضافُ ... وما دخَلت لاِمْرِئٍ مسكنا
وليس يحرّكُها باليَدَيْنِ ... أشد؟ُّ الرِّجالِ، وفيها منَى
وجواب الأمير أبي الغيث عنـه:
أيا مَنْ أتى مُلغزاً بالعَوِيصِ ... وأخفى بقدرته ما عنى
ولم يَدْرِ أَنَّ ضميري، متى ... يُسِرُّ امْرُؤٌ غامضاً، أعلنا
عنيتَ منارةَ بيتِ الإِلهِ ... ومَنْ كان رأسها أذَّنا
فخُذْها، وهاتِ العَوِيصَ الخَفِيَّ ... تَجِدْه لأفكارنا مُذْعِنا
ومن ذلك، قول ابن أبي الصقر:
وما شيءٌ، بفَلْس تشتريه ال ... كِرامُ أُولو المروءة، والشِّحاحُ؟
وفي باب الخليفة كلَّ وقتٍ ... تراه، وما له عِللٌ تُزاحُ
وسائرُ جسمِه، ذَنَبٌ ورأسٌ ... وهذا وصفُه المَحْضُ الصُّراحُ
وجواب أبي الغيث عنـه:
أيا جبلاً، لأهل العلم أضحى ... منيعاً، لا تزعزعُهُ الرِّياحُ
أتيتَ بمعجِز، فلِقيتَ طَبّاً ... لَدَيْه الجِدُّ يحسُنُ والمُزاحُ
يطير إلى الغوامض بافتكار ... له في كلّ ناحيةٍ جَناحُ
عنيتَ بلُغْزك المِسمارَ، فاعلم ... وهاتِ المشكلاتِ، ولا بَراحُ
وقوله:
وما خِلٌّ يخونُ، ولم تخُنْهُ، ... يكلِّفُك الهَوانَ، ولم تُهِنْهُ؟
ذكيٌّ، هَمُّه الإِصغاءُ، حتّى ... يقومَ ببعض ما تبغيهِ منـهُ
يَسُرُّكَ أَنْ يغيبَ فلا تراه ... ويسألُ عنك حين تغيبُ عنـهُ
وجوابه:
لقد أودعتَ منك الشِّعرَ لُغْزاً ... عجيباً، لَمْ تُذِلْهُ، ولم تُهِنْهُ
وخِلُّك ذَبْذَبٌ، للبول منـه ... خروجٌ والْمَنِيّ ولا يشنـهُ
إذا كان الأديبُ بـه عفيفاً، ... بخوف الله يَخْطِمُه، فكُنْهُ
الرئيس أبو الجوائز بن بازي واسمـه: هبة الله، بن بازي، بن حمزة، الواسطي.
من شعراء الدولة القائمية. وأوردته، لكوني لقيت من روى عنـه، وذكر لي أنـه الشيخ الحافظ محمد، بن ناصر، رحمـه الله، كان روى من شعره، ولي عن الشيخ محمد، بن ناصر إجازة.
وقرأت من تاريخ ابن الهمذاني أنـه توفي سنة ستين وأربع مئة.
وله شعر مستحسن جيد، ونظم رائق رائع، بديع الصنعة، مليح العبارة، سهل الكلام ممتنعه، حلو المنطق مستعذبه.
فمن ذلك، ما أنشدني أبو المعالي الكتبي قال: أنشدني له ابن أفلح:
برى جسدي طول الضَّنَى، وأذابني ... صدودُك، حتّى صرت أمحلَ من أمسِ
فلست أُرَى حتَّى أَراك، وإنّما ... يَبِينُ هَباءُ الذَّرّ في أَلَق الشَّمسِ
وله في غلام، اسمـه راح:
بنفسي أفتدي ممّا ... يحاذرُ مالكي راحا: اسمـه
غزالاً، زَفَّ لي عَذْرا ... ءَ، صيَّرَ خِدْرَها راحا: الرّاحة
شَمُولاً، ما غدتْ إلا ... رأينا الهَمَّ قد راحا: من الرَّواح

وما سكَنت حَشا سالٍ ... وإلا اشتاق أو راحا: من الارتياح
لها ريح إذا بُزِلَتْ ... كعَرْف المسكِ إذْ راحا: من الرّيح
إذا ما جَنَّ ليلٌ من ... هموم، فاقتبِسْ راحا: خمرة
وله في غلام ألثغ:
لِشقْوَتي بِتُّ مُسْتَهاماً ... بفاتر المُقْلَتَيْنِ لاثِغْ
باكَرَني زائراً، ونادَى: ... ها أنا ذا قد أتيتُ زايغْ
أي: زائر وهي لغة أهل بغداد.
قلت له: قد صدقت، كرهاً ... فارفُقْ بقلبي، ولا تبالغْ
يا مَنْ إذا سِرُّه صفا لي ... أصبحَ من لفظه مُراوِغْ
وله في سوداء:
سوداء، تَحكي المسكَ في ... إحراقِهِ ومثالِهِ
لمّا رنتْ وتعطَّفتْ ... للمُسْتَهام الوالِهِ،
رأت الظَّلامَ أبَرَّ من ... رَأْدِ الضُّحى بوصالِهِ
فتلفَّعَتْ بأَدِيمـه ... وتلثَّمتْ بهِلالهِ
وله في غلام أصفر:
وظبي أصفر، تُدْمِي ... لحاظُ محِبّه بَدَنَهْ
تخالُ الَثّمَ في خَدَّيْ ... هِ ياقوتاً على بَدَنَهْ
وله من التجنيس المطبوع المصنوع:
أَرْدَتِ الصَّبرَ غادةٌ، وَجْنتاها ... لي وَرْدٌ، وثغرُها لي وِرْدُ
كالقَضيب الرَّطيب حينَ تَصَدَّى ... والقضيبِ الرَّطيبِ حينَ تَصُدُّ
تتجنَّى إذا جَنَتْ، وتَعَدَّى ... ثمَّ تنسى ذنوبَها وتَعُدُّ
ذلَّ قلبي، وقلَّ صحبيَ، إِنْ لم ... يُمْسِ سهمي وَهْوَ الأسدُّ الأشَدُّ
ليس يَحْظَى بصحبتي ووفائي ... من رِفاقي إلاّ المُغِذُّ المُعِدُّ
ونجيبٌ، كأنَّه في ظهور الن ... جْب، من شدّة التوقُّد وَقْدُ
وله:
يا خليلاً صفا، ويا سيّداً أَص ... فَى، فأضحى بـه صفائي مَنُوطا
وأرانا ابن مُقْلَة حائرَ المُق ... لَة غُفْلاً، وخَطَّهُ تخطيطا
وله:
بدرٌ، هواه مضلِّلٌ رائي. ... يدنو، ولكنْ وِصالُه ناءِ
تفاوت في صفاته بِدَعٌ ... قد فتنتْ في رِضاه أهوائي
لفظٌ وقلبٌ كالصَّخر، ضَمَّهما ... رِيقٌ وصدرٌ في رِقَّة الماءِ
يُرِيك ناراً قد أُودِعت بَرَداً ... وشمسَ دَجْنٍ خِلالَ ظَلْماءِ
وله:
عَذيرِيَ من مالكٍ جائرٍ ... كثيرِ التَّفَنُّن في ظلمِهِ
وداوِ محبّاً، ثَناهُ ضَناهُ ... إلى أن غدا جشمُه كاسمـهِ
فقال: أَرُوه طبيباً، عَسَى ... يرى النَّفْعَ فيه وفي علمـهِ.
فلو كنت بالطِّبّ ذا خِبرة ... لَدارَيْتُ طَرْفيَ من سُقمـهِ
وله:
أذكت مِياهُ الصِّبا في خدّه نارا ... تَهْدي إلى وصله من ضَلَّ أو جارا
ظبيٌ، تسافرُ في أره مُقَلٌ، ... أقلُّ أجفانِها تَكفيه زُنّارا
وله:
أقول، وجَرْسُ الحَلْيِ يمنَعُ وصلَها ... وقد عاد ذاك القُربُ وَهْوَ بِعادُ:
هَبِي كلَّ نطقٍ يَغارُ عليكُمُ، ... فكيف يَغارُ الحَلْيُ وَهْوَ جَمادُ؟
وله من قصيدة:
خَضَّبْنَ بالشَّفَقِ الأظافِرْ ... ومَشَطْنَ بالغَسَقِ الغَدائِرْ
وتأوَّدتْ أغصانُهُ ... نَّ، فأغضتِ القُضُب النواظِرْ
سِرب المَهاةِ العامريّ ... ة بينَ يَبْرِينٍ و حاجِرْ
سودُ القُرونِ من النِّطا ... ح بها لحبّاتِ الضَّمائِرْ
وضعائف يملِكن بال ... أَبصار أربابَ البصائرْ
بِيض، شَهَرْنَ البِيضَ من ... أَجفانِ أَجفانٍ فَواتِرْ
عَجَباً لجارية تَج ... رُّ على قبائلنا الجرائِرْ
زانت يمينَ الحسنِ من ... أَلحاظها بأَغَرَّ باتِرْ
ومثقَّف من قَدّها ... قد نَصَّلُوه بالنَّواظِرْ

أقسام الكتاب 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16




[قد الوان زاده]

نویسنده و منبع | تاریخ انتشار: Tue, 04 Sep 2018 07:15:00 +0000



تمامی مطالب این سایت به صورت اتوماتیک توسط موتورهای جستجو و یا جستجو مستقیم بازدیدکنندگان جمع آوری شده است
هیچ مطلبی توسط این سایت مورد تایید نیست.
در صورت وجود مطلب غیرمجاز، جهت حذف به ایمیل زیر پیام ارسال نمایید
i.video.ir@gmail.com